وعلى ضوئه تتحزّب الشـعوب والقبائل ، وتتكثّر الأحزاب والجمعيات.
وبالنظر إليه تؤسّـس المؤسّـسات في أُمور الدين والدنيا ، وتتمركز المجتمعات الدينية ، والعلمية ، والاجتماعية ، والشـعوبية ، والقومية ، والطائفية ، والحزبية ، والسياسية.
.. إلى كلّ قبض وبسـط ، وحركة وسـكون ، ووحدة وتفكّك ، واقتران وافتراق.
فالحكومة العالمية القوية ، القهّارة الجبّارة ، الحاكمة على الجامعة البشـرية بأسـرها ، من أوّل يومها وهلمّ جرّاً إلى آخر الأبـد ، من دون شـذوذ لأيّ أحد وخروج فرد عن سلطتها ، ومن دون اختصاص بيوم دون يوم ، إنّما هي حكومة « ياء النسـبة »!
بها قوام الدين والدنيا ، وإليها تنتهي سلسلة النظم الإنسانية ، وقانون الاجتماع العامّ ، وشـؤون الأفراد البشـري.
والبشـر ـ مع تكثّر أفراده ـ على بكرة أبيهم مُسيّر بها ، مقهور تحت نير سلطتها ، مصفّد بحبالهـا ، مقيّـد في شـراكها ، لا مهرب له منها.
هي التي تُحْكِم وتفتق ، وتنقض وتبرم ، وترفع وتخفض ، وتصل وتقطع ، وتقرّب وتبعّد ، وتأخذ وتعطي ، وتعزّ وتذلّ ،
(77)
وتثيب وتعاقب ، وتحقّر وتعظّم.
هي التي تجعل الجندي المجهول مكرّماً ، معظّماً ، محترماً ، وتراه أهلا لكلّ إكبار وتجليل وتبجيل ، لدى الشـعب وحكومته ، وتنثر الأوراد والأزهار على تربته ومقبرته ، وتدعه يُذكر مع الأبد ، خالداً ذِكره في صفحة التاريخ.
هي التي تهون لديها الكوارث والنوازل ، وبمقاييسـها يقاسي الإنسان الشـدائد والقوارع والمصائب الهائلة ، ويبذل النفس والنفيس دونها.
هي التي جعلت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يُقَبّل الصحابي العظيم عثمان بن مظعون وهو ميّت ، ودموعه تسيل على خدّيه كما جاء عن السيّدة عائشـة (1).
هي التي دعت النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أن يبكي على ولده الحسين السـبط ، ويقيم كلّ تلكم المآتم ، ويأخذ تربة كربلاء ويشـمّها ويقبّلها .. إلى آخر ما سـمعت من حديثه (2).
1 ـ أخرجه أبو القاسم عبـد الملك بن بشران في أماليه ، وأبو الحسن علي بن الجعد الجوهري في الجزء العاشر من مسنده ، والحاكم النيسابوري في المجلّد الثالث من المستدرك ، وحفّاظ وأعلام آخرون.
انظر : سنن أبي داود 3 / 198 ح 3163 ، الجعديات 2 / 94 ح 2105 ، الغيلانيات 2 / 728 ـ 729 ح 1005 ـ 1007 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 209 ـ 210 ح 4868.
2 ـ انظر : الفتوح ـ لابن أعثم ـ 4 / 327 ، تاريخ دمشق 14 / 188 ـ 189 ، كفاية الطالب : 426 ـ 427.
(78)
هي التي جعلت السيّدة أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين تصرّ تربة كربلاء على ثيابها (1).
هي التىّ سوّغت للصدّيقة فاطمة أن تأخذ تربة قبر أبيها الطاهر وتشـمّها (2).
هي التي حكمت على بني ضبّة يوم الجمل أن تجمع بعرة جمل عائشـة أُمّ المؤمنين وتفتّها وتشـمّها كما ذكره الطبري (3).
هي التي جعلت عليّاً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يأخذ قبضة من تربة كربلاء لمّا حلّ بها ، فشـمّها وبكى حتّى بلّ الأرض بدموعه ، وهو يقول : يحشـر من هذا الظهر سـبعون ألفاً ، يدخلون الجنّة بغير حساب.
أخرجه الطبراني ، وقال الهيثمي في المجمع : رجاله ثقات (4).
1 ـ تاريخ دمشق 14 / 190 ح 3522 و 3523 و ص 192 ـ 193 ح 3528.
