إذا آمنت بفكرة، وانها صواب مئة بالمئة، وعارضك معارض، وقال: بل هي خطأ مئة بالمئة، أو وقف منها موقف المشكك المتردّد، فماذا تصنع؟. هل تصر على رأيك بدون حجة ودليل، ويصر هو على قوله كذلك؟. إذن، يبقى النزاع قائماً، والمشكلة بدون حل، ما دام كل منكما يفقد قوة الاقناع، ولاينحسم النزاع الا بعد ان تتفقا على مبدأ ترجعان اليه يكون هو الحجة، والحكم الفصل.
ـ مثلاً ـ اذا قلت: ان علاج المصاب بذات الرئة هو الفصد، وقال آخر: ان الفصد يضر بصحته، ويعجل بوفاته، كان الحكم بينكما الطبيب المختص بهذاء الداء، ومحال ان يقتنع احدكما بقول الآخر، او تلزمه الحجة اذا لم تتفقا مسبقاً على وجود المعيار والمقياس الذي يميز الصواب من الخطأ. والحق من الباطل.
الاديان والأحزاب:
وهذا الذي قلناه عن الاختلاف بين الأفراد ينطبق على الاديان والاجزاب التي يختلف بعضها عن بعض، ويدعي ارباب كل منها انهم على حق دون غيره، ولكن الجميع، حتى من لا يدين بدين، ولا ينتمي الى حزب متفقون على ان كل ما فيه صلاح البشرية وتقدمها فهو خير، ومتفقون ايضاً على ان السلم والعدل والحرية والعلم والتعاون هي الوسائل الى هذا الصلاح والتقدم، وعليه، فكل دين او حزب يدعو للسلم والتعاون، ويناصر العلم والعدل، ويضمن الحرية والمساواة فهو خير وافضل من أي حزب، او دين يثير الحروب، وبث البغضاء، ويناهض العلم والتقدم، ويدعم الجهل والظلم.
وتقول: ان كل دين، وكل حزب يزعم اهله انه يدعو للصالحات والخيراث.
الجواب:
إنّ الدعوى بمفردهما لا تقنع احداً، فاذا سقط شخص في الانتخابات، ثم قال: نجحت فيها، فهل يصدق: او يكون قوله هذا مدعاة للسخرية والاستهزاء؟.. ولا أعرف احداً اجهل ممن يردد مع القائل: «كل يعزز دينه يا ليت شعري ما الصحيح؟.» ان الناس كل الناس متفقون على ان الحب أفضل من البغضاء، والتعاون انفع من التنافس،
والسلم خير من الحرب، والعلم من الجهل.. وبديهة ان العالم يدرس الاديان والاحزاب، ويطلع على مبادئها وتعاليمها، ثم يقيسها بتلك المبادئ المتفق عليها، ويحكم بما تستدعيه من الحق او الباطل، الهداية والضلال.. ولو صدق في الأديان قول من قال: «يا ليت شعري ما الصحيح؟» لصدق في كل دعوى دينية كانت او زمنية.. ان العالم كما قلت: يبحث ويحقق، تماماً كما يفعل كل من يطلب معرفة الحق من معدنه، والا وجب ان لا تبحث عن شيء، وان نقفل المعاهد والمختبرات والجامعات، ونكتفي بترديد «يا ليت شعري ما الصحيح؟.» وبالتالي، فإن دل هذا القول على شيء فانما يدل على ان قائله اعدى اعداء الاديان، حتى ما كان منها حقاً وصدقاً. الرد الى الله والرسول:
اتفق المسلمون جميعاً على ان أي نزاع يقع بين الفئات او الافراد فعليهم ان يتحاكموا فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه، لأن المفروض ان النزاع حصل فيما قال الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد امر الله بالرد اليه والى رسوله في مثل هذه الحال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول) ـ النساء 59.
ولكن كثيراً ما يحصل النزاع في تفسير آية تحتمل معنيين، او اكثر، او في صحة حديث، او فيما يفهم منه.. ومن امثلة الأول قوله تعالى في سورة الطلاق: (واشهدوا ذوى عدل منكم) . حيث فهم الشيعة من الآية الكريمة وجوب الاشهاد على الطلاق، وفهم السنة وجوبه على الزواج لا على الطلاق(1) . وقوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث) ـ الاعراف 156 حيث اتفق الجميع على ان الخبائث محرمة، واختلفوا في بعض الأفراد والمصاديق، كأكل الدود والذباب والفأر والضفدع والسرطان، فقال مالك: يحل أكلها، لانها ليست من الخبائث، وقالت بقية المذاهب: يحرم أكلها، لأنها من الخبائث.
ومن امثلة الثاني اختلافهم فيما نسب الى الرسول، وهو: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته» فقد ضعفه السيوطي والعقيلي وابن حجر وغيرهم، (اللاليء المصنوعة للسيوطي ج 2 ص 111»..
واتفق السنة والشيعة على ان النبي قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، االلهم وال من والاه، وعاد من عاداه» ولكنهم اختلفوا في المراد من الولاية، فذهب السنة الى ان المراد منها الحب والمودة، وقال الشيعة: بل الحكم والسلطان بقرينة السياق.
