منذ ألف سنة والمؤرّخون يكتبون عن ابن سبأ الاوّل كثيراً، وينسبون إليه وإلى السّبئيين ـ أتباعه ـ أعمالاً مُدهشة خطيرة.
فمن هو ابن سبأ؟ ومن هم السَبئيّون؟
وما هي دعاواه؟ وما هي أهمُّ أعماله؟
يتلخّص ما زعموا: بأنّ يهودياً من صنعاء اليمن أظهر الاسلام في عصر عثمان واندسَّ بين المسلمين وأخذ يتنقّل في حواضرهم وعواصم بلادهم: الشام، والكوفة، والبصرة، ومصر، مُبشّراً بأنّ للنبيّ محمد (ص) رجعة، كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة، وأنّ علياً هو وصيُّ محمد (ص) كما كان لكلّ نبيٍّ وصيُّ، وأنّ عليّاً خاتم الاوصياء كما كان محمد (ص) خاتم الانبياء. وأنّ عثمان غاصب حق هذا الوصيّ وظالمه فيجب مناهضته لارجاع الحقّ إلى أهله.
وسمّوا بطل قصّتهم (عبداللّه بن سبأ) ولقّبوه بـ (ابن الامة السوداء) وزعموا أن (عبداللّه بن سبأ) هذا بثّ في البلاد الاسلامية دُعاته وأشار عليهم أن يُظهروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. والطّعن في الاُمراء. فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح، من أمثال أبي ذر، وعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعبدالرحمن بن عديس، ومحمد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الاشتر، وغيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم.
وزعموا: أنّ السبئيين أينما كانوا أخذوا يثيرون الناس على وُلاتهم ـ تنفيذاً لخُطّة زعيمهم ـ ويضعون كتباً في عيوب الاُمراء، ويُرسلونها إلى غير مِصرهم من الامصار فَنَتَج من ذلك قيام جماعات من المسلمين بتحريض السبئيين، وقدومهم إلى المدينة، وحصرهم عثمان في داره حتى قُتل فيها. وأنّ كلّ ذلك كان بقيادة السبئيين ومباشرتهم.
وزعموا: أن المسلمين بعد أن بايعوا عليّاً وخرج طلحة(18) والزبير(19) إلى البصرة لحرب الجمل رأى السبئيون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّهم إن تمّ ذلك سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرّروا أن يندسّوا بين الجيشين ويثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم، وأنهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في
غلس اللّيل قبل أن ينتبه الجيشان المتقابلان. فناوش المندسّون من السبئيين في جيش عليّ من كان بإزائهم من جيش البصرة، والمندسّون منهم في جيش البصرة من كان بإزائهم في جيش علي ففزع الجيشان، وفزع رؤساؤهما وظنّ كلّ بخصمه شرّاً.
وزعموا: أنّ حرب البصرة المشهورة بحرب الجمل وقعت هكذا دون أن يكون لرؤساء الجيشين فيها رأي أو علم!
إلى هنا ينتهي هذا القاصّ من نقل قصّة السبئيين ولا يذكر بعد ذلك عن مصيرهم شيئاً.
لكي يتّضح لنا مدى انسجام هذه التهمة مع الشخصيات التي افترضوا فيها أنّهم أتباع ابن سبأ ونسبوا إليهم القيام بأدوار مهمة في الاُسطورة السبئية ينبغي لنا أن نتعرّف عليهم أولاً ثم ندرس منشأ الاُسطورة ومبدأ اختلاقها.
فمن هم السبئيّون؟
كبار السبئيّين:
أ ـ أبو ذر، ب ـ عمار بن ياسر، ج ـ محمد بن أبي حذيفة، د ـ عبدالرّحمن بن عديس، ه ـ محمد بن أبي بكر، و ـ صعصعة بن صوحان، ز ـ مالك الاشتر، فمن هؤلاء؟
أ ـ أبو ذرّ جُندب بن جنادة الغفاري، كان رابع أربعة سبقوا إلى الاسلام، وكان من المتألّهين في الجاهلية والذين عبدوا اللّه وتركوا الاصنام. ولما أسلم أجهر بإسلامه في البيت الحرام بمكّة فضربه رجال من قريش حتى ضرّجوه بدمه وأُغمي عليه فتركوه ظناً منهم أنّه قد مات. ثم رجع إلى بلاده بعد أن قال له الرسول:
إرجع إلى أهلك حتى يأتيك خبري وأقام بها حتى مضت بدر واُحد فقدم إلى النبي (ص) في المدينة، ثم سُيّر إلى الشام بعد وفاة النبي (ص) ومكث هناك حتى شكاه معاوية إلى الخليفة عثمان بن عفّان، فاستقدمه الخليفة وعنّفه ونفاه إلى الرّبذة ـ بين مكة والمدينة ـ وتوفّي بها سنة 32 ه .
وقد ورد عن الرسول أحاديث كثيرة في مدحه منها قوله (ص): ((ما اظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذرّ))(20) .