2 ـ ورد أنّ سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) سارت إلى قبر أبيها النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد وفاته ووقفت عليه وبكت ، ثمّ أخذت قبضة تراب من القبر فجعلتها على عينيها ووجهها ، ثمّ أنشأت تقول :
ماذا على من شمّ تربة أحمد أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
انظر : الفصول المهمّة : 148 ، نور الأبصار : 53.
3 ـ تاريخ الطبري 3 / 48 ـ 49 حوادث سنة 36.
4 ـ المعجم الكبير 3 / 111 ح 2825 ، مجمع الزوائد 9 / 191 ، وانظر : تاريخ دمشق 13 / 222 ، كفاية الطالب : 428.
(79)
هي التي جعلت رجل بني أسـد يشـمّ تربة الحسين ويبكي.
قال هشـام بن محمّـد : لمّا أُجري الماء على قبر الحسين نضب بعد أربعين يوماً وامْـتَـحَى (1) أثرُ القبر ، فجاء أعرابي من بني أسـد فجعل يأخذ قبضة قبضـة من التراب ويشـمّه حتّى وقع على [ قبـر ] الحسين ، فبـكى وقال : بأبي وأُمّي ما كان أطيبك حيّاً ، وأطيب تربتك ميتاً! ثمّ بكى وأنشـأ يقول :
أرادوا لِيُخْفُوا قبرَه عن عَداوة وطِيبُ ترابِ القبرِ دَلّ على القبرِ (2)
فالفرد البشـري كائناً من كان ، أينما كان وحيثما كان ، من أيّ عنصر وشـاكلة ، على تكثّر شـواكله ، واختلاف عناصره ، في جميع أدوار الحياة ، هو أسير تلك الحكومة ، ورهين لفظة :
روحي ، بدني ، مالي ، أهلي ، ولدي ، أقاربي ، رحمي ، أُسـرتي ، تجارتي ، نحلتي ، ملّتي ، طائفتي ، مبدئي ، داري ،
1 ـ امْـتَـحى ـ بصيغة « انْـفَـعَـلَ » من الفعل « محا » ، وهي لغة فيه قليلة أو ضعيفة ـ : أي ذَهَـبَ أثـرُه والأجود لغةً : امَّـحَـى ـ كادّعى ـ.
انظر مادّة « محا / محو » في : الصحاح 6 / 2490 ، لسان العرب 13 / 43 ، تاج العروس 20 / 176.
2 ـ تاريخ دمشق 14 / 244 ـ 245 ، كفاية الطالب : 440 ـ 441.
(80)
ملكي ، حكومتي ، قادتي ، سادتي .. إلى ما لا يحصى من المضاف المنسوب إليه.
وهذه هي حرفياً بصورة الجمع الإضافي مأكلة بين شـدقي الحـكومات والـدول ، والجمعيات ، والهيئـات ، والأحياء ، والشـعوب ، والقبائل ، والأحزاب ، والملل ، والنحل ، والملوك ، والطوائف ، والسلطات الحاكمة .. إلى كلّيات لا تتناهى.
وبمجرّد تمامية النسـبة وتحقّق الإضافة في شـيء جزئي أو كلّي ، أو أمر فردي أو اجتماعي ، لدى أُولئك المذكورين تترتّب آثار ، وتتسـجّل أحكام لا منتدح لأيّ أحد من الخضوع لها والإخبات إليها ، والقيام دونها ، والتقيّد بها.
وهذا بحث جدّ ناجع ، تنحل به مشـكلات المجتمع في المبادئ والآراء والمعتقدات ، وعقود الضغينة والمحبّة ، وعويصات المذاهب ، ومقرّرات الشـرع الأقدس ، وفلسـفة مقرّبات الدين الحنيف ، ومقدّسات الإسلام وشـعائره ، والحرمات والمقامات والكرامات.
فبعد هذا البيان الضافي يتّضح لدى الباحث النابه الحرّ سـرّ فضيلة تربة كربلاء المقدّسـة ، ومبلغ انتسابها إلى الله سـبحانه وتعالى ، ومدى حرمتها وحرمة صاحبها دنوّاً واقتراباً من العليّ الأعلى ، فما ظنّك بحرمة تربة هي مثوى قتيل الله ، وقائد جنده الأكبر ، المتفاني دونه ؟!
