إنّ الأحاديث الواردة في كتب علماء السنّة، والدّالّة على إمامة أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام كثيرة جدّاً، وهي تنقسم إلى أقسام:
منها: ما هو نصٌّ على إمامته وخلافته.
ومنها: ما يدلّ على أفضليّته بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله.
ومنها: ما يدلّ على أولويّته وولايته.
ومنها: ما يدلّ على عصمته.
لمّا نزلت هذه الآية الشريفة دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله رجال عشيرته من قريش، فدعاهم إلى الإسلام.. ورد هذا الخبر في كتب: التاريخ والسِّيرة، وفي كتب التفسير والحديث أيضاً.
كتب السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ في ( الميزان في تفسير القرآن ) في ظلّ الآية المباركة: في ( مجمع البيان للطبرسيّ ): ـ عشيرة الرجل قرابتُه؛ سُمُّوا بذلك لأنّه يُعاشرهم وهم يعاشرونه، انتهى. وخَصّ ( الله تعالى ) عشيرتَه وقرابته القربين بالذِّكر، بعد نهيِ نبيّه عن الشِّرك وإنذاره؛ تنبيهاً على أنّه لا استثناءَ في الدعوة الدينيّة، ولا مُداهنةَ ولا مُساهلة كما هو معهودٌ في السُّنن المُلوكيّة، فلا فَرقَ في تعلّق الإنذار بينَ النبيّ وأُمّته، ولا بينَ الأقارب والأجانب، فالجميع عبيد واللهُ مولاهم.
الرواية
اخترناها من البغويّ ـ أحد علماء السنّة المعروفين ـ في تفسيره المعروف ( معالم التنزيل ج 4 ص 278 ـ 279، طبعة دار الفكر ـ بيروت سنة 1405 هـ ) قال:
روى محمّد بن إسحاق ( المؤرّخ المعروف ) عن عبدالغفّار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب ( جدّ النبيّ صلّى الله عليه وآله )، عن عبدالله بن عبّاس، عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال:
لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله: وَأَنْذِرْ عَشيرتَك الأَقْرَبِين دعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: يا عليّ، إنّ الله أمرني أن أُنذِر عشيرتيَ الأقربين، فضِقت بذلك ذَرعاً، وعرفتُ أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصَمَتُّ عليها حتّى جاءني جَبرئيل فقال لي: « يا محمّد، إلاّ تَفعَلْ ما تُؤمَر يُعذّبْك ربُّك »، فاصنعْ لنا صاعاً من طعام، واجعَلْ عليه رِجْلَ شاة، واملأ لنا عُسّاً مِن لبن، ثمّ اجمَعْ لي بني عبدالمطّلب حتّى أُبلّغَهم ما أُمِرتُ به.
( قال عليّ: ) ففعلتُ ما أمرني به، ثمّ دعوتُهم له وهم يومئذٍ أربعون رجلاً.. يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالبٍ وحمزة والعبّاس وأبو لهب. فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعتُه، فجئتُهم به، فلمّا وضعتُه تناول رسولُ الله صلّى الله عليه وآله جَذْبةً من اللحم فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة، ثمّ قال: خُذُوا باسم الله. فأكل القوم حتّى ما لَهُم بشيءٍ حاجة، وأيمُ اللهِ أنْ كان الرجل الواحد منهم لَيأكلُ مِثْلَ ما قَدَّمتُ لجميعهم! ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: إسقِ القوم. فجِئتُهم بذلك العُسّ، فشربوا حتّى رُوُوا جميعاً، وأيمُ الله أن كان الرجل الواحد منهم لَيشرب مِثْلَه!
فلمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يُكلّمَهم بَدَرَه أبو لهب فقال: سَحَرَكم صاحبُكم ؟! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله. فقال في الغد: يا عليّ، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سَمِعتَ مِن القول فتفرّق القومُ قبل أن أُكلّمَهم، فأعِدَّ لنا من الطعام مِثلَ ما صنعتَ ثمّ اجمَعْهُم. ( قال عليه السّلام: ): ففعَلْت، ثمّ جَمَعْت، فدعاني بالطعام فقرّبتُه، ففَعَل كما فعَلَ بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثمّ تكلّم رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال:
يا بَني عبدِالمطّلب، إنّي قد جئتُكم بِخَيرَيِ الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعُوَكم إليه، فأيُّكم يُؤازرُني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟
فأحجَمَ القومُ عنها جميعاً، فقلتُ ـ وأنا أحدَثُهم سِنّاً ـ: يا نبيَّ الله، أكونُ وزيرَك عليه. قال: فأخذ برقبتي وقال: إنّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي فيكم، فاسْمَعُوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرَك أن تسمع لعليٍّ وتُطيع!
[ روى هذا الخبر: المتّقي الهندي في ( كنز العمّال 131:13 / الرقم 36419، مؤسّسة الرسالة ـ بيروت سنة 1405 هـ ) عن: ابن إسحاق، وابن جرير الطبريّ صاحب التفسير والتاريخ، وابن أبي حاتِم الرازي، وابن مَردَويه، وأبي نُعَيم الاصفهاني الحافظ، والبيهقي. كذلك رواه الطبري في ( تفسيره ج 19 ص 74، دار المعرفة ـ بيروت )، والبيهقي في ( السنن الكبرى 7:9، دار المعرفة ـ بيروت )، وابن أبي حاتم في ( تفسيره ج 9 ص 2826 / الرقم 16015 ـ باختلاف، مكتبة نزار الباز ـ مكّة المكرّمة سنة 1417 هـ ) ].
فرواة هذا الحديث هم أئمّة أعلام علماء السنّة، منهم: محمّد بن إسحاق صاحب السيرة النبويّة ( ت 152 هـ )، وهو من رجال البخاري ومسلم والأربعة أصحاب الصحاح ( يراجع: تقريب التهذيب 144:2 ). والخبر مُتَّفَق عليه، إذ ورد بأسانيد كثيرة في كتبٍ معتبرة، فجاء في: ( مسند أحمد بن حنبل 111:1 / الرقم 885، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت 1414 هـ )، وفي ( سنن النَّسائي 248:6، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت )، كذا رواه الحافظ أبو بكر البزّار صاحب المسند، والحافظ الطبراني في ( المعجم الأوسط )، والحاكم النيسابوري في ( المستدرك على الصحيحين )، والطحاوي في ( مشكل الآثار )، والحافظ أبو نُعيم في ( دلائل النبوّة ) و ( حلية الأولياء )، والضياء المَقْدسي في ( المختار ) الذي التزم فيه الضياء بالصحة، فلا يروي فيه إلاّ الروايات الصحيحة المعتبرة في نظره، والحافظ ابن عساكر، والبيهقي في ( دلائل النبوّة )، والحافظ ابن الأثير، والحافظ الهيثمي في ( مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 113:9، دار الكتاب العربي ـ بيروت 1403 هـ ـ وفيه إسنادٌ جيّد )، والحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك وقد نصّ على صحّة هذا الحديث، والحافظ السيوطي في تفسيره ( الدرّ المنثور ـ في ظلّ آية الإنذار الآنفة الذِّكر ).. وغيرهم.
قال الحافظ الهيثمي في ( مجمع الزوائد 302:8 ) بعد أن رواه عن ابن حنبل: رواه أحمد، ورجاله ثِقات. وذكره المتقي الهندي في ( كنز العمّال ) وقال: إنّ الطبريّ محمّد بن جرير قد صحّح هذا الحديث ( أي رآه صحيحاً ). وصحّحه الحاكم النَّيسابوري الشافعي في ( مستدركه ) عن ابن عبّاس في حديثٍ طويل، ووافقه على التصحيح الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك. كما نصّ على صحّته الشهاب الخفاجي في شرحه على ( الشفاء ) للقاضي عياض، حيث ذكره في معاجز رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ قال: إنّ سند هذا الخبر صحيح.