ب ـ أبو اليقظان عَمّار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحُصّين ابن الوذيم من بني ثعلبة. واُمّه سميّة. وكان حليفاً لبني مخزوم. وكان هو ووالداه من السّابقين إلى الاسلام وهو سابع سبعة أجهروا بإسلامهم. وقد تُوفّي والداه إثر تعذيب قريش إيّاهما على إسلامهما.
وقد ورد عن الرسول (ص) أحاديث صحيحة في مدحه، منها قوله (ص): ((إنّ عماراً مُلئ إيماناً إلى مُشاشِه))، وكان مع عليّ في حرب الجمل وصفّين وقتل بصفّين مساء الخميس 9 صفر سنة 37 ه وله من العمر 93 سنة(21) .
ج ـ أبو القاسم محمد بن أبي حُذيفة بن عُتبة بن رَبيعة بن عبد شمس بن عبد مناف العبشمي، واُمه سهلة بنت سهيل بن عمرو العامريّة، ولد بأرض الحبشة على عهد رسول اللّه (ص). ولما استشهد أبوه، أبو حذيفة، باليمامة ضمّ عثمان ابنه محمداً هذا إليه وربّاه فلما كبر واستخلف عثمان استأذنه في التوجّه إلى مصر فأذن له، وكان من أشدّ الناس تأليباً عليه. ولما ذهب عبداللّه بن سعد بن أبي سرح سنة 35 ه إلى المدينة وأناب عُقبة بن عامر على مصر، وثب محمد بن أبي حذيفة عليه، وأخرجه من مصر، فبايعه أهل مصر بالامارة ومنعوا عبداللّه بن أبي سرح من الرجوع إلى مصر. فأرسل محمد عبدالرحمن بن عديس على رأس 600 مقاتل إلى المدينة لقتال عثمان. ولما ولي علي الخلافة ولّى محمد بن أبي حذيفة على مصر، وأبقاه على إمارته حتى سار معاوية إليه عند مسيره إلى صفّين، فخرج إليه محمد ومنعه من دخول الفُسطاط(22) فتصالحوا على أن يخرج محمد بن أبي حذيفة ومَن معه آمنين، فخرج محمد بن أبي حذيفة و 30 رجلاً فيهم عبدالرحمن بن عديس فغدر بهم معاوية وحبسه في سجن دمشق، ثم قتله رشدين مولى معاوية. وكان محمد بن أبي حذيفة ممن أدرك صحبة الرسول(23) .
د ـ عبدالرحمن بن عُدَيس البلويّ. كان ممن بايع النبي تحت الشجرة وشهد فتح مصر واختَطَّ بها وكان رئيساً على من سار إلى عثمان من مصر. وقد سجنه معاوية بفلسطين بعد أن غدر به وبمحمد بن أبي حذيفة بعد المُهادنة ثمّ قتله سنة 36 ه بعد أن فرّ من السّجن(24). فقال لقاتله ويحك اتّق اللّه في دمي فإنّي من أصحاب بيعة الشجرة، فقال: إنّ الشجر بالخليل كثير، قصد عبدالرحمن أنّه ممن بايع الرسول تحت الشجرة فنزلت فيهم (لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (الفتح / 18) وقصد القاتل الاستهزاء به وقال إنّ الشجر بمدينة الخليل كثير، وهي مدينة قريبة من القدس الشريف.
ه ـ محمد بن أبي بكر واُمّه أسماء بنت عُمَيس الخثعميّة. تزوّجها أبو بكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمّداً في حجة الوداع بطريق مكة. ثم نشأ في حِجر علي بعد أبيه وشهد معه حرب الجمل وكان على الرجّالة وشهد معه صفّين، ثمّ ولاّه مصر فدخلها في 15 رمضان سنة 37 ه . فجهّز معاوية جيشاً بقيادة عمرو بن العاص لفتح مصر فتغلّب عمرو عليه سنة 38 ه . وقتله معاوية بن خديج صبراً، ثم أدخلوا جسده في بطن حمار ميّت وأحرقوه(25).
و ـ صَعْصَعة بن صُوحان بن حُجْر بن الهِجرس العَبديّ، أسلم على عهد رسول اللّه (ص). كان خطيباً فصيحاً شهد صفّين مع علي ولما استولى معاوية على الكوفة نفاه إلى البحرين فمات بها(26).
ز ـ الاشتر هو مالك بن الحارث بن عبد يَغُوث بن سلمة بن(27) جُذَيمة بن مالك النخعي، أدرك الرسول (ص) وهو من ثقات التابعين وكان رئيس قومه، شهد اليرموك فشترت عينه بها ولُقّب بالاشتر. صحب علياً (ع) في الجمل وصفّين وله مواقف شهيرة فيهما. ولاّه عليّ مصر سنة 38 ه . فلمّا وصل إلى القُلزُم(28) دسّ إليه معاوية السُّمَّ بالعسل وتوفّي مُتأثّراً بالسُّمّ(29) .
هذه هي اُسطورة ابن سبأ بإيجاز، وهؤلاء هم السبئيّون إلى مئات غيرهم من أبرار المسلمين(30) صحابة وتابعين ونظراءهم. فما هو منشأ هذه الاسطورة؟
منقوول
دمتم بولاية أمير المؤمنين (ع)...smilies/0006[1].gif