(81)
هي مثوى حبيبه وابن حبيبه ، والداعي إليه ، والدالّ عليه ، والناهض له ، والباذل دون سـبيله أهله ونفسـه ونفيسـه ، والواضع دم مهجته في كفّه تجاه إعلاء كلمته ، ونشـر توحيده ، وتحكيم معالمه ، وتوطيد طريقه وسـبيله.
فأيّ من ملوك الدنيا ومن عواهل البلاد ـ من لدن آدم وهلمّ جرّاً ـ عنده قائد ناهض طاهر ، كريم وفيّ ، صادق أبيّ ، شـريف عزيز ، مثل قائد شـهداء الإخلاص بالطفّ : الحسين المفـدّى ؟!
لماذا لا يباهي به الله ؟!
وكيف لا يتحفّظ على دمه لديه ، ولا يدع قطرة منه أن تنزل إلى الأرض لمّا رفعه الحسين بيديه إلى السـماء ؟! (1).
1 ـ أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي بإسناده ، والحافظ ابن عساكر في تاريخ الشام 4 / 338 بإسناده عن الخطيب ، والحافظ الكنجي في الكفاية : 284 ، عن الحسن المثنّى ، عن مسلم بن رباح ـ مولى أمير المؤمنين ـ ، قال : كنت مع الحسين يوم قُتل فرمي في وجهه بنشّابة ، فقال لي : يا مسلم ! ادن يديك من الدم فأدنيتها ، فلمّا امتلأ قال : اسكبه في يدي فسكبته في يديه ، فنفخ بهما إلى السماء وقال : اللّهمّ اطلب بدم ابن بنت نبيّك.
قال مسلم : فما وقع إلى الأرض منه قطرة.
وقد جاء أنّ الحسين ( عليه السلام ) رمى بدم حنكه إلى السماء لمّا أصابه السـهم.
وأخرج حديثه جمع من الحفّاظ.
انـظـر : تـاريـخ دمـشـق 14 / 223 ، كـفاية الطـالـب : 431 ـ 432 و 434.
(82)
كيف لا يديم ذِكره في أرضه وسـمائه ، وقد أخذت محبّة الله بمجاميع قلبه ؟!
وكيف لا يُسَـوِّدُ وجهَ الدنيا في عاشـورائه ، ولا يبدي بيّنات سـخطه وغضبه يوم قتله في صفحة الوجود (1) ؟!
ولماذا لا تبكي عليه الأرض والسـماء ؟! كما جاء عن ابن سيرين في ما أخرجه جمع من الحفّاظ (2).
ولماذا لا تمطر السـماء يوم قتله دماً ؟! كما جاء حديثه متواتراً (3).
ولماذا لا يبعـث الله رسله من الملائـكة المقـرّبين إلى نبيّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتربة كربلائه (4) ؟!
ولماذا لا يشـمّها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟! ولِمَ يقبّلها ؟! ولِمَ
1 ـ انظـر : المعجم الكبير 3 / 114 ح 2836 ـ 2839 ، تاريخ دمشق 14 / 227 و 228.
2 ـ المعجم الكبير 3 / 114 ح 2840.
3 ـ الـفتـوح ـ لابن أعثـم ـ 4 / 330 ـ 331 ، تـاريـخ دمـشـق 14 / 227 و 229.
4 ـ انظر : المعجم الكبير 3 / 105 ـ 106 ح 2811 و ص 109 ـ 110 ح 2820 و 2821 ، تاريخ دمشق 14 / 191 ـ 192 ح 3526 و ص 193 ـ 194 ح 3531 و 3532.
(83)
يذكرها طيلة حياته ؟!
ولماذا لا يتّخذها بلسـماً في بيته ؟!
فهلمّ معي أيّها المسلم الصحيح ، أفليست السـجدة على تربة هذا شـأنّها لدى التقرّب إلى الله في أوقات الصلوات ، أطراف الليل والنهار ، أَوْلى وأحرى من غيرها من كلّ أرض وصعيد وقاعة وقرارة طاهرة ، أو من البسـط والفرش والسـجّاد المنسوجة على نول هويّات مجهولة ، ولم يوجد في السُـنّة أيّ مسوّغ للسـجود عليها ؟!
