عن الإمام الباقر عليه السلام : ( يموت سفيه من آل فلان يكون سبب موته أن ينكح خصياً فيقوم فيذبحه ويكتم موته أربعين يوماً فإذا سارت الركبان في طلب الخصي لم يرجع أول من يخرج حتى يذهب ملكهم) عن كتاب الممهدون للمهدي.
-------------------------
لم يصدر قانونا في السعودية بمنع تجارة الرقيق الا في عام 1962 م بقرار وقعه فيصل بن عبدالعزيز عندما كان رئيسا للوزراء. و نشر في جريدة ام القرى العدد 1944 الجمعة 12 جمادي الثاني 1382 هـ. بناء على قرارات اممية.
و كان المنع على العامة فقط اما في قصور ال سعود فالرق مستشري الى اليوم.
و ربما يكون الصحفي السعودي السوري الاصل نهاد الغادري الذي كان مستشارا صحفيا للملك فيصل هو اول من اذاع ان بندر بن سلطان هو ثمرة علاقة بين الامير سلطان و احدى جواريه السود في احدى مقالاته في جريدة سوراقيا اللندنية بعد ان اختلف مع الملك فهد. و لم يعترف به الامير سلطان الا متاخرا .
و عودة الى الرواية الشريفة في مستهل الموضوع , كنت اود ان اذكر نبذة عن حقيقة الرق في السعودية حتى وجدت بحثا ثريا للكاتب محمود عبدالغني صباغ في مدونته مما اغناني عن مواصلة جمع المعلومات من هنا و هناك. والبحث يحتوي على ما يقارب 105 مراجع تعمد الكاتب اخفاء بعضها في مدونته على ان يقوم بايرادها في كتابه الذي سيصدره حسب ما ذكره في مدونته.
و قد اعتمد الباحث على مصادر موثقة باسلوب علمي و هي :
- أرشيف وزارة الخارجية البريطاني
- أرشيف وزارة المستعمرات البريطانية
- الأرشيف العثماني
- مواد أرشيفية صحفية تعود لبعض وكالات الاخبار العالمية والصحف المحلية
- مؤلفَات لمؤرخين محليين مثل أحمد زيني دحلان وعبدالله غازي أو رحّالة مكثوا بالحجاز مثل المستشرق الهولندي سنوك هوروخرنيه والضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين أو عرب مهجريين مثل أمين الريحاني
- مذكرات بعض القناصل المتعاقبين على جدة
- روايات مكتوبة او شفهيّة متفرقة عن تاريخ المنطقة.
------------------------------------------------
كتب: محمود عبدالغني صباغ
“العبودية نتيجة الضعف، والجهلُ سبب الضعف. والحرية نتيجة القوة، والعلمُ سبب القوة.“- حمزة شحاتة
قبل خمسين عاماً بالتمام أُلغي الرق مطلقاً بقرار رسمي. هذا تطواف تاريخي سريع يبدأ من عام 1855م وينتهي بعد لحظة اعلان الغاء الرق في المملكة العربية السعودية بقليل.
في عام 1855م أصدرت الدولة العثمانية مرسوماً بقضي بمنع بيع الرقيق في جميع الأراضي الخاضعة لسيادتها. وطلب كامل باشا والي الحجاز العُثماني المقيم في جدة، من قائم مقامه في مكة، أن يجمع دلّالي الرقيق، ويخبرهم بالاجراءات الجديدة، بمقتضى أوامر الباب العالي.
يصف أحمد زيني دحلان، مؤرخ مكة المعاصر لتلك الفترة، في (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام) تسلسل الأحداث بعد ذلك الاجتماع بشئ من الايجاز: فلما علم الأهالي في مكة صاروا من ذلك في انزعاج واضطراب، وصاروا يقولون: “كيف يمنع بيع الرقيق الذي أجازه الشارع؟” .. وتنادوا بالجهاد، واجتمع طلبة العلم في بيت رئيس العلماء ومفتي الأحناف، الشيخ جمال شيخ وطلبوا اليه ألا يرضخ لما يخالف الشرع وان ينتقل معهم الى دار القاضي ليمنع صدور ذلك الأمر، فلما مشت جموعهم في الشوارع انضم اليها الجمهور ونادوا بالثورة واشتبكوا مع الاتراك في قتال عنيف وامتد القتال الى المسجد الحرام، فقُتل فيه عدة أشخاص من الفريقين، فلما انتهت الاخبار الى الشريف عبدالمطلب بالطائف غضب للأمر وجمع جموعه من القبائل لاعانة الأهالي في مكة ضد الترك، فخف الاتراك الى جدة وتحصّنوا بها، واعلن كامل باشا ان المراسيم السلطانية قد وصلت اليه بعزل عبدالمطلب وتولية الشريف محمد بن عبدالمعين بن عون .
لكن نحن يجب ان نُخضِع رواية الدحلان الكلاسيكية تلك لشئ من التفكيك.
كانت الدولة العثمانية خارجة لتوها من حرب القرم مع روسيا، يقف الى جانبها حلفاؤها الجُدد البريطانيون والفرنسيون، الذين ضغطوا عليها لالغاء تجارة الرقيق على أراضيها ولاتخاذ بعض الاصلاحات فيما يخص حقوق الأقليّات. ولاذت النخبة العثمانية التي كانت تميل نفوسها الى الاصلاح بتلك التوجّهات الدولية، فبلورت شروطها في فرامانات اصلاحيّة أبطلت في احداها ممارسة الرقيق.
وكان النفوذ الاوروبي في الحجاز والبحر الأحمر يشهد تصاعداً منذ توقيع اتفاقية التجارة العثمانية-البريطانية عام 1838م.. وما صاحبها من تنامي لمشاعر العداء المحلية ضد التجار والرعايا الانجليز القادمين حديثاً لمزاحمتهم في ميناء جدة. تزامن ذلك أيضاً مع نفوذ شركة الهند البريطانية وارهاصات شروق شمس التاج البريطاني على شبه القارة الهنديّة واخضاع عدن للسيطرة البريطانية عام 1839م، وما رافقه من بدء ترتيبات منح امتيازات للحجاج الهنود الذين باتوا يحملون الرعويّة البريطانية، ويحظون اثر ذلك بعناية غير مسبوقة من قبل القنصلية البريطانية في جدة.. وهي امتيازات خاصة شملت مجالات الصحة والرسوم الجمركيّة والكورنتينات والتنقل. خدش ذلك مشاعر الوطنيين وكراماتهم في مدن الحجاز وبواديه.
هكذا كانت نغمة التوجس من الأوروبيين في أوجها لدى المحليين. ولما كان كامل باشا، والي الحجاز، اقرب لأفكار النخبة العثمانية المستنيرة، أشاع ضده أمير مكة العشائري، الشريف عبدالمطلب، بانه موالٍ للنصارى، يريد بذلك الطعن في هيبته والتقليل من شعبيته.
كان عبدالمطلب – قبيل اندلاع فتنة منع الرقيق في مكة – قد تورط في حادثة مقتل نقيب السادة العلويين في مكة السيّد اسحاق بن عقيل بصورة بشعة – كون الأخير كان حليفاً لرجال السلطنة، خصوم الشريف في مكة، في صراعه الدائم والمفتوح على السلطة.
وأدرك عبدالمطلب، الذي تحصّن في اطراف الطائف، حضن الحجاز العشائري، فاراً من مواجهة جنود الوالي، دنو صدور مرسوم اعفائه من شرافة الحجاز، فوثب الى استغلال موجة العداء الشعبية التي انفلتت من عقالها مع صدور قرار منع بيع الرقيق، وتماهى مع غارات المضار، فأجج في نيران الفتنة بما اتفق مع مصالحه.
لم يكن عبدالمطلب مدفوعاً بايمان أيديولوجي في تبنيه لمطالب الغوغاء بالشارع المكّي قدر ما نُظر دوماً لموقفه على انه استغلال سياسي وتوظيف ذرائعي. وبالمثل، لم تكن عوامل اندلاع الفتنة في الشارع بريئة خالصاً.
لقد أجبر عبدالمطلب، بإيعاز من دلاّلي الرقيق في مكة وتجار جدة، علماء مكة الى اصدار فتوى تناهض قرار الغاء تجارة العبيد. ثم قاد مناوشات عسكرية ضد الحامية العسكرية التركيّة، قبل ان يتقهقر ويتحصّن في صفوف المقاومة طيلة سبع أشهر.
انتهت الأزمة لاحقاً بالقاء القبض على عبدالمطلب من قبل السلطات العثمانية ونفيه الى سالونيك باليونان، لكن قرار الغاء الرقيق في ولاية الحجاز كان قد جُمّد الى أجلٍ غير معلوم.
كان الحجاز يخضع حينها لفضاء المحيط الهندي الكبير، وهو فضاء ثقافي وحضاري ممتد جغرافياً، تشد أطرافه المتباعدة حركة التجارة البحرية المنطلقة من البحر الأحمر الى تخوم الصين. وقبل صعود أفكار الدولة القومية عالمياً، اشترك الحجاز، مع مصر وسواحل السودان والقرن الافريقي وتنزانيا وكيبتاون، وسواحل تهامة واليمن وحضرموت ومسقط مع غرب القارة الهندية وسنغافورة وأرخبيل ملاوي (أندونسيا وماليزيا) وأجزاء من تايلاند والصين، في وحدة ثقافية وبشرية كان ابرز معالمها الانتماء للمذهب الشافعي، الأشد في التأصيل الفقهي – والأكثر تساهلاً – مع عادة شراء العبيد، وفي “اجتهادات” ورُخص التسرّي بالجواري.
الحجاز، الفقير يومها ومنعدم الموارد الذاتية، والذي كان يلمّلم شظايا شخصيته الحضارية، يريد استئناف دوره واستعلان موقفه من جديد في حركة التاريخ.. كانت سموم العوائد القديمة قد اجتاحت بنيته الذهنية فيما لا يزال هو يقاوم للخروج من وهنه الناتج من رزحه تحت وطأة غفلات الأبويّة وأوهام التقليد.
لقد سوّرت متاعب الزمان وتوابع المحن بسورها السميك على العقول التي تَلِفت ازاء التقاط اي حجة او شرعة ضداً على الواقع السائد للعوائد الكسيفة.
ومرّ عقدان ساكنان ويزيد منذ تمرد عبدالمطلب، واحداثه لفتنة مكة.
وفي العاشر من يناير 1877م، نشرت التايمز اللندنية خبراً من جدة عن رجل أسود عشريني سبح الى البارجة فاون المرابطة على ساحل جدة طالباً تخليصه من ربقة العمل مع النوخذة الذي يملكه.. فما كان من قائد البارجة، الكوماندور وارتن، الا تسليمه الى القائم بالأعمال في قنصلية جدة، السيّد أوزوالد، الذي سلّمه بدوره الى الوالي التركي، ممثل السلطات العثمانية المحلية في جدة.
واستشاط غضباً من مضمون الخبر المنشور في التايمز كلا من السادة جوزف كووبر وادموند ستورج من جمعية مكافحة العبيد، وارسلا برقية عاجلة من مقر الجمعية في 27 نيو-بورد ستريت بلندن الى قنصلية جدة، يخبرانهما بأنه كان الأدعى الالتزام من قبلهم بقوانين اتفاقية العاشر من اغسطس 1876م الخاصة بعدم تسليم العبيد اللاجئين لسلطات بلدانهم.
