حياة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم ـ الجزء الثاني
ونستكمل عرض سيرة وحياة عبد الكريم في جزئنا الثاني.
وبعد هذا التقييم المنصف للإيجابيات التي كان يتحلى بها الزعيم عبد الكريم قاسم , لابد أن نأتي على السلبيات التي ساعدت الانقلابيين من النيل منه والنيل من المكتسبات الوطنية التي تحققت في وقته.
إن التشكيلة غير المتجانسة للقادة العسكريين الذين اشتركوا في ثورة 14 تموز عام 1958 , كانت من الأسباب القاتلة للثورة , فطغاء الروح العسكرية على سلوكهم وتصرفاتهم , وحب الظهور بمظهر القائد , كان ملازماً لكل العسكريين من الرتب الكبيرة الذين انخرطوا في منظمة الضباط الأحرار , فكان عبد السلام عارف وناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبد الوهاب الشواف وناظم الطبقجلي وعبد الحميد مجيد وأحمد حسن البكر وغيرهم يسعون دائماً وبطرق مختلفة لتقويض حكم الزعيم عبد الكريم قاسم والظفر بموقعه , لذا فإن هذا السعي المحموم للقفز على دفة الحكم جعلهم في تكتل مضاد له . ولو ألقينا نظرة سريعة على الكتل العسكرية التي ساهمت في ثورة 14 تموز المجيدة , حيث كانت كل مجموعة منهم تختلف عن الأُخرى بتوجهاتها , فمنها من كان ذو ميول قومية وأُخرى ذات ميول وطنية ليبرالية , وأُخرى شيوعية , وأُخرى إسلامية , كانوا يختلفون في أُمور كثيرة لكنهم يجتمعون في العداء للوضع القائم آنذاك , حيث كان البعض يؤمن بتغيير النظام الملكي إلى جمهوري , وآخر يؤمن بانقلاب كانقلاب بكر صدقي أو ثورة رشيد عالي الكيلاني , أي تغيير سياسة وعقيدة الحكم دون المساس بشكل النظام الملكي . إن هذا التناقض في المواقف هو الذي دفع أبناء ثورة تموز لأن يتفرقوا وأن يتآمر أحدهم على الآخر , ومن الناحية الأُخرى أنقسم الشعب على نفسه , وكذلك فعلت الأحزاب السياسية التي كانت مؤتلفة في جبهة الإتحاد الوطني عام 1957 , وهي الحزب الشيوعي العراقي , الحزب الوطني الديمقراطي , حزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي . فوقفت القوى الديمقراطية واليسارية خلف عبد الكريم قاسم وهي تتوسم فيه الموضوعية في مواقفه من القضايا الوطنية والعربية والعالمية , ووقفت القوى القومية والإسلامية إلى جانب عبد السلام عارف وتطلعاته إلى ضم العراق إلى الوحدة الفورية مع العربية المتحدة وسوريا التي كانت قائمة آنذاك .
وهذا هو الذي دعا إلى قسم من الإسلاميين إن يقفوا موقف العداء من عبد الكريم قاسم حيث في فترة أنه قرب الشيوعيين إليه والمعروف عن الشيوعيين إنهم لا يعترفون بالدين ويعتبرون الدين أفيون الشعوب ونتيجة لذلك حصل العداء بين الإسلاميين والشيوعيين وهو كان يقرب الجماعة نتيجة لعدم خبرته السياسية فهو عسكري محترف ولم يعرف السياسة وألاعيبها كما إن وطنيتة جعلته يقرب الكل بالرغم من وجود المتآمرين حوله من البعثيين والقويين بقيادة عبد السلام عارف وغيرهم إما من حيث علاقته بالمرجعية فكانت علاقته جيدة مع السيد محسن الحكيم(قدس الله سره الشريف) وكانت المرجعية تدعمه وهذا ما موجود في كتب التاريخ سيرة حياة المرجع الحكيم فلذلك لم يكن هناك تقاطع في الرؤى بين عبد الكريم والمرجعية بل كان هناك تلاقي ولكن يحصل تباعد بسبب الجهات التي تقف خلف عبد الكريم التي لاترى راحة في تقارب نظام عبد الكريم مع المرجعية مع العلم أنه أمه كانت من المذهب الشيعي وكان والدي يقول إن بعض السنة الحاقدين من المتعصبين كانوا يسمونه(أبن كيفية)لأن اسم أم كيفية وهي شيعية للتنقيص من قدره وكان أبوه من المذهب السني فلذلك كان عبد الكريم قريب من الإسلام وليس بعيداً عنه ولكن الاتجاهات السياسية التي كانت تعصف بالعراق وتجربة الحكم الجمهوري الجديدة في الحكم هي التي أدت إلى حصول الكثير من الخطاء ولكن التاريخ نصف عبد الكريم من قبل كل الجهات ولم يشر أي أصبع بعدم الوطنية والنزاهة وأنه كان الرئيس المؤهل لتحقيق طموحات الشعب العراقي وهذا باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء فلنتوقف عند التاريخ وندرسه بتمعن قبل إن نطلق الأحكام لأن تاريخنا ومع الأسف فيه الكثير من التحريف والتزوير وبحق الكثير من الأشخاص.
