بسمه تعالى
عباقرة الأمم الذين يصنعون تاريخها هم عظماؤها وأنبياؤها الرساليون لا مشاهيرها ، هؤلاء الذين يسيطرون على مقدراتها في ظروف مواتية وفي غفلة من الزمن .
وقد تسجل ذاكرة التاريخ أدوارهم المصيرية التي لعبوها على مسرح السياسة أو في حومات الوغى. ولكن هؤلاء لا يخلدون في ذراري الأمة خلود أولئك العظماء.. ولا يمكن أن ينقلبوا في أفئدة الأجيال إيماناً وعلى شفاههم حداء وأمام أعينهم مثالاً ولعقولهم غذاء.
فالاسكندر لم يخلد كفاتح شهير بل كعبقري حكيم وتلميذ فيلسوف عظيم، ونابليون لم يتغنّ به الفرنسيون لأنه قاهر الأمم وغازي الأرض بل يتغنون به - والنخبة منهم على الأخص - لأنه عظيم من عظماء التشريع وأديب ومفكر في ثوب قائد.. ولعل شهرته كقائد قد أساءت إلى عظمته كمتشرّع وعالم..
وهذه هي ضريبة العظمة في العظيم حين يجمع في شخصه أكثر من موهبة وإلى أعماله أكثر من أثر.. وهذا هو خطأ التاريخ حين يركز على الشهير في العظيم لا على العظيم في الشهير..
وابن أبي طالب من هذا النوع من عباقرة التاريخ الذين أسيء إليهم عن قصد أو غير قصد حين أكثروا من الحديث عن حروبهم وسياساتهم وظواهر تصرفاتهم .. ولم ينظروا إليهم كمصلحين كبار وخطباء هادفين ومفكرين عظماء .
وابن أبي طالب على براعته وصواب رأيه في كل هذه المجالات أبرع وأصوب وأخلد في مجال الفكر والإيمان ، والتعبير المثير عن معطياتهما في الخطبة أو المثل أو جوامع الكلم ( وهو ما نسميه اليوم بقوننة الفكر ) .
وعظمة علي لا تكمن في كونه خطيباً بليغاً وحسب بل في كونه أكثر من خطيب وأكثر من بليغ.
وهؤلاء خطباء الإسلام بعد النبي كسحبان وائل وغيرهم كانوا خطباء مفوهين وأسياد منابر مشهورين وبلغاء معدودين ، ولكنهم لم يكونوا أكثر من ذلك .
ومن هنا يختلفون في ميزان العظمة مع الإمام علي فهو إلى جانب تفوقه كخطيب بليغ وخير من اعتلى منبراً بعد النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، يمتاز بأنه رجل فكر وتأمل وروحانية وإيمان صميمي ينبع من شلال العقيدة الإسلامية الذي ينهمر في كيانه انهماراً بهياً صافياً وفي بيانه ألقاً روحيا راقياً..
ثم هو رجل أدب.. وبهذا أيضاً يختلف عن كثير من عظماء التاريخ ومصلحي الأمم الذين لم يكونوا أدباء أو متذوقي أدب إلا نفراً منهم..
- يقول جورج جرداق في كتابه الموسوم ( علي وسقراط ) :
فنظرة واحدة إلى الأنبياء مثلاً تكفي لتقرير هذه الظاهرة ( ظاهرة وجود الحس الأدبي عند العظماء، في الأذهان ) .
فما داود وسليمان وأشعيا وارميا وأيوب والمسيح والنبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب .
وهذا نابليون القائد وأدوار هريو السياسي، وأفلاطون الفيلسوف القائد وباسكال الرياضي وجواهر نهرو رجل الدولة والفكر وباستور العالم الطبيعي وجمال الدين الأفغاني المصلح الاجتماعي إنهم جميعاً أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصاف ذوي الشأن من أهله..
إلى أن يقول: هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فإذا هو الإمام في الأدب وسر البلاغة، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علم وهدى .
