> بماذا نفسر تمرد الفرد على العادات والمعتقدات الإجتماعية الخاطئة ؟ رجل واحد يكَّذب آباءه وأجداده في دينهم ومقدساتهم ، ويرفض معبود قومه ، وهم عشرات الملايين ؟ وكيف يقع هذا ، والفرد جزء من كل ؟! والجزء محكوم للكل ، وخاضع لحتميته ؟ ولكن هذا ما وقع بالفعل .
> كان الفرس يعبدون النار ، وكان والد سلمان كاهناًً يغذي النار بالحطب ليل نهار ، حتى لا يخمد لهيبها ، وحتى يكون الإله دائماً موجوداً بوجودها، لان النار إذا خمدت ذهب الإله ، وبقي الكون بدون خالق يرعاه، ويحرسه بعنايته .
> ولكن سلمان منذ ان بلغ سن الأدراك والتمييز أبى أن يعترف بالنار ، وقال لأبيه: هذه النار أنا أشعلها، وإذا تركتها بلا حطب تموت ، فكيف أعبد ما أهبه الحياة ؟!!!
> وأوجس رئيس الكهنة خيفة من تمرد سلمان، وخشي إن استمر في معارضته ان يذهب بجاهه وسلطانه، فعرض عليه منصباً رفيعاً، وإغراء بالمال ، وطار والد سلمان فرحاً بهذا العرض، وألحَّ على ولده بالقبول، وقال له: إن جميع الشباب المتعلمين يتنافسون على هذا المنصب، وأن الناس سيحتاجون إليك، ويملأونك بالذهب والفضة. فقال سلمان: دع عنك هذا يا أبي، إن الحطب الذي أحضره من الغابة للحرق والرماد لا يمكن أن يكون إلهاً. ولما يئس رئيس الكهنة من إغراء سلمان قال لأبيه: أن ابنك سيؤلب علينا الناس، ويزول ما لنا من سلطان، ولا يمكن ان نتركه، فلا بد من قتله.
> قال أبوه: اقتلني معه. قال الرئيس: ان ابنك وحده يجب ان يموت .
> قال الأب:سأجلد سلمان، واحبسه هنا في المعبد، واضع الحديد في قدميه، واجعله ميتاً وهو حي، وأقيده بالسلاسل امامك، وأعطيك المفتاح لتضمن عدم خروجه. قال الرئيس سأختبره بعد سجنه ستة أشهر، فإن كان مؤمناً تركناه، وإن كان غير مؤمن قتلناه. وأحضر الحداد، فقيد سلمان بالسلاسل، وأخذ رئيس الكهنة المفتاح. وكانت والدة سلمان قد انتقلت إلى ربها، وهو طفل، فتعهدته عمة له، ووهبت نفسها لتربيته، واتخذته ابناً لها، ولم تتزوج من أجله، وكانت هذه العمة النبيلة، تبكي وتسكب الدموع من أجل سلمان، وتكاد لا تفارقه، وهو في سجنه. وفي ذات يوم قال سلمان لعمته: يا عمتاه إذا كنت تريدين مساعدتي حقاً فمهدي لي السبيل للهرب، إن أبي مريض من أثر الصدمة، وهو شيخ فانٍِِِ، ولن تطول به الحياة، إنه سيموت لا محالة، وأنا في السجن وسيلقي هؤلاء الكهنة بي بعد موته إلى النسور.. أتفضلين – ياعمتاه- أن أقطع إرباً وأنا حي ؟!!!
> فقالت: أجل، إنهم لا يرضون عن قتلك بديلاً وسأفديك بحياتي.. ثم أحضرت حداداً، وأغرته بالمال، فكسر القيود، وهرب سلمان، وصادف خروجه من السجن سفر قافلة إلى الشام، فذهب معها، وأحبه رئيس القافلة لما رآه من صبره وصدقه وامانته. ووصلت القافلة إلى حمص، وحطت فيها الرحال، ولم يجد سلمان أي وسيلة للعيش إلا أن يقبل عرضاً من حاكم حمص على أن يخدمه بأجر معين، وبعد شهرين مات الحاكم العجوز، فاجتمع الناس يؤبنونه ويثنون عليه بالخير فوقف سلمان وسط الجموع، وقال بأعلى صوته: يا أهل حمص اسمعوا مني، ثم اصلبوني، ان حاكمكم هذا كان ظالماًُ، فقد خزَّن الذهب وترككم جياعاً ومعي الدليل 40 جرة مليئة بالذهب، في هذا المنزل، وأشار إلى قصر الحاكم إني لا أهاجمه، ولكن يجب ان أقول الحق.. أيها الناس أنا أعرف كم تقاسون وإذا كان الحاكم قد نهب أموالكم قبل وفاته فلا تقدسوه بعد مماته.. أيها الناس كم حاولت ان امنع نفسي من هذا الحديث، ولكنها لم تحتمل الكذب والنفاق لقد ثار عليَّ ضميري، ووجدت صوتاً قوياً يصيح في داخلي، ويقول: أنت شريك الحاكم في الذنب إذا لم تقل الحقيقة .. وهذا هو الذهب اقدمه إليكم دليلاً على ما أقول. وما انتهى سلمان من خطابه حتى أخذ الناس جثة الحاكم، وصلبوها على الخشبة ورموها بالحجارة.
> وكان سلمان يتصل بالقسس والرهبان يبحث معهم في الدين وشؤونه، وكان قد سمع من احدهم أن نبياً يبعث في أرض العرب، فقام ينتظر الفرص الى أن مر رجال من تجار العرب، فصحبهم ، وسار معهم ، ولكنهم في الطريق أعتدوا عليه وانتهبوا ما معه ، ثم أسروه ،وباعوه من يهودي في المدينة على أنه عبد رُق، وكان النبي آنذاك في مكة يدعو الناس إلى التوحيد وترك الشرك.
> وبقي سلمان عند اليهودي يرعى غنمه تارة، ويعمل في بستانه أخرى إلى أن هاجر النبي محمد إلى المدينة، فأسلم سلمان مع من أسلم، ولما علم اليهودي بإسلامه فقد صوابه، وأخذ في ضربه وتعذيبه. ورأى بعض الأصحاب الدماء تسيل من بدن سلمان، وتملأ ثيابه، فقالوا له: ما هذه الدماء يا سلمان؟
> قال: ليتها الدماء فقط، إنني ميت، لقد قال لي اليهودي: سأذبحك إذا ذهبت إلى محمد وأنا لا أستطيع الصبر عن رسول الله، ولكن لا يهمني أن أقتل ما دمت على الحق مؤمناً بالله وبمحمد بن عبدالله. وكان سلمان قد كاتب اليهودي على أن يدفع له مبلغاً من المال ليحرره من الرق، فأعانه رسول الله والمسلمون، فتحرر وأصبح مولى رسول الله.
> ولما زحف الجيش الذي لم تعرف الجزيرة مثله من قبل بقيادة أبي سفيان لقتل النبي والأصحاب، وهدم المدينة على أهلها إقترح سلمان أن يحفر الخندق ويتحصن المسلمون من ورائه، فحفر ولم يستطع أحد من أهل الشرك أن يقتحمه سوى عمرو بن ود، فأرداه الإمام علي قتيلاً بضربة واحدة، ولم يفكر بعدها أحد في عبور الخندق ما دام علي من ورائه يصرع كل من يحاول إقتحامه.
> وفي ذات يوم دخل سلمان مجلس رسول الله، فوجد وجهاء قريش، فتخطاهم وجلس في الصدر، فغلى الدم في عروقهم، وقال له بعضهم: من أنت، حتى تتخطانا؟!!
> وقال له آخر: ما حسبك ونسبك؟!!
> قال سلمان: أنا إبن الإسلام كنت عبداً فأعتقني الله بمحمد، ووضيعاً فرفعني بمحمد، وفقيراً فأغناني بمحمد، فهذا حسبي ونسبي، والمسلمون إخوة ليس بينهم وجهاء وفقراء ، وليس الخير بالجاه والمال، ولكن بالعلم والحلم والعمل الصالح.
> فقال رسول الله : صدق سلمان، صدق سلمان، من أراد أن ينظر إلى رجل نوَّر الله قلبه فلينظر إلى سلمان.
> ولما سمع الناس هذا من الرسول تنافسوا على سلمان كلٌ يقول: سلمان منا، فقال الرسول الأعظم : بل سلمان منا أهل البيت.
> وحين بويع أبو بكر بالخلافة إمتنع سلمان مع من إمتنع عن بيعته ، وقال له: يا أبا بكر إلى من تفزع إذا سُئلت عما لا تعلم ؟ وما هو عذرك في تقدمك على من هو أعلم منك، وأقرب إلى رسول الله ، وقدمه في حياته وأوصاكم به بعد وفاته ؟
> وفي خلافة عمر سمعه يقول من على المنبر: أيها الناس ألا تسمعون؟
> قال سلمان: إننا لا نسمع لك
> قال عمر: لماذا لا تريد أن تسمع لي ؟
> قال سلمان: بالأمس جاء قماش من الشام، وقسمته على المسلمين ثوباً ثوباً، وأنت الآن ترتدي ثوبين، فمن أين أتيت بالثوب الآخر؟
> فصاح عمر: أين عبدالله بن عمر؟ فقال عبدالله: لبيك.
> قال له أبوه: نشدتك الله ، هذا الثوب الثاني أليس ثوبك؟
> قال عبدالله : نعم ، لقد طلبته مني لتظهر به في المسجد ، ثم تعيده إلي. وعندها قال سلمان لعمر: الآن تكلم ، فإننا سامعون.
> قال عمر: يا سلمان إنتظرني بعد أن أتم حديثي مع المسلمين، واختلى عمر بسلمان ساعة، فسأل أبو الدرداء سلمان عما يريد الخليفة منه.
> فقال سلمان: إنه يريدني لشيء ما أكرهه إلى نفسي لقد ألقى على كاهلي عبئاً ثقيلاً ولاني إمارة المدائن، وأنا لا أريد الإمارة.
> قال أبوالدرداء: أترفض هذا المجد ألا تريد أن تحكم مدائن كسرى عاصمة الفرس إنه لشرف عظيم .
> قال سلمان: أتدري ما الظلمات يوم القيامة إنها ظلم الناس لبعضهم البعض في الدنيا ، إن العدل أصعب ما في الحياة أنني خائف، خائف من نفسي أن أحمَّلها أكثر مما أستطيع أن أواجه به الله ، إن الإمارة تدفع بالإنسان إلى الدنيا، وتلهيه عن الآخرة.
> قال أبوالدرداء: لا تكن متشائماً، فلقد أوتيت العلم والدين والزهد.
> قال سلمان: إني أدعوا الله أن يقويني لمواجهة هذا الإمتحان.
> ودخل سلمان المدائن أميراً
>