بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
6ـ حوزة الحلة:بعد أن تم تمصير الحلة سنة 495 هـ على يد سيف الدولة المزيدي، أخذ الأخير بإتباع سبل كفيلة لجلب العلماء والشعراء والأدباء إليها. فقد صارت الحلة في عهد سيف الدولة كعبة الأدباء والشعراء والعلماء لما يلقونه من رعاية وتشجيع من قبله. فقد كان يجزل لهم العطاء والبذل حتى أن بعض من وفد إليها اتخذها موطناً له بدل موطنه الأصلي(1).
ومما حفز على قدوم العلماء والحوزة إلى الحلة هو وجود مكتبة ضخمة فيها تضم آلاف الكتب بعد أن فقد الطلاب والعلماء مكتباتهم حرقاً وغصباً، وذلك في زمن حوزة بغداد التي رحلوا عنها مجبرين إلى النجف سنة 448هـ وذكر الأمين في موسوعته: إن سيف الدولة صدقة لم يغفل لحظة عن أن ينشيء في مدينته الجديدة مكتبة ضخمة يقول المؤرخون أنه كان فيها ألوف الكتب كما كان هو، ومن جاء بعده يرعون العلماء والشعراء والمفكرين(2).
لقد بقيت حوزة الحلة طيلة أربعة قرون من القرن الخامس إلى أواخر القرن التاسع مصدر النهضة العلمية والشعرية والفكرية(3).
ونبغ فيها كثير من العلماء من أمثال ابن إدريس الحلي وابن زهرة والمحقق الحلي، والعلامة الحلي والسيد عبد الكريم بن طاووس صاحب فرحة الغري وأضرابهم(4) وظهر فيها كثير من الأسر العلمية والأدبية مثل أسرة آل نما الربعي وأسرة آل سعيد، وأسرة آل طاووس وآل المطهر وغيرها(5). وأنتجت حوزة الحلة الكثير من الكتب والمؤلفات والرسائل الفقهية والأصولية والكلامية والحديثية والرجالية ونذكر من باب المثال لا الحصر ما قاله الشيخ الطريحي في كتابه مطلع النيرين في مادة علم: انه وجد بخط العلامة رحمه الله خمسمائة مجلد من تصانيفه غير ما وجد منها بخط غيره(6).
حتى أن الصفدي قال عن العلامة: بأنه ذو الفنون، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته وكان يصنف وهو راكب(7) ومن هنا يظهر أن حوزة الحلة كانت إحدى الحوزات التعليمية التي ساهمت في توطيد ونشر التعاليم الإسلامية.
7ـ حوزة جبل عامل:
راج التشيع في بلاد الشام منذ إقصاء أبي ذر الغفاري ذلك الصحابي الجليل إلى الشام، ثم انتعش في أيام الفاطميين حتى أصيب بنكسة في زمن الأيوبيين، ولما استولى المغول وأعقبتهم دولة المماليك تنفست الشيعة الصعداء في تلك المنطقة. وفي تلك الظروف بادر الشهيد الأول إلى إنشاء مدرسة علمية في جزين، فأثمرت واتسعت وتلتها حوزات علمية أخرى كحوزة بعلبك واكرك وجبع واستمر الوضع على هذا المنوال حتى سقوط دولة المماليك على يد السلطان سليم العثماني الذي امتد نفوذه إلى بلاد الشام في العقد الثالث من القرن العاشر 930هـ وهناك عاد الضغط على الشيعة مرة أخرى، وبلغ القمة حين استشهاد الشهيد الثاني من جراء نشوب الاضطرابات والفتن عام 965 هـ فاخذ النشاط الفقهي في جبل عامل بالتقلص شيئاً فشيئاً، مما حدا بكثير من الفقهاء إلى الهجرة صوب إيران والعراق(8).
ويمكن الإشارة إلى أن الشيعة ـ وخلال دولة العلويين في مصر والشام والحجاز وأفريقيا ـ استطاعوا أن يجاهروا بنشاطهم الثقافي والسياسي، فكان من اثر ذلك ظهور مدرسة حلب لبني زهرة، وظهور نشاط ثقافي شيعي في جبل عامل، فقد كثرت المدارس الفقهية الشيعية في جبل عامل. وقوى النشاط الثقافي في هذا القطر. وأول مدرسة فقهية افتتحت في هذا القطر هي مدرسة جزين للشهيد الأول(9). وقد أنج بت هذه الحوزة علماء كبار كالشيخ الكركي صاحب المقاصد، والشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي ت 984 هـ وهو والد الشيخ البهائي الذي تولى منصب شيخ الإسلام بعد الشيخ الكركي وغيرهم(10).
وكان لنوابغ هذا الجبل من الشيعة اثر في الدراسات الإسلامية في البلاد المجاورة للجبل، فان التاريخ يحدثنا أن الاوزاعي الذي في كرك نوح يبدو متأثراً بطريقة الشيعة في أخذهم عن أهل البيت عليهم السلام(11).
وهكذا يظهر أن هذه الحوزة قدمت جهوداً علمية كبيرة في الحقول والمعارف الإسلامية المختلفة.
8 ـ حوزة أصفهان:بعد أن تأسست الدولة الصفوية في بداية القرن العاشر الهجري سنة 906هـ هاجر كثير من العلماء إلى إيران، وكان وفود المحق الكركي إلى عاصمة الصفويين بداية الهجرة واسعة من قبل فقهاء جبل عامل والمراكز الفقهية العامرة الأخرى في ذلك التأريخ مثل البحرين. وقد قدم إلى إيران بعد المحقق الكركي جمع من كبار الفقهاء منهم: الشيخ حسين بن عبد الصمد(12) ـ والد الشيخ البهائي ـ والشيخ علي المنشار، وكمال الدين درويش محمد العاملي، والشيخ لطف الله الميسي العاملي، والشيخ الحر العاملي صاحب موسوعة وسائل الشيعة وهؤلاء وضعوا أساساً متيناً لمدرسة أصفهان الفقهية.
ومن هذه المدرسة نبغ فقهاء ومحدثون وفلاسفة كبار من أمثال: الشيخ البهائي، والمجلسيان، والسيد محمد باقر الداماد، وصدر المتألهين، والفيض الكاشاني، والملا عبد الله الشوشتري.
واحتاجت الدولة في أول أمرها إلى فقهاء يعلمون الناس أمور دينهم، ويتولون منصب القضاء لإدارة شؤون الناس، ولتكوين الغطاء الشرعي فاستفادوا من المجتهدين الذين هم في المذهب الشيعي وكان لعلماء جبل عامل السهم الأوفر في تولي أمور الدولة(13).
وفي هذه المدرسة دخل الفقه ساحة المجتمع والعمل السياسي وبرز الفقه السياسي والاجتماعي بصورة ملحوظة، وأصبح من مسؤولية الفقهاء في هذا العصر الإجابة الفقهية على كثير من الأسئلة التي كان يطرحها الولاة والحكام والقضاة في مسائل الولاية والحكم والقضاء. وتناول الفقهاء هذه المسائل بالدارسة المستقلة ضمن رسائل فقهية مستقلة، ومع أن أكثر هذه الرسائل فقدت خلال النكبة التي حلت بمدينة أصفهان في هجوم جيش محمود الأفغان في سنة 1335 هـ (14) إلا أن الذي تبقى منها يعتبر ثروة فقهية مباركة لو جمعت ونظمت وأخرجت بشكل مناسب. وفي هذا العصر أنجز المحدثون المجاميع والموسوعات الحديثية، ومن أهم هذه المجاميع: بحار الأنوار للعلامة المجلسي، ووسائل الشيعة للحر العاملي، والوافي للفيض الكاشاني، وهذه المجاميع حفظت لنا ما تبقى من الكتب والأصول الحديثية. ولولا هذه المجاميع لاندثر الكثير من تراث أهل البيت عليهم السلام في الأصول والفروع والتفسير والأخلاق والمعارف الإسلامية الأخرى(15).
9 ـ حوزة كربلاء
كان في كربلاء مدرسة فقهية محدودة قبل القرن الثالث عشر بموازاة حوزة الحلة وجبل عامل وأصفهان، وكان في هذه المدرسة فقهاء وعلماء كبار من أمثال: السيد فخار بن معد الحائري من أعلام الفقه والأدب والأنساب في القرن السابع الهجري، والسيد جلال عبد الحميد بن فخار بن الموسوي من شيوخ الرواية، والشيخ معد بن الخازن الحائري من أعلام وتلاميذ الشهيد الأول ومن رجال الفقه والأدب، والشيخ احمد بن فهد الحلي من أقطاب الفقه والحديث ومن زعماء الحركة العلمية في حوزة كربلاء، والشيخ إبراهيم الكفعمي(16) من أعلام الفقه والحديث وصاحب المصنفات القيمة وغيرهم من أعلام الفقه والأدب والحديث والتفسير في هذه المدرسة.
وهذه المدرسة شهدت في القرن الثاني عشر والثالث عشر نشاطاً فقهياً واسعاً وزخرت بفقهاء كبار من أمثال: الشيخ يوسف صاحب الحدائق، والوحيد البهبهاني، والسيد محمد مهدي بحر العلوم، والمولى محمد مهدي النراقي صاحب مستند الشيعة، والشيخ محمد حسين الاصفهاني صاحب الفصول(17) وغيرهم.
ويبدوا أن حوزة كربلاء بدأت تتسع في النكبة التي أصابت حوزة أصفهان في حملة محمود الأفغان، وأخذت تستقطب طلبة العلم والفقهاء والعلماء والمدرسين.
وظهر في مدرسة كربلاء اتجاهين في الفقه: احدهما الاتجاه الإخباري الذي يتزعمه البحراني والاسترابادي والثاني الاتجاه الأصولي الذي يتزعمه الوحيد البهبهاني.
ونجح الوحيد في مواجهة المدرسة الإخبارية واستقطب خيرة تلامذة الشيخ يوسف البحراني وانحسرت الحركة الإخبارية، وبدأ الشيخ البحراني يميل إلى مدرسة الأصوليين بشكل أو بآخر. وبسبب الاعتدال الذي اخذ به الشيخ يوسف، والموقف الحاسم الذي اخذ به الوحيد البهبهاني رحمهما الله استعادت مدرسة أهل البيت الفقهية مرة أخرى انسجامها، ونشط الاجتهاد على الطريقة الأصولية بعد ضمور واختفاء.
وهناك حوزات أخرى نشأت في فترات مختلفة آثرنا الاكتفاء بذكرها رعاية الاختصار وهي حوزة سامراء وحوزة الحجاز وحوزة البحرين وحوزة حلب.
وهكذا نشاهد أن الحوزة العلمية الشيعية ذات جذور تاريخية عميقة منذ صدر الإسلام وحتى يوم الناس المشهود.
ــــــــــــــــــــــ
الهوامش
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الحلة: الشيخ يوسف كركوش الحلي، ج2 ص4، إصدار الشريف الرضي، الطبعة الأولى.
(2) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: حسن الأمين، ج6 ص331، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة.
(3) المصدر نفسه: ج6 ص331.
(4) انظر: أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين، ج4 ص91، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.
(5) انظر تاريخ الحلة: ص9 – 42.
(6) نهج الحق وكشف الصدق: العلامة الحلي، ص15، قم، الطبعة الأولى.
(7) انظر الوافي بالوفيات: صلاح الدين الصفدي، ج13 ص85، الناشر فرانز شتايز، شتوتغارت، ط2 – 1411 هـ.
(8) تاريخ الفقه الاسلامي وادواره: الشيخ جعفر السبحاني، ص382 – 383، دار الأضواء، بيروت، ط 1 – 1419 هـ.
(9) انظر: الدروس الشرعية: الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي ت 786 هـ، ج1 ص43، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الاسلامي، قم، ط 1 – 1412 هـ.
(10) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج8 ص99.
(11) مدارك الاحكام: محمد العاملي، ج1 ص10، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت ع، ط 1 – 1410 هـ.
(12) كان من العلماء الاعلام، وكان قد تولى منصب شيخ الإسلام بقزوين وهراة ايام الدولة الصفوية أنظر: تكملة امل: السيد حسن الصدر، ص184-185، مكتبة السيد المرعشي النجفي، قم، سنة الطبع 1406 هـ.
(13) جامع المقاصد: المحقق الكركي، ت 940 هـ، ج1 ص30، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت ع، قم، ط 1 – 1408 هـ
(14) انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة آقا بزرك الطهراني، ج11 ص328، دار الأضواء.
(15) انظر: رياض المسائل: ص92 – 94.
(16) توفي الكفعمي سنة 905 هـ وله مؤلفات قيمة منها: جنة الامان، والبلد الأمين، ومحاسبة النفس وغيرها انظر الذريعة: ج8 ص179.
(17) انظر: رياض المسائل ج1 ص94 – 96.