وكان نبي الله يعقوب (عليه السلام) ما زال راكعا ساجدا في خلواته يناجي المولى سبحانه وتعالى.
وعندئذ استأذنه في الدخول ابنه يوسف وكان صبيا صغيرا دون العاشرة.
وكان يوسف من أصبح الناس وجها...
حتى يروى عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله: أعطي يوسف شطر الحسن، والنصف الآخر لباقي الناس.
وكان يعقوب (عليه السلام) يحب يوسف حبا شديدا ويؤثره على باقي أولاده.
فلما دخل عليه في خلوته في ذلك الوقت من الصباح الباكر رق له واستقبله ببشاشة.
ونظر يعقوب (عليه السلام) إلى وجه يوسف الجميل، فوجده يفيض بهاءا ورواءا وبراءة ...
فتبسم بحنان وضمه إلى صدره وهو يشكر الله على فيض نعمه الباهرة.
ورأى يعقوب (عليه السلام) أن وجه صغيره الجميل يوسف يتلألأ بشرا وفرحا وبهجة.
مما زاده إشراقا وحسنا ...
فسأله عن خبره وهو لا يرجو إلا أن يسمع خيرا...
فكان ما تأمله نبي الله يعقوب (عليه السلام).
واتخذ يوسف موضعا أمام والده النبي.
وطأطأ رأسه توقيرا لأبيه الشيخ.
ثم قال يوسف لأبيه: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]
وشعر يعقوب (عليه السلام) بعظم شأن ابنه يوسف وتبدت أمام بصيرته آفاق هذه الرؤيا المبهرة.
ولأنه كان طبينا بالأمور فقد حذر ابنه بلغة الوالد المشفق الحنون: وقال: {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] وأضفى يعقوب (عليه السلام) على محبوبه الصغير قبسا من ألق نبوته ...
فقال له وقد أدرك فحوى رسالة السماء: { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [يوسف: 6] ووجد إخوة يوسف وكانوا أحد عشر أن أباهم يؤثر يوسف عليهم فحسدوه.
وقالوا فيما بينهم: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] إذ كان يعقوب (عليه السلام) يكن حبا لولد صغير آخر له يسمى بنيامين.
وثارت حفيظتهم على أبيهم.. واستشاطوا غضبا وحنقا ...
حتى قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8]
وتواعد الأخوة الأحد عشر على اللقاء ذات ليلة ليلاء...
واجتمعوا تحت جنح الظلام.
وراحوا يتداولون أمر أخيهم الصغير ...
ويجهدون فكرهم للتوصل إلى خطة لتصفيته والتخلص منه..
فلما قلبوا الأمور على وجوهها وقد عجزوا عن العثور على تدبير محكم...
صاح كبيرهم محنقا وقد أعيتهم الحيلة ... وقال منهيا النقاش: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف: 9] ونظر أبناء يعقوب (عليه السلام) أحدهم إلى الآخر..
وكأنهم ينكرون على أنفسهم قتل أخ صغير لهم بلا ذنب ارتكبه سوى حسنه وحب أبيه له..
ولكن الحسد كان يؤجج ناره في صدورهم ...
فلا يجدون حلا إلا قتله والخلاص منه.
وظلت الأفكار والمشاعر والأضغان والضمائر تتجاذبهم جميعا وتتعاقب عليهم أحدها بعد الآخر ...
بينما هم لا يكادون يصلون إلى نتيجة حاسمة فيحزمون أمرهم وقد أعياهم التدبير
وكأن مشاعر الأخوة وجدت طريقها شيئا ما إلى قلوبهم...
فقال أحدهم بلهجة أكثر حنانا وشفقة: {اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] واستقبل إخوة يوسف هذا التدبير الجديد بشيء من الارتياح.
ووجدوا أن إبعاد يوسف عنهم ونفيه عن أبيه أقل وطأة من قتله...
ولكنهم اختلفوا في كيفية طرح يوسف أرضا وكيف سيخلو لهم وجه أبيهم بعد هذا العمل المشين الذي سيحنق عليهم أباهم الذي عساه يكتشف أمرهم..
بل كيف سيكونون من بعده قوما صالحين وقد نفوا أخا صغيرا بريئا لهم وخدعوا أبا نبيا لهم بما عنده من حظوة في السماء؟
فعادوا إلى تدبر أمرهم من جديد وكان بنيامين شقيق يوسف من أمه راحيل.
وكان أيضا محسودا من إخوته لشدة حب أبيه له.
سوى أنه كان داخلا في زمرتهم لأمر يعلمه الله تعالى...