أليس أجدر بالتقرّب إلى الله ، وأقرب بالزلفى لديه ، وأنسـب بالخضوع والخشـوع والعبودية له تعالى أمام حضرته ، وَضْعَ صَفْحِ الوجه (1) والجباه على تربة في طيّها دروس الدفاع عن الله ومظاهر قدسـه ، ومجلى التحامي عن ناموسـه ناموس الإسلام المقدّس ؟!
أليس أليق بأسـرار السـجدة على الأرض ، السـجود على تربة فيها سـرّ المنعـة والعظمة والكبرياء والجلال لله جلّ وعلا ، ورموز العبودية والتصـاغر دون الله بأجلى مظاهرها وسـماتها ؟!
1 ـ صَفْح الوجه وصُفْح الوجه : عُرضُـه انظر : الصحاح 1 / 383 مادّة « صَفَحَ ».
(84)
أليس أحقّ بالسـجود ، تربة فيها بيّنات التوحيد والتفاني دونه ؟! تدعو إلى رقّة القلب ، ورحمة الضمير ، والشـفقة والتعطّف.
أليس الأمثل والأفضل اتّخاذ المسـجد من تربة تفجّرت في صفيحها عيون دماء اصطبغت بصبغة حبّ الله ، وصيغت على سُـنّة الله وولائه المحض الخالص ؟!
فعلى هذين الأصلين نتّخذ نحن من تربة كربلاء قطعاً لُمَعاً (1) وأقراصاً نسـجد عليها كما كان فقيه السلف مسـروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسـجد عليها.
والرجل تلميذ الخلافة الراشـدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السُـنّة بها ، وحاشـاه من البدعة ، ففي أيّ من الأصلين حزازة وتعسّـف ؟!
وأيّ منهما يضادّ نداء القرآن الكريم ؟! أو يخالف سُـنّة الله وسُـنّة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
وأيّهما يُستنكَر ويعدّ بدعة ؟!
1 ـ اللُمْعة ـ وجمعها : لُـمَع ـ : القطعة من النبت تأخذ في اليُبس انظر : الصحاح 3 / 1281 ، لسان العرب 12 / 329 ، المصباح المنير : 213 ، مادّة « لَمَعَ ».
واستعارها هنا الشـيخ ( قدس سره ) للدلالة على أنّ تربة كربلاء المتّخذة للسـجود هي قطع من التراب الجافّ الطاهر ليس إلاّ.
(85)
وأيّهما خروج عن حكم العقل والمنطق والاعتبار ؟!
وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسـجداً لدى الشـيعة من الفرض المحتّم ، ولا من واجب الشـرع والدين ، ولا ممّا ألزمه المذهب ، ولا يفرّق أيّ أحد منهم ـ منذ أوّل يومها ـ بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السـجود عليها ، خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم.
وإنْ هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لِما هو الأَوْلى بالسـجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسـب ، كما سـمعت.
وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسـفارهم غير تربة كربلاء ، ممّا يصحّ السـجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته ، أو خُمرة مثله ، ويسـجدون عليه في صلواتهم.
ونحن نرى أنّ الأخذ بهذين الأصلين القويمين ، والنظر إلى رعاية أمرَي الحيطة والحرمة ومراقبتهما ، يحتّم على أهالي الحرمين الشـريفين : مكّة والمدينة ، واللائذين بجنابهما ، والقاطنين في ساحتهما ، أن يتّخذوا من تربتهما أقراصاً وألواحاً مسـجداً لهم ، أخذاً بالأصلين ، وتخلّصاً من حرارة حصاة المسـجد الشـريف اللاهبة (1) أيّام الظهائر وشـدّة الرمضاء ،
1 ـ كان في الأصل : « القارصة » ، وهو سهو ، إذ تقال هذه للبرودة وأثبتـنا في المتن ما يناسب السياق.
(86)
ويسـجدون عليها في حضرهم ، ويحملونها معهم مسـجداً طاهراً مباركاً في أسـفارهم (1) ، سيرة السلف الصالح ، نظراء
1 ـ إنّ كثيراً من العلماء والمفسّرين أعطوا مكّة والمدينة ، بل وحرميهما ، أحكام المسجدين ، فألحقوا مكّة المشرّفة والمدينة المنوّرة بجواز التخيير بين القصر والتمام للمسافر كما هو حكم المسجدين ..
قال السيّد الخوئي ( قدس سره ) : « وذكر جماعة اختصاص التخيير في مكّة والمدينة بالمسجدين ، ولكنّه لا يبعد ثبوت التخيير في البلدين مطلقاً » [ المسائل المنتخبة : 183 ] أي يتخيّر المسافر بين القصر والتمام.
