|
عضو جديد
|
رقم العضوية : 31967
|
الإنتساب : Mar 2009
|
المشاركات : 65
|
بمعدل : 0.01 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
السيد كمال الحيدري عن الحب
بتاريخ : 15-03-2009 الساعة : 12:19 PM
إنّ الحبّ الذي تُورثه المعرفة سوف يُورث لنا أمراً آخر لابدّ منه وهو الإخلاص للمحبوب. فنحن نرى بالوجدان أنّنا نُخلص لمن نحبّه, وتزداد درجة إخلاصنا بازدياد درجة حبّنا له. وهذا الترتّب الطولي بين المعرفة والحبّ والإخلاص هو ترتّب ذاتيّ، وسنّة إلهيّة، ومسلك قرآنيّ منسجم تمام الانسجام مع فطرة الإنسان.
من خلال هذه المعارف الأوّلية الجليلة تتّضح لنا جُملة أمور ذات صلة بالسلوك الذي يجدر بالإنسان أن يكون عليه ـ وكما قيل: إنّ الأعراض تكشف عن جواهرها، والمعلولات تكشف عن عللها ـ نذكر شاهداً واحداً منها لعلّ فيه تذكرة للمؤمنين، وهو أنّ الأمراض المعنوية التي أحسبها أعراضاً لا أمراضاً ـ كما سيتّضح ـ تحكي لنا بنفسها ما نحن عليه من إخلاص, ثمّ من حبّ, ثمّ من معرفة بالله تعالى، كما هو الحال في الرياء والتكبّر وغيرهما. فالرياء طلب المحبوبية في قلوب الناس، حيث يُرائي المرائي الآخرين طلباً للمنزلة عندهم، فيكون الآخرون هم المقصودين بالعمل1، وهذا هو الشرك الخفيّ لا الجليّ2، أو الأصغر لا الأكبر، كما جاء ذلك في جملة من الروايات، حتّى أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد رُئي باكياً فسُئل عن سرّ بكائه، فقال: «إنّي تخوّفت على أمّتي الشرك، أما إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولكنّهم يُراءون في أعمالهم»3. وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر». قالوا: ما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء4.
ففي الصلاة ـ مثلاً التي يجب أن يكون المتوجَّه إليه هو الله وحده ـ إذا قُصد بها وجه آخر طلباً للمنزلة والمحبوبية عنده فإنّ مثل هذه الصلاة تكشف عن عدم إخلاص صاحبها لله تعالى, وعدم إخلاصه هذا يكشف عن عدم حبّ لله تعالى، أو أنّه يكشف عن حبّ لا قيمة له، وعدم الحبّ كاشف بدوره عن عدم المعرفة بالله تعالى. وهذا الترتّب منطقيّ جدّاً، فالذي يقصد غير وجه الله تعالى في صلاته لا شكّ أنّه سيجد في ذلك الغير ما لم يجده في الله تعالى؛ ما يعني الجهل المُطبق وعدم المعرفة بالله تعالى. وأكثر من ذلك أنّه يكشف عن سفاهة؛ لأنّ الفاعل هنا يرى للغير من كمال ما لا يراه لله تعالى. بعبارة أخرى: يرى للموهوب له ما لا يراه للواهب نفسه! مع أنّ الواهب الحقيقي واجد لكلّ جمال وكمال وبأعلى المراتب، ولذا عبّرنا عن الأمراض المعنوية كالرياء والتكبّر ونحوهما بالأعراض الكاشفة بنفسها عن أمراض. فالرياء كاشف عن عدم الإخلاص ثمّ عدم الحبّ ثمّ عدم المعرفة بالله تعالى، وعدم المعرفة بالله هو المرض الحقيقي, وما الرياء والتكبّر ونحوهما من الموبقات إلاّ أعراض تحكي عن عللها.
وهكذا يمكن التدرّج في جميع المقامات التي نحن عليها، صحيحها وسقيمها، سلبها وإيجابها، لنعرف بذلك أيّ شأن ومكانة وموقع تتبوّؤه معرفة الله تعالى.
بقي أن نعرف كيف لهذا الحبّ المتولِّد من المعرفة الإلهية أن يكون مُورثاً للإخلاص، فذلك لأنّ محبّة الله تعالى تطهِّر القلب من جميع التعلّقات الأخرى أيّاً كانت تلك التعلّقات ـ ما لم تكن متعلّقة به وعائدة إليه ـ فيتوجّه القلب بكلّيته نحو قبلته وكعبته ومحبوبه، وهذا هو كمال الحبّ وتمامه حيث لا يُبقي الحبّ في قلب المحبّ شيئاً أو متعلّقاً لغير المحبوب {ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}5.
فلا معنى للحبّ مع وجود الغيرية، ولا معنى للغيرية مع وجود الحبّ. يقول العلاّمة الطباطبائي: «وأمّا محبّة الله سبحانه فإنّها تُطهِّر القلب من التعلّق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه، حتّى النفس وما لها من حظوظ وآمال، ويقتصر القلب في التعلّق به تعالى وبما يُنسب إليه من دين أو نبيٍّ أو وليٍّ وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه، فإنّ حبّ الشيء حبٌّ لآثاره»6.
فإذا وقع ذلك الحبّ الإلهي في قلب الإنسان فهو الجَنّة التي ينعم بها العبد في الدُّنيا قبل الآخرة، وهو الجُنّة التي تقيه من الوقوع في المعاصي والمهالك، لأنّ الحبّ الإلهي كفيلٌ بتوحيد إرادة المحبّ مع إرادة محبوبه فتكون إرادته مرآة تحكي إرادة المحبوب. وفي ذلك يقول الطباطبائي: «وإنّ المحبّة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلاّ ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي»7.
فإذا سكن الله تعالى قلب المؤمن أو أقصر المؤمن قلبه على الحقّ تعالى وحده ولم يسمح للأغيار من الولوج فيه، استغنى العبد عمّا سوى الله تعالى وأغناه الله تعالى بمعيّته، وحقَّ لذلك القلب أن يكون حرماً وبيتاً خالصاً لله تعالى؛ «القلب حرم الله فلا تُسكن في حرم الله غير الله سبحانه»8.
وعندئذ يكون النظر إلى الملكوت من خلال نافذة القلب، بل سيكون ذلك القلب الطاهر ملكوت صاحبه ما دام الله تعالى فيه ومستحوذاً عليه، ولابدّ أن يكون قد اتّضح لدينا أسباب عدم حصول هذا النظر القُدسي للأعمّ الأغلب منّا؛ فذلك لما للشياطين من سبح طويل وفضاء فسيح في قلوبنا؛ «لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلـى الملكوت»9، فصارت تلك القلوب كمحافل السوء اكتظّت عندها الأخيار، {أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُـجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ}10، مع أنّ هذه القلوب الإنسانية تفرّدت بأصل خلقتها وفطرتها عمّن سواها من قلوب سائر المخلوقات الأخرى بصيرورتها عرشاً أوحدياً للرحمن جلّ وعلا؛ في الحديث القدسيّ: «قلب المؤمن عرش الرحمن»11 و «لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن»12.
وإذا كان قلب المؤمن عرش الرحمن فلنا أن نفهم وجهاً آخر لقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}13 فلا توجد فُسحة أو مجال آخر ولو بقيد أنملة للأغيار، وذلك هو القلب السليم الذي أريد منّا الإتيان به كما حكى عنه القرآن الكريم {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}14، وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك فقال: «السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحدٌ سواه»15. وقد سُئل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: ما القلب السليم؟ فقال صلى الله عليه وآله: «دين بلا شكّ وهوى، وعملٌ بلا سمعة ورياء»16. فتلك هي آفات القلوب ومُدسّسات البصيرة في التراب17.
وعن الإمام الصادق عليه السلام وهو يصف لنا القلب السليم بأوجز وصف: «هو القلب الذي سلم من حبّ الدُّنيا»18، ولذلك فإنّ «شرّ العمى عمى القلوب»19، بل «إنّما الأعمى أعمى القلب»20 وذلك تصديقاً لقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}21. فالقلب نافذة مُشرعة إمّا تطلّ بصاحبها على الملكوت والساحة المقدّسة الأسمائية والصفاتية إن تفرّد القلب بحبّ الله تعالى وصفا له وتوحّد به، فيُبصر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإمّا تطلّ بصاحبها على تلك الصحاري المجدبة والظلمات الموحشة إن تصفّحت عينا القلب وتنصّتت أذناه إلى الأغيار فتُكسَر بذلك مصابيح القلب وتُوقَر أذناه. روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: «ما من قلب إلاّ وله عينان وأذنان، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللّتين للقلب ليشاهد بهما الملكوت»(22).
فإذا ما خُلّي القلب من الأغيار واختلى بمحبوبه الأوحد، سُقي شراباً طهوراً {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}23 من كأس الحبّ والتطهير التامّ عمّا سوى المحبوب24، ويا له من شراب عذب سائغ ومن سُقي لا ظمأ بعده أبداً، ومن ساق أزال كلّ الوسائط عن محبّيه «وسقاهم ربّهم» فلا واسطة ولا مسافات تحجبهم عنه، وعندئذ يتميّز من كان يعبد ربّه حبّاً وشكراً عمّن كان يعبده طمعاً في جنّته أو خوفاً من ناره25، فلا يكون بينه وبين محبوبه حاجب ولا ساتر، وهذا هو معنى القرب والفوز العظيم؛ يقول الطباطبائي: «وهؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربّهم ممّا يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان، فإنّ كلّ ما يتراءى لهم ليس إلاّ آية كاشفة عن الحقّ تعالى، لا حاجباً ساتراً، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين، ويكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين المادّية العميقة، بعدما يرفع الستر فيما بينه وبينهم…» 26.
وبذلك نكون قد عرفنا أنّ المعرفة الإلهية هي الأصل الأصيل المورث للحبّ، وأنّ الحبّ بدوره يُورث الإخلاص في قلب المحبّ لمحبوبه. فعدم الإخلاص عدم للحبّ، وعدم الحبّ عدم للمعرفة الإلهية، {بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}27.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا القصد ينافي الإخلاص الذي هو شرط في النيّة لنفي الأغيار، فالإخلاص هو «خلوّ القلب والنفس عند العمل من كلّ مقصد سوى المقصد الإلهي وتحصيل رضا الله سبحانه» انظر: فقه الأخلاق للسيّد محمّد الصدر رحمه الله ، الناشر أنوار الهدى، الطبعة الأولى، قم: ص47.
(2) لأنّ الرياء ليس من الشرك في العبادة وإنّما هو من الشرك في الطاعة. انظر: فقه الأخلاق، مصدر سابق: ص41.
(3) ميزان الحكمة، مصدر سابق: ج2 ص1019 ح6798.
(4) المصدر السابق: ج2، ص1019، ح6799.
(5) الأحزاب: 4.
(6) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، قم: ج11 ص175ـ 176.
(7) المصدر السابق: ج11 ص178.
(8) بحار الأنوار مصدر سابق: ج67 ص25 ح27.
(9) إحياء علوم الدِّين لأبي حامد الغزالي، نشر دار المعرفة، بيروت: ج 1، ص 232؛ بحار الأنوار، مصدر سابق: ج70 ص59.
(10) النور: 40.
(11) بحار الأنوار, مصدر سابق: ج55 ص39.
(12) المصدر السابق: ج55 ص39.
(13) الأعراف: 54.
(14) الشعراء: 89.
(15) أصول الكافي, مصدر سابق: ج2 ص16.
(16) ميزان الحكمة، مصدر سابق: ج3 ص2602 رقم الحديث: 16929.
(17) إشارة إلى قوله تعالى: {أمْ يَدُسُّهُ في التُّراب}. النحل: 59.
(18) ميزان الحكمة, مصدر سابق: ج3، ص2603، ح16931.
(19) أمالي الصدوق، لأبي جعفر محمّد بن علي المعروف بالشيخ الصدوق، نشر مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الخامسة، بيروت: ص395.
(20) من لا يحضره الفقيه, مصدر سابق: ج1 ص379 ح1109.
(21) الحجّ: 46.
(22) تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضمّ للسيّد حيدر الآملي، تقديم وتحقيق وتعليق السيّد محسن الموسوي التبريزي، نشر المعهد الثقافي نور على نور، الطبعة الأولى، قم:= = ج1ص272.
(23) الإنسان: 21.
(24) عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه قال في ذيل آية {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}: «يُطهّرهم عن كلّ شيء سوى الله». انظر: تفسير الصافي للفيض الكاشاني منشورات الأعلمي، 1982م، بيروت: ج5 ص165.
(25) عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه قال: «العباد ثلاثة: قومٌ عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقومٌ عبدوا الله حبّاً فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة». انظر: أصول الكافي، مصدر سابق: ج2، ص84، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة.
(26) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج11 ص176ـ 177.
(27) القيامة: 14.
|
|
|
|
|