هذه الصورة تمثل أحدى لقاءاته مع الملا مصطفى البارازاني
لقد حاول عبد الكريم قاسم أن يمسك العصا من وسطها فتارة يميل بها نحو اليسار وتارة أُخرى يميل نحو اليمين , حاول أن يساوي بين أنصاره ومعارضيه انطلاقا من قوله المأثور ( إنني فوق الميول والاتجاهات ) , وسياسة التسامح عن أعدائه في موقفه منهم حيث أعفى عن الذين حاولوا اغتياله بقوله المشهور ( عفا الله عما سلف ) . إن التأرجح هذا جعله يبتعد شيئا فشيئاً عن مناصريه , حيث أبعد العناصر المخلصة له عن المراكز الحساسة في الجيش وهمش الآخرين وتقوقع في وزارة الدفاع وترك الوحدات العسكرية الأخرى تحت إمرة الذين أطاحوا به وجاءوا بدباباتهم وحاصروه , وألقوا عليه الحمم من الجو , وترك الشعب أعزلاً ليس لديه ما يستطيع أن يدافع به قوات وجحافل الانقلاب . لقد طالبت الألوف الغاضبة من الجماهير المحتشدة بوزارة الدفاع , طالبت عبد الكريم قاسم بالسلاح , لكنه للأسف رفض طلبهم خوفاً حسب اعتقاده من المذابح بين أبناء الشعب العراقي , ولا أستطيع الجزم بالذي كان سيحدث لو أنه كان قد لبى نداء الجماهير ووزع عليها السلاح لاسيما وأن الوحدات العسكرية قد خدعته بولائها ولم تتحرك الى جانبه في الأوقات الحرجة , لقد سقط الآلاف من أبناء الشعب الغيارى وفي مقدمتهم قادة الحزب الشيوعي العراقي وحيث تتوج بقتل العناصر المخلصة في جيشه المقدام , فسقط الزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي عربوناً للإنقلاب حيث بدأت ساعة الصفر بالتنفيذ بمقتله وإطلاق الرصاص عليه وهو يهم الخروج من البيت , وأخذ مسلسل الرعب ليحصد العشرات والمئات من الذين ساهموا بثورة تموز الباسلة , فسقط فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة التي حاكمت رجال العهد المباد ولاحقاً المتآمرين على الثورة , والعميد الركن طه الشيخ أحمد مدير الحركات العسكرية , وصفي طاهر المرافق الأقدم للزعيم , ماجد محمد أمين المدعي العام في محكمة الشعب , الملازم علاء الأمين , الملازم محمد مجيد بحر , نوري ناصر , المقدم فاضل البياتي , المقدم سعيد كاظم مطر بطل المقاومة في وزارة الدفاع , الملازم كنعان حداد , الملازم صلاح الدين محمد جميل ورفاقه الذين قادوا المقاومة في معسكر سعد في بعقوبة , إن هذه الكوكبة من الشهداء ومئات آخرين غيرهم كانوا وقوداً لهذا الانقلاب الفاشي الذي فاق في بشاعته ما ارتكبته النازية في ألمانيا الهتلرية ومحارقها المشهورة والفاشية في إيطاليا عهد موسوليني .