واضطر السيّد أوزوالد ازاء التساؤلات الحقوقية والصحافية الى فتح تحقيق رسمي خلص الى الآتي: الرجل اللاجئ الى البارجة، اسمه مرجان، وهو نوبي، اُختطف عن طريق البربر عبر مجرى النيل الى ميناء القصير ومنها هُرّب مع مجموعة أخرى من العبيد الى جدة، حتى بيع الى احد ملاّك القوارب الشراعية في جدة؛ اسمه ابراهيم عجلان، الذي سخّره لأعمال التحميل ومساعدة الركاب في سنبوكه. واعترف مرجان ان مالكه كان يُحسن معاملته ولم يكن يضربه قط. ولكنه كان يشتكي من تعرض جسده للبرودة حيث لا تكفيه ملابسه الخفيفة. ولأجل ذلك لجأ -عفوياً- للبارجة.
واعتبر اوزوالد، في تقريره المرفوع، انه حيث لم تكن هناك اتفاقية بيّنية ملزمة فيما يخص العبيد اللاجئين فقد تم تسليمه للوالي التركي، الذي اعاده بدوره لمالكه بعد انتفاء دعوى اساءة المعاملة.
كانت محاولة مرجان أولى حوادث لجوء العبيد الى الجهات القنصلية البريطانية في جدة.. وهي وان مرت دون تدخل جوهري، فانها ستشكّل نقطة تحوّل في طريقة عمل الجهات القنصلية الأجنبية ازاء العبيد اللاجئين فيما بعد كما سنرى.
كانت تجارة العبيد مزدهرة بين ضفّتي البحر الاحمر: في انطلاقها من موانئ تاجورة (جيبوتي) وزيلع (الصومال) وبربرة ومصوّع (ارتريا) الى موانئ البحر الاحمر الآسيوية.
وضمت تجارة العبيد الى جزيرة العرب عناصر افريقية عدة من ارتريا والصومال وجيبوتي واثيوبيا يدخلون عبر موانئ جدة والحُديدة والمخا، وقوقاز وجاويين يأتون في مواسم الحج، ونساء هندوس من بومباي ونساء من فارس وزنجبار يأتون عبر قنطرة جُزر كمران (بالبحر الاحمر).. بعضهم للاحتياج المحلي والآخر يجري اعادة تصديره شمالاً الى تركيا ومصر.
وبدت تجارة العبيد متجذرة حينها بشكل يتعذر معها مجرد التفكير في اجتثاثها، حد ان نائب القنصل البريطاني في جدة، مستر وايلد قد كتب في مذكرته التوضيحية الى الخارجية البريطانية في 1877م بان “ممارسة الرق في الحجاز غدت مؤسسة معقدة حيث انها تمارَس منذ عهد النبّوة، وان التدخل بين العبيد وملاّكهم انما هو مسألة شديدة الصعوبة”.. لكنه عاد واستدرك بأن عبيد جدة يجري معاملتهم بشكل انساني وخال من الاهانات ونادرا ما تسجل ضد ملّاكهم اي شكاوي.
وصير الى مبادرات تنظيمية كان مُلهمها الأول الحد من نشاط تهريب الرقيق المتفاقم.
وفي الأول من ابريل 1877م، رُصد على قارب “قونيه” الذي يملكه عيسى بن خليفة من تجار سواحل الخليج، ستة عبيد كان يجري تهريبهم للحجاز من قِبل وكيله سلطان بن حارب. وفطنت حينها السلطات البريطانية، الى حِيَل التهريب عند تجار الخليج ومتعهدي النقل البحري فيه. ورأىَ ماكدونالد، نائب الادميرال، “ان غياب قوائم المسافرين الهنود للحج وعدم طباعة اسم الراكب على التذكرة سبب في رواج تجارة العبيد بين رعايا الهند والحجاز”.
وفي الحادي والعشرين من مارس 1877م اصدر الكوماندور كلايتون المقيم في مسقط الى نائب الادميرال ماكدونالد، يخبره ان عدداً كبيراً من العبيد يجري تهريبهم سنوياً من سواحل الخليج الى الحجاز في مواسم الحج. [6]
وشرعت القنصلية البريطانية في الزام وكلاء شركات البواخر والقوارب في جدة، التي تتعامل مع حجاج الهنود وسواحل الخليج، على كتابة اسماء الركاب على التذاكر وتقييدهم في قوائم دخول.
وظلّت اكبر مسارات جلب العبيد لجدة تلك التي تأتي بالمخطوفين من اثيوبيا عبر وكلاء عرب مستقرون في موانئ تاجورة وزيلع ومصوّع ومنها عبر البحر الاحمر الى ميناء الحُديدة ومنها الى جدة واسواق مكة في مواسم الحج.
وقدّر الكوماندور بويز في السويس في 3 يوليو 1877م عدد من جرى تهريبه من اثيوبيا -وحدها- الى ميناء الحديدة بثلاثين ألف عبد فقط في عام 1876م. كان العبيد يصلون للميناء ويباعون عبر وكلاء ومن يفيض يجري نقله الى مكة والطائف وينبع والمدينة دون اعتراض من السلطات التركية. ويقدّر عدد الذين يستهلكهم او يُعيد تصديرهم سوق جدة سنوياً من عشر آلاف الى خمسة عشر ألف عبد.
وكانت جدة، درّة موانئ اقليم الحجاز، مركزاً رئيسياً لوصول العبيد، فيما كانت مكة، عاصمة الاقليم، مركزاً لاعادة تصديره، اضطراداً مع حركة مواسم الحج.
كان العبيد ينزلون على موانئ الحديدة وجدة وينبع على التوالي.. وحين سأل الكوماندور باوليت، الذي زار جدة لتفقد احوالها في يناير 1878م الوالي التركي في جدة، ان كان مينائيّ الليث والقنفذة يُستخدمان ايضاً لتهريب العبيد، اجاب بالنفي لان البدو سيسرقونهم فور رسوّهم. وكان البدو يقتنون عبيدهم من جدة بالشراء.
ولم يخلو بيت في مكة والمدينة وجدة من العبيد والجواري، الذين يُستخدمون للعمل كسقائيين للمياه وعمال يدويين وقراريّة (عمال بناء) ومرافقين وباعة في الدكاكين ومديرين ومحاسبين وصيادين، ناهيك عن القيام بالأعباء المنزلية. والنساء هن جاريات وسريات للمُلاك الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة الزواج الرسمي، بحسب تعاليم المذهب الشافعي، وهن ايضا سراري للأثرياء والمترفين الباحثين عن التسليّة.
وكان كثير من العبيد في سوق مكة يعودون لرعويّة بريطانيا او رعويّة الهند الشرقية الهولندية. وأغلب الرق الهولنديون ينتمون لجماعات: البورنيو، والسيليبس او من جزر نياز- وكلها في اندونوسيا الحالية- وهم يُرسلون اول مرّة الى مصر، ومنها في مواسم الحج الى الحجاز. وكثير منهم يُسترقون في قصور أمراء مصر.
وكان من ضمن العبيد الاثيوبيين المجلوبين للحجاز مسيحيون بالولادة، كما رُصد جواري في مكة من هندوستان.
وعقدت مصر مع بريطانيا اتفاقية في الرابع من اغسطس 1877م لالغاء الاسترقاق والنخاسة في جميع انحاء القطر المصري، ومنحت الاتفاقية البريطانيين حق توقيف السفن المصرية للتفتيش عن العبيد.
وتأثرت تجارة الرقيق في ميناء الحديدة مع القوانين الجديدة، وتفاعلت السلطات التركية في البحر الاحمر ببطء، وشرعت الى توفير قارب تجديف صغير في ميناء جدة للمراقبة الا انه لم يكن ذي اي تأثير.
وشرعت القنصليات الاجنبية في جدة في تحرير العبيد اللاجئين اليها وترحيلهم الى ديارهم الأصليّة – لكن هذا تسبب في اندلاع فتنة بين اوساط القبائل.
وحدثت فتنة في اطراف مكة، واختل الأمن في الطرقات خصوصاً في طريق جدة-المدينة المنورة، ومع شهر رمضان، الموافق يوليو 1883م، خرج بعض المتمردين من قبائل زبيد وبشر ومعبد وسليم، والثلاث الاوائل بطون مسروحية تنتمي لقبيلة حرب، “خرجوا في طريق جدة، وصاروا ينهبون الحمل الذي يمر بهم” بحسب احمد زيني دحلان في خلاصة الكلام.
وحين همّوا الى الاعتداء على القنصليات الأجنبية في جدة، تصدّى لهم الشريف عون الرفيق، وقاتلهم حتى تقهقروا الى عسفان، فأدركهم وأوقع بهم حتى اطاعوا له، وساقوا جملة من المبررات التي دعتهم الى اشعال الفتنة، كان في صدارتها “أن النصارى يأخذون رقيقهم، ويطلقونهم من أيديهم ويرفعون الرق عنه، حتى عصي عليهم عبيدهم” – بحسب دحلان.
وبات ظاهراً ان يلجأ الرقيق الهارب الى القنصليات الاجنبية في جدة ويحتمون بها للحصول على شهادات الحرية. وكانت القنصليات تمنحهم شهادات حرية دون الرجوع الى ولاية الحجاز او انتظار اوراقها الرسمية. ويحتوي الارشيف العثماني تفاصيل قصة عبد هارب توجه الى استانبول في اغسطس 1889م مع افراد اسرته بعد حصوله على ورقة الحرية من القنصلية الايطالية في جدة دون موافقة الولاية.
ونادى القنصل الانجليزي في جدة الأهالي صراحة باطلاق سراح عبيدهم في نوفمبر 1891م.
وكانت السلطات العثمانية تشعر بالضيق ازاء ذلك التدخل السافر في شئونها الداخليّة. وتوجست اسطانبول من اهتمام بريطانيا المتزايد بالحجاز، كونه كان يخالف مصالحها اقليمياً.
وعاد عثمان نوري باشا واليا للحجاز في فترة ثانية في منتصف 1892م.. لكن عداؤه الشخصي القديم مع الشريف عون الرفيق لم يلبث الاّ واندلع من جديد، محوره السيطرة على الحكم، وظاهره قضية الرقيق.
واُنتدب احمد راتب باشا من قبل السلطان عبدالحميد للتحقيق حاملاً معه تعليمات تتلخص في اربع مهام، أولها: التحقيق في تمرد القبائل في الحجاز بسبب اعتراضهم على فرار عبيدهم.
ورشا الشريف عون الرفيق، راتب باشا بستة آلاف جنيه ذهباً وضِعت في صرّة وسلمّت له لحظة وصوله في ميناء جدة، يؤكد الأفندي محمد نصيف ان الأخير قام بعدها جنيهاً جنيهاً. وكتب راتب باشا تقريرا يؤيد فيه الشريف، ويبرئ ساحته ضداً على الوالي، الذي حمّل اللائمة عليه.
واجتمع راتب باشا ببعض شيوخ القبائل بوساطة من الشريف عون بن ناصر الذي انتدبه لأجل ذلك، ولما التئموا احتموا باسم جناب السلطان ورموا بعقلهم واشمغتهم على الأرض حسب العادات العربية مطالبين بالعفو، واعتبروا ان تمردهم كان احتجاجاً على فرار عبيدهم، وتراخي عثمان نوري المنحاز للاجئين والمدفوع الى رفع الرق عنهم.
- دكة الرقيق؛ مؤسسة تجارة العبيد المكيّة:
ولما استفحل امر الدراويش المهديون واستولوا على الأقطار السودانية في مطلع 1885م، الغوا قرارات غوردن باشا واعادوا تجارة الرق الى افظع ما كانت عليه، فتدفق الى الحجاز، عبر عصابات سودانية محليّة، موجات ضخمة من الرقيق السوداني. وبات نشاط تهريب الرقيق من ميناء سواكن يجري في العلن، وعبر مجموعات ضخمة تتجاوز الألفيّ شخص مع كل حمولة بحرية. [12]
وكما ازدهرت تجارة الرقيق والجواري في الحجاز، ازدهر معها نشاط شراء الحجاج العبيد لاعتاقهم، واعادة حرياتهم اليهم. وغصت مدن الحجاز بالأرقاء العتقاء، بل ان مدينة كاملة في جوار المدينة المنورة، وهي خيبر، قد تألّفت حصراً من الارقاء السابقين.
