إن الدعوة لفهم مفهوم التلاوة القرآنية وختم القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، التي دعا إليها الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم محمد وآل بيته الأطهار، هي دعوة إلى ثقافة التفكر والتبصر والتدبر في آيات وسور القرآن الكريم، لا إلى ثقافة التسابق والعددية في الختمات القرآنية في شهر رمضان المبارك.
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185].
نبارك للقراء الكرام وللأمة الإسلامية قرب حلول شهر رمضان المبارك، أهَلَّهُ الله علينا وعليكم بالخير والبركات والغفران، ووفقنا وإياكم لأداء صيامه وقيامه وتلاوة كتابه الحكيم. وكل عام وأنتم بخير.
النعم الإلهية في الشهر الكريم
ينتظر المسلمون في بقاع الأرض، من أدناها إلى أقصاها، قدوم هذا الشهر المبارك بفارغ الصبر، لما في هذا الشهر الكريم من النعم الإلهية التي لا تُعد ولا تُحصى على الصعيدين الدنيوي والأخروي.
كما أن مظاهر هذا الشهر الكريم الاجتماعية وغيرها مختلفة تمامًا عن بقية شهور السنة، ولها طعم ومذاق مختلف في كل شيء مرتبط بحياة الإنسان المسلم.
ويكاد يمتد تأثير التغيير في شهر رمضان حتى على غير المسلمين المتواجدين في البلدان الإسلامية، إذ يرون مدى التغيير الواضح على السطح الاجتماعي، سواء في الممارسات الحياتية اليومية أو في مقراتهم العامة والخاصة، فآثاره تكون واضحة وملموسة.
بل البعض منهم – أي غير المنتسبين للديانة الإسلامية – يرى في شهر رمضان المبارك شهر استرخاء وهدوء، ومحطة للراحة النفسية، وبابا لتوسيع العلاقات الاجتماعية والتعرف على المفاهيم والعادات الرمضانية والاجتماعية من قرب، وهذا بالفعل من أبرز المظاهر الواضحة والفاعلة في شهر رمضان المبارك، إذ إن بركات هذا الشهر الكريم لا تنصبُّ فقط على المسلمين، بل تشمل الدنيا كلها.
تفصلنا أيام قليلة ويبشرنا هلال شهر رمضان المبارك بدخول الشهر الكريم على الأمة الإسلامية، وحينها تبدأ أصوات المدافع تُطلق للإفطار، والمآذن العالية من مساجد المسلمين في بقاع الأرض من شرقها حتى غربها تهلل وتصدح فرحًا: حيَّ على الصلاة.. حيَّ على الصيام.. حيَّ على القرآن الكريم.. حيَّ على الأخلاق.. حيَّ على البذل والعطاء.. حيَّ على الأخوة.. حيَّ على التسامح والعفو والغفران مع بعضنا بعضًا.
تتحول المجتمعات الإسلامية فجأة إلى صورة اجتماعية مثالية، أو كما يقال أشبه بمجتمع ملائكي يكاد لا يكون له مثيل في الكون كله.
أبرز الجوانب المهمة في البرنامج الرمضاني
في هذه العجالة سوف نركز على جانب واحد، ويُعد من أبرز الجوانب المهمة في البرنامج الرمضاني المبارك الذي يقوم به المسلمون يوميًا في هذا الشهر المبارك بعد فريضة الصلاة والصيام، ألا وهو تلاوة كتاب الله الحكيم في الشهر الذي أُنزل فيه القرآن.
عند دخول الشهر الكريم، يتبادر إلى أذهان البعض، وقد يكون الأكثر من المسلمين، الاهتمام بالقدر الممكن بالكم في عدد ختمات القرآن الكريم، لينالوا بذلك الأجر والثواب العظيم، لما ورد من أحاديث وروايات نبوية شريفة تحفز المسلم على قراءة وتلاوة القرآن بشكل يومي ومستمر، وخصوصًا في شهر رمضان المبارك؛ بسبب تضاعف الأجر والثواب فيه، وهي أمنية يرجوها كل مسلم، وعادة حسنة أن يكون هذا ضمن اهتمامات المسلمين بالقرآن الكريم.
ولكن السؤال المهم في وجهة نظري: هل القرآن الكريم يُقرأ لأجل التسابق والفوز بعدد الختمات القرآنية الرمضانية ليصبح بذلك محل تفاخر بهذا الصنيع؟
لعله وحسب تتبعي المتواضع للثقافة القرآنية، لم أجد آية واحدة في القرآن الكريم في جميع سوره المباركة تدعو إلى ذلك الصنيع، أي التسابق القرآني، بل إن كل دعوات القرآن الكريم تتجه دائمًا إلى التفكر والتأمل في آياته الكريمة بصيغة الاستفهام والتنبيه والتفاعل، لكي تطرق أذهاننا ونتفاعل معها.
التنبيهات القرآنية العقلية
على سبيل المثال لا الحصر.. أفلا ينظرون؟ أفلا يتدبرون؟ أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟.. إلخ. وهكذا من التنبيهات القرآنية العقلية التي تهدف نحو الاكتشاف والمعرفة والعلم، من أجل الوصول إلى أعلى درجات الترسيخ الإيماني فينا بالله عبر المهارة التفكيرية، وهذا هو الهدف السامي من وراء تلاوة القرآن الكريم.