إنها أيام حالكة سوداء لازالت في ذاكرة الذين عايشوها إلى جانب التضحية والفداء اللذين يفوقان التصور , ووقوف المناضلين الأشداء بوجه الردة , ولنأخذ مثلاً من الموقف البطولي للرفيق سلام عادل الذي أُعتقل يوم 19 شباط عام 1963 , والذي تعرض إلى مالا يتصوره العقل البشري لهول ماتعرض له من تعذيب , حيث مارس الفاشيون الذين لا يزال قسم منهم أحياء من أعضاء الهيئة التحقيقية ممن كانوا واستمروا في عهد الصنم صدام المقبور والذين بقوا على نفس مهماتهم بعد تموز الأسود, حيث قاموا بتقطيع أوصاله وعضلات جسمه بـ ( الكتر ) – آلة لتقطيع الأسلاك الكهربائية – وكسر عموده الفقري وفقيء عينيه , والركل والضرب بأخمص البنادق والدماء تنزف من جسده دون أن ينالوا منه وبقي شامخاً بوجه أعدائه القتلة , وأعلنت إذاعة بغداد مساء السابع من آذار 1963 عن تنفيذ حكم الإعدام بالرفيق سلام عادل ورفيقيه محمد حسين أبو العيس وحسن عوينه .
لقد ساعد عبد الكريم قاسم المتآمرين من حيث يدري أو لا يدري ووضعهم في المراكز الحساسة , فعلى سبيل المثال كان قد وضع الزعيم الركن عبد العزيز العقيلي قائداً للفرقة الأُولى , والزعيم الركن ناظم الطبقجلي قائداً للفرقة الثانية , والعقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر حامية الموصل , والعقيد الركن فهمي الجراح آمر حامية أربيل , وأحمد حسن البكر آمر اللواء العشرين , والعقيد رفعت الحاج سري مديراً للإستخبارات العسكرية ومعاونه خليل ابراهيم حسين , والعشرات من الضباط الكبار في المراكز المهمة .
ومن جانب آخر كان قد أبعد العناصر المخلصة له ولثورة تموز وأحالهم على التقاعد وأبعد الآخرين الى مواقع غير مهمة , لكنهم هبوا لنصرته والتحقوا بوزارة الدفاع حين سماعهم بنبأ الانقلاب من إذاعة بغداد , كان على رأسهم المرحوم الزعيم إبراهيم حسين الجبوري الذي كان من أوائل الضباط الشيوعيين من مؤسسي تنظيمات الضباط والجنود الأحرار , وأحاله على التقاعد أوائل 1962 , فسارع بارتداء بزته العسكرية ولبى نداء الحزب للدفاع عن ثورة 14 تموز , ولدى وصوله وزارة الدفاع والجماهير المحتشدة أمامها تطالب وتهتف ( باسم العامل والفلاح ياكريم أنطينه سلاح ) , وإذا بالزعيم عبد الكريم قاسم أمامه وجهاً لوجه , وجراء هذا الموقف البطولي المسؤول عنفه وقال له بالحرف الواحد ( إبراهيم أنت متقاعد ومن سمح لك بهذا , سأُحيلك إلى محكمة عسكرية لتنال عقوبتك لمخالفتك الأوامر !! ) , لكن الرفيق الجبوري واصل المقاومة مع فصائل شعبنا , وأُلقي القبض عليه من قِبل الانقلابيين , وسيق إلى المحاكم العرفية وحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً وأُودع في سجن نقرة السلمان
إن المأساة الكبرى التي حدثت في 8 / شباط / 1963 , والتي راح ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي وجيشه الباسل , كانت نتيجة طبيعية للموقف الخاطئ للزعيم عبد الكريم قاسم من القوى الوطنية وتغليب قوى الردة عليها وعزله للعشرات من العسكريين المخلصين للثورة ومبادئها السامية , إن هذا التراجع يأتي في سياق عدم الإدراك السياسي الصحيح , وعدم معرفته بشكل حقيقي لواقع التقسيم بين جهتي الصراع , الجبهة الأُولى والتي تمثل طبقات الشعب المسحوقة من العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين وكل شرائح المجتمع التي أعتقتها ثورة 14 تموز الى جانب القوى الوطنية والديمقراطية وأحزابها السياسية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي العراقي , والجبهة الثانية التي تضررت مصالحها من إقطاعيين ورجعيين وشركات النفط وقوى قومية وعشائرية ودينية متعصبة , وأحزابها السياسية أيضاً وعلى رأسها حزب البعث العربي الإشتراكي . إنه كان صراع من أجل البقاء والاستحواذ على مقاليد الأمور تخلله الكثير من العنف.
ومهما يكن من أمر , فسيبقى الزعيم عبد الكريم قاسم خالداً في قلوب وضمير الشعب العراقي وسيبقى إسمه مكتوباً في سماء الوطن مع كل الخالدين.
وسوف نستمل في جزئنا القادم حياة عبد الكريم قاسم أنشاءالله إن كان لنا في العمر بقية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.