فلربما كان خائفا على نفسه منهم.
ولربما ادخره الله لهذا الموقف من أجل نجاة أخيه يوسف من القتل..
إذ ما لبث أن قال: يا إخوتاه { لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10]
ويبدو أن هذا الحل راق لإخوة يوسف...
فرجحوه على القتل أو الطرح أرضا...
وقدروا أن فيه خلاصهم من يوسف إلى أبد الآبدين.
وكان أمرا دبر بليل...
فتعاهدوا على كتمانه..
وأعطى كل منهم موثقا على ألا يشي الواحد بالآخر طمعا في نيل حب أبيهم.
وكأنهم كانوا واثقين بأنهم لن ينالوا ذلك الحب من أبيهم إلا إذا خلا لهم وجهه.
وأن ذلك لن يكون إلا بالتخلص من يوسف أيا كان الأمر..
ولكن أنى لهم بيوسف وأبوه لا يكاد يغفل عنه طرفة عين ولا يفرط فيه أبد؟
ففكروا في حيلة.
وكانت من تدبير إبليس.. فغدوا إلى أبيهم وقالوا له متوسلين:
{ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11]؟ فنحن لا نريد به إلا الخير ولا نبتغي إلا ما يسره ويرضيه.
ثم أردفوا مستعطفين أباهم بما فيه إيثار للرحمة والمودة: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] فأجابهم أبوهم دون أن ينفي عن نفسه أنه لا يأمنهم عليه وقال: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13].
يطمئنونه ولكنهم تجاهلوا ما قال أبوهم بعد أن كانوا قد مكروا به وقالوا وكأنهم
{ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] ولكن حذر يعقوب على حبيبه يوسف لم يدفع عنه البلاء.
فغلبت قدرة الله وقضاؤه ودفع بيوسف إلى إخوته وهو لذلك كاره ومتوقع البلاء من الله فيه.
وحانت لحظة الفراق.
فجاءوا وأخذوا يوسف من أبيهم وهم لا يكفون عن إظهار المودة والشفقة وإبداء الطمأنينة بأنهم عصبة أقوياء.
ولكنهم ما لبثوا أن ابتعدوا بأخيهم حتى وجدوا أباهم يعقوب في الأثر وقد لحقهم مسرعا.
فانتزع يوسف من أيديهم وضمه إليه واعتنقه وبكي ثم دفعه إليهم من جديد.
فانطلقوا به مسرعين مخافة أن ينتزعه منهم مرة أخرى ولا يخلي بينهم وبينه.
بينما عاد يعقوب (عليه السلام) والحزن يعتصر قلبه..
وظل إخوة يوسف يمعنون بالذهاب به في الصحراء والبراري.
حتى بلغوا غيضة من الأشجار.
وكأنهم تناسوا ما تعاهدوا عليه وأرادوا التخلص من أخيهم في الحين واللحظة.
فتها مسوا فيما بينهم وقد اختلوا بعيدا وقالوا: دعونا نذبحه ونلقه تحت إحدى هذه الأشجار فيأكله الذئب الليلة..
فاستنكر أحدهم منهم ذلك وذكرهم بالأتفاق.
وقال لهم من جديد: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] فانطلقوا به إلى الجب فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب.
فانهم أدلوا به في تلك البئر وهم يظنون أنه يغرق فيها قبل أن تصل إليه أيدي السيارة.
فلما صار يوسف (عليه السلام) إلى قعر البئر أوحى الله {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] وعندئذ ناداهم يوسف (عليه السلام) من قعر الجب.
وقال لهم: اقرئوا يعقوب مني السلام..
فلما سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض في توجسلا نغادر هذا المكان حتى تعلم أنه قد مات ولبثوا على مقربة منه سحابة النهار.
فلما أوشك الليل على المجيء ويئسوا من يوسف فانهم هموا بالعودة مع حلول الظلام وتركوا يوسف المصيره المحتوم وقبل الرجوع والدخول على أبيهم يعقوب.
أخرج الأخوة قميص يوسف وعليه دم كذب لطخوه به.
وكانوا قد جردوا يوسف من قميصه لما هموا بإلقائه في الجب.
فقال لهم مستعطفا متعجبا: يا إخوتي أتجردوني من قميصي.؟
فسل أحدهم السكين عليه وقال: لئن لم تنزعه لأقتلنك فنزعه وألقوه في الجب وتنحوا عنه.
ثم ذبحوا جديا وعمدوا إلى القميص فلطخوه بدمه.. فيالها من حيلة ساذجة..
وكان الوقت عشاءا...