وبرزت في مكة مؤسسة دكّة الرقيق، وكانت سوقاً للعبيد في اطراف سوق سويقة، على مقربة من باب الدريبة، يقوم عليها شيوخ التجارة، وملحقة بأحواش مفتوحة غير كبيرة يحبس فيها الرقيق في المساء.
وكانت مراسم البيع تجري بحضور شاهديّن، وتُسجّل في اوراق مجلوبة ومُصدقة من المحكمة الشرعية.
ويصف المستشرق الهولندي سنوك هوروخرنيه الذي مكث في مكة عام 1884م، أجواء ومناخات بيع العبيد والجواري في دكّة الرقيق.. “ازاء الجدار تقف الفتيات والنساء من الجواري على الدكّة، والكبار منهن لا يرتدين سوى حجاب خفيف، ويقف أمامهن على الأرضيّة الرقيق الذكور، وفي بهو القاعة يلعب مجموعة من العبيد الصبيّة. ويجلّس الدلالون على مركازهم ويتبادلون أطراف الحديث سوية او مع بضاعتهم من الرقيق”.
فيما يصف طقوس الشراء.. “واذا اهتّم زبون بصبي أسود صغير، يقوم الدلاّل المخصص بمناداته، ويطلب منه الكشف للزبون عن شعره، واقدامه، وبقية أطرافه؛ ويجبّر الصبي على فتح فمه واستعراض لسانه واسنانه، فيما يقوم الدلّال باستعراض مواهبه للزبون المهتّم”.
واذا جاء المشتري لابتياع جارية فحصها فحصاً دقيقاً من قمة رأسها الى أخمص قدميها كما تُفحص البهائم. فاذا تحقق من لباقتها ولياقتها سامها من البائع.
ويقوم المشترون عادة بعدة اختبارات للرقيق قبل اتمام عملية الشراء. فيسألونهم ان كانوا يتحدثون العربية، ويسألونهم بعض الأسئلة الشخصيّة.. ثم يقومون بالكشف عن علامات الاصابة بالجدري، ويبحثون في اجسادهم عن ختم “جدرّي خالص” تنويهاً عن تلقيحهم ضد الجدري – واللقاح كان يُمنح في الحجاز، مشفوعاً بشهادات اعتماد مختومة من مفتي الشافعيّة في مكة، ولكن قلّما كانت تمنح هذه الشهادات للعبيد.
واذا ظلّ في نفس الزبون قليل من الشك، فانه يصطحب العبد الذي ينوي شراؤه لفحصه عند طبيب مقابل عائد مادي، او يقوم بصلاة “الاستخارة”.. اما اذا كان يعمل بالرمل والندر، فهو يذهب لشيخ الرمل ليقرأ طالعه قبل اتمام صفقة الشراء.
وأخيراً يسأل السيّد الجديد عبده: “هل انت راضٍ؟”.. ومن خلال الاجابة، حتى لو جاءت بالسلب، يدرك الرجال بفراستهم فرص نجاح العلاقة الجديدة من عدمها.
ووقف الضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين الذي زار مكة متخفياً في عام 1898م على اجواء دكّة الرقيق، ووصفها بالمحفل الرهيب.
يقول دولتشين: “وعندما زرت هذا السوق، كان هناك زهاء 80 شخصاً معظمهم شابات حبشيّات مع اثنتين او ثلاث منهم اطفال رضع، وجميعهن مزيّنات ومصفوفات فرقاً على دواوين طويلة؛ وكان هناك مقعدان يجلس عليهما كادحون راشدون من الزنوج، لابسون بعناية ومقصوصو الشعر.. يشرف على البيع تاجر عربي نشيط راح يمدح بصوت مدو مزايا بضاعته”.
لقد خلص دولتشين الى ان ما رأه قد ترك في نفسه انطباعاً كئيباً ومُرهقاً جداً.
لكن المستشرق هوروخرونيّه، الاعتذاري للشرق وممارساته وأخلاقه، اعتبر ان الرحّالة الأوروبيين الذين يحكمون على تجارة العبيد في الحجاز باستعلاء وبفرض تام لقيّمهم انما يجافون الواقع ويغلّبون نظرتهم السطحية والمستعجلة للأمور. “وأسفاً فإن غالب المستشرقين ينقلون لنا ملاحظات سطحيّة عن ممارسات الرقيق في مكة”، يقول هوروخرونيه.
ويرى هوروخرونيه انه لا يمكن ان يشتري احد في اسواق مكة اي عبد ذكر دون ارادته، لكن هذا الشرط يجري التسامح معه مع الرقيق الاناث والجواري. وان الرقيق اذا استشعر سوء المعاملة فانه يصرّ على بيعه حتى يرضخ مالكه، فيعيد تسليمه الى دكّة الرقيق. لكن ذلك كان يجري دون غطاء قانوني.
ويقول هوروخرونيه: “لا تبدو على الرقيق في البيوت اي علائم للحزن او السخط، وهم لا يسكبون دمعة واحدة على تقييد حرياتهم. لكنهم يبدأون في الاعتراض اذا ما تم اساءة معاملتهم حتى ينالون فرصة أخرى للبيع لمالك آخر”.
واذا اخطأ العبد فان عقوبة الضرب على أسفل قدميه في انتظاره. يصف هوروخرونيّه ذلك المشهد كما شاهده في احد حارات جدة: “يضجع العبد على بطنه، ويرفع قدميه للسماء، فيما ينزل المالك او احد رجاله بعصا “الفَلَكَة” على اسفل قدميّه، فيما يصرخ العبد معلناً التوبة، وطالباً العفو بإسم الرسول” .. لكن هوروخرونيه يعود ويستدرك ان هذه العقوبة هي نفسها التي يستخدمها أهالي الحجاز ازاء ابنائهم المشاغبين، نافياً اي شبهة تمييز.
ويخلص المستشرق هوروخرونيه الى تسامح المجتمع المكّي واحترامه للعبيد.. كون العديد من الجواري، انما يصبحن أمهات لمكيين، فيما يعقب العبيد الذكور أسيادهم في مهنهم ومكاناتهم الاجتماعية، بل ويحملون ألقابهم العائليّة.
وهو يضرب مثلاً بأحد “كُباريّة” مكة، ممن ينحدر من عائلة أرستقراطية مكيّة عملت في الافتاء، في وصف المعاملة فائقة الاحسان التي يتعامل بها العبيد في الحجاز، فيشير الى تعامله شديد التهذيب حد التدليل لمرافقه المملوك، في احد الغدوات التي كان يحرص على لقائه فيها بشكل دوري ابّان مكوثه في مكة – واغلب الظن ان المقصود هو صديقه الحميم السيّد عبدالله الزواوي، مفتي الشافعية في مكة.
ويذهب هوروخرونيه، الذي كان يحكم على المظاهر بشكل نسبي، ان “عبيد” مكة هم في حقيقة الأمر الموازون للخدم والمساعدين الشخصيين في اوروبا “المتحضّرة”. ويكاد يُفرط في اعجابه بالتعامل الأفضل الذي يحظى به العبيد في بيوت مكة. فهو يعلن رفضه للأحكام القاسيّة التي يُصدرها بعض المستشرقين الاوروبيين في عجالة ضد ظاهرة العبيد في الشرق، معتبراً انها مؤسسة متجذرة اجتماعياً، ولها أصولها القرآنية، التي يصعب الغاءها بجرّة قلم، او بمطالب نزقة من الغربيين.
لكنه اعتبر ان اسوء الممارسات البغيضة التي تترافق مع تجارة العبيد، والتي لا يمكن التسامح ازاءها اطلاقاً، هي ظاهرة “الخصي” لفئة الأغوات الذين يحق لهم الدخول في مجالس النساء الارستقراطيّات، او اؤلئك الذين يعملون في فِراشة الحرم المكّي الشريف.
ولم يُخفي هوروخرونيه بغضه لممارسات اختطاف الأطفال في افريقيا وبيعهم في اسواق الجزيرة العربية، لكنه اعتبر ان السؤال الجوهري يتعلق بنوعية الخطاب المعقول الذي يجدر بالغربيين استخدامه بما يساعد على القضاء على الظاهرة من جذورها، لا مفاقمتها من خلال اعلان العداء لها اعلاميا وسياسيا والترصد لممارسيها.
وهو يضرب مثالاً بالسياسات الأوروبية المتخذة في القرن الافريقي لمكافحة تهريب الرقيق. “لقد اجبرت “الجلاّبين” [اي مهربي العبيد] على اتخاد مسارات أبعد وأكثر وعورة، تصل الى اثني عشر ساعة من المشي على الأقدام للوصول الى الشاطئ، وهو ما يعزز من فرص الوفيات بين الاطفال. “ان سياسات محاربة الرقيق، لم تقلّص من اعداد المهربّين، لكنها فاقمت من اعداد الوفيّات”، يقول هوروخرونيه، الذي وجد في المقابل السياسات العربية في الحجاز اكثر انسانيّة.
هوروخرونيه خلص الى ان تجارة العبيد ستنتفي بالتنميّة البشريّة الحقيقية للمجتمعات الافريقية الفقيرة والمعوزة، “لأنها ستعلي وقتها من قيمة الحياة للأفراد” . وهو ما كان يراه مفقوداً في أبجديات الخطاب الاوروبي الذي اعتبر انه يريد معالجة المسألة بالارجاف والتهمة وفرض سياقاته المختلفة بشكل متعسف.
وبعد اعادة صدور الدستور العثماني في عام 1908م، وصعود الاتحاديين للحكم في الاستانة (اسطانبول)، تشددت السلطات ازاء تجارة العبيد في ولاية الحجاز، امتثالا لبنود الدستور.
وصدر فرمان، نُشر في صحيفة تقويم الوقائع (Taqvim-i Veqayi) في الثلاثين من اكتوبر 1909م بالتأكيد على منع تجارة العبيد والتأكيد على حريتهم اياً كان لونهم او جنسهم – بحسب الدستور – وان اي مخالفة لذلك يُعد بمثابة جريمة يُعاقب عليها القانون.
لكن مع عام 1910م يفيد تقرير للخارجية البريطانية بأن تجارة العبيد في الحجاز كانت لا تزال رائجة – وان بإستتار- خوفاً من التشديد الحكومي الأخير. ويسمّي التقرير اسماء التجار الذين يعملون في تجارة العبيد في ميناء جدة، كان أبرزهم؛ سعيد قاسم الصعيدي، ووكلائه: باسودان الحضرمي، والصافي الحضرمي.
- ما بعد الثورة العربية؛ الشريف وتجارة العبيد:
وعادت التجارة للازدهار من جديد مع قيام الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من مكة في 1916م ضد الاتحاديين. لكن الشريف حسين، ملك الحجاز وقائد الثورة، سيقوم بعد اقل من ثلاث سنوات – في عام 1919م- باغلاق سوق العبيد الشهير في مكة الذي يحمل اسم “دكة الرقيق”، وفي البدء في التضييق على نشاط التهريب.
وبزغت ازاء الترتيبات المحلية واغلاق اسواق ودكك الرقيق بدائل مبتكرة لبيع وتسويق العبيد في مدن الحجاز. كان العبيد بعد هبوطهم لأرض الميناء يوزَعون على منازل الدلالين في جدة الذين يقومون بدورهم ببيعهم سراً، لا في سوق او مزاد علني، وانما بالدلالة المباشرة.
وارتفع سعر العبد الذكر مع حلول عام 1921م في جدة الى ستين جنيهاً استرلينياً. اما العبدة المؤهلة بالقيام بأعباء المنزل فوصل سعرها الى مائة جنيه استرليني.
ومع ديسمبر 1921م عادت تجارة العبيد لسابق عهدها مع تراخي السلطات. ويفيد تقرير المايجور مارشال، قُنصل بريطانيا، الذي بعثه الى قيادة البحر الاحمر في بورسودان، بأنه لم تعد للحكومة الحجازية الهاشمية القُدرة على السيطرة على تجارة العبيد، ولا مُلاحقة المهربين، حد ان بعض رجال الجُمرك الفاسدين يُقدِمون بين فينة وأخرى على تلقي رسوم جمركيّة رسمية على شحنات العبيد، وآخرها شحنة قادمة من اليمن محمّلة بعشرين جارية حبشية – تماماً مثل الايام الخوالي قبل الدستور العثماني!
وبيع الشاب عثمان آدم -16 سنة- من قِبل آدم عبدالله البرناوي في جدة الذي كان قد احضره من سواكن للعمل معه ثم حينما تقاعس باعه بـ44 جنيهاً. وتم البيع بواسطة الشيخ محمد جبركاني احد شيوخ البرنو، فيما كان الدلّال الشيخ ادريس مالك الذي تحصّل على عمولة البيع ومقدارها أربع جنيهات.
كان من وجهاء الجاليات الافارقية المستقرّة في مكة من يتوسط ويعمل دلالاً في بيع العبيد المجلوبين من افريقية، وكثيراً ما كانوا يتخذون اساليب المراوغة والحيلة.
وفي موسم حج عام 1921م، اُختطف عبد مرافق لأحد ميسورات السودان وتدعى عيشة يوسف. اختطفه منها في جدة احمد محمد ابوبكر. وحين ارادت استعادته توسطت لدى شيخ البرنو في مكة محمد فونتامي الذي افادها بوفاة مالِك العبد، وان العبد اصبح من الآن ملكا للشريف ودفع لها تعويضا. وذهبت عيشة الى المدينة المنورة وتزوجت فيها، وحين عادت الى جدة وجدت عبدها السابق قد سُلّم من الفونتامي الى شيخ آخر للبرنو تمهيدا لبيعه لمصلحة الأول.
وفي رسالة من نائب القنصل في جدة للقيادة في بورتسودان بتاريخ 10 يناير 1922م، تفيد بوصول اعداد كبيرة من الاطفال الاثيوبيين المخطوفين للحجاز، وبشكل يومي. ورُصد في الأول من يناير وصول 37 طفل، وفي الثاني من يناير 45 طفل، وفي الرابع من يناير 5 اطفال. وصلوا جميعا من ميناء تاجورة في الصومال الفرنسية (جيبوتي)، حيث تم شحنهم بالسنابيك الى ميدي في اليمن عبر شيخ ميناء ميدي الشيخ عبدالمطلق، وفي ميناء حبل عبر الشيخ سعيد بن مساعد، احد وسطاء تجار عبيد الدنقلة بين سواحل ارتريا وتجار الحجاز.
وفي جدة كان يستقبل الاطفال المهربين السيد عبدالحميد ابن عبدالمطلوب بعد ان ترسو سنابيكهم في الرويس او جنوب جدة حيث مقبرة النصارى، خارج السور. وكان تهريب العبيد ممنوع رسميا لكن يجري غض البصر عنه مقابل رشوة مقدارها 3 جنيهات ونصف عن العبد.
وفي الحالات القليلة التي يجري اخطار السلطات بالعمليات وتقوم بمداهمتها، يجري اعتقال المتورطين عبر شرطة جدة المحلية.
وكان شيوخ تجارة العبيد في ميناء تاجورة – وهي احد مقاطعات جيبوتي الست: علي احمد، حسن محمد، داود خنبشي وجرّات العبلي.
وفزع الصحفي العربي/الامريكي أمين الريحاني ابان زيارته للحجاز وعسير في انحاء عام 1922م من تفشي داء العبودية.. فكتب وهو في تهامة تغلفه مشاعر الاحباط: “كنت أؤمل، على فرض وجود الرقيق والنخاسة، ان تكون الحكومة ناهضة للأمر متعقبة المجرمين، ساعية في محق هذه التجارة المستنكرة، الأثيمة، فوجدتها في الحجاز وعسير نائمة -وا اسفآه- او متناومة، او عاجزة. بل وجدت الحكومة أحيانا حليفة الرعاع”.
والى جانب دكّة الرقيق في سويقة، كان هناك دكك للرقيق في كل من المدينة والطائف، وسوق للرقيق في جدة على بعد خمسين مترا من دار القنصلية البريطانية. فيما كان سوق عرد في تهامة احد اعظم اسواق الرقيق، وكان سوق ميدي مركزاً لتصدير العبيد الى عقبة اليمن والعسير وجدة. يقول امين الريحاني: “واذا اراد أحد السادة الأدارسة شراء جارية حسناء يجئ الى ميدي فلا تضل خطاه ومناه”.
ووجد الريحاني بشئ من الأسف، “ان في الحجاز من يحللون ويحبذون النخاسة ومنهم من يأسف انها غير مستمرة ويلعن المراقبة البريطانية”.
وفي التاسع من مايو 1922م اخبر السير اوليفانت من الخارجية البريطانية الشريف حسين ان حكومة الملكة لن تدخل في اتفاقية ثنائية مع دولته ما لم تشدد القبضة ضد تجارة العبيد.
وفي رسالة من قائد البارجة كورنفلاور الى الشريف الحسين في 22 يونيو 1922م، نجده يدعوه للتعاون في الغاء العبيد من جديد.
الحسين ابدى امتعاضه من النظام الحالي للرق ولكنه كان يبرر بأنه كزعيم اسلامي يصعب عليه الغاء ما تجذر في الثقافة الاجتماعية للحجاز من شيوخ البادية وأعيان الحضر – فهو يكتفي بألا يُنكر ولا يؤيد. يقول المايجور مارشال، قنصل بريطانيا، انسجاماً مع تبريرات الحسين، بأنه يجب ان تكتفي حكومة بريطانيا بانتزاع ادانة أخلاقية من الحسين للرق.
واعتبر المايجور مارشال في رسالة الى الخارجية البريطانية في 29 مايو 1922م، انه ليس من الموضوعية الحكم الأخلاقي ضد الشريف ازاء ثقافة تجذرت في التربة الحجازية والعربية لقرون.
وكان من الاوروبيين في جدة من تورط في تلك الممارسة. فالقنصل الايطالي استقدم عبدة من ارتريا، وطبيب هولندي معروف يقيم في جدة اشترى جارية حبشية في نوفمبر 1921م مقابل سبعين جنيهاً ذهبياً استرلينياً.
وتعاونت السلطات المحلية في الحجاز مع الطلبات البريطانية لتحرير رعاياها – يعود ذلك لنشاط وزير خارجية الحجاز، الشيخ فؤاد الخطيب.
وكان القنصل البريطاني يرسل بأسماء وجوازات من يعتقد انهم تجار للعبيد، للخارجية الحجازية التي كانت ترد على الاستفسارات بشكل فوري.
في السادس والعشرين من ديسمبر 1922م، اشتبه القنصل بخمس تجار يحملون الجواز الحجازي من اصول حبشية كانوا في اتجاههم عبر ميناء جدة الى عدن: سراج بن بكر، عربو بن محمد، محمد وحمزة بن ثاني، وعلي بن عبدالله – وكلهم في عقد الثلاثينات، ولكنه عاد وأكد انه لا يملك اي دليل ادانة ضدهم.
وكان كثير من مهربي العبيد في تلك الفترة أحباش يحملون جوازات سفر حجازية يحصلون عليها بالحيلة او بالرشوة، مثل علي بن عبدالله الحبشي، حامل جواز حجازي رقم 11/1060 بتاريخ 26-6-1341هـ.
وصالح بن ابراهيم الحبَشي، حامل جواز حجازي رقم 3/237 بتاريخ 14/1/1342هـ. واسمه الأصلي صالح ابراهيم تراب، والده ابراهيم تراب، حبشي يحمل الجنسية الفرنسية، من كبار تجار العبيد في تاجورة. كان صالح قد هرّب الى جدة في يونيو/يوليو 1923م، مائة وثلاثين عبداً، منهم ستون امرأة، تتراوح اعمارهم ما بين 10 و 25 سنة، عبر سنبوك “فتح الخير” الذي يملكه علي محمد من خوخة اليمانية، حيث استلم شُحنتهم احد اخوته الصغار في جبل الشِحر باليمن، وانتقل بها صعوداً على ظهور الجمال الى جدة حيث التقاه اخوه صالح ووالده ابراهيم الذي التحق بهما من ميناء مصوّع. وقد بيع عبيد ابراهيم تراب المجلوبون الى جدة بأربعين الى سبعين جنيه للفرد.
كانت السلطات الفرنسية تحاول الحد من التجارة البغيضة المنطلقة من سواحلها. وقبض على المُهرب ادريس بن عبدو الحبشي، حامل جواز حجازي رقم 2/200 بتاريخ 11 المحرم 1342هـ، حال وصوله الى ميناء جيبوتي، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات مع خمسة تجار حبوش آخرون يحملون جوازات حجازية كان من ضمنهم صالح تراب الذي تلقى حكماً بالحبس مدته ثلاث سنوات.
وفي مايو 1923م، لاذ آدم بن يحيى من أهل الفاشر الى القنصلية البريطانية.
جاء آدم لمكة في 1917م وهو لايزال طفل حر تم خطفه من بلاده، وبيع الى رئيس شرطة مكة منصور بن زاهر، وظل يعمل في خدمته ست سنوات، وحينما طلب منه اعتاقه او بيعه، باعه على احد شيوخ حجاج الجاوا من المكيين، ثم استرده واخبره بانه سيبيعه لشخص اكثر وجاهة على أمل اعتاقه. وفي غضون ذلك التحق به في مكة عمه عبدالله بن محمد، والشيخ جبريل وكلاهما من وجهاء الفاشر، سعياً منهما لضمانه واثبات أصوله الحرة.
في السادس والعشرين من مايو 1923م، قدّم وزير خارجية الحجاز فؤاد الخطيب اعتذاره للحكومة البريطانية واعتمد اخلاء سبيل آدم للسودان على الفور.
- القنصل البريطاني بولارد - عهد من الترصد لمقتني العبيد:
عُيّن ريدر بولارد قنصلاً ومعتمداً بريطانياً في جدة في يونيو 1923م وبقي معتمداً حتى حصار السعوديين لجدة، قبل ان يترك منصبه لنائبه المستر جوردان، قبل سقوط جدة بأشهر معدودة في يد جيوش ابن سعود.
كان بولارد سادس معتمد قنصلي رفيع يجري تعيينه في الحجاز بعيد اندلاع الثورة العربية الكبرى التي تحالف فيها شريف مكة مع البريطانيين.. ولم يكن بولارد مثل القناصل المخضرمين الذين جرى تعيينهم عقب الثورة مباشرة، من امثال الكولونيل سيريل ويلسون، الذين عبّروا عن تجربة طويلة وعميقة في فهم الذهنية الشرقية واحترام مطامح العرب وتطلعاتهم. بولارد، على النقيض، كشف عن موقف عدائي اتسم دوماً بالصلف والتكبر الاستعماري.
