بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
فمنذ أنْ بزغ فجرُها في مسجد (قِبا) من رحاب طيبة المنوّرة التي تعاهد بناءها، وإقامتها نبيّ الرحمة(ص)، حيث امتزج تعبه، ونصبه، وعرقه بلبِناته الأولى في ذلك التشييد العظيم راحت تحكي أروع، وأنصع تجربة بشريّة قامت قواعدُها على سواعدَ متينة متوضئة، حتى امتدت بعنفوان نحو السماء لتعانق مبادئها، وتسبر غورها من أجل أمة تكبر على الألم، ولتمدّها على طول الخطّ بومضات إلهيّة تسترشد بها في طريقها طريق ذات الشوكة كي تبقى كما هي اسمها، ورسمها خير أمة قد أخرجت للنّاس تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر بكلّ إصرار، وتفانٍ.
ومن هنا تكمن الضمانة الأكيدة التي على أساسها قد قامت تلك المنارات الشامخة لتبدأ رحلة انطلاقها من ذلك التراب الطاهر مع تلك القلوب التائقة إلى لذة المناجاة، وحبّ الأمل، وطريق الهدى، فشخصتْ جميعها شطر المسجد الحرام الذي يحكي أصالة، وتاريخًا تليدًا مفعمًا بالإيمان، وحبّ ربّ البيت العتيق، ولتترامى القلوب، والنظرات – مهما نأَتْ، وابتعدت مسافاتها- نحو تلك البقعة المباركة لتجسّد الشوق بكلّ أبعاده ممتثِلاً ذلك النداء السامي: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره).(البقرة:150).
لقد بقي المسجد ذلك الصرح الشامخ رابضًا في وعي الأمة، وأصبح ومنذ انطلاقته الأولى المباركة على يدَيّ معلمها الأول النبيّ الأميّ (ص) مصدر إلهامها، وبَوْصلة أفكارها، وثقافتها التي ترشدهم في زحام الطريق الطويل المدلهم الممتلئ وعورةً، وظلامًا إلى شاطئ، وبرِّ الأمان الإلهيين.
وراح النبيّ(ص) يواصل عطاءه دائبًا في منهجه، وسبيله على جميع المستويات والأصعدة لينتشل المجتمع الجاهليّ من براثن تلك العبادات العمياء التي لا تهتدي طريقها – حيث بقيت ردحًا من الزمن تستعبد الإنسان، وتجعله عبدًا لشهواته-، وليوجّههم نحو الهدف المنشود من خَلْقهم، وهو عبادة الله الواحد الأحد (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات:46)، وليحتضن آهاتهم، وآلامهم في جوٍّ من الحنان النبويّ الذي يضفي كلّ راحة، وأمل على نفوسهم الظامئة للإيمان والتي تاقت ومنذ زمن بعيد إلى مَن يحتضنها بحنانه، ويوجِّهها نحو المحراب الأبديّ، ويرشِّفها بزلاله، ويأخذ بيدها نحو عالم من اكتشاف الذات، والنفس، وما حولها من بيئة، وعناصر وجوديّة ترسم جميعها الطريق بكلّ جلاء.
وعندما تألّقت أولُ منارة في الإسلام، وعانقت السماء قد اختطّت منذ أبجديّتها الأولى مراسيمَ العطاء الأبديّ من وحي تلك الأجواء الإيمانيّة التي ما برحت حينما انطلقت في الأرجاء أنْ تُلقي بظلال، وفيئ ما تمليه شريعة الإسلام في عالم رحب تُطأطِئ له الرؤوس، وتُضْرَبُ له آباطنُ الإبل من أجل أنْ يسمو العالم الإنسانيّ بمبادئها، وعطائها الذي لا ينضب أبدًا، وراحت ومع كلّ تلك التحدّيات التي تُزرَع في طريقها تُبدّد ظلامَ العنف، والقهر، والتحدي، والتطاول على سمو موقفها، وأهدافها بروعة الموقف، وتألّقٍ في النداء، لتُشيِّدَ مع كلّ ذلك أمثالاً لها بملء الإرادة الكاملة لمعتنقي، ومقتفي أثرها، ولتردِّد هذه الأخرى مع وحيِّها الساميّ بكلّ أمل لغدٍ مشرق: (لا إكراه في الدِّين)(البقرة:256) في شرق الأرض، وغربها متحدّيةً في ذلك جميع الحدود، وقاهِرةً كلّ العقبات التي راحت تُزرع مع كلّ خطوات دربها من أجل عرقلة مسيرتها المتفانية في خَلْق أجيال متعاقبة متكاتفة تعرف حدود الطاعة، وتسمو بنفسها إلى عالم من الطهارة، والطمأنينة، وتنتشلهم من مستنقعات، ووحول ما كان آباؤها غارقين فيها.
لقد عبرتْ تلك المنارات المسافات، وشقّت سهولاً وعرةً، وقفزت على نقاط المستحيل التي رسمها الإنسان من وحي أفقه الأرضيّ الضيِّق لتقفَ – هي- رابضةً بشموخ الجبال الرواسي التي لا تميد على تلك الأراضي التي تكاتف ساستُها من قبلُ فيما بينهم لكي يوقفوا انتشار ضيائها إلى قلوب الذين يعيشون على تراب أوطانهم ممّنْ يعشقون الحقيقة، ومعاني العزِّ، والشرف، ويتلهفون حتى النخاع لإمساك حبل الوصل المتين الذي هو عند الله الإسلام حينما وقفوا مع النفس موقفًا يتندى شموخًا، وعظمة، ومحاسبة، فثابوا إلى رشدهم، فابتدأت معهم على خطّ التماس همزةُ الوصل لتأخذَ بيدهم نحو هدى تلك المنارات، فوجدوا ما ابتغوه حاضرًا في قلوبهم التي راحت تزغرد مع الحقيقة الناصعة بـ(إنّ الدِّين عند الله الإسلام)(آل عمران:19)، وأنّه لا مناص من اعتناقه حيث (ومَنْ يبتغِ غير الإسلام دينًا فلم يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(آل عمران:85)، وإذا بها في زمن مناهل الإيمان، ومحاسبة النفس، والانقلاب على ذلك الموروث المظلم المجدِب الذي عاشته سنوات وسنوات راحت تلك المنارات حينها وبكلّ ثبات وشموخ ترتفع سامقة بين أيديهم ليأتي النداء منها صادحًا في عقر دار الغرب سابحًا في الأفق، معانقًا القلوب المتعطّشة منهم، ليقولَ داعيًا إلى أطهر بقعة عرفتها الأرض والسماء، وشهد بذلك التاريخ لها في أنصع صفحاته: (وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)(الحج:27).
* المأتم صرح خالد
ولعظم دورها المترامي الأطراف، والأطياف راحت تستنسخ تلك المنارات من روحها، وما تحمله من مبادئ مؤسساتٍ فاعلةً أخرى لتواصل معها الطريق في زحام هذه الحياة لا عجزًا منها، ولا خورًا، ولكن تناغمًا مع معطيات، وإفرازات متغيِّرات الحياة التي تُملي على الواقع المُعاش يومًا بعد آخر تنوّع الدور الرساليّ مع بقاء الهدف واحدًا مُسْتَسْقِين جميعًا من عين واحدة لا تنضب، ولا تعرف سوى السماء منهلاً ثجّاجًا عذبًا، ومنهجًا حضاريًا يسمو بالإنسان، ويأخذ بكلتا يديه نحو طريق الله.
فمن صنو روحها المتجددة عطاءً قامت منارات تلك المآتم التي خطّت دربها الواعي ليتكامل المشروع التوعويّ في زمن الغابات المعرفيّة المتلاطمة التيارات، فأخذت عهدًا على نفسها أنْ تُكمل مشوار صاحبها(ع) الذي بناها من دم نحره، وأوداجه، وأثباجه صرحًا متفانيًا يُقدِّم كلّ ما هو جديد، وعتيق ينطلق من رحاب الأصالة، وعمق التراث المضيئ.
إنّ المأتم ولاشك يُكمِل دور المسجد؛ ليبقيا رغم تقادم الزمن توأمين في طريق الصحوة الإسلاميّة، بحيث لا يمكن الفصل بينهما مهما ازدادت التوترات، وغبش الموقف، وترامت الشبهات في ساحتيهما كقِطع الليل المظلم.
فهو كما المسجد يأخذ دوره الفاعل في النهوض بثقافة المجتمع ليبقى مع ظلِّه الوارفِ الرافدَ الثقافيّ الآخر الذي يدّعم الصِلات بين الفرد وبين ذلك المنهل العذب الثجّاج الذي ينحدر من سلالة بيت النبوة (عليهم السلام)، وليثبت على مرِّ العصور بأنّه هو وأصله روح واحدة في جسدين مختلفين.
فرحابُه الطاهرةُ كرحاب المسجد تنطلق من أُفق مقدّس، ولذا تبقى الحاجة إليه ملحة دائمًا وأبدًا، ومن الضروري جدًا أنْ تبقى حلقات الوصل بينهما متينة، ذلك لأنّهما الصرحان اللّذان يُكمِلُ كلُّ واحد منهما الآخر في زمن الهجمات التغريبيّة التي يتعرّض لها مَنْ يَمُّتُ إليهما بِلُحْمة العقيدة والمبدأ على كثير من الأصعدة، ويجب أنْ يبقيا – كما هما على طول الخطّ- القِبلة التي يُولِّي العاشقون وجوهَم شطرها؛ ذلك لأنّهما عنوان المؤمن في السلم، والحرب الثقافيين!
ولذا فمن الإجحاف تأطير دور المأتم – هذا الكيان الضخم الخالد بخلود فكر، ومبادئ صاحبه(ع)- في طيف، ولون واحد كتقديم العزاء، ذلك لأنّ المأتم كما هو يحتضن أصحاب المصاب ليخفِّفَ عنهم آلامهم، ويقدِّم لهم تعازيه، فهو أيضًا في الوقت نفسه يفتح أبوابَه بل ذراعيه لأنْ يُمطر المتزوِّجين بقـُبَـل الولاء، وبآيات الاحتفاء بما يحملونه بين جوانحهم من معاني العطاء، والفداء لأهل البيت (ع).
كما ومن الحيف أيضًا أنْ يُرسم له لونٌ قاتمٌ في نفوس النّاس على أنّه لا يحتضن إلا المصاب، والألم بين جدرانه.
فالأجدرُ به أن تُرسم حقيقته لكلّ ذي عينين بصيرتين بأنّه صرحٌ راسخٌ، انحدر من تحت عباءة كربلائيّة ناصعة البياض ليُشارك النّاس أفراحَهم، وأتراحَهم كما هو منذ أنْ اعتلت مناراته تعانق السماء ليصدح منها أولُ ما يصدح آيات ربيع القلوب التي تهفو إليها الأفئدة كلّما سمعتها، ولتأخذ بعدها بيد المجتمع نحو طريق (لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما)(بحار الأنوار44/192) بدلا من تلك المعادلة التي تعيشها بعض المجتمعات الغارقة من رأسها إلى أخمص قدميها في وحول الاستعباد الدنيويّ الذي فضحتْ سوأتَه تلكَ الكلمةُ الخالدةُ، القائلة: بأنّ(الناس عبيد الدنيا، والدِّين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون)(بحار الأنوار44/383).
هذا من جانب.
* قِبابنا شموس مشرقة
ومن جانب آخر، فكما كان للمسجد صنو كالمأتم، فله أيضًا صورة طبق الأصل في المنطلق، والأهداف، واللغة، والغاية، وهي التي تتمحور حول تلك المنائر، والقِباب للمراقد المقدَّسة التي كانت ولا زالت قِبلة يُؤمها الأحرارُ من كلّ فجٍ عميقٍ ليستلهموا منها زادًا لسفرهم، وروحًا أبيّة تسبح بأمان بهم نحو عالم لا يعرف إلا معنى الحبّ والسلام، وطريق الأمن، والقفز على الألم ومنعرجاته للوصول إلى الغاية المنشودة في زمن نَشَبَ الغدرُ فيه براثنه لتهتزَ قلوبٌ مطمئنة عشقتْ أرواحَ ملهميها(ع) منذ أنْ خطّ قلمُ الوحي، والقدر في لوح الخلود أسماءَهم بنور أبديّ، ولكن هيهات هيهات إذ قد بلغ الحبُّ شغاف القلب، وجعل دونه رتاجًا محكمًا.
ولم تَخَلْ تلك القوى الرعناء بأنّ هناك معادلة راسخة تمتدّ من تخوم الأرض إلى عنان السماء حيّةً نابضةً، وهي: (كلما تفجرتْ قِبابُنا، ومنائِرُنا سما الموقف، وتجلّت الحقيقة الثابتة لأهل البيت(ع) كالشمس في رابعة النهار أكثر، فأكثر)!.