وقال العلاّمة الحلّي في أحكام المسافر من كتابه « تبصرة المتعلّمين » : « ويجب التقصير إلاّ في حرم الله وحرم رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومسجد الكوفة ، والحائر الحسيني فإنّه يتخيّر » [ انظر : تذكرة الفقهاء 4 / 365 مسألة 614 ].
وذلك استناداً إلى نصوص في ذلك ـ وإن لم يعمل بها بعضهم ـ كصحيح ابن الحجّاج عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حين سأله عن التمام في مكّة والمدينة ، فقال ( عليه السلام ) : « أتمّ وإن لم تصلّ فيهما إلاّ صلاة واحدة ». [ وسائل الشيعة 8 / 525 ح 11347 ـ باب 25 من أبواب صلاة المسافر حديث 2 ـ ].
وصحيح علي بن يقطين ، عن الإمام أبي إبراهيم ( عليه السلام ) ، حين سأله عن التقصير بمكّة ، فقال ( عليه السلام ) : أُتمّ وليس بواجب ، إلاّ أنّي أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي. [ وسائل الشيعة 8 / 529 ح 11361 ـ باب 25 من أبواب صلاة المسافر ح 19 ـ ].
من هذا ـ وممّا سيأتي ـ نستفيد أنّهم يتعاملون مع أرض الحرم إمّا على أنّها مسجد ، أو أنّ لأرض الحرم أحكاماً خاصّة ، ومنها عدم جواز إخراج أحجارها ..
(87)
الفقيه مسـروق بن الأجدع ـ كما سـمعت حديثه ـ ..
قال ابن حزم تحـت عنـوان « ولا يُخـرج شـيء من تـراب الحرم ولا حجارته إلى الحلّ » .. قال : « روينا عن طريق سعيد بن منصور ، حدّثنا هشيم ، أخبرنا حجّاج ، عن عطاء ، قال : يُكره أن يُخرج من تراب الحرم إلى الحلّ ، أو يُدخل ترابٌ الحلّ إلى الحرم وهو قول ابن أبي ليلى وغيره ولا بأس بإخراج ماء زمزم لأنّ حرمة الحرم إنّما هي للأرض وترابها وحجارتها ، فلا يجوز له إزالة حرمتها ، ولم يأت في الماء تحريم ». [ المحلّى 7 / 262 ـ 263 مسألة 899 ].
وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى في سورة الإسراء : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) : « عن ابن عبّاس : الحرم كلّه مسجد ، وهذا قول الأكثرين » [ تفسير الفخـر الـرازي 20 / 148 ] لأنّـه أُسـري بـه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بيت أُمّ هاني بنت أبي طالب ، ومن المجمع عليه أنّه لا يجوز إخراج حصى المسـجد ولا ترابه.
وقال الطبري في تفسير نفس الآية : « وأمّا قوله : ( من المسجد الحرام ) فإنّه اختُلف فيه وفي معناه ، فقال بعضهم : يعني من الحرم ، وقال : الحرم كلّه مسجد وقد بيّـنّا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا ». [ تفسير الطبري 8 / 4 ].
وسُئل السيّد محسن الحكيم ( قدس سره ) عن الأحجار من المزدلفة يحتفظ بها الحاجّ إلى العام القادم ؟ قال : « الأحوط أن يرميها في منى ». [دليل الحاجّ : 171 ].
وقال السيّد محمّـد رضا الگلبايگاني ( قدس سره ) في حرمة الحرم : « ويحرم قلع شجره وحشيشه وقطعهما ، ويمنع نقل ترابه وأحجاره على الأحوط ». [ آراء المراجع في الحجّ : 434 ].
تلخّص ممّا سبق أنّ هذا هو المانع للصدر الأوّل من المسلمين من أن يحملوا تراب الحرمين على شكل ألواح أو أقراص كما هو عندنا اليوم والذي نطلق عليه التربة الحسينية ، غير أنّ الشيخ الأميني يرى جواز ذلك كما عليه بعضهم ، وهو كما ترى.
