كانت السماء عابثةً في ذلك اليوم الصيفي الحارّ ،ساعةً تتزاحم الغيوم في كبدها
وتتراكض إلى أوسطها في فوضى عارمة ،وساعةً تتلاشى في هدوء غير ملحوظ، ولكنّ سلمى بدت وكأنها لم تلحظ ذلك ،كانت جالسةً على قارعةِ الطريق تستظل تحت مظلة المقعد الذي اعتادت الجلوس عليه منذ سنوات تنتظر موعدها المعتاد مع سمير صاحب الإحساس المرهف والابتسامة الهادئة ،عادت بها ذاكرتها المتعبة إلى أول مرةٍ التقيا فيها في الجامعة ،لقد ظنته في بادئ الأمر إعجاباً عابراً ولكنه تحول مع مرور الزمن إلى حبٍ عاصف ومجنون ، حتى بعد تخرجهما من الجامعة لم تذبل مشاعرهما المتقدة بل كانت تزداد اشتعالاً كلما ازداد نأيهما ، أحست سلمى بغصةٍ مفاجئة لم تعرف لها سبباً حين تذكرت حديثهامع سمير على الهاتف ليلة البارحة وحين تذكرت وعده لها بمفاجأةٍ تسرها ، وقع بصرها على ساعتها التي أهداها إياها سمير في عيد ميلادها السابق ،كانت الدقائق تمرثقيلة على نفسها ،لحظات وتضع يديها بين يدي سمير وتشعر بذلك الدف ء المعتاد يسري إلىأعماقها ، تأملت الشارع العتيق بصمت ووجوم ، كانت عيناها تدوران في محجريهمابحثاً عن شاب مديد القامة مفتول العضلات مشرق الطلعة ،أزعجها صوت السيارات التي كانت تمر مسرعةً في وسط الشارع ولأول مرة أحست بذلك الصوت يطبق على أنفاسها ويتسلل إلى كل ركن هادئ ٍ في جسدها ليزلزله ،ودت في لحظةٍ ما لو أنها تجري في السماء وتدوس تلك السيارات بقدميها ثم تجري مسرعةً كالريح لتضع رأسها في حضن سمير ،حركت رأسها في الهواءيميناً وشمالاً محاولةً تلاشي تلك الأفكار المجنونة ، ثم عادت تنتظر وتنتظر،حتى بدا لها طيفه على بعد بضعة مترات ، غمرت السعادة روحها المثخنة بالجراح وكادت روحها تقفز من جسدها المنهك ،كان يسير بخطوات ثابتة محاولاً أن يخفي ما به من تعبٍ وإرهاق وكانت يده تقبض على شيءٍ ما ،تسمرت عيناسلمى على مهجة روحها وسر وجودها ،
كان سمير على وشك عبور الشارع المقيت تلفت حوله ،خطا خطوتين ...تقدم ،والثالثة ....
لم يستطع... كان القدر أقوى منه ...اقتربت ..كلا...بلى إنها تقترب ...صاحت سلمى ،بكت سلمى ،جرت سلمى ،لم تشعر بقدميها ولم تشعر بالأرض ،لم تشعر بكل ما حولها ...
لم تشعر إلا بجسد سمير حين ضمته بين ذراعيها تساقطت دموعها الساخنة ، تمتم كلماته الأخيرة وهو يلفظ آخرأنفاسه:" أناآسف سلمى" ،كان اسمها آخر مانطق به لسانه ، سيار ةٌ مسرعة
يقودها شاب طائش حولت سمير في غضون ثوانٍ إلى جثةٍ هامدة وحولت أحلامهما الوردية إلى سراب ٍ وظلامٍ دامس ، لا زالت يده تقبض على شيءٍ ما ، فتحت سلمى يده فوجدت فيها علبة،
فتحت العلبة في لهفةٍحزينة ،وياإلهي ......المفاجأة التي وعدها بها خاتم خطوبتهما ،وضعته في إصبعها ثم قبلته القبلة الأخيرة وذهبت في إغفاءةٍعميقة