اشتهر بولارد بمعاندته لمطامح الشريف السياسية حتى اتسعت الهوة بينهما، واتخذ من حوادث اقتناء وانتهاك معاملة العبيد مدخلاً واسعاً لملاحقة الشريف واعوانه وكبار التجار في الحجاز، وان كان من الانصاف ان نذكر ان كثيراً من مواقفه اتسمت -ولو ظاهرياً- بالإنسانية. بولارد لاحقاً في مذكراته التي حملت عنوان: “الجِمال يجب ان ترحل” (The Camels Must Go)، اعترف بأن الوضع بين الحسين وبريطانيا “كان مثالاً من امثلة العداء بين الشرق والغرب. وهو عداء كثيرا ما ينشأ بسبب ان كل طرف من الطرفين ينظر الى الأمور من وجهة نظر مختلفة”.
وتُظهر وثائق الخارجية البريطانيّة، ان بولارد انتظر عاماً كاملاً قبل ان يتبنى النبرة الضارية ضد اقتناء الحجازيين للعبيد.. يعود ذلك لموقف الشريف حسين المتعنّت ازاء توقيع الاتفاقية البريطانية-الحجازية الذي كان يتطور بشكل طردي.
كان الشريف حسين، يشعر بابتزاز البريطانيين له في تسييسهم لموضوع الرقيق على اراضيه. واضطر الحسين الى مواجهة ما لمس بأنه استغلال سياسي لموضوع الرقيق من قبل البريطانيين، بتسييس مُضاد.
وفي حادثة شهيرة، أمر فوراً باعتاق عبد سوداني فقط حينما كان بائعه المتورط سوداني آخر يحمل الرعويّة البريطانية، يريد بذلك خلق انطباع للبريطانيين بأن ممن يمارس تجارة العبيد أيضا ممن ينضوون تحت رعويتهم، وان ذلك لا يقف على رعايا الحجاز.
ولربما نجح الشريف في خلق ذلك الانطباع، حد ان القنصل بولارد في رسالة منه الى رمزي ماكدونالد، وزير الخارجية البريطاني(ورئيس الوزراء البريطاني فيما بعد) في الحادي عشر من يونيو 1924، أقرّ بأن الرعايا البريطانيون من هنود مكة يمارسون بيع وشراء العبيد في مكة وجدة مثل الرعايا الحجازيين تماماً، وهو يستأذن منه استدعائهم جميعا من مكة فرداً فرداً للتبيّن ما ان كان من يعمل في دورهم عبيد ارقاء حقاً ام مجرد عمال أحرار يعملون بالأجرة.
بولارد اقترح بدوره ان تمنح التابعيات الحجازية، للمطالبين بها من المهاجرين الهنود القدامى في مكة، دون ندم او تردد، كونهم قد استعرقوا في الحجاز بما يكفي، وانصهروا في تركيبة المجتمع الحجازي حتى انهم باتوا يمارسون أغاليظهم الاجتماعية ذاتها، بحسب تعبيره.
وبدأ الحسين، مع معاندة البريطانيين له في مطالبه بتسويات عادلة في كل من سورية وفلسطين، بالتعنت ازاء قبول القنصليات الأجنبية لأي لاجئين من العبيد.
وفي احد المراسلات بين حكومتيّ الحجاز والخارجية البريطانية كانت تعترض الأخيرة على الرسوم الجمركية المفروضة على العبيد في ميناء جدة، فجاء الرد في جهة أخرى تماماً حول ضرورة تقديم تسوية عادلة في سورية ضد الانتداب الفرنسي.
وخفت نشاط لجوء العبيد الفاريّن من ملاّكهم الى القنصليات الأجنبية، لتعنت السلطات الحجازية ازاء ذلك.
لكن في الخامس من اغسطس 1924م لجأت امرأة تدعى “مؤمنة” مع ابنتها الصغيرة وهي من اهل السودان الانجليزية الى دار الاعتماد البريطاني (القنصلية) في جدة تطلب تحريرها وترحيلها الى وطنها – خارقة بذلك السكون الطويل. ومؤمنة كانت قد وصلت الى مكة قبل عام عن طريق بائعها في جدة محمد باعقومة وهو سوداني. فارسل بولارد الى الشريف حسين في مكة في 13 اغسطس لاصدار اوامره الى قائم مقامه في جدة لتحريرها.
باعقومة كان قد فلت من الاعتقال في جيبوتي الفرنسية وعاد الى جدة من جديد حيث قبض عليه في قضية بيع امرأة اخرى حتى ان القنصل البريطاني عبر عن استيائه من تراخي الفرنسيين عن ضبط سواحلهم في رسالة امعتاض وجّهها الى القنصل المؤقت الفرنسي في جدة السيد كلال وهو من اصل جزائري. فارسلت الخارجية الفرنسية من باريس رسالة الى السفير البريطاني في باريس في 23 سبتمبر 1924م للتفاهم المشترك حول التعاون بين قنصلية البلدين في جدة للحد من تجارة العبيد.
كان الحسين في أواخر عهده حاسماً في منع قبول القنصليّات الأجنبية في جدة لأي حالة لجوء من الرقيق، مع وعود صارمة منه بملاحقة المهربّين. ونحن كلما اقتربنا من لحظة تنحي الحسين عن العرش ورحيله الى المنفى نلمس ازدياد حساسيته ازاء القضايا “السيادية”. يقول بولارد الذي عاصر آخر ستة عشر شهراً للشريف حسين وهو في العرش، كمعتمد قنصلي في جدة: “طيلة ستة عشر شهراً قبل تنحي الشريف حسين، فقط امرأة واحدة لجأت للقنصلية بطفلها [وهي مؤمنة السودانية] – البقية كانوا يرتعبون من الحسين ومن قبضته الحديدية وكانوا لايجرؤون على الاقتراب منا”.
واخذت قضية اختطاف فتاتين جاويّتين مسيحيتين وتهريبهما لمكة أبعاداً دولية. الفتاتان كانتا في طريقهما الروتيني لأحد جزائر ارخبيل الملايو، لكن سمساراً حضرمياً اعترض طريقهما واختطفهما الى سنغافورة ومنها الى مكة، حيث بيعتا بمقابل 500 جنيه استرليني للفتاة، لندرة الجاريات الجاوّيات آنذاك وشدة الطلب عليهن. ووصلت الفتاتان، كما تشير وثائق الخارجية البريطانية، الى نفر من آل شيبي، وان كنّا لا نعلم بالبيع ام بالاهداء – وآل الشيبي من اقدم عائلات مكة وأكثرها وجاهة بعد عائلة الشريف. وحينما وصل الأمر للسفارة الهولندية اخطرت بدورها فؤاد الخطيب، وزير الخارجية الحجازي، الذي اصيب بانهيار عصبي جرّاء ذلك الخبر، كونه يأتي في وقت حرج على الدبلوماسية الحجازية التي كانت تواجه خطراً حدودياً عسكرياً محدقاً يشي بزوال دولتها. ومرر الخطيب الخبر بطريقته للشريف حسين، وكان الخطيب يريد تخفيض الخسائر الدولية، فاستشاط الشريف غضباً واعتذر بحرارة للهولنديين وامر باطلاق الفتاتين وبتوبيخ المتورط من آل الشيبي بشكل معلن وصارم، لرغبته في اظهار ان عدالته تنسحب على الجميع.
وبعد تنازل الشريف حسين، ورحيله الى المنفى، تقاطر العبيد الى مبنى القنصلية البريطانية في جدة طلباً للعتق والترحيل الى بلادهم الأصلية. يؤكد بولارد في وثيقته التي حررها من 16 صفحة الى وزير الخارجية البريطاني: “لحظة رحيل الحسين الى منفاه بميناء العقبة تقاطر العبيد على القنصلية البريطانية، مع أقلية ارترية لجأت للقنصلية الايطالية”.
وفي الثامن عشر من ديسمبر 1924م حررت القنصلية البريطانية فردين لجئا اليها، بعثتهما الى ارتريا عبر جيبوتي، وكانا: بشير (واسمه الحقيقي ارصوره) عمره 12 سنة، ومالكه السابق: الشريف عبدالله مهنّا، وفرج (واسمه الحقيقي عنبر عبدالله) من اهل الفاشر في الطرف البريطاني-المصري ومالكه السابق: احمد الصبحي من عربان قبيلة حرب، وقد وصل الى سواكن في 25 ديسمبر 1924م، بعد عشرين عاما قضاها في إسار العبودية.
واذا كان الشريف حسين، في آخر سنواته، قد تعامل مع دعاوي اطلاق العبيد ولجوءهم للقنصليات الأجنبية بجدة بحساسية شديدة، فاننا نلمس في المقابل نبرة اعتذارية من افراد طاقمه الوزاري والاداري المقرب.
ونلاحظ وجود محاولات نبيلة من فؤاد باشا الخطيب وزير خارجية الحجاز، وعبدالملك الخطيب سفير (مُعتمد) الحجاز بمصر، وناجي الأصيل، سفير (مندوب) الحجاز في لندن، وأبناء الحسين؛ علي وفيصل وعبدالله، لطي ملف الرق في الحجاز.. لكن جهودهم بعثرتها أولويات أخرى منها القضية الحدودية مع ابن سعود وشبح الحرب الذي كان يخيّم على الأجواء، وتضعضع الاوضاع الأمنية في نواحي القبائل الحجازية الساخطة على سلطة الهاشميين خارج المدن المركزية، وتأجيل توقيع الاتفاقيات بين البريطانيين والحكومة العربية الهاشمية في الحجاز نتيجة تصلّب الحسين حول بعض البنود التي كان يراها تخدش سيادته على الاراضي العربية وتخل بوعوده لأهالي فلسطين وسورية.
وفي اغسطس 1924م تورطت امرأة مكيّة في قضية تهريب للرقيق تناولتها الصحافة الدولية بشئ من الاثارة. كانت تلك السيّدة المكيّة تمكث في جاوى، عند احد عائلاتها المحلية الميسورة التي استعانت بها لتعليم بناتها اللغة العربية وتعاليم الإسلام، وحينما همّت للعودة لمكة طلبت منها العائلة ان تصطحب معها احدى بناتها لتقضي فريضة الحج معها، لكن السيدة عند وصولها الى مكة ادعت ان الفتاة من أملاكها وعاملتها على هذا الاساس. ووصل اخو الفتاة المختطَفة للحج، وحاول سراً تهريبها لكن السلطات اوقفته في بحرة (في الطريق بين مكة وجدة) واعادت الفتاة لمنزل سيدتها التي تمسّكت بها.
كانت صحيفة الديلي كرونكل البريطانية قد نشرت في السادس من نوفمبر 1924م، عبر مراسلها الجديد في البحر الأحمر – ومقره السويس، مستر جورج رينويك، تقريراً لافتاً تحت عنوان ساخط: “رعايا بريطانيون عبيداً للعرب” .. كشف فيه عن ممارسات الخطف التي تجري في الاراضي البريطانية في آسيا وافريقيا لعبيد يُباعون في الجزيرة العربية. وذهب التقرير الى ان تلك التجارة انما “تحظى بتشجيع ملكي من الحسين.. حيث ان احد وزراء حكومته يملك وحده 14 عبداً.. بل ان الحسين، نفسه، وهو في طريقه الى منفاه اصطحب معه عبيده الأفارقة”.
وارسل السيّد ناجي الأصيل الى السيد ماليت في الخارجية البريطانية، رسالة يعبّر فيها عن استيائه عما قرأه في صحيفة الدايلي كرونكل عن تجارة العبيد في الحجاز.. مؤكداً موقفه الشخصي المناهض لتجارة العبيد ومعلنا ترحيبه للتعاون مع وزير الخارجية الجديد في اضافة بند في اتفاقية الحجاز وبريطانيا تُبطل ممارسة العبودية.
لكن مكة كانت اثناء ذلك قد سقطت في يد جيوش الإخوان ضداً على حكامها الهاشميين الذين تراجعوا الى حصون جدة. وتواصلت القنصلية الهولندية مع الخارجية السعودية وممثلها آنذاك الشيخ فؤاد حمزة، الذي كان يواجه امتحانه الدولي الأول في قضية الرقيق الحجازي، فوافق على الفور على اطلاق سراح الفتاة الجاويّة لكنه امر بتسوية لمصاريف سكن ومعيشة الفتاة في مكة تُدفع لسيّدتها.
وفي عام 1924 صعد نجما: المنشي احسان الله وهو مسؤول قنصلية بريطانيا في مكة، والسيد يوسف خان من وجهاء مكة من أصول هندية، وكانا يقاومان، بكل استنارة، ممارسة الرق في مكة.
ومع انتقال الحكومة الهاشمية من مكة الى جدة، وانتقال العرش من الحسين الى ابنه علي، بدأت مساعي بولارد لملاحقة ملاّك العبيد في الحجاز تأخذُ أبعاداً دولية.
ومع بدايات حصار جدة ارسل بولارد رسالة الى الحاكم المدني لولاية البحر الاحمر هاويل اسك، في 20 يناير 1925م، يخبره انه لن يقوم باستقبال اي من العبيد اللاجئين الى دار القنصلية على الفور كونه لايريد ان تمتلأ القنصلية بالعبيد الفارين في وقت حرب مما سيعقد المساعي الدبلوماسية، لكنه في المقابل سيتقيد بما نصت عليه اتفاقية بروكسل الأخيرة في الغاء الرق، باعتاقهم واطلاقهم احراراً في جدة – ولكنه اعترف بعدم جدوى ذلك كون العبيد المعاتيق يعودون الى ملاكهم السابقين تحينا لأفضل فرصة لترك الحجاز الـى بلادنهم الأصليّة.
واعلن بولارد بأن اول مسألة سيفاتح فيها ابن سعود عند سقوط جدة هي حثّه على الغاء العبودية. لكن بولارد اعترف بضعف موقفه التفاوضي، كون التقارير الصادرة مؤخرا من جنوب افريقيا تفيد بمهازل يقيمها ابناء جلدته البيض ضداً على السود، لكنه قرر انه سيركّز علـى قضية الغاء الرق في الحجاز من منطلقات انسانية صرفة لا مُسيّسة.
وكان بولارد يتنبأ بسقوط جدة الحتمي في يد جيش الاخوان، وهو لم يكن يخفي بغضه للعائلة الهاشمية في الحجاز.
واعترف بولارد بأن الملك الجديد علي بن الحسين، كان نظرياً اكثر تحررا وانفتاحا من والده، وبانه ضد تجارة العبيد.
وكان علي، قد استهل ولايته الدستورية على ما تبقى من اراضي الحجاز، باعطاء وعود للقنصلية البريطانية تقضي بتحرير كل الرق الموجودين في الحجاز، وإبطال تجارة العبيد ومعاقبة ممارسيها، حال انتهاء الأزمة القائمة واسترداد سلطاته لعافيتها. ثم اصدر قراراً نافذاً من حكومة الحجاز الدستورية يمنح العبيد حق الجوء للقنصلية البريطانية من جديد، خلاف التصلّب الذي ابداه والده.
ومع مارس 1925م واشتداد أزمة حصار جدة، لجأت بعض عوائل الحجاز الميسورة الى مصر طلباً للسلامة واعلاناً للحياد. وارسل بولارد القنصل البريطاني في جدة الى المعتمد السامي البريطاني بالقاهرة في العاشر من ابريل يناشده بايقاف كل من يصطحب عبيده معه وبأن يرغمه بقوة القانون على اطلاق سراحهم.
كان الفارون من الحجاز يذهبون الى موانئ مصر والسودان كمجموعات عائلية تضم عشرين فرداً في المعدّل يرافقها خدم شخصيّون يدخلون مصر بجوازات “خدم” – لكن بولارد كان يصّر على ان هؤلاء رقيق تم شراؤهم.
واخبر القنصل الهولندي في جدة، بولارد، بأن المطوّف الحجازي المعروف، السيّد محمد نور جوخدار يصطحب معه جارية جاوية اسمها “موار” اعيد تسميتها بنعيمة وانها تعمل عنده كجارية، وأن نور جوخدار في طريقه للسويس مع عائلته. فطالب بولارد من حاكم السويس تعقبّه ومعاقبته.
وفي رد من حاكم السويس في الثاني والعشرين من ابريل 1925م الى قنصلية جدة.. أفاد بانه جرى تعقب الشيخ محمد نور جوخدار وتحديد مقر اقامته بفندق الحميدية بالسويس حيث كان يقطن مؤقتاً كلاجئ سياسي مع عائلته وخدمه ومن ضمنهم نعيمة، منذ الخامس من مارس 1925م قادمين علـى متن الباخرة الايطالية إلتريسو. لكنهم وجدوا بعد اجراء التحقيقات سلامة موقفه، ورضا نعيمة التام بأوضاعها.
وأقرّ الشيخ الجوخدار في سير التحقيقات، بأنه اشترى نعيمة كجارية قبل عامين، من تاجر الحبوب الجدّاوي مصطفى اسلام مقابل خمسين جنيه استرليني، ثم منحها حريتها، وقام بتوظيفها لديه للخدمة المنزلية بناء على طلبها ومقابل راتب شهري قوامه 3 ريالات مجيدية، وانه لا يعرف والديها وان كان يظن انهما يقطنان في جاوى. واقرّت نعيمة، وهي شابة في الخامسة والعشرين، بأن اسمها الفِعلي موار، وانها ولدت في جزر الهند الهولندية وانها حينما كانت في الخامسة اختطفت عبر امرأة اسمها رحمة وهي التي قامت بتهريبها الى مكة حيث مكثت معها اثني عشر عاما ثم بيعت لأخت الشريف حسين التي باعتها بدورها للتاجر مصطفى إسلام ومنه لمحمد نور جوخدار. وان اسم والدها محمد طاهر من بوقس، وهو من رعايا هولندا. وان ابن مالكها السابق كان يتسرى بها. أما محمد نور جوخدار فقد اعتقها لوجه الله وان معاملته لها انسانية ونبيلة. وأكدّت بانها حرة بشكل تام وانها لا تريد ان ترفع اي دعوى وانها ترغب في الاستمرار كعاملة مع بيت جوخدار.
وأرسل بولارد الى مُفوّض الشرطة في بومباي في 29 يونيو 1925م يطالبه بتعقب أسرة الحاج عبدالله علي رضا، قائمقام جدة، ووكيل شركتيّ البواخر: ترنر مورسون وخطوط ناسا للملاحة البحرية في جدة – التي رحلت بحراً الى بومباي، يرافقها سودانيتان وامرأة يمنية اسمها “صفرار”، وحبشيّان هما: ريحان وتحسين – يعتقد بولارد بأنهم رقيق. كما طالب بولارد في ذات الرسالة بتشديد الرقابة على عوائل التجار الحجازيين القادمين الى كراتشي وبومباي هرباً من الحرب العامة، وضرورة التأكد من ان مرافقيهم الافارقة مجرد خدم يعملون مقابل أجرة متفق عليها لا رقيق.
وفي رد من شرطة بومباي في 26 اغسطس 1925م أفادت بتحرّيها الواقعة، لكنها برأت ساحة عائلة علي رضا كون الجوازات التي حملها الخمسة المذكورون تشير الى ان وظائفهم “عمال منزل” والى اقرارهم الشخصي بذلك، كما أكد مأمور الشرطة الى صعوبة اثبات عكس ذلك في اي محكمة هندية.
وحاول سكرتير المستعمرات في سنغافورة ملاحقة تاجر الأخشاب الشهير ومتعدد الجنسيات السيّد ابراهيم عمر السقاف على خلفية بلاغات من شرطة بنانغ حول تهريبه لفتيات صينيات صغيرات من سنغافورة الى مكة.
كان السيّد (الداتو) ابراهيم، اكبر ابناء السيّد عمر السقاف، يتحدر من عائلة حضرمية الأصل استعرقت بين مكة وسنغافورة، ولها اعمال تمتد على طول امتداد فضاء المحيط الهندي الكبير. والسقّاف على امتداد ثروته وجاهه كان محسناً كبيراً، ينشط في مجال تبني الفتيات الصينيات الفقيرات لتحسين شروط معيشتهن.
وفي 17 مايو 1924م، تابع سكرتير المستعمرات بلاغ اختطاف فتاتان صينيتان اسمهما مهجة ووهبة واعمارهن 16 و17 على التوالي، عبر السيد سالم بن شيخ السقاف، وثبت مع التحقيقات انهما كانتا ابنتان له وزوجه نور بنت طاهر السقاف بالتبني وانهما انتقلتا للعيش في قصر ابراهيم السقاف في المعابدة في مكة. وعبثاً حاول السكرتير اثبات انهما مسترقتان – الا انه عاد واعترف انه لا يملك اي دليل ادانة ضد السيد السقاف.
وكان الصينيات مرغوبات للتسري عند العرب حيث تصل اسعارهن الى مائتي جنيه كما في عمريّ مهجة ووهبة.
وفي الثاني من يونيو 1925م ارسل القنصل بولارد من داخل سور جدة رسالة الى سلطان نجد، عبدالعزيز ال سعود يطلب منه تحرير مجموعة من الحجاج النيجيرين من رعايا بريطانيا الذين كانوا في طريقهم من المدينة الى جدة سيراً على الأقدام عندما أغارت عليهم جماعة من البدو وخطفتهم واستعملتهم كعبيد في ميناء القضيمة، وانهم محتجزون الآن في قصر بين رابغ وجدة في منطقة اسمها الخريبة [بئر مبيريك] من املاك شخص اسمه عبدالله. فابدى الطرف السعودي تعاوناً في ذلك.
وهربت “زهرة” من منزل آمنة بنت محمد الفضل في 23 يوليو 1925م ولجأت الى القنصلية البريطانية في جدة وطلبت اللجوء السياسي وارسالها الى وطنها السودان/فاشر. وقد ارسل المعتمد البريطاني رسالة بذلك في اليوم التالي الى الشيخ فؤاد الخطيب.
وتسببت حادثة “زهرة” في احتجاج بعض الأهالي النافذين ضد تراخي حكومة الشريف علي.
وفي السادس والعشرين من اغسطس 1925م، في أوج حصار جدة، طلب الملك علي من نائب القنصل البريطاني المستر جوردان التوقف عن استقبال اللاجئين، غير انه وعد بابطال العبودية تماماً بعد انتهاء الحرب، بيد انه لا يريد اضعاف موقفه مع التجار والمحليين في الوقت الحالي. وارسل المستر جوردان، وكان اكثر تفهماً من بولارد لوجهة نظر الملك علي، الى القيادة البريطانية في السودان مؤكداً موقف الملك علي المناهض للعبودية، انما المشروط بنظرة واقعية. “الملك علي لا تروقه مظاهر العبودية المنتشرة، لكنه ايضا اقرّ بصعوبة الغاء ذلك بشكل قاطع لتجذّر الممارسة لقرون، فيما المسألة ينبغي مباشرتها برفق وتدريج، وانه نظرا لخصوصية المسألة، فانه يريد تجّنب اصدار اي قرارات قد تضعف من شعبيته اثناء الأزمة السياسية المندلعة .. لكنه وعد بالغاء الرقيق فور استقرار الحجاز وانجلاء أزمته”.
لكن الخارجية البريطانية التي كانت قد رجّحت موقفها في الحرب لصالح ابن سعود، لم تعطي بالاً لمطالب الملك علي. وفي تلغرام من الخارجية البريطانية، الى نائب القنصل أبدت الخارجية عدم اقتناعها بالمبررات التي ساقها الملك علي، وأفادت بأن القنصلية يجب ان تستمر في استقبال اللاجئين وفي ارسالهم الـى ميناء سواكن بعد تحريرهم.