(88)
ويجعلونهـا في تنـاول يد الزائرين والحجّاج والوافدين إلى تلكم الديار المقـدّسـة من الحواضر الإسلامية ، تقتنيها الأُمّـة المسلمة مسـجداً لهـا ، في الحضر والسـفر ، وتتّخذها تذكـرة وذكرى لله ولرسوله ولمهابـط وحيه ، تذكّـرها ربّها ونبيّهـا متى ما ينظـر إليها ، وتشـمّهـا وتستـشـمّ منها عَـرف التوحيـد والنبـوّة.
وتكون نبراساً في بيوت المسلمين تتنوّر منها القلوب ، وتستـضيء بنورها أفـئدة أُولي الألباب ، ويتقرّب المسلمون إلى الله تعـالى في كلّ صقـع وناحية في أرجاء العـالم بالسـجود على تربة أفضل بقعـة اختـارها الله لنفسـه ، بيـت أمن ودار حرمة وعظمة وكرامة ، ولنبيّـه حرماً ومضجعـاً مبـاركاً.
وفيها وراء هذا كلّه دعاية كبيرة قوية عالمية إلى الإسلام ، وإلى كعبة عبادته ، وعاصمة سُـنّته ، وصاحب رسالته.
( ذلك ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عنـد ربّـه ) (1).
عبـد الحسين الأميني
1 ـ سورة الحجّ 22 : 30.
(89)
مصـادر التوثيق والتعضيد
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ آراء المراجع في الحجّ ، لعلي افتخاري ، مطبعة النجف.
3 ـ الإتحاف بحبّ الأشراف.
4 ـ الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ، لعلي بن بلبان الفارسي ( ت 739 ) ، تحقيق كمال يوسف الحوت ، نشر دار الفكر ، بيروت 1407.
5 ـ إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ، لأحمد بن محمّـد القسطلاني ( ت 923 ) ، نشر دار الفكر ، بيروت 1401.
6 ـ أسباب النزول ، لعلي بن أحمد الواحدي النيسابوري ( ت 468 ) ، تحقيق ونشر دار الفكر ، بيروت 1414.
7 ـ الاستبصار ، للشـيخ الطوسي محمّـد بن الحسن ( ت 460 ) ، تحقيق حسن الموسوي الخرسان ، نشر دار الكتب الإسلامية ، طهران 1390.
8 ـ الاستيعاب ، لابن عبـد البرّ القرطبي ( ت 463 ) ، تحقيق علي محمّـد البجاوي ، نشر دار الجيل ، بيروت 1412.
9 ـ أُسد الغابة ، لابن الأثير الجزري ( ت 630 ) ، نشر دار الفكر ، بيروت 1409.
10 ـ الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر العسقلاني ( ت 852 ) ، تحقيق علي محمّـد البجاوي ، نشر دار الجيل ، بيروت 1412.
11 ـ الأُصول العامة للفقه المقارن ، للسيّد محمّـد تقي الحكيم.
(90)
12 ـ تاج العروس ، لمحمّـد بن محمّـد مرتضى الزبيدي الحسيني ( ت 1205 ) ، تحقيق علي شيري ، نشر دار الفكر ، بيروت 1414.
13 ـ تاريخ الأُمم والملوك ، لمحمّـد بن جرير الطبري ( ت 310 ) ، نشر دار الكتب العلمية ، بيروت.
14 ـ تاريخ بغداد ، للخطيب البغدادي أحمد بن علي ( ت 463 ) ، نشر دار الكتب العلمية ، بيروت.
15 ـ تاريخ دمشق ، لابن عساكر علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي ( ت 571 ) ، تحقيق محبّ الدين أبي سعيد ، نشر دار الفكر ، بيروت 1417.
16 ـ التاريخ الكبير ، لمحمّـد بن إسماعيل البخاري ( ت 256 ) ، نشر دار الكتب العلمية ، بيروت.
17 ـ تذكرة الفقهاء ، للعلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر ( ت 726 ) ، تحقيق ونشر مؤسّـسة آل البيت ( عليهم السلام ) لإحياء التراث ، قم 1414.
18 ـ التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة ، لمحمّـد بن أحمد الخزرجي القرطبي ( ت 671 ) ، نشر دار الفكر ، بيروت 1410.
19 ـ الترغيب والترهيب ، لعبـد العظيم بن عبـد المنذري ( ت 656 ) ، نشر دار مكتبة الحياة ، بيروت 1411.
20 ـ تفسير الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ، لجلال الدين السيوطي ( ت911 ) ، نشر دار الفكر ، بيروت 1414.
21 ـ تفسير ابن كثير ، لإسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي