د. حلمى محمد القاعود : بتاريخ 11 - 9 - 2007
أم حسنين امرأة عادية .. من عامة النساء المصريات . حملت عبء أسرة ضخمة وقامت بواجبها خير قيام .. وأخيراً ودّعتنا قبل أيام - ( 4/9/2007م ) - إلى العالم الآخر بعد عمر يناهز التسعين عاماً !
هى امرأة مجهولة ، لا يعرفها المجلس الأعلى للمرأة ، ولا المجالس الأخرى التى تدعى دفاعاً عن المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجال ، ورفض الختان ، والميراث وفقاً للشريعة الإسلامية ، وتعدّد الزوجات .. ولكنها أثبتت بفطرتها البسيطة ، أنها أذكى وأفضل وأعظم من كل المجالس العليا والسفلى التى تتشدق باسم المرأة ومصير المرأة ..
لقد أنجبت أربعة عشر رجلاً وامرأة ، من ضمنهم ولد غير شقيق كان يعدّها أمه الحقيقية ، وكان ولاؤه لها قبل أمه الأصلية ، فقد ربّته مع أخوته ورعته وزوّجته وفرحت بأبنائه وأحفاده أيضاً ..
لقد حملت عبء الحياة العائلية مبكراً حين فقدت زوجها الرجل البسيط الذى كان متعهد صحف فى باب اللوق ، وكان الحاج مدبولى – الناشر المعروف الآن – من ضمن من عملوا معه ، وتعلموا منه ، حتى صار علامة لدى مثقفى الحظيرة وخارج الحظيرة ، فى مصر والعالم العربى على السواء .
إنها أم الأستاذ " حسنين كروم " – الصحفى المعروف ، ومدير مكتب جريدة " القدس العربى " ، وأم زوجتى أيضاً ، وجدة أبنائى وبنتى ، وقد تركت من الأحفاد وأبنائهم ما قرّ عينها وأسعدها فى حياتها ، مع كل ما عانته من متاعب الدنيا ومصاعبها وأحزانها .
ولعل القارئ يسألنى ، لماذا تشغلنا بأمر هذه المرأة البسيطة ؟ ألم يكن أجدر بك أن تكتب لنا فى موضوع عام يهمّنا ويشغلنا فى غمرة الحوادث التى لا تنجلى ، ومعمعة الهموم التى لا تهدأ ولا تتوقف ؟
وأقول للقارئ الكريم ، إننى أتناول موضوعاً عاماً من خلال هذه السيدة البسيطة التى تكشف عن معدن الشعب المصرى وأصالته فى مواجهة المحن والهموم ..
لقد كان أبناؤها ممن انشغلوا بهموم الوطن وقضاياه ، بحكم اقترابهم من القراءة ، وتعاملهم مع الكلمة المكتوبة أو المقروءة ، وكان عمهم الأكبر " إبراهيمكروم " – أحد فتوات بولاق – الذين لعبوا دوراً سياسيّاً فى أواخر العهد الملكى وأوائل عهد العسكر .. عرض عليه الشهيد حسن البنا ، الانضمام إلى الإخوان المسلمين ، فسأله عن الإسلام و " الفتونة " ، فأجابه الشهيد بالإيجاب ، فطوّح عصاه وألقى بها على الأرض قائلاً : اللهم صلّ على أجدع نبى ! وصار فتوةبولاق المشهور ، واحداً من أهم أتباع حسن البنا ، وحين قامت حركة الجيش عام 1952م ، كان عنصراً مهمّاً من عناصر دعمهما على النحو الذى تكلم عنه بعض الباحثين .
أبناء أم حسنين ، كانوا على الدرب ذاته برؤى متغايرة . حسنين ومحمد ، ناصريان حتى النخاع ، وفُصل الأول من عمله الصحفى قبل حرب رمضان بسبب انتمائه ، نصر كان عضواً فى جماعة التبليغ التى رعاها الشيخ " إبراهيم عزت " – رحمه الله – ودفعت به الأقدار إلى دخول المعتقل ليقضى سبعة عشر عاماً ، ويخرج بقايا إنسان ، بعد التعذيب والمعاناة ، ليرى أمّه قبل وفاتها باسابيع قليلة .. ومن المفارقات أن ابنه " محمد " أُلقى به فى معتقل الواحات أحد عشر عاماً وهو صبى لما يبلغ الخامسة عشرة ، فيُصاب بأمراض فتاكة , وكذلك صهرها خالد كروم أعتقل 7 سنوات عجاف لنشاطة السياسى , ويكتب عمّه " حسنين " راجياً نقله إلى أحد معتقلات القاهرة حتى تمكن معالجته وزيارته ، ولكن لا استجابة من النظام البوليسى الفاشى ، الذى ألقى الغلام فى قعر مظلمة دون محاكمة بعد مشاجرة على أحد المقاهى فى حىّ بولاق !
الآخرون من أبناء أم حسنين عاشوا متاعب مختلفة بسبب السياسة وواقع الحياة ، وكانت الأم فى صبرها وجلدها ، مثالاً للتحمل والصلابة ، مع ما أصابها من أمراض الضغط والأعصاب وهشاشة العظام فى أواخر أيامها حتى صارت تتحرك على كرسى !
أم حسنين صورة مصغرة لمصر فى بذلها وعطائها ، دون منّ ولا أذى ، حيث يعترف بفضلها البعض ويجحده الآخر ، ولكنها فى كل الأحوال لا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكورا ، إلا الدعوات ممن أحبّوها ، وعرفوا قدرها وقيمتها ..
ترى هل يمكن أن تعيش مصر فى ظل الغلاء المتوحش والقهر البشع والاستبداد القبيح ، لولا أمثال هذه المرأة ، التى نسيت نفسها ، وراحت تغدق كل ما تملكه من عطف وحنو ورحمة على أبنائها وأحفادها ، وهى تعايش مشكلاتهم ومتاعبهم وأحزانهم وأفراحهم ونجاحاتهم ومسرّاتهم ..
كانت تقطع المسافة من القاهرة إلى قريتى – نحو مائتى كيلو مترا – لتطمئن على ابنتها وأحفادها وتقدم المساعدة والنصح والخبرة ، وتفعل ذلك مع بقية البنات ، عدا تلك التى تزوجت فى تركيا ، ولا تستطيع الوصول إليها إلا عبر الهاتف ، أو تنتظر زيارتها .
أى أم تلك التى تهتم بأحفادها ومطالبهم ، وتسأل عنهم وتتابع أخبارهم ؟ كان ابنى " محمود " أحد الأحفاد الذين يمارسون " شقاوتهم " الزائدة عن الحدّ ، لدرجة أنه كان يوقظها من النوم لتتحدث معه وتحكى له ، ويسألها عن قصة قرابتها للقارئ الشهير الراحل " الشيخ محمود خليل الحصرى " – رحمه الله – وكانت تهدد أحياناً بالعودة إلى القاهرة إعلاناً عن غضبها منه ، ولكنها حين تسافر وتتصل هاتفياً ، يكون أول سؤال لها عن " محمود " ! وعندما كبر " محمود " وتخرّج هذا العام بعد الجامعة كان هو المفضل لديها ، وهو الذى يجلس معها ويحكى لها وتحكى له .
يتساءل الناس عن سرّ بقاء مصر دولة قائمة على الأرض – وأقول لهم : إن السرّ يكمن فى أمثال هذه المرأة الطيبة التى فقهت معنى الحياة بفطرتها البسيطة ، فأعطت بلا حدود ، وحصدت حبّاً بلا حدود ايضاً .. وأثبتت أن المرأة المصرية الحقيقية ، ليست ضمن مجالس المرأة القومية أو القطرية أو المحلية ، ولكنها موجودة فى أعماق الشعب البائس تمدّه بشريان الحياة والأمل .
رحم الله أم حسنين وجعل الجنة مثواها .