فدخل إخوة يوسف على أبيهم وهم يبكون فسألهم يعقوب (عليه السلام) عما يبكيهم ...
فأجابوا: { يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17] وكأنهم كانوا يعلمون أن حيلتهم لن تنطلي على أبيهم.
وكان يعقوب النبي (عليه السلام) يعلم من علم الله أن الله تعالى ما كان ليطعم الذئب لحم يوسف قبل أن يرى تأويل رؤياه الصادقة..
وأناخ الليل بكلاكله على أرض كنعان.
وبات إخوة يوسف في تلك الليلة وقد قضت الهواجس مضاجعهم.
بينما كان يوسف (عليه السلام) في قاع البئر وقد جلس بجواره جبرائيل (عليه السلام) وهو يقول له: أتحب أن تخرج؟
فأجابه يوسف (عليه السلام): ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
فقاله له جبرائيل (عليه السلام): فان إله إبراهيم يقول لك قل:
(اللهم إني أسألك بأن لك الحمد كله لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والاكرام صل على محمد وآل محمد واجعل لي من أمري فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب).
وكانت الأنوار القدسية تتلألأ في غيابة الجب ويوسف (عليه السلام) يسبح باسم رب السماء والأرضين.
وأصبح الصباح.
فاجتمع إخوة يوسف وقالوا فيما بينهم:
انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف أمات هو أم حي؟
فركبوا وأسرعوا في طريقهم إلى الجب وهم يتناجون في أمر أخيهم ويفكرون له في حيلة أخرى فيما لو كان ما زال حيا..
وعندما أشرفوا على المكان..
شاهدوا جماعة من الناس عند الجب..
فالتفت أحدهم إلى الآخر ...
واتجهوا نحو الجب مسرعين متعجلين وعندما انتهوا إليه وجدوا عنده سيارة قد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه.
فلما جذب دلوه إذا هو بغلام متعلق بالدلو فنادى أصحابه قائلا: يا بشرى هذا غلام..
ولما أخرجوه من البئر أقبل إليهم إخوة يوسف وقالوا: هذا عبد لنا سقط منا أمس في هذا الجب وجئنا اليوم لنخرجه.
فانتزعوه منهم وتنحوا به ناحية وقد دبروا حيلة جديدة..
وأمسك به أحدهم وقال له مهددا: يا يوسف: إما أن تقر لنا بالعبودية أمام هذه السيارة فنبيعك لهم أو نقتلك ووجد يوسف (عليه السلام) نفسه أمام خيارين عسيرين وقد اشتد به الأمر.
فقال: لا تقتلوني يا إخوتي وافعلوا بي ما شئتم فعادوا به إلى السيارة وقالوا للسيارة: من يشتري هذا العبد؟ فأبدى أحدهم رغبة في شرائه.
وظل إخوة يوسف يساومون عليه حتى باعوه بثمن بخس دراهم معدودة.
{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] وسارت السيارة بيوسف (عليه السلام) إلى مصر.
وعرضوه للبيع.
فاشتراه عزیز مصر لما شاهد في وجهه من آثار النبل والجلال والجمال.
وقال العزيز { لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] وكان هذا أول ما ظهر من لطف الله وعنايته بيوسف (عليه السلام).
فبينما أراد إخوته أن يتخلصوا منه ليخلو لهم وجه أبيهم..
فان أباهم يعقوب (عليه السلام) اشتد حبه لحبيبه وأثيره يوسف وأشاح بوجهه عنهم.
ومع أنهم أرادوا حرمانه من كرامة الحياة.
فان الله سبحانه وتعالى من عليه بالحياة الكريمة وأبدله عن حياة الصحراء والخيام بحياة الحضر والقصور.
وبينما أرادوا أن يحطوا من قدره بالعبودية.
فان الله سبحانه وتعالى فضله وكرمه وأعزه ورفع من قدره ومكانته
فعاش يوسف (عليه السلام) في بيت عزيز مصر وهو يكبر وتزكو نفسه ويصفو قلبه ويشتغل بربه.
حتى توله في حبه وأخلص له فصار لاهم له إلا فيه
فاجتباء الله تعالى وأخلصه لنفسه وتولاه بعنايته ولطفه وفضله.
لكن لا حب بلا نصب وعناء..
فمع مرور الأيام.
كان يوسف (عليه السلام) يزداد حسنا وبهاء ويزداد أيضا ورعا وتقوى وإخلاصا
للمحبوب الذي لا محبوب سواه.
بينما كانت امرأة العزيز تراقبه عن قرب فما كان من أمرها إلا أن عشقته حتى شغفها حبا..