ولا عجب فالإمام ربيب بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل وأقرب الحواريين إلى الرسول الأعظم وأول المؤمنين به منهم.. فلابد أن يمسح فكره بقبس من فكر النبي، وأن يتأدب بأدب النبي، وأن تصبح خطبه فلذات من كبد الحقيقة، وآيات من وحي الحديث والسيرة، وقطعاً من سر القرآن وسحره..
وهنا لا عجب إن قلنا أنه خطيب لا كالخطباء وأديب لا كالأدباء سيرة وثقافة والتزاماً وروعة كلم.. الأمر الذي يجعلنا نرى فرقاً شاسعاً وبونا بعيداً بينه وبين من سبقه وعاصره وجاء بعده من خطباء ما عدا النبي الذي تتلمذ الإمام علي على يديه.
فهذه خطب الجاهلية يأخذ الإمام منها شاعريتها وخيالها وصورها وفطرتها السليمة ثم يضيف إليها البيان الإسلامي المهذب والمنطق القوي والموضوعية الهادفة.
وهذه هي الخطبة الإسلامية مبتسرة تكاد تكون ديوانية رسمية أو جمعية روتينية على ما فيها من الإيمان والحرارة والقوة.. ثم هي عند خطباء الوفود والمحافل تزلفية مهادنة متقطعة الأنفاس رغم بلاغتها الأسلوبية.. لذا فهي متكلفة الموضوع إن لم تكن مستأجرة الأسلوب والغاية..
فالإمام بإجماع الباحثين رائد البلغاء في عصره حتى وبعد عصره.. وكل من عاصره كان عيالاً على نبعتين قريشيتين ثرتين.. النبعة المحمدية والنبعة العلوية .
أضف إلى النشأة والسيرة والبيئة ونوع الثقافة الخصائص العلوية الذاتية التي تكاد تقف وحدها في مجال الأخلاق والذوق والذكاء والعمق والشمولية وقوة التأمل والسبر.. تقف لتؤلف شخصية عجيبة خصبة معطاء.. شخصية تلتحم فيها مزايا الفارس والبطل إلى مزايا المصلح والأديب والخطيب الرباني الملتزم في هندسة نفسية وذهنية وفنية رائعة.
من هنا كانت عالمية ابن أبي طالب وتخطيه حدود الزمان والمكان بحيث أصبح موضوعاً خصباً للباحثين العالميين غربيين وشرقيين ومستشرقين.. لما في تلك الشخصية الفريدة من مزايا خارقة ومواهب لا حصر لها.
فليس يكفي الخطيب أن يكون مؤثراً في النفوس بل موجهاً ومحترماً لهذه النفوس.. ليس يكفي - كما في الخطبة السياسية والعسكرية - أن تتخلع القلوب خوفاً وفرقاً أو تنخدع النفوس وتهيم في ضلالات الخطيب بل عليه إن كان خطيباً حقاً وصدقاً أن يعطي من نفسه وسيرته النموذج وأن يهدي الناس بسحر أفعاله قبل سحر أقواله.. وها نحن - أخيراً - نسجل للإمام خلاصة ما تميز به من خصائص أدبية وخطابية مكتفين بالبارز منها..
أ - التدفق التعبيري المناسب ، المتصاعد تمتمات علوية وصلوات حيدرية هامسة.
ب - التسلسل المنطقي والموضوعية المنهجية المتماسكة، فإذا كل جملة لا يستقيم البحث بدونها، وإذا الموضوع برمته بنيان مرصوص أو فلذة من الفلذات الكيانية النابضة بالحياة..
ج - الفخامة في اللفظ والاندياح في الخيال. خطبه الوصفية ( الطاووس والنملة والجرادة والخفاش )... وشي من الوشي وتهاويل وألوان وأصباغ..
د - التأمل النبوي والافتراض الحدسي الصافي حتى لكأن المستقبل رهن يديه.. أو هو يرى ما لا يرى، بعين البديهة الصافية ومرآة الذهن البلورية وزخم الألق الروحي المخزون في أعمق قرارات نفسه..