وفي سبتمبر 1925م لجأ السوداني “بلال” الى القنصلية البريطانية هارباً من مالكه الشيخ دخيل الله، والأخير تاجر مواد غذائية بشارع قابل التجاري، فوضعت القنصلية بلال في احد البواخر الراحلة لسواكن، غير ان دخيل اتهم بلالاً بسرقة صندوق جواهر منه، فطالبت الخارجية الحجازية عبر فؤاد الخطيب باعادته من الباخرة للمثول امام قاضي المحكمة الشرعية، ولكن لمماطلة المحكمة، بعد احدى عشر يوماً، من اصدار اي حكم، قام جوردان بتحدي السلطات الحجازية وترحيله الى السودان.
وكتب جوردان في 14 سبتمبر شارحاً الى الخارجية البريطانية: “لقد اضحى من عادات ملاك العبيد اتهامهم بالسرقة عند فرارهم والحصول على احكام في صالحهم من المحكمة الشرعية، التي تنحاز دوما للملاّك”.
كان ذلك التضعضع والارتباك المتصاعد من طرف القيادات والمؤسسات والأهالي كناية صريحة عن أفول عهد على الحجاز، وبداية عهد سياسي جديد.
في 21 ديسمبر 1925م سُلمت مفاتيح جدة سِلماً الى السلطان ابن سعود، وبعدها بأيام اُعلن عن تأسيس الكيان الجديد “مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها” وهو بداية العهد السعودي على كامل أراضي الحجاز.
وتسارع نشاط الاعتاق بين اهالي مكة، وهناك من باع جواريه بنصف اسعارهن، حينما نزحوا الى جدة في جماعات قبيل دخول جيش الاخوان الى مكة. وهبط سعر الجاريات في دكة الرقيق في مكة من سبعين جنيهاً الى ثلاثين.
وكان المطوفون يقنعون اغنياء الجاوا باعتاق العبيد المملوكين في مكة كونها مثل الصدقة الجارية.
وتكرر هذا النمط قبيل سقوط جدة. ونلاحظ في نوفمبر 1925م في اوراق المحكمة الشرعية في جدة تسارع في نشاط اعتاق العبيد.
واعتق السيّد علي بن عثمان شطا، الذي لجأ كباقي أهل مكة الى جدة عند دخول جيوش الاخوان، في 1925م، زهرة عبدالله التي كان قد اشتراها من محامي الملك حسين في مكة الشيخ عمر، واصدر لها حجة صادرة من محكمة جدة الشرعية، لكنها آثرت البقاء معه والعودة الى مكة مع آل شطا حينما تستقر الاوضاع فيها.
وتحرر كثير من العبيد بعد سفر اهل الحجاز ذعرا الـى موانئ مصر والسودان.
واعتق الشيخ احمد بن محمد سعيد تاج (اخو جمال وعبدالغني تاج الدين، وآل تاج الدين من اثرياء مكة الذين يتاجرون مع سنغافوره وبتافيا)، جاريته زهرة عبدالله السوداني وابنتها القاصر فريدة سالم، ودجد عبدالله من بتافيا وعبدالقاهر السوداني واثنتين أخرتين، كما تفيد صكوك المحكمة الشرعية.
وكان يمكن اتلاف الصكوك الشرعية او مصادرتها بكل سهولة. وبمقابل مبلغ بسيط من الرشوة كان يمكن اتلاف اي ارشيف في المحكمة الشرعية بجدة.
ونشطت القنصلية البريطانية في ارسال المعاتيق الى بلدانهم. وفي رسالة من القنصل في 24 ديسمبر 1925م، الى السادة جلاتلي هنكي في جدة وكلاء الشركة الخديوية للملاحة، يطالبهم بتوفير تذاكر لنقل معاتيق الى سواكن: 26 شخص منهم: بخيتة ام مسعود، عبدالمولى بن سالم، عبدالله القصيمي، فرج لحياني، فرج الله، بلال، مبارك بن علي، ابراهيم تكروني وآخرون.
ورحب ابن سعود في حوار مع القنصل البريطاني بجدة بالتشدد ازاء منع دخول العبيد الى الاراضي الحجازية ولكنه في المقابل اعتقد ان المنع يجب ان يجري بالتدريج كون اي خطوة استفزاز قد تؤلب ضده قبائل الحجاز التي لا تزال تعتمد على العبيد.
وأشار القنصل البريطاني للملك برصدهم لوكلاء نجديين ينشطون في تجارة العبيد في عمان والاطراف الشمالية من الخليج العربي وتوريدهم لنجد، وأبدى الملك تفهمه وتعاونه.
وفي رسالة من السير اورفالنت من الخارجية البريطانية الى القنصل البريطاني في جدة في 22 ابريل 1926م، أملى عليه سياسة بريطانيا الجديدة مع ابن سعود. وطالبه باستصدار قرارات منه بتشديد الحدود لمنع دخول العبيد المهربين للحجاز وعسير، اضافة الى منح القنصلية حق تحرير وتسفير من يلجأ اليها .. ثم كخطوة تالية اعلانه لالغاء العبيد مستعيناً ربما بفتوى من علماء مكة، وعلى نهج ما فعلت قبرص في قراراتها لالغاء الخدم المرغمين في 1879م.
على اثر رسالة اورفالنت قام جوردان نائب القنصل ببعث خطاب الى الملك عبدالعزيز في 11 مايو 1926م، بذلك الامر.
كانت سياسة ابن سعود هي عدم حرق المراحل والحرص على معاملة العبيد معاملة انسانية.
وفي اول طلب رسمي للحكومة السعودية بالحجاز تقدم به نائب القنصل جوردان في 25 مايو 1926م، باعتاق المدعو عثمان موسى من اهل سواكن الذي اُختطف عام 1918م عبر الريّس عبدالخير بن الحسين، مالك السنبوك “خضرا” وبيع في ساحل ينبع لمازن بن عمر من اهل ينبع. وان عم عثمان: حسن عبدالفرج قد وصل ينبع لبحث سبل اعتاقه انما دون فائدة.
وجاء في جواب الملك عبدالعزيز بعد اربع ايام انه اصدر اوامره للسلطة المحلية في ينبع لتسليمه لعمه على الفور.
وتفيد احصائات القنصلية البريطانية انه خلال شهريّ سبتمبر واغسطس من عام 1926م تم تحرير 97 شخص عبر قنصلية جدة.
- معاناة مزدوجة:
وليس كل من تحررهم القنصلية في جدة وتعيدهم الى ميناء سواكن تنتهي معاناتهم عند ذلك الحد.
واُعتق سعيد أمان واطلق سراحه واُعيد للسودان في السابق لكنه عاد ادراجه الى القنصلية البريطانية في جدة بعد ستة اشهر يطلب اللجوء مجدداً!
حين وصل سعيد الى سواكن، بعد تحريره في المرة الأولى، عمِل معاوناً للناخوذة احمد مبارك الجهني على متن السنبوك “خضرا” من املاك محمد البربري من اهل سواكن. وفي رحلة تحمِل شحنة فحم متجهة الى جدة وبدلا من العودة مباشرة الى بورتسودان كما كان مجدولاً، انعطف السنبوك الى رابغ لتحميل بضائع ليجري تصريفها في جدة وبورتسودان على التوالي. ولكنه في الطريق توقف في قرية الرويس على مقربة من جدة فركب منها مصادفة مالك سعيد الذي فرّ منه في السابق، واسمه حامد بن قريب الجدعاني ومعه ثلاث عُربان هم: ضيف الله وحميد وحمدان، وكلهم من الجداعين. وحينما رأى الجدعاني عبده السابق، قام بارشاء النوخذة بـ 6 جنيهات استرليني مقابل تمكينه من مصير سعيد، رغم اعتراض ركاب السنبوك. وقام الجدعاني ببيعه بعيد ذلك في مكة الى مالك جديد اسمه حسن أبو النجا، من اهل مكة،الذي فرّ سعيد منه بدوره من جديد الى دار القنصلية البريطانية التي وضعته للمرة الثانية في غضون ستة أشهر على متن الباخرة المنصورة التابعة للشركة الخديوية في طريق حريته الى بورتسودان.
- أفارقة الحجاز:
وتوزع أفارقة مكة على جماعات اثنية منغلقة على نفسها منذ القرن الميلادي التاسع عشر، لكل جماعة منها شيوخها وشبكتها الاجتماعية الخاصة – تمركزت غالبيتها في منطقة البير المالح امام المنشيّة بحارة المسفلة او في حارة جرول. كان لكل جالية افريقية في مكة شيخها (كبيرها) الذي يفصل في خلافاتها بأحكام قضائية موازية، يعاضده نقيب مدجج بعصا، يقوم مقام السلطة التنفيذية.
ونحن نعلم ان من شيوخ البرنو في مكة في العشرينات الميلادية من القرن الماضي الشيخ محمد فونتامي (أو: فولاني) والشيخ محمد جبركاني، فيما كان شيخ الفلاتة: الشيخ سمبو.
وساهم الرقيق من افريقيا الشرقية والسودان واثيوبيا وافريقيا الغربية (التكارنة) في اغناء التنوع الثقافي والإثني لمكة والحجاز.
ومنذ عام 1885م وصف المستشرق الهولندي سنوك هوروخرونيه ملامح الحياة الاجتماعية للجاليات الافريقية/المكيّة وكشف شيئاً من مظاهر ثقافتهم الفرعية الهجينة.
فهم يقومون باحتفالات شعبية اسبوعية تبدأ من ظهيرة يوم الخميس وتمتد الى تباشير صباح الجمعة. وكان لهم في مكة ما اسماه هوروخرونيه بـ”الاوركسترا الافارقية“: فيلعب الزنوج في مكة بآلة العود “الطنبورة” المكيّة، مرفقة بآلات الطبل، فيما يرتدي الراقصون أحزمة مشغولة بحوافر الغنم تُخرِج قرقعة أثناء الرقص والاحتكاك… ثم يرقصون رقصة المزمار البلدي. وبين دورات الجوش يحتسي لاعبو العصا من شراب محلي مُسكر يسمّى البوظة. ثم يعودون ادراجهم للعمل مع ظهيرة يوم الجمعة.
ويقول هوروخرنيه: ومأكلهم متوفر ولابأس به. وهم بعد تحريرهم يسعى الفرد منهم للعمل بالأجرة كعمال بناء او سقائي مياه، الخ. فيما اغلبهم يفضلون البقاء تحت وصاية الأسر التي خدموا فيها خصوصا اذا قرروا الزواج.
ويتصدى الزنوج ذو المواهب الأكثر بروزاً للأعمال المنزلية او يعملون كأمناء متاجر ومحاسبي دكاكين تجارية.
ان اثرياء مكة يحبذون ملء منازلهم بالعبيد، وهؤلاء العبيد بدورهم يعيشون حياة مترفة مقارنة بغيرهم ويجري التعامل معهم كأفراد من العائلة. اما الكفؤين منهم فيتحولون تلقائياً الى مسيّري شئون التجارة للأسر التي يعملون فيها حتى يغدو “العبد” في كثير من الحالات مجرد لفظ خالٍ من اي مدلول.
وأغلب عبيد المنازل يجري اطلاق سراحهم حال تجاوزهم سن العشرين، نظراً لخوف ملاّكهم من استمرار اختلاطهم كبالغين مع نساء الأسرة وجواريها، ثم ان التحرير يبقي العلاقة مستمرة انما يمنح المّلاك فسحة من الثقة مع الأفراد المُحررين.
ويتنافس المعاتيق مع الرجال المكيين في كافة مجالات الحياة بنديّة متساوية.
