القسم الثالث:
هم الخوارج، وهم أولئك الذين رفضوا التحكيم، ووقفوا منه موقفاً مضاداً، لا من أول الأمر وإنّما بعد التحكيم.
ودوافع هذه الجماعة مختلفة، فبعضهم كانت دوافعه دوافع الإيذاء والضغط على الإمام علي (عليه السلام) تحت كل شعار، وهذا ما نشاهده في مختلف الحركات السياسية، حيث يوجد بعض الناس يرفعون شعارات لا يؤمنون بها، لكنهم بهذه الشعارات يضغطون على عدوهم، ولذلك يرفعون هذا الشعار ويتحدثون فيه، من قبيل الذين رفعوا شعار قميص عثمان، والدفاع عن عثمان والأخذ بثاره والمطالبة بدمه، فكثير من هؤلاء رفعوا هذا الشعار، من قبيل أُم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، وهؤلاء في الحقيقة شاركوا في قتل عثمان، فأُم المؤمنين عائشة حرضت على قتله، كما أنّ معاوية توانى عن نصرته، فلم يبعث أحداً لنجدته، ولكنهم مع ذلك رفعوا هذا الشعار، لأنّه يمثل شعاراً يضغط على الإمام علي (عليه السلام)، ولكن يوجد مساكين ينسجمون مع الشعار ويعتقدون به، وبعد ذلك أصبح عندنا مذهب يسمونه مذهب العثمانية، وعقيدتهم قائمة على أساس هذه الفكرة.
هذه الانتخابات السياسية موجودة ولذلك في قضية رفض التحكيم نشاهد أشخاصاً ـ بحسب واقعهم ـ ما كانوا يؤمنون بأي شعار، وعندهم مصالح معينة، ولكنهم كانوا يريدون أنْ يضغطوا على علي (عليه السلام) بأي شكل من الأشكال، وكان هؤلاء يمثلون جماعة كبيرة، وبعضهم أُناس أشداء مستعدون أنْ يرتكبوا كل جريمة من أجل تنفيذ أغراضهم.
وهذا موجود في أوضاعنا السياسية، ففي جماعة (منافقين خلق) كان بعض العناصر يتحركون بهذا الشكل الأعمى، دون أنْ يفهموا أي مضمون، وإنّما يُحرَّكون من قبل الأعداء.
وبالنسبة للخوارج كان وضعهم بهذا الشكل، وقد قيّمهم أمير المؤمنين (عليه السلام) تقييماً صحيحاً عندما قال: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه)(7)، فكان يرى أنّ بعضهم مندفع من دوافع إيمان بأنّ التحكيم كان خطأ، وليست لديه مصالح معينة، وهولاء طلبوا الحق وأرادوه، ولكنهم أخطأوه ولم يعرفوا كيف يتحركون ; لأنهم كانوا ضُلاّلا.
وأمّا معاوية فقد طلب الباطل وأصابه، وهو منذ البداية كان يسعى للباطل، والأمويون ـ بشكل عام ـ كانوا قد طلبوا الباطل وأصابوه.
القسم الرابع:
وهم القسم الأعظم من هؤلاء الناس، وهم ما نعبر عنه بمن هب ودب، أي الرعاع من الناس الذين كانوا يشتركون في العمليات الحربية ويستهدفون من وراء ذلك الغنائم، لأنّ طريقة الحرب في السابق كانت تعتمد على إمكانيات الأشخاص، بما يمتلكون من أسلحة ودروع ووسائل نقل وغير ذلك، وعندما تكون هناك غنائم فهي تقسم وتوزع على الأطراف.
طبعاً في المعارك التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) واجه (عليه السلام) أصحاب المصالح بقضية ما كانوا ينتظرونها، فقد امتنع عن تقسيم الغنائم، وقال: هؤلاء مسلمون فلا توجد غنائم، حتى أنّ بعضهم في حرب الجمل طالب بالغنائم، وقال: نحن انتصرنا على أصحاب الجمل فقسم أموالهم بيننا.
لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) بيّن له الحكم الشرعي، إلاّ أنّه لم يقبل به، وهكذا يأتي شخص آخر ويقول لأمير المؤمنين: اعطني حصتي من الغنيمة، ولأجل أنْ يصدهم أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأحدهم: حصتك عائشة، فصدمه، وكان مقصود أمير المؤمنين أنْ يهزه ويقول له: إنّ هؤلاء مسلمون فيهم أم المؤمنين زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله). فصدم هذا وعرف أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يعطي غنائم.
لكن هؤلاء كانوا أحياناً يحصلون على بعض الأموال بطريقة غير مشروعة، كأنْ يأخذ أحدهم سيفاً أو درعاً أو خنجراً أثناء المعركة، فكانت لهم أساليب وطرق يستخدمونها ليحصلوا على الغنائم.
وهؤلاء موجودون على طول التأريخ، فأصحاب المصالح يخرجون إلى المعركة مقاتلين، لكنهم يتربصون لكي يحصلوا على الغنيمة، فهدف أحدهم أنْ يقتل شخصاً لكي يحصل على سيفه أو درعه، فهم يتحركون وراء المصالح، وليس وراء الأفكار والعقائد والرؤية السياسية والهدف المعين.
وقد أدت المعارك التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) إلى بروز هذه المجموعات السياسية في مجمل الأوضاع، التي جاء فيها الإمام الحسن (عليه السلام)، وعندما استُشهد الإمام علي (عليه السلام) في هذه الأيام الشريفة من شهر رمضان استلم الإمام الحسن (عليه السلام) الإمامة.
ولو كان الإمام الحسن (عليه السلام) يفكر من موقع ذاتي وشخصي، أو يفتش عن شؤونه وأوضاعه الخاصة ووجاهته لكان من المفروض أنْ يمتنع عن استلام الخلافة، عندما تسير الخلافة إلى هذا المصير، وهذا واضح من خلال رؤيته لمجمل الأوضاع التي كان يعيشها الناس.
الإمام الحسن (عليه السلام) وتعبئة الناس
ولكن مع ذلك قال الإمام الحسن (عليه السلام): إنّه يجب أنْ نقاتل معاوية، وأمر بتعبئة الناس، ووقف وخطب وعبّأ الناس وجند الجنود، ونصب القواد، وبعث المجموعات العسكرية لقتال معاوية، وبذل كل الجهود في هذا المجال من أجل أنْ يقوم بهذه الوظيفة الشرعية.
وكان (عليه السلام) يسمع الهمس الذي يدور حوله من كل مكان، همس أولئك الذين هم على استعداد لأنْ يسلموه لمعاوية، حتى وصل الأمر أنّ مجموعة من الأشخاص القريبين من موقع الإمام الحسن (عليه السلام)، والذين كانوا مسؤولين عن حمايته ـ أي حمايته وحرسه لأنّه في ذلك الوقت كانت المسؤوليات تُقسم على شكل مجموعات قبلية، تنظم على الطريقة القبلية والعشائرية ـ راسلوا معاوية، وكانوا على استعداد لأنْ يسلموا الإمام الحسن (عليه السلام)، على أنْ يقبضوا في مقابل ذلك أموالا، ويحصلوا على وعود بمناصب، لقد وصل الأمر إلى هذا الحال.
ومع ذلك خطب الإمام الحسن (عليه السلام) في الأنبار وتحدث مع الناس، وحاول أنْ يجربهم فكانت التجربة مأساوية قاسية، لأنّه بعد الخطاب بلا فاصل هجم الناس على الإمام الحسن (عليه السلام) وسحبوا البساط من تحته، ونزعوا رداءه وحاولوا أنْ يسلبوا سلاحة، إلى أنْ تداعى له نفر من همدان وربيعة وأحاطوا به وأنقذوه من هجوم الناس.
ومع ذلك استمر الإمام الحسن (عليه السلام) بتصميمه على القتال، فنصبوا له كميناً في الطريق، فهاجمته جماعة من الناس، وضربه أحدهم بمعول في بطنه.
وكان عبيد الله بن العباس مسؤولا عن الجيش الذي أرسله الإمام الحسن (عليه السلام) في المقدمة لمواجهة وقتال معاوية، واختير لهذه المجموعة أفضل المقاتلين، وقيل: إنّ آمر المجموعة هو عبيد الله بن العباس، وإذا استُشهد فالأمير قيس بن سعد بن عبادة.
وقد اختار الإمام الحسن(عليه السلام) عبيد الله بن العباس لعدة أسباب:
أوّلا: إنّه إنسان له موقع وشرف، وكان لمدة طويلة يباشر الولاية، فقد كان والياً لأمير المؤمنين (عليه السلام) في اليمن.
ثانياً: إنّه قريب منه، أي يحرز ولاءه باعتبار هذا القرب.
ثالثاً: إنّ بسر بن أرطاة ذبح طفلين لعبيد الله بن عباس بأمر معاوية، وذلك في المعارك التي بدأت في الأيام الأخيرة من حياة أمير المؤمنين، فهو إنسان منكوب ومصاب، فالإمام الحسن (عليه السلام) يحرز كل هذه الجوانب الذاتية والنفسية في هذه الشخصية. وإذا به يقبض مبلغاً كبيراً من المال ويتسلل ليلا إلى معاوية، ويصبح الجيش يريد أنْ يصلي صلاة الصبح(8)، وينتظرون صلاة الجماعة حتى يأتي القائد ليصلي بهم، فانتظروه ولم يأتِ، فلم يعرفوا المسألة، وهنا تقدم سعد بن عبادة للصلاة، ثم تبين أنّ القائد قبض الأموال وتسلل ليلا إلى جيش معاوية.
الخيارات المطروحة أمام الإمام الحسن (عليه السلام)
لقد كانت الأوضاع السياسية تجري بهذا الشكل، والإمام الحسن (عليه السلام) كان يعرفها، ووجد أمامه خيارين، فإما أنْ يختار الاستمرار في القتال، أو يختار الهدنة، ولو اختار الخيار الأول فسوف ينتج له عن ذلك أمران:
الأوّل: أنْ يقتل كل أصحاب الإمام علي (عليه السلام)، فهؤلاء يبادون ويقتلون قتلا عاماً، والمبررات السياسية لهذا القتل كانت موجودة، ويمكن أنْ يطرحها معاوية بعنوان أنّ هؤلاء خالفوا التحكيم، وهم قتلة عثمان، وهم متمردون عصاة بغاة، إلى غير ذلك من العناوين التي يمكن أنْ يحصل عليها معاوية، وبذلك تُباد هذه الجماعة بكاملها.
الثاني: وهو أنْ يؤسر الإمام الحسن (عليه السلام)، فإما أنْ يقتل هو وأهل بيته، أو يقول له معاوية: اذهب فأنت طليق، وتبقى هذه القضية في مقابل قضية مكة، فعندما دخل النبي (صلى الله عليه وآله) لفتحها قال للمشركين الذين قاتلوا: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(9)، ومنهم معاوية، وبالتالي يقول معاوية: هذه واحدة بواحدة، ويسدل الستار على حركة الرسالة الإسلامية بهذه الطريقة، وتصبح القضية وكأنّها قضية عداوة قبلية، فبنو هاشم قالوا للأمويين والمشركين في فتح مكة: أنتم الطلقاء، والآن يقول الأمويون لبني هاشم في هذه المعركة: أنتم الطلقاء، وتصبح واحدة بواحدة، وتختم الرسالة، ويتحول الإسلام إلى ملك عضوض، فلا توجد هناك مفاهيم وعقائد وأفكار.
والإمام الحسن (عليه السلام) واجه هذا الخيار وخيار الهدنة فاختار الهدنة، وبذلك حفظ هذه الجماعة الصالحة، فلولا موقف الإمام الحسن (عليه السلام)(10)، لأبيدت هذه الجماعة الصالحة.
لقد كان الإمام الحسن (عليه السلام) يفكر بمصالح الإسلام والمسلمين، ولذلك تنازل عن كل القضايا ذات العلاقة به شخصياً من أجل أنْ يحفظ هذه الجماعة.
أيها الأُخوة الأعزاء، أيها المؤمنون، إنّ حفظ جماعة أهل البيت (عليه السلام)، وحفظ شأنها ومعنوياتها واحترامها وكرامتها وعزتها، مسؤولية عظيمة وكبيرة جاهد الأئمة (عليهم السلام) وبذلوا أنفسهم من أجلها.
فقضية جماعة أهل البيت (عليهم السلام) ليست قضية بسيطة، لأنّ هذه الجماعة هي المسؤولة عن الإسلام في هذا العصر، وفي كل العصور، فهي التي تتحمل الأمانة، فالعالم الإسلامي الآن يوجه أنظاره إلى أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، ويرى أنّهم هم الذين يقودون مسيرة الإسلام، ويقودون معركة الدفاع عن الإسلام.
فيجب أنْ نحافظ على هذه الجماعة ونهتم بها، ونعرف كيف نقويها، ونؤلف بين بعضها والبعض الآخر، وكيف نوحّد صفوفها ونجمع كلمتها، وهذه مسؤولية أمّام الله سبحانه وتعالى، فيجب أنْ نشعر بهذه المسؤولية.
وقد قام الإمام الحسن (عليه السلام) بكل هذه التضحية، كما صرح هو بذلك في روايات عديدة، فقد جاء أنّ كل هذا الذل والسب والشتم الذي كان يسمعه طيلة السنوات التسع، التي عاشها تحت منبر معاوية(11) إنّما هو من أجل أنْ يحفظ هذه الجماعة من الإبادة والقتل، ولولا تضحية أهل البيت (عليهم السلام) لأُبيدت هذه الجماعة.
لقد قلت بالأمس في (شاديگان) وأقوله اليوم: لتكن لديكم قوة قلب وأمل وصبر واستقامة ومعرفة بالهدف الذي يسيرون وراءه، انظروا إلى اليوم الأوّل الذي مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) كم كان عدد أولياء علي (عليه السلام)، فمهما بالغتم لا تجدون ثلاثين شخصاً. فقد قال بعضهم: إنّهم أربعة، وقال آخر: تسعة أو ثمانية عشر، أو ثلاثين، فهم على كل حال لا يزيدون على الأربعين، لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (لو كان عندي أربعون لجاهدت).
ومنذ اليوم الذي مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى الآن نجد أنّ هذه الجماعة تتعرض للقتل والتشريد والمطاردة والاضطهاد، وكانت الدول التي تحكم تحقد على أتباع هذه الجماعة وتنصب لهم العداء وتخطط لإبادتهم، كما يجري الآن في العراق، حيث يباد الناس بشكل جماعي وبدون رحمة وشفقة، وأمام أنظار العالم ولا يوجد من يتحدث عنهم.
ففي فلسطين جرت اليوم جريمة وحشية من أفضع الجرائم، وذلك عندما يهاجم ناس مصلون يعبدون الله سبحانه وتعالى في مركز من مراكز العبادة، وهو المسجد في بلد مقدس لدى المسلمين وهو بلد الخليل في الحرم الإبراهيمي، وهذه جريمة شنيعة وعظيمة، ولكن على كل حال فالناس يتحدثون عنها في كل المناطق.
وأمّا في العراق فقد هاجم النظام الناس في الأماكن المقدسة وقتلهم أبشع مقتلة، ولكن لا يوجد من يتحدث عن ذلك، وإذا كان هناك من يتحدث فهو يتحدث بصوت هادئ وكأنّه يرى الوجوب الإخفاتي في الحديث، كما نرى وجوب الإخفات في الصلاة.
وهذه الظلامات كانت تجري على أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم منذ الصدر الأوّل، وبهذا الشكل المرتب، ولكن مع كل ذلك نلاحظ العناية الإلهية والتوفيق الإلهي والتخطيط الرائع العظيم لأهل البيت (عليهم السلام)، فقد تمكنت هذه الجماعة أنْ تجتاز كل هذه المحن والآلام وتنمو وترشد وتتطور وتتكاثر وتقوى وتتأصل وتتجذر، حتى أصبحت الآن أمل المسلمين جميعاً في كل أقطار العالم الإسلامي، لقد حافظ أهل البيت (عليهم السلام) على هذه الجماعة، وخططوا لها واهتموا بالجانب المعنوي.