____________
(1) قال الشيخ ابو زهرة في كتاب الاحوال الشخصية: لو كان لنا ان نختار المعمول به في مصر لاخترنا رأي الشيعة، وصوبه استاذه الشيخ الخفيف. ومال اليه الدكتور محمد موسى في كتابه الاحوال الشخصية.
ما هو الحل؟
وهذا النوع كثير، وهو من اهم الاسباب لاختلاف المذاهب الاسلامية بين بعضها البعض، وبين علماء المذهب الواحد، ورغم ان هذا الخلاف يرجع في حقيقته ومعناه الى الخلاف في ان الكتاب والسنة: هل تعرضا الى هذه القضية المتنازع فيها، اولا؟.. ومع هذا النزاع لا يمكن الرجوع الى احدهما كما يبدو، لعدم الاتفاق على وجود نص قطعي لا مجال فيه للاجتهاد يفصل بين الطرفين، رغم ذلك كله فان المرجع في هذا الخلاف هو الرسول الاعظم، حيث اتفق الجميع على انه قال: «اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله اجران، واذا اجتهد فأخطأ فله اجر». (الصحاح الستة: البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة). فكم عالم بحث وتحرى، وادى به البحث الى العلم بشيء تحتم عليه العمل بعمله، مصيباً كان او مخطئاً، ما دام غافلاً عن خطأه، وليس لاحد ان ينهاه عن اتباع العلم، كيف؟ ومتى حصل له العلم بشيء لا يسعه الا اتباع عمله، ومن خالفه فهو مذموم في الشرع والعقل.
أجل، لك ان تحاول اقناعه بالدليل والمنطق، فان ظهر له الخطأ، وايقن به، ومع ذلك أصر عليه كان معانداً للحق، مخالفاً له عن عمد، واستحق الذم والعقاب، كما هو شأن الذين عاندوا نبوة محمد صلى اله عليه وسلم بعد ما ظهرت جلية كالشمس: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا ـ النمل 14) .
وبكلمة ان كل من قامت عليه من الله الحجة القطعية المجمع عليها فليس له ان يخالفها، ويجتهد ضدها، لأن اجتهاده، والحال هذه يكون رداً على الله ورسوله، ولا تقوم هذه الحجة الا اذا كانت كوضح النهار، بحيث لا يسوغ الاعتذار معها بالجهل، مما دام طريق العلم بها ميسراً وواضحاً، لا غموض فيه، ولا التباس، واذا لم تبلغ هذه المرتبة من الوضوح وكان للاجتهاد فيها مجال يكون معذوراً لو خالف الواقع، على شريطة ان يعقد العزم على انه اذا استبان الخطأ رجع عنه.. والعقل هو الحاكم بنفي المسؤولية عن المخطئ غير المقصر، والشرع يقر العقل في حكمة هذا من باب الارشاد إلى الواقع، لا من باب الرفق والتسامح، لان سير الإنسان بموجب فهمه شيء طبيعي، لا يستطيع التخلص منه، بل هو مصدر الحركة والحياة.
ومن هنا رأينا سيرة العقلاء في كل عصر ومصر على نفي المسؤولية عن المخطئ اذا حقق ودقق، سواء أكان فقيهاً، أم طبيباً، أم مهندساً، أم بناءاً، وما اليه، لان الانسان، أي انسان يعمل بما يعتقد انه الحق، لا بما هو حق في علم الله.. وكذلك اتفقت جميع الشرائع السماوية والوضعية على ان مجرد المخالفة في الرأي لا تستتبع العقوبة والمسؤولية. والاختلاف في الرأي ملازم لطبائع البشر، وكثيراً ما يكون سبباً للتصفية والتمحيص، وتمييز الأصيل من الدخيل، والعارف من الزائف، ولكن هذه المخالفة تتسم بجريمة البدعة والضلالة عند الوهابيين حتى ولو كان من خالفهم أعلم العلماء، وأبر الاتقياء، لا لشيء الا لانه لم يترك ما يعتقد، ويتبع ما هم عليه، وان اعتقد فساده وضلاله.
قال ابن تيمية في كتاب «نقض المنطق» ص 71 طبعة 1951، وهو امام الوهابيين، والمعتمد الأول لمذهبهم، قال ما نصه بالحرف: «فانهم ـ أي هو ومن قال بمقالته ـ اشد الناس نظراً وقياساً ورأياً، وأصدق الناس رؤياً وكشفاً، أفلا يعلم من له ادنى عقل ودين ان هؤلاء أحق بالصدق والعلم والايمان والتحقيق ممن يخالفهم، وان عندهم من العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع، وان الذي عندهم من العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع، وان الذي عندهم هو الحق المبين، وان الجاهل بأمرهم والمخالف لهم هو الذي معه من الحشو ما معه، ومن الضلال كذلك».
فالذي عندهم علم وايمان وصدق وحق مبين، اما الذي عند غيرهم فجهل وكفر وكذب وبدعة وضلالة، ذلك ان ابن تيمية وقبيله معصومون عن الخطأ دون غيرهم رغم انه هو لا يؤمن بعصمة انسان.. وسأستشهد من كتبهم المعتبرة بكلام أدل وأوضح.
</SPAN></SPAN></SPAN>
</SPAN></SPAN></SPAN>