ولم تفرّق لوثة الاسترقاق بين أي طرف، كما انها لم تقف حكراً على اجناس الأفارقة والجاوى.
وارسل عيد بن سالم احد عُربان المدينة المنورة الذين تم أسرهم في احد معارك الاخوان وتم بيعهم، برسالة “نداء” بعثها في الحادي عشر من ابريل 1926م الى الوكيل القنصلي البريطاني في لنجا (على سواحل فارس) يخبره بملابسات اختطافه.
حينما حاصر جيش السلطان بن سعود المدينة كان عيد يخدم في حامية مدائن صالح ومع سقوطها تم تسليمه لجيش ابن سعود فنُفي الى قطر وهناك تملكه محمد بن فضال لمدة شهر ثم اخذه في قارب لثلاث اشهر بين جزر اللؤلؤ، وهناك حاول بيعه في جزيرة الشيخ (وهي جزيرة فارسية) لكنه هرب قبل ان يوقف في ساحل فارس ليعود ويمكث مع مالكه في نخيلو، حتى هروبه الثاني الان الى لنجا حيث يريد حسم امر حريته واثبات هويته.
و خدم عيد بن سالم في جيش الشريف حسين النظامي منذ 1915م حين كان في سن الخامسة عشر، وأكدّ في رسالته الى انه شخصية معروفة يمكن ان يضمنها هؤلاء السادة من اعيان المدينة: الشريف شحات، والشريف ناصر، واسعد بن طاهر سنبل وعبدالمحسن بن طاهر سنبل. وان عمّه هو جمعة بن شليّه واخوه هو عايض بن سالم.
وسمّت وثائق الخارجية البريطانية، في مايو 1926م، في رسالة للكولونيل بريدو، المعتمد السياسي في الخليج، اسماء تجار نجديون وحساويون يتاجرون في تهريب العبيد من سواحل الامارات الى دواخل نجد: عجيل النجدي في دبي، ومحمد القفيدي في دبي والشارقة والبريمي، وبن عتيق في الشارقة وعجمان، وعبدالله الطويل في الشارقة، ومحمد بن عبدالله النصيبي في عجمان.
ووقّعت حكومة الحجاز، تحت الادارة السعودية الجديدة، اتفاقية الغاء الرق في جنيف في سبتمبر 1926م.. لكن لحداثتها في الحجاز الذي كان يدخل مرحلة سياسية انتقالية، لم تعطى الاتفاقية اي عناية، فاُهملت.
وفي عام 1926م استخدمت حكومة التاج البريطاني اسطولها الرابض في مالطا لمراقبة تجارة العبيد في البحر الاحمر. كانت بريطانيا لا تزال تُحكم السيطرة على البحر الاحمر، الشريان الامبريالي الاكثر اهمية لها.
ومخرت البارجة كورنفلاور (العنبر) القادمة من مالطا العباب بين عدن وجدة وبورتسودان. اما البارجة داهيلا (زهرة الأضاليا) تركت مالطا للبحر الاحمر في 1927م.. وآبت البارجة كليماتس (الياسمينة) من ميناء بورتسودان الى مالطا عبر جزر كمران اليمانية.
وكان متعهدو نقل العبيد بين ضفتي البحر الاحمر متى ما صادفوا بارجة حربية بريطانية، فانهم يوعزون في فورهم للعبيد بسرعة الاختباء، بعد ايهامهم بأن هؤلاء الرجال “البيض” انما هم من فصيل “أكلة لحوم بشر”.
ومن سخرية الأقدار ان البارجة كورنفلاور التي كانت تُستخدم للتفتيش عن العبيد المهرّبين في سنابيك البحر الاحمر، كانت هي من تولى نقل الشريف علي بن الحسين، آخر ملوك الحجاز الهاشميين الى منفاه الأخير في 25 ديسمبر 1925م.
وفي مايو 1927م اعترفت بريطانيا رسمياً بالحكم السعودي لمملكة الحجاز ونجد. وأصبح السير اندرو رايان، ممثلها في قنصلية جدة، أول مسؤل دبلوماسي رفيع بعد التحولات السياسية الأخيرة وصعود ابن سعود على عرش الحجاز.
وتم توقيع الاتفاقية البريطانية-السعودية، فيما يعرف بـ”اتفاقية جدة“. وجاء في مادتها السابعة ان “يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بأن يتعاون بكل مالديه من الوسائل مع صاحب الجلالة البريطانية في القضاء على الاتجار بالرقيق”.
لكن في السابع من يوليو 1927م قام السنبوك الشراعي “سلك الهوا”، الذي يملكه حاجي محمد، ويقوده الناخوذة محمد صالح الدنقلي، بنقل 75 عبد اثيوبي من أملاك التاجر احمد عمر، الذي جلبهم من جيبوتي، بالقرب من تاجورة، مورّداً اياهم الى موانئ زيلع (الصومال)، وأوبخ (جيبوتي) ومنها الى المخا (اليمن) ومن الأخيرة الى الحجاز بالتهريب.
وقدرت الوثائق البريطانية انه في عام 1927م وحده تم تهريب ما بين ثلاثمائة الى اربعمائة عبد بين اثيوبيا وحدها الى موانئ الجزيرة العربية.
وكانت آلية تهريب العبيد الاثيوبيين تجري كالتالي:
يُخطَف العبيد الاثيوبيون وخاصة البنات الصغار من انحاء أديس أبابا الغربية: من جماعات كافا وولغا وبني شنقول (وهؤلاء مقرّهم غرب اثيوبيا وهي منطقة تتبع شيخ الخوجلي الذي كان يفرض رسوم ضريبية على تجار العبيد فيها) – وكلهم من اصول عرقية زنجية يُسَمون باللغة الأمهرية بجماعة الشنقيلة – وهم ليسوا حاميين مثل جماعات الجلاس، فالجالاس والأمهريين هم من يخطف العبيد الزنوج ويتاجر بهم – ثم يعبر العبيد المخطوفون في مسارات سريّة الى شمال اديس أبابا حيث اسواق العبيد في باتيس وداوا (مناطق تابعة للعيسى) ومنها يساقون الى تاجورة من خلال التُجار الدانقلة.
في تاجورة يجري تنظيم العبيد في جبل الغواد – ويفرض عليهم سلطان راهيتا ضرائب تجبى عبر شيوخ قبيلة العيسى الصومالية.. ثم يباع العبيد الى التجار العرب في جيبوتي مقابل 160 دولار للرأس. ثم لا يبعثون من موانئ تاجورة الرئيسية مباشرة توجساً من الرقابة البحرية، فيرحلون بدلا من ذلك الى رأس دمار حيث يفرض سلطانها المحلي ضريبة اضافية عليهم. وحينما تهب الرياح الجنوبية على البحر الأحمر بين شهري نوفمبر ومارس، تنشط السنابيك وترفد سواحل جيبوتي موانئ الجزيرة العربية بأسراب العبيد والجواري صغيرات السن.
وكان سلاطين الدناقلة في ساحل جيبوتي يتقنون صناعة النعل والسِكافة بشكل ماهر، لكنهم تورطوا الى جانب ذلك في تجارة وتسويق الجواري البغيضة. وكانت الحكومة الفرنسية في جيبوتي في فترة من الفترات تقاسم السلطان الدنقلي ارباحه من تجارة العبيد.
وتحمل السنابيك في البحر الأحمر الكثير من الحصى الصغير (الصابورة) التي تستعمل كثقل الموازنة، وكانت تستخدم لتقييد ايدي العبيد.
وفي الحجاز تكون اقرب الموانئ لهم: القنفذة والليث وراس الأسود جنوب جدة، ويرسون بأعداد أكثر في الاخير، ومنها يجري تهريبهم الى اسواق جدة. وتصل اسعارهم في جدة الى ستمائة دولار. ويباع أعداد منهم للسوق المحلي، وجزء آخر يشتريه حجّاج اسطنبول والقاهرة وينقلونهم معهم الى ديارهم. أما من يبقى يُعاد توزيعه الى المخا.
وفي هذه الفترة كانت قبيلة الزرانيق البحرية جنوب الحُديدة من اكثر القبائل استهلاكاً للعبيد في الجزيرة العربية.
ولا تقف طرق التهريب على ما سبق. ومن طرق تهريب العبيد الذين يجري شراؤهم بشكل فردي: رشوة القضاة في تاجورة بخمس او عشر دولارات مقابل ان يصك لهم ورق زواج مع الفتيات فيتم تهريبهن بأوراق رسمية.
وفي الضفة البحرية المقابلة من الجزيرة العربية كان يُخطف صغار الهنود والبلوش لاستخدامهم في العمل في قوارب صيد اللؤلؤ بالبحرين والكويت. وفي 1928م كان عبدالله بن محمد دوار، في دبي، هو أكبر وكيل لبيع العبيد المجلوبين من كراتشي.
- سنابيك البحر الأحمر - المتاجرة في كل شئ:
كانت السنابيك في البحر الاحمر تنقل بين موانئ راس المدر وعدن والحديدة والمخا وجدة وعصب وجيبوتي – كل من السكر والتبغ والكيروسين (الجاز) والقهوة والحبوب والتمور، الى جانب العبيد. وترفرف على صواريها اعلام: مملكة الحجاز او ايطاليا اوالحكومة العربية او دولة الإمام.
وفي ميناء جزيرة بريم في مدخل باب المندب كان وكلاء تجارة العبيد: شيخ سعيد وهو وكيل السنبوك “متساهل” لمالكه محمد هادي في تاجورة، ينقل الخشب والفحم. وعبيد علوي الذي اقلع لاحقاً عن تهريب العبيد وبات يعمل في صيد الاسماك بالقرب من جزر كمران. وفي جيبوتي الشيخ ابراهيم صالح ومعه عشرون رجلاً مسلّحاً.
وكان يسيطر على ساحل تاجورة: الشيخ محمد قاسم الدنقلي والشيخ عبده داود الدنقلي.
وفي عام 1928م تنقّل وكيل بريطاني سري بين مقاهي جيبوتي المرصوصة على الميناء واعطانا صورة عن الحياة الاجتماعية لنواخذة السنابيك فيها.. وذكر من كبار النواخذة في حينه:
ابوخليل، وهو مالك وناخوذة سنبوك “صاح الله” في جيبوتي وعليه علم ايطالي.. ومثله محمد شحيم، وهو دنقلي، كان ناخوذة لأحد السفن الفرنسية لكنه يملك الان سنبوكاً اسمه “زاحف” وعليه علم عربي – وهو ينقل عبيد احيانا.. وعلوي حكمي وسنبوكه اسمه “الهبوب” وعلمه عربي.. وأحمد سيموح كان وكيلاً تجارياً في الميناء، يعمل لصالح الشيخ العيسى الثاني والشيخ ابوبكر الثالث وهما رجلان مُسلحان يعملان في تجارة السلاح والعبيد، يحتكران التجارة الذاهبة لميناء الطائف اليمني التاريخي (في حدود الحديدة وهو غير مدينة الطائف الحجازية)، عند رجل محلي هناك اسمه احمد فتياني وهو شيخ الطائف.
وهناك سنبوك “المايل” للناخوذة عمر سعيد الوحيش ويعمل مع تجار تاجورة وزعماء العفر (الدناقلة).
- الثلاثينات الميلادية .. انقلاب في الوعي وتبدل قيمي:
وتشير احصائات لجوء العبيد لدار الاعتماد البريطاني في جدة الى تناقصها الحاد بعد حصار جدة وصعود الفترة السعودية في الحجاز. ومن لجوء اربعين رجلاً وامرأة في عام 1926م الى دار القنصلية، لم يلجأ سوى سبع عشر رجلاً وامرأة في عام 1931م، بقي منهم خمسة في الحجاز بعد تحريرهم. وان لم تنتفي تجارة العبيد بعