أكثر ما يُغضبُ الأطفال عندما يطلبون شيئاً من ذويهم، هو رد «إن شاء اللَّه»، لأنهم يعتبرون هذا الرد(مراوغة) للتملصِ من ردٍّ واضح وصريح. وكلما أصرّ الأهلُ على كلمتهم، تعلّق الابن بأذيالهم ورفض أن يسمعَ أي شيء خلا صوته وهو يكرر «أنا أريدُ...»، وينتظر أن يسمع «نعم» أو «لا» فقط!
وكثيراً ما ينتابُ الكبار هذا الرجاءُ الطفولي في دعائهم، فيبوح دمع الوجنات بما يخفيه القلبْ، واليدُ المحتاجة مبسوطة عند أعتابِ المليك القدير، ليتصدّق بقضاء الحوائج..
وقد انتاب كليهما الشعور ذاته في أيام حرب تموز 2006. وتحولت توسلاتهما إلى «رجاء طفولي»، وقد تعلّقت روحاهما بأذيال الرحمة الإلهية، وهما يتمتمان بصمت: «طائرة يا رب»!.. وانتظرا الاستجابة فقط!
كان القائدُ يتابع مجريات الحربِ من غرفة قيادة العمليات، ويدوّن في ذاكرته أجمل مفاجآت «السيد حسن». وما بين تقليبه لصفحات زمنٍ مديدٍ من مقارعة العدو الإسرائيلي على مختلف المحاور، وقراءته لسطور الحاضر، فإن ل«حرب المفاجآت» هذه لحظات لا تُنسى، بدأتْ من «الآن في عرض البحر في مقابل بيروت...»، إلى «صدقوني إلى حيفا، وما بعد ما بعد حيفا»..
إنه يُدرك أن أولى وأهم المفاجآت التي أطلقتها المقاومة الإسلامية، كانت «المجاهدين». فالاستبسالُ في القتال بلغَ الذروة في المواجهات المباشرة، ثم مجازر «الميركافا» التي استهدفها المجاهدون وكأنهم يلعبون لعبة الكترونية سهلة، فأُتخِم سهل الخيام ووادي الحجير بقطعها المتناثرة..
ولكن الطائرة شغلتْ باله، كما استحوذتْ على تفكير مُجاهد في خطّ النار، أُوكلتْ إليه مهمةُ ملاحقة الطائرات، فوجد نفسه كمن لا يقوم بأي عمل في حربٍ مصيرية، سوى ملاحقة طائرات سرعان ما تختفي.. وكلما طلبَ من الإخوة نقل عمله ليشارك في دك المستعمرات، أو يلتحم مع جنود العدو الجبناء، أكدوا عليه ضرورة البقاء حيث هو. فعزّ عليه كثيراً أن يسمع بالملاحم البطولية، وهو يتنقلُ من مكانٍ لآخر، ينتظرُ مرور الطائرات ليحاولَ، عبثاً، اصطيادها..
كلما جال ببصره في السماء، همسَ: «يا رب، طائرة».. وكلما رنّ الهاتفُ في غرفة القيادة تمتم القائدُ بالدعاء: «طائرة يا رب»..
وكان ذلك النهار، ركض المجاهدُ بين البيوت بعد إخباره عن تقدم طائرة حاملةٍ للذخيرة من طراز «يسعور». لم يشعر كيف طوى الأرض تحت قدميه وهو يركضُ كالسهم ليصعد إلى مكانٍ مرتفعٍ ويوجه صاروخ «وعد» ناحيتها، ويدعو الله ويتوسل إليه أن يوفقه بإصابتها..
وفي غرفة قيادة العمليات، غفا القائدُ قليلاً وطلب إلى الإخوة إيقاظه عند حدوث أي مستجدٍّ، فرأى في منامه السيدة فاطمة (ع) في ثوبها الأبيض الملائكي، وبنورها الربانيّ، وهي تطمئنه إلى مصير الحرب، فأخبرها أن المجاهدين صابرون، وأنهم سيتحملون كل شيء، وأنهم في المواجهات الحيّة أسود، وفي البحر من أمهر الصيادين، وفي البر القذيفة تساوي خسائر فادحة للعدو، ولكن «طائرة يا مولاتي.. نريد طائرة».. هزّت السيدة فاطمة(ع) برأسها وأجابته «إن شاء الله».. فزاد من توسلاته، ولم يعد يسمع أي شيءٍ سوى صوته وهو يرجوها والدموع تغلبه «طائرة يا مولاتي.. نريد طائرة»، والسيدة(ع) تكرر «إن شاء اللَّه»..
أنزل المجاهد الصاروخ، بعد أن ابتعدت الطائرة، وأغمض عينيه منكسر القلب، وهو يكرر «يا رب، يا اللَّه..»، وفتحهما ليجد أن الطائرة في مرماه من جديد. لم يصدق وهو يطلق صاروخه، ثم وقف وقد داعب نسيمُ الليل شعره المغبّر لينظرَ إليها...
مدّت السيدة فاطمة(ع) يدها إلى داخل عباءتها وأخرجت منديلاً أسود ثم ألقته بعيداً، والقائد يتوسل إليها: «طائرة يا مولاتي»..
استيقظَ على صوت التهليل والتكبير في غرفة القيادة، وقف بين الأخوة، ولم يصدّق ما سمعه: «طائرة يسعور أسقطت في وادي مريمين غربي ياطر»..
عندما رأى المجاهد الطائرة تشتعل وتهوي، انحدرت دمعة الشكر للَّه على هذه النعمة، وهو يحملُ سلاحه ليمشي في دروب القرية ورئتاه مملوئتان بالغبطة لأن الله، أخيراً، حقق حلمه نهار الجمعة في 11 آب 2006.
انتظر القائدُ رنين الهاتف ليتأكد من جديد من صحة الخبر.. وعندما وضع سماعة الهاتف، ابتسم، وسجد شكراً للَّه..