( نسيم الرياض ـ شرح الشفاء للقاضي عياض ج 3 ص 35 ).
العناية
نبدأ بخصوصيّات الآية والرواية، فنجد أنّ:
الخصوصيّة الأُولى ـ هي صدور الإنذار في أوائل الدعوة النبويّة النيّرة، وبدء البعثة المحمّدية الشريفة، فكان التبليغ: للتوحيد، وللرسالة، وللخلافة في آنٍ واحد. الخصوصيّة الثانية ـ كان واضحاً، حتّى لدى المشركين رغم استهزائهم ـ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان جادّاً في أن ينصب عليّاً عليه السلام إماماً مُطاعاً مِن بعده لعموم الناس.
الخصوصيّة الثالثة ـ ظهور المعجزة النبويّة الواضحة للجميع، مِن خلال قلّة الطعام واللبن الذي قُدّم لقوم بلغوا أربعين رجلاً، فأشبعهم ورواهم وبقيَ ما يُظنّ أنّهم لم يأكلوا إلاّ اليسير منه، ولم يشربوا إلاّ النزر منه.
الخصوصيّة الرابعة ـ استدلال أمير المؤمنين عليه السّلام بهذا الخبر في جواب سائلٍ متسائل، ذكره النسائيّ في كتابه
( خصائص أمير المؤمنين عليه السّلام ص 86 ـ طبعة الغريّ في النجف الأشرف،
وهو من صحيحه كما ثبت في محلّه ) قال:
إنّ رجلاً قال لعليّ: يا أمير المؤمنين، بِمَ وَرِثْتَ آبنَ عمّك دون عمِّك ؟ ( أي: بأيّ دليلٍ أصبحتَ أنت وارثاً لرسول الله صلّى الله عليه وآله وأنت ابن عمّه، ولم يكن العبّاس بن عبدالمطّلب هو الوارث وهو عمّه ؟! ) فذكر الإمام عليه السّلام لسائله الحديثَ الآنف الذِّكر، والمسمّى بـ « حديث الدار »، المرويّ في ظلّ « آية الإنذار »، وهي قوله تعالى: وأَنْذِرْ عشيرتَكَ الأقربين ، وفي ظلّها قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لعليٍّ صلوات الله عليه: أنت أخي، ووارثي، ووزيري.. وفي بعض النسخ والروايات: ووصيّي، وخليفتي مِن بعدي، ثمّ ختم الإمام عليّ عليه السّلام جوابه لسائله بقوله: فبذلك وَرِثْتُ ابنَ عمّي دونَ عمّي.
الخصوصيّة الخامسة ـ هي اللُّطف الإلهيّ بالعباد، فرغمَ عنادهم واستهزائهم، فقد انصبّت عليهم العناية الرحمانيّة بتقديم الهدايات:
القرآنيّة والنبويّة، مِن خلال آية، ثمّ رواية، ثمّ عناية.. حيث لم يبقَ لأحدٍ حُجّهٌ بعد أن كانت للهِ الحجّةُ البالغة: فكتابٌ من الله جلّ وعلا أفضل الكتب لا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يَدَيهِ ولا مِن خَلْفِه، ورسولٌ من الله تبارك وتعالى أفضلُ رسُله وأنبيائهِ، وخليفةٌ مِن بعدِه إمامٌ وصيٌّ هو سيّدُ أوصيائهِ. فماذا يريد الناسُ أكرمَ من هذه الألطاف الربّانيّة ؟!
وتلك عناية، لو كان للعباد حظٌّ شكروها بلسان القلب، وسجدوا لله طويلاً عليها، وبادروا إلى طاعة وليّ الله مِن بعد رسول الله، مقتدين به، آخذين عنه، متمسّكين به، مُهتدين بهُداه، كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله.
******
ولكم خالص دعائي