هـ - وعقل الإمام خزان وأفكار.. فإذا تكلم انثالت المعاني في حشد هائل ولكن على غير تراكم أو اكتظاظ.. فهو يمضي متدفق التفكير والتعبير في إطار هندسي واضح الزوايا والخطوط.. وسواء ارتجل الإمام أو كتب فهو هو: شلال أفكار وينبوع صور..
و - أما في وصاياه ورسائله فهو غيره في خطبة ونجاواه من حيث الإيجاز وضغط الموضوع في كلام موهوب موجز معجز في إيجازه.. ولعل ذلك قبس من الأسلوب المحمدي الذي كان يميل - في التبليغ - إلى الاجتزاء والتركيز القرآنيين ( كما في السور المكية خاصة ) .
ز - والخطبة العلوية، قبل كل شيء تأتي دائماً عفو الخاطر لا تتهيب المناسبة، مهما حملت من عنصر المفاجأة.. فإن حملت عنصر الفاجعة حمل الإمام وسائل العقل والمنطق في مجابهتها مجابهة ربانية رحمانية مستسلمة استسلاماً إيمانياً لمشيئة مدبر الكون.. وإن لم تحمل عنصر المفاجأة، فاجأ الإمام الناس بالموضوعية الهادفة والعقل القادر.
ح - ومن شمول الألمعية العلوية أنها لا تقتصر على الوعظ والإرشاد والتوجيه بل تروح في لهجة الواثق ولهفة العطف الأبوي الإنساني الغزير تدستر مناهج الإصلاح وتقونن الأخلاق والمعاملات .
ثم لا يفوتها أن تصف طبائع الإنسان والحيوان ومظاهر الكون والوجود ونشأة العوالم.
فمن الرعد والبرق والأرض والسماء، إلى الخفاش والنملة والجرادة والطاووس.. كل ذلك في فلسفة إشراقية إسلامية واعية لينتهي إلى إبراز روائع الخالق في ما خلق وعظيم قدرته في ما أبدع.. مما يندر وجوده في الأدب العربي وبهذا الإطار الفني المدهش..
وإذا كان الجاحظ والمسعودي والقزويني والتوحيدي وأمثالهم قد وصفوا الإنسان والحيوان والعوالم فإنهم كانوا – ولا شك - غيضاً من فيض الإمام وبأساليب علمية جافة وعواطف باردة.
ط - أما الخيال والعاطفة وهما عنصران فنيان هامان في الخطبة الموفقة فللإمام منهما نصيب كبير يكاد يكون نادراً عند غيره.. فالأبراج السديمية التي يتناول منها صوره وظلالها لا تنضب ولا تخون..
والغريب أنها لا تناقض الواقع الموصوف بل تبلوره وتسمو به. ثم يعكس كل ذلك على نفس موّارة بالرؤى، وقلب زاخر بالهتاف وعقل بعيد التأمل والتطلع، خاصة حين تكون الخطبة في تصوير الوجود والعدم في وقفة وجدانية نافذة أمام الموت وهول المصير ووحشة القبر..
فأنا لا أرى أبعث على القلق ولا أدعى للأسى والشجن والكآبة من هذا القول للإمام يصف سكان القبور: ( جيران لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون.. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً.. بليت بينهم عرى التعارف وانقطعت منهم أسباب الأخلاق.. فكلهم وحيد.. وهم جميع، وبجانب الهجر.. وهم أخلاء.. ) .
إنها وقفة ذاهلة كئيبة لا تدانيها سوى وقفة أبي العلاء أمام القبر وتزاحم الأضداد فيه.. وقفة كان لا ينقصها - في خضم التجربة - سوى دم علي يسفحه سيف خارجي جبان..
ثم يثوي الشهيد بين أحبائه هؤلاء ظاعناً مثلهم في سرمدية الجديدين.. وهكذا يفعل ابنه الحسين.. فتنطلق حنجرة حكيم المعرة بهذا الهتاف الحزين.