وأنّه وبالرغم من خفافيش الظلام، وتفجيرات أذناب الإرهاب المتكالب على بعضه، والمتهارش فيما بينه لن تمسّ شيئًا من مبادئ تلك القِباب، والمنارات السامقة لارتباط تاريخهما المشرِّف بخطّ السماء الناصع الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).(فصلت:42)
إنّ الحقيقة لتتجلى ساطعة بأنّ الحقّ هو المنتصر دائمًا وأبدًا مهما كانت آليات الإرهاب متطوِّرة، أو مدمِّرة كالذي حدث على أرض سامراء العراق حيث حصدتْ تلك العبواتُ الناسفةُ المناراتِ، والقِبابَ الشاهقة المِعطاءة، فجعلت منها ركامًا من تراب ظنًّا من زارعيها أنّهم قد نالوا من تلك الأعمدة الراسخة، والذرى الباسقة علمًا وكمالاً، وإذا بها تكون أكثر نصاعة، ونضارة من ذي قبل، وبرهنت في كلّ لحظة بلغة المنتصر الواثق بالله التي لا يفهما إلا (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)(ق:37) بأنّها باقية ما بقي الدهر، راسخة رسوخ الجذور من تخوم الأرض إلى عنان السماء!
إنّ تلك التفجيرات التي أودتْ بالمقام المقدّس للعسكريين الهاديين(ع) في سامراء الرافدين لن تنال من شموخ تلك المنائر فضلاً من أصحابِها(ع)، إذ هل يمكن لبريقِ الذهب أنْ تنال منه نارُ الصائغ؟، فبالطبع لا، فكذا تِبر تلك المنائر لن تنال منه أيدٍ أثيمةٌ، بل إنّها لتزداد تألقًا، وحضارةً، وبريقًا.
كما وفي زمن انفلات الإرهاب الموغِّل في عماه، والأيدي الأثيمة- التي يجب أنْ تُغلّ إلى أعناقها – ها نحن ننظر إلى مآسي أذناب التكفير الذي تترجم مخازيه من جرّاء ذلك الحقد الدفين اللامتناهي الذي يتجدّد يومًا بعد آخر لتبرهن بعنف للمرة تلو الأخرى بأنّها رخيصة لا ترقى أبدًا لغبار تبر تلك المنارات الخالدة فضلاً إلى بريق ذهبها الوهّاج.
إنّ نبضات القلوب الوالهة تدقّ بعنف متسارعة، وتنادي بلغتها لغة الإحساس والوجدان بأنّ مَنْ كانت له غمامة، أو غشاوة إزاء هويّة الإرهاب المقنّع في العراق، فليشاهدْ ما جرى في حرم العسكريَين(عليهما السلام) لتتمزق عن عينيه تلك الغمامة والغشاوة، ولتبصرا بأنْ الفئران دائمًا ما تعمل في مخابئها خاسئة، وتحت جُنح الظلام الدامس من أجل تمزيق، وتهريش ما تناله أنيابها القذرة لتعيث فسادًا في المجتمع الإنسانيّ، فكذا هو حال أذناب الإرهاب الدنيء التي لا تخرج من مواسير قذارة أفكارها إلا لتعمل فاشلة على إخماد النُّور الساطع بأفواهها النتنة؛ لتترجم معادلة كلّ إناء بالذي فيه ينضح على أرض، ومسرح الواقع، ولكن (يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).( التوبة:32)
فمنائر سامراء العراق، وغيرها من المنارات، ومعالم الأمة الإسلاميّة جمعاء التي تشدّ المجتمع الإسلاميّ نحو عقيدته بكلّ حبٍ وإيمانٍ لهي عنوان، وهوية كلّ مسلم يرفض العمل الإرهابيّ الجبان بحقّ بقعة من بقاع الطهر والقداسة من جرّاء شرذمة تتناغم، وتتوافق بغباء الموقف، والغاية مع (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).(البقرة:205،204)
ومن هنا فإنّ المنائر، والقِباب تعمل دائبة جاهدة من أجل هدف واعٍ، سامٍ، وموقف يكبر على الهزيمة، ويحلِّق دائمًا وأبدًا في سماء أمة عقيدتها عقيدة راسخة من تخوم الأرض حتى عنان السماء بأنّ الإسلامَ مُحمديُّ الوجود، عَلويُّ الانتماء، فاطميُّ الموقف، حَسَنيُّ الصمود، حُسَينيُّ البقاء، اثنا عشريّ الهويّة حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، ويرفرف في سماء الوجود وعدُه الذي لا مناص منه، وهو: (لا ينال عهدي الظالمين).(البقرة:124)