بالتفكر نرسخ الإيمان في قلوبنا وعقولنا التي وهبها الله إلينا حتى لا يكون إيماننا به سبحانه وتعالى هشًا حين نتعرض إلى الشكوك والاهتزاز الفكري من أي جهة كانت، ولو حصل وتعرض أحدنا لهزات فكرية وعقدية وثقافية ونحن على قاعدة إيمانية قوية ومتينة فلا خوف علينا ولا هم يحزنون؛ لأنه هنا يأتي دور المحصلة العقلية والفكرية التي أسستها عبر تأملك في آيات القرآن الكريم، وهي بدورها تعمل لحمايتنا من الانزلاقات الفكرية الشيطانية.
وقد يسأل سائل: هل التفكر والتأمل في آيات الله سبحانه فقط يحصننا من العبثية الفكرية والعقدية؟ هل هذا دورها في الدورة الحياتية للإنسان أم لها هدف سامٍ آخر؟ وهل القرآن الكريم فيه علوم ما قبل وما بعد، من علوم الدنيا والآخرة، حسب ما يدعي المسلمون؟ بهذا المعنى والمفهوم يلزمنا التفكر والتأمل؟ وما هي الدعوة القرآنية لختم القرآن الكريم كاملًا في شهر رمضان المبارك أو في غير شهر رمضان؟
ملكة التفكر
التفكر والتأمل في آيات الله سبحانه ليس دوره فقط أن يزودنا بالفكر الإيماني والعقدي الصحيح والذي بدوره يوصلنا إلى طريق النجاة ويخرجنا من الظلمات إلى النور، إنما دور التفكر والتأمل يهب لنا وللإنسانية ”ملكة التفكر“ التي بدورها تساعد على اكتشاف كنوز المعرفة الظاهرة والباطنة، وملكة التفكر لا تُصنع في يوم وليلة، وإنما تحتاج إلى دورة، بل دورات فكرية مكثفة لكي يتمكن عقل الإنسان من اكتساب هذه المهارة الفكرية العظيمة.
دعوى المسلمين أن القرآن الكريم فيه علوم الدنيا والآخرة هي دعوى إيمانية راسخة ومتجذرة عند كل مسلم، بل هي تشكل عقيدة المسلمين دون أي شك ولا ريب في ذلك، ويكون ذلك عبر ”ملكة التفكر“، وهي المهارة الفكرية التي يهدف منها ربنا سبحانه وتعالى من خاتم كتبه السماوي المنزل على خاتم أنبيائه ورسله المصطفى محمد ﷺ.
التدبر في آيات القرآن الكريم في رمضان
ومن سنة الله تعالى في أرضه أن يترك لعباده مساحة من الحرية للتفكر والتأمل ليقوموا باكتشاف كنوز هذا الكوكب بملء إرادتهم وتفكيرهم وسعيهم وهمتهم والمدد الإلهي لكل من يسعى للتفكير في كشف الغيبيات أو ما وراء الطبيعة، ومعرفة وفهم قوانين السنن الكونية.
فكل اكتشاف علمي دنيوي هو في أصله موجود على هذا الكوكب منذ أن خُلقت الخليقة، ولكن بمقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى ينبغي اكتشاف ومعرفة تلك الكنوز وذلك العلم والمعرفة عبر التفكر والتأمل والتعب والجري الدائم في تحصيل العلم والمعرفة، ولا يمكن تحقيق واكتشاف هذه الكنوز الكونية عبر الاتكالية والخمول الفكري.
الدعوة التي ندعو لها لفهم مفهوم التلاوة القرآنية وختم القرآن الكريم كاملًا في شهر رمضان المبارك، هو ما دعا له الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم محمد وآل بيته الأطهار، هي الدعوة إلى ثقافة التفكر والتبصر والتدبر في آيات وسور القرآن الكريم، لا إلى ثقافة التسابق والعددية في الختمات القرآنية في شهر رمضان المبارك.
بل الأجر والثواب الذي جاءنا من الروايات والأحاديث النبوية هو أن التلاوة مع التفكر والتدبر لهي أعظم وأكبر درجة وأجرًا وثوابًا من التلاوة بدون تدبر، فالتفكر في آيات الله سبحانه وراءه هدف إلهي سامٍ يريدنا ربنا الوصول إليه عبر اهتمامنا بالكيف لا الكم.
فالإكثار من تلاوة القرآن الكريم مستحب في أي وقت، وهو ورد عظيم يجعله المسلم في حياته اليومية، وبالخصوص في شهر رمضان المبارك؛ لأن الأجر والثواب فيه يتضاعف ولا يعلم به غير الله سبحانه وتعالى، ولكن لكي يزداد ذلك الأجر والثواب على قارئ القرآن، عليه الاهتمام والتزود بآليات البحث نحو التدبر والتفكر والتبصر في اكتشاف علوم وأسرار ومعاجز وكرامات القرآن الكريم، وبهذا يقودنا موسم رمضان المبارك إلى جوهر العبادة والتلاوة القرآنية الرمضانية.
موقع الجهات الإخبارية
————————