وعلى الأفق من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجران وفي أولياته شفقان
ي - وما الأصالة الفنية العميقة التي يتميز بها كبار الأدباء، وما إحساسهم العميق بوحدة الوجود وشوقهم المتيم إلى اكتناه الروابط الخفية الكامنة وراء مظاهر الحياة والموت.. وما نزعتهم الإيمانية التوحيدية الجامحة: نزعة الفنان الكبير الذي يريد أن يعمق الوجود في قلبه وعقله وكل كيانه..
ما هذا كله سوى غاية من غايات ابن أبي طالب وصفة من صفاته، وسمة من سمات فكره الحكيم وأدبه الخالد.. ولا تنسى أنه بهذا يتقدم الخالدين من الأدباء العالميين ويتوسط صفوة الحكماء والفلاسفة.. يتقدمهم توثباً نحو معانقة الجمال الإلهي والعظمة الكونية والرحمانية الإنسانية.. في هتاف دائم ونجوى مستمرة وفكر زاخر بالقيم وخيال موار بالرؤى..
وتسألني - بعد - هل كان ابن أبي طالب أكثر من خطيب أم مجرد خطيب؟ فيجيبك عني - إن لم أكن قد أجبتك حتى الآن - جورج جرداق نفسه حيث يقول: (والخطباء في العرب كثيرون والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولاسيما في عصر النبي.. أما خطيب العهد النبوي فالرسول لا خلاف في ذلك، وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما تلاه من العصور العربية قاطبة فإن أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا المجال.. فالنطق السهل لدى علي كان من عنصر شخصيته..
وكذلك البيان القوي بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً. ثم إن الله يسر له العدة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقومات.. فقد ميزه الله بالفطرة السليمة والذوق الرفيع والبلاغة الآسرة ثم بذخيرة من العلم انفرد بها عن أقرانه وبحجة قائمة وقوة إقناع دامغة..
وعبقرية في الارتجال نادرة أضف إلى ذلك كله صدقه الذي لا حدود له وهو ضرورة لكل خطبة ناجحة، وتجاربه الكثيرة المرة التي كشفت لعقله الجبار عن طبائع الناس وصفات المجتمع ومحركاته .
ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية، وإنه لمن الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذاً غير علي بن أبي طالب ونفر من الخلق قليل.. )
كما يجيبك جامع ( النهج ) الشريف الرضي حيث يقول: ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مشروع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة وموردها، منه ظهر مكنونها ومنه أخذت قوانينها، وعلى مثله حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا ) ..
ويقول شارح ( النهج ) المصلح الكبير الشيخ محمد عبده: ( وأحياناً كنت أشهد عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى ونما به إلى مشهد النور الأجلى.. ) .
إلى أن يقول مهيباً بالناشئة إلى تعلمه وتدبره وحفظه: ( ليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه، بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأغزره مادة وأرفعه أسلوباً وأجمعه لجلائل المعاني..) .
وهذا هو العقاد يفرد للإمام كتاباً برأسه في جملة ( عبقرياته ) وقد جاء في المقدمة قوله : ( وللذوق الأدبي - أو الذوق الفني - ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة لأنه رضوان الله عليه كان أديباً بليغاً، له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون وإن تطاولت بينه وبينهم السنون. فهو الحكيم الأديب والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناشرين والناظمين ) .
بسمه تعالى
اللهم صل على محمد وآل محمد
وعجل اللهم فرج الحجة ابن الحسن عجل الله فرجه الشريف
والعن اعداهم أجمعين من الأولين الى الآخرين
شكرا أختي العزيزة (نسايم )
موضوع جميل جداًوتعودنا منك كل ماهوجميل ونتمى الأكثر
ونتمى منك تفاعل أكثرفي منتدى الكتاب
موفقين لكل خير
والتوفيق للجميع