ولكنها كانت تخفي مشاعرها وتعالج وله قلبها خوفا من أن تفتضح فيه.
فلكل بيئة تقاليدها.
وتقاليد القصور تقضي بسيادتها وعبودية يوسف.
بينما اقتضت تقاليد الحب أن يكون يوسف مليكها والحاكم على فؤادها..
وظلت الأيام تتوالى حتى لم يعد بمقدور إمرأة العزيز كبح جماح مشاعرها الفياضة وإطفاء لهب عواطفها الحارقة..
واستبدت بها رغبة الوصال...
وكيف لا.. وهي السيدة المهيبة التي تأمر فتطاع؟
وتلاعبت النسائم العليلة بأوراق الأشجار الخضراء ذات عصر من أيام الصيف في قصر العزيز المتراقص على ضفاف النيل.
فالتهبت النيران بين جوانح المرأة العاشقة.
فدعت إليها المحبوب بإشارة من إصبعها وهي لا تدري بأنه لا عبودية في الحب {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23]
{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف: 23]
وقالت { هَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23]
ووقف يوسف أمام الامتحان العصيب، ويا له من ابتلاء وهل الابتلاء بالحب إلا أشد وأقسى من الابتلاء بالموت.
ودعته امرأة العزيز الى نفسها..
بينما كان عطرها يعبق خلف الأبواب المغلقة.
وكان كل شيء معدا في انتظار اللحظة الحاسمة التي طالما انتظرها بشوق وحرارة
فاقتربت منه... وابتعد عنها.. وتمايلت في خفة ودلال.. فهرب منها..
وظنت المرأة اللعوب أن فتاها يلاطفها..
فأمعنت في الجاذبية والإغراء
وداعبت نسائهم الشمال الستائر المغلقة.
بينما أمواج النهر الساحر تعزف ألحانها العذبة بين الشاطئين الزاهرين.
واختلط النسيم بالشذى.
مع رذاذ من الماء المنبعث من أمواج النيل.
فأمتلأ المكان بالسحر والنشوة والأريج.
وكانت العاشقة تترقب جواب المعشوق.
ونفسها الأمارة تمنيها وتسول لها وتقرب لها البعيد وتغريها بالخيال المستحيل
وكانت الظروف مهيأة لبلوغ مسعاها وقد التهبت جوانحها بنيران الرغية المتأججة.
وظنت امرأة العزيز أن لحظة الوصال قد حانت وأنها مع الحظ على موعد وهي سيدة القصر التي تأمر وتنهى سوى أن آمالها العظيمة قد انهارت في لحظة واحدة.
ولم يعد يهمها شيء من الأمر وقد انزاح الستار عن ضعفها وتهافتها.
فهمت بيوسف (عليه السلام)
وهم بها يوسف (عليه السلام) لولا أن رأى برهان ربه.
وشتان ما بين الهمين وظنت امرأة العزيز أن يوسف (عليه السلام) قد منعه الخوف عنها.
فقالت له وكأنها تهدى من روعه: لا تخف وألقت بنفسها عليه في مودة ودلال
فأفلت منها يوسف (عليه السلام) هاربا إلى الباب ففتحه.
فأسرعت خلفه ولحقت به.
واستبقا الباب فجذبته من ملابسه.
وقدت قميصه من دبر.
وألفيا سيدها لدى الباب.
وتفاقم الأمر واشتدت الأزمة ولم تكن المفاجأة لتفقد المرأة جأشها فاستيقظت فيها حاسة الأنثى وبادرت زوجها متخذة موقف الهجوم في التو وقالت له مبرئة نفسها: ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟
واستولت الدهشة على العزيز فلم يحر جوابا.
فتقدم يوسف (عليه السلام) وقال له بثقة وطمأنينة دافعا التهمة عن نفسه: { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] وأصرت المرأة على التهمة.
وأصر يوسف (عليه السلام) على البراءة.
فأفاض الله عنايته على عبده وصفيه يوسف (عليه السلام)
وهو القائل في حقه: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
ففي هذه اللحظة الحرجة والحاسمة.
تبدت معالم الحقيقة وشهد شاهد من أهلها.
وقيل بأنه كان صبيا في المهد.
فأنطقه الله تعالى لفصل القضاء.
فقال: يا أيها الملك: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [يوسف: 26]
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] فازدادت دهشة العزيز من هذه الآية الإلهية.
ونظر عزيز مصر الى قميص يوسف (عليه السلام).
فرآه قد من دبر فلما رأى قميصه قد من دبر قال وهو الخبير بخبايا النساء مخاطبا زوجته: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]
فتنفس يوسف الصعداء وقلبه يلهج بالثناء الإلهي.
بينما نكست امرأة العزيز رأسها وقد آلمتها الهزيمة وسيطر عليها الحياء.
وأراد العزيز إنهاء الموقف بشيء من الحلم والحنكة..
فقال ليوسف:
وبات الموضوع المفضل في المجالس ولاسيما مجالس النساء فتناقلته المدينة {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] وسفه النسوة فعلها وموقفها حتى قلن في تشف {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] ووجدت امرأة العزيز أن الكيد لا يبطل إلا بالكيد وأن المكر لا يصلح الا بالمكر.
{وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف: 31] ولما أحكمت امرأة العزيز أمرها ودبرت حيلتها ورأت بأن المجلس صار مهيأ لإلقاء الحجة على النسوة والعثور على ذريعة تدفع بها اللوم عن نفسها.
فانها توجهت الى يوسف في الحال {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} [يوسف: 31]
وأطاع يوسف أمر سيدة القصر وخرج على النسوة محاطا بها من البهاء والجلال والجمال والفتنة المهيبة..
بينما دخل يوسف (عليه السلام) من باب وخرج من باب آخر وتنفست أمرأة العزيز الصعداء وقد غلب مكرها مكر النسوة الثرثارات.
فلما وجدت أن الفرصة قد سنحت لدفع اللوم { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] ولم تتردد في الإفصاح عن الحقيقة وقد أصاب النسوة ما أصابها من لهيب الشوق فأضافت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] ولكنها شمخت بأنها في محالة لاستعادة كرامتها المهدورة رغم اعترافها السافر..
وأرادت التوسل بسلطانها وإظهار أنها مازالت سيدة القصر وصاحبة الأمر والنهي.
فقالت متوعدة:
{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] فتأزمت الأحداث من جديد بعد هذا التطور الخطير..
وخرج النسوة من عندها فأرسلت كل واحدة منهن الى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة.
وانتشرت الشائعات في المدينة حتى كادت تذهب بكرامة العزيز وبيته.
فقرر إسكات هذه الأراجيف وقلب الأمر على وجوهه ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين.
واقتيد يوسف (عليه السلام) الى السجن فقال له بعض النسوة في البلاط: هلا كنت قد أطعت مولاتك وقضيت حاجتها فإنها المظلومة وأنت الظالم.
ولكن السجن كان أحب الى يوسف (عليه السلام) مما يدعونه إليه... فأوكله الله الى رغبته.
وقبع يوسف (عليه السلام) خلف القضبان.
وعادت به ذاكرته الى الماضي.
فمن حنان أبيه يعقوب (عليه السلام) الى البئر وغيابه الجب الى الاستر قاق الى البحبوحة في بيت العزيز.
الى كيد النسوة وكيدهن عظيم.
ثم أخيرا الى محنة السجن فتوجه الى ربه تعالى بالدعاء والمناجاة شاكرا له أفضاله في السراء والضراء.
ووجد يوسف (عليه السلام) في خلوة السجن صالته في الاختلاء مع ربع فحلق في أجواء العشق الألهي ورفرفت روحه في سبحات الملكوت الأعلى.
وكان وصال الأحبة.
واستطاب يوسف (عليه السلام) خلوته بالحبيب ولكن يبدو أنها تطل فجاء من نغص عليه وحدته {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36] حتى كان ذات صباح وقد رأى كل واحد منهما رؤيا جلبت عليهما الحيرة والدهشة فلجآ الى صاحبهما في السجن وأخذا في قص ما رأياه في المنام.
وبش لها يوسف (عليه السلام) وفتح صدره لمشاعرهما وقد أدى لهما حق الجيرة والصحبة.
فلما أذن لهما بالكلام قال أحدهما: {ا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]
فأوضح: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] ثم أكد حقيقة الحقائق.
وختم رسالته السماوية بالقول:
{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] نظر الفتيان كل منهما الى صاحبه وكأنهما نسيا ما كانا بصدده من الرؤيا.
واستعادا كلام يوسف الصديق (عليه السلام).
فتفتحت أمام قلوبهما آفاق رحبة جديدة من الوعي وعلما أن يوسف (عليه السلام) سليل كوكبة من الأنبياء والمرسلين.
وأن ملة آبائه وملته هي الدين القيم وحارا في شأنهما وشأن من يعبدون أصناما وأوثانا لا تضر ولا تنفع من دون الله.
وثارت ثائرتهما على السلطان وعلى الطغاة المسعبدين للأحرار.
أفلم يقل لهما هذا العبد الصالح الآن: إن الحكم إلا لله..
ولكنهما ما لبثا أن عادا من سفر الحقيقة الى أرض الرؤى والاحلام..
فشنفا أسماعهما من جديد في انتظار التأويل.
وبعد أن أعلمهما يوسف (عليه السلام) أنه عليم بتأويل الرؤيا وأنه من الموحدين والمؤمنين بالله كآبائه الأنبياء وأن ذلك هو الدين القيم فانه أخذ بتعبير الرؤيا....
فقال للأول الذي رأى أنه يعصر خمرا...
إن سينجو من الحبس ويسقى ربه وملكيه خمرا..
وقال للثاني الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه...
إن سيصلب فتأكل الطير من رأسه فجحد الفتى الثاني وقال: ولكني لم أرد ذلك؟
فحسم يوسف (عليه السلام) الأمر قائلا: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] وتحقق تأويل يوسف (عليه السلام) وهو الذي اجتباه ربه وعلمه من تأويل الأحاديث.
فلما لبث أن جاء رجال الملك وأطلقوا سراح الفتى الأول.
وعندما هم بالخروح مودعا يوسف قال له (عليه السلام) {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]
{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف: 42] وبعد زمن جاء رجال الملك مرة أخرى.
واستدعوا الفتى الثاني الذي رأى بأنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه..
واقتادوه الى مصيره المحتوم.
وحوكم بتهمة السعي في دس السم للملك في طعامه.
فقد كان خبازا للملك وأما الأول فقد كان صاحب الشراب...
وكان مسجونا بنفس التهمة..
ولكنه برئ منها..
وحكم على الخباز بالموت..
فقتلوه وصلبوه..
وظلت الطير تأكل من رأسه حتى أنزلوه عن خشبته
وهو تأويل نبي الله يوسف (عليه السلام).
ومضى عام إثر عام..
ويوسف (عليه السلام) يقبع في ظلام سجن الملك.
ويدعو الله تعالى بالفرج ويستعين بالصبر والصلاة على محنته وهو السجين البريء الممحتن بالحب وكان كلما تذكر أباه يعقوب بكى على فراقه وحن إليه.
وهو في كل ذلك ممتثل لأمر الله وحكتمه حتى أمضى الله قضاءه وقدره فلما مضت مدة يوسف (عليه السلام) في السجن حسب التقدير الإلهي... أذن الله له في دعاء الفرج الذي ألهمه إياه.
فوضع خده على التراب.
وقال: (اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فأني أتوجه إليك بوجه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب).
ففرج الله عنه ولكن... كان لابد لللأمور أن تسير وتجري بمسبباتها..
فذات ليلة..
رأى الملك رؤيا هالته وأقلقته فاستدعى الملأ من وزرائه وحكمائه وكهنته
فهبوا إليه مسرعين وسجدوا بين يديه معبرين عن الولاء والطاعة والإخلاص.
{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وخيم الصمت على الحاضرين وتحول الصمت الى همهمة والهمهمة الى ضجيج والملك ينتظر تعبير رؤياه وبعد أخذ ورد وجدل وشورى هدأت الضجة وعم السكون المكان
فقام كبير الوزراء واستأذن الملك في الكلام فأذن له فقال بعد تقديم فروض الولاء: أيها الملك هذه {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].
فثارت ثائرة الملك وقد اشتدت به الحال وتفاقم عليه الخطب..
وكان الساقي حاضرا في مجلس الملك وهو يشرف على أمر الشراب.
فلما سمع برؤيا الملك..
ادكر صاحبه في السجن الذي أول له رؤياه...
والذي قال له لدى خروجه: اذكرني عند ربك فعاتب نفسه على إهمال الوصية ونسيان العهد وكيف أنه لم يذكر يوسف عند ربه.
وهاهو يذكر بعد أمة بلغت بضع سنين لبثها يوسف في السجن، فلما رأى الساقي أن الفرصة قد حانت فانه طلب الكلام.
وأشرق وجه الملك بالرجاء ورفت على شفتيه ابتسامة الأمل
فقربه منه قائلا: ما شأنك يا ساقي الملك أفصح عن أمرك فتقدم الساقي وقص على الملك ما كان من أمر رؤياه هو والخباز وكيف عبر لهما يوسف الرؤيا فكانت كفلق الصبح ...
فتعجب الملك ...
وتذكر هو الآخر يوسف.
وكيف أنه بدا له من بعد ما رأى الآيات أن يسجنه حتى حين.
وتحول البصيص إلى طاقة من الأمل فأمر الملك الساقي بالتوجه إلى يوسف في الحال..
ووصل ساقي الملك إلى السجن على جناح السرعة.
وفي لحظات كان بجوار يوسف.
فأخذ يسأله عن حاله ويلاطفه معتذرا عن النسيان.
وهون يوسف عليه الأمر ثم سأله عن سبب عودته إلى السجن بعد النجاة.
وكأن امرأة العزيز كانت تتحين الفرصة لتسوق اعترافها من جديد.
وهذه المرة ... أمام زوجها العزيز ...
فقالت:
{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وكان اعتراف النسوة ومن بينهن امرأة العزيز الشهادة الأخيرة ببرائة يوسف
الصديق.
فصرفهن الملك وأصدر أمره في الحال قائلا: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54] وجاء يوسف معززا مكرما إلى قصر الملك.
فلما حضر وكلمه قال له الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]
وشاء الله أن يمكن ليوسف (عليه السلام) بعد البلاء والتمحيص.
ولما كانت الفرصة مواتية...
فان يوسف (عليه السلام) قال للملك: { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55] فدخل السرور على الملك ورحب بطلب يوسف (عليه السلام).
وأخذ يوسف (عليه السلام) يرعى أمور مصر في السنوات المخصبة.
وهو يضع المشاريع من أجل إجادة الزرع وتوسيع رقعة الأراضي المزروعة
وتحسين نظام الري والسقي.
حتى إذا حان وقت الحصاد.
جمع الغلال والطعام والأغذية وحفظها في المخازن بالحزم والتدبير.
ثم أشرفت الأعوام السبعة المخصبة على نهايتها.
بينما كانت البلاد متهيئة بفضل علم يوسف وحكمته وحنكته لاستقبال الأعوام المجدبة.
وانقطع الغيث.
وغارت المياه.
وتشققت الأرض ولم تعد الزروع تنبت أو تخضر ...
فأجدبت البلاد..
وعندها أقبل يوسف على تنفيذ مشاريعه...
فوضع الأرزاق...
وقسم الطعام بين الناس.
وهو في كل ذلك يستضى بنور الوحي الإلهي ويجري بالمشيئة الربانية
فلم يؤثر الجدب على أرض مصر ونجا أهلها من المخمصة..
وفي تلك السنوات ... كان يوسف (عليه السلام) قد اعتلى سرير العزة والملك.
ومصر تعيش عهدها الذهبي في ظل عدله ونزاهته وحكمته ...
وتنعم بالأمان والإيمان والطمأنينة
فكانت قضبان السجن طريق يوسف (عليه السلام) إلى شرفة الملك بإذن الله.
وعلا ذكره وذاع صيته واستتبت له الأمور...
وذلك رغم الساعين إلى إخماد ذكره وإنسائه من القلوب.
فكيف جرت الأقدار الإلهية على أبناء يعقوب وإخوة يوسف؟
استتبت الأمور ليوسف (عليه السلام).
واستقرت الأحوال في مصر رغم سنوات القحط والجفاف.
وكان يوسف (عليه السلام) ما زال مستمرا في تطبيق سياسته الاقتصادية الحكيمة التي أنقذت البلاد من خطر الجدب.
وفي هذه الأثناء أصل الماضي برأسه من نافذة الأحداث.
فذات يوم...
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} [يوسف: 58]
{فَدَخَلُوا عَلَيْهِ} [يوسف: 58]
{فَعَرَفَهُمْ} [يوسف: 58]
{وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58]
فلم يعرفوه في هذه الحال، حيث تحفه مظاهر الملك والعظمة.
وهم الذين تصوروا أنه الآن خامل الذكر بين صفوف الرقيق، وقد باعوه بثمن بخس
فلم يفصح لهم عن نفسه.
وترك الأحداث تأخذ مجراها الطبيعي.
ومن على سرير المملكة...
سألهم يوسف (عليه السلام) عن أنفسهم وشأنهم وماذا يبغون.
فأجابوا بأنهم أبناء يعقوب.
وأنهم أحد عشر أخا بقي أصغرهم عند أبيهم ليأنس به فهو لا يدعه يفارقه قط..
ولم يذكروا له شيئا عن أخيهم المغيب ولكن المشيئة الالهية أبت إلا ظهور الحقيقة وسطوع الشمس الغائبة..
وخص يوسف (عليه السلام) إخوته بالسخاء والأكرام وزاد في إكرامهم.
وأعطاهم ما أرادوا من ميرة وزاد.
حتى إذا تأهبوا للرحيل جمعهم يوسف (عليه السلام) بعد أن جهزهم بجهازهم.
وقال لهم: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف: 59] فتعجبوا لهذا الطلب وسألوه عن السبب فأجابهم بأنه في شوق لرؤية أخيهم الصغير هذا ولماذا يخصه أبوه بعطفه ورعايته.
فم انعوا في الأمر وقد أدركوا أن أباهم يعقوب لن يفرط في أخيهم الصغير
وهو الذي ما فتئ يكابد فراق محبوبه يوسف.. واجتهد يوسف (عليه السلام) في جلب رضاهم فقال لهم: {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف: 59] ؟ وذكرهم بإكرامه إياهم وكيف أنزلهم منزلا محمودا وأفاض عليهم من عنايته.
ولكنهم أعلموه باستحالة الأمر.
فما كان من يوسف (عليه السلام) إلا أن استخدم حيلته الأخيرة.
فقال لهم منهيا النقاش: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] ووجد إخوة يوسف (عليه السلام) أنفسهم في أزمة حيث منعهم الملك منذ الآن من العودة إليه للإمتيار.
فتشاوروا فيما بينهم ... ثم ما لبثوا أن قالوا: {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف: 61].
وأعطوا يوسف عهدهم بذلك.
وعندما خرجوا من عند يوسف (عليه السلام) نادي يوسف فتيانه.
{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68] ولما دخلوا على يوسف أوى إليه أخاه بنيامين وعرفه بنفسه وقال: إني أنا أخوك يوسف.
فقالوا بطمأنينة كاملة: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف: 75] وعندئذ أخذ يوسف (عليه السلام) بإقامه الحجة قبل إنزال الجزاء...
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه بنيامين.
وكلما فتش وعاءاً، لم يجد به السقاية.
فينتقل إلى وعاء الآخر.
واستمر التفتيش على هذا المنوال وهم يستنكرون الأمر ويدفعون عن أنفسهم
التهمة ويزدادون ثقة واطمئنانا..
ولكن الوقت لم يطل حتى وصل الدور إلى وعاء بنيامين.
وهنا عقدت الدهشة ألسنتهم حيث استخرج السقاية من وعاء أخيه الأصغر بنيامين.
وتعقدت الأمور... واشتدت البلوى بأبناء يعقوب (عليه السلام) وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويوبخونه فلم يأبه بهم يوسف (عليه السلام) وأمر بالقبض على بنيامين تنفيذا للجزاء.
{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ولما تم القبض على بنيامين استاء إخوته منه وغضبوا عليه وارتدوا إلى ماضي الزمان فقالوا منددين بأخيهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ } [يوسف: 77] إذ كانت عمة له على ما قيل قد نسبت إليه السرقة بحيلة منها حبا له لتستأثر به عندها، فلما سمع يوسف (عليه السلام) منهم ذلك وقد ذكروه بتلك الحادثة.
وهم لا يدرون ... فانه (عليه السلام) أسرها في نفسه ولم يبدها لهم.
قال {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] وانتحى إخوة يوسف (عليه السلام) جانبا وأخذوا يتشاورون فيما بينهم بحثا عن حل لهذه المشكلة الخطيرة.
والحلم يتجاذبهم بين أخيهم المقبوض عليه وأبيهم الذي أتوه موثقا من الله.
فتوصلوا إلى قرار ظنوه مرضيا للعزيز.
واستمع يوسف (عليه السلام) إلى ما يقولون فقالوا له: { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78]
ورفض يوسف علي الكلام هذا الاقتراح بقاطعية تامة وقال لهم: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف: 79]
وما زال إخوة يوسف يجادلونه في أخيهم بنيامين حتى يئسوا منه. {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]
واحتدم النقاش بينهم.
ووجدوا أنهم لا محيص لهم عن العودة إلى أبيهم، وعندئذ.. قال كبيرهم:
وثقل عليه الحزن فأشاح بوجهه {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [يوسف: 84]
{وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف: 84] ولما وجد أبناء يعقوب أباهم في هذه الحالة المؤلمة ...
فقال مستدركا: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]. ونظر إخوة يوسف كل منهم إلى الآخر في تعجب ودهشة...
ولم يكن لهم سوى الاقرار بالحق...
فالتفتوا إلى يوسف أخيهم قائلين: { تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] وتجلت أخلاق النبوة.. وهي التي لا تعرف سوى العفو والمغفرة والتسامح...
فطيب يوسف (عليه السلام) من خاطرهم وأطمعهم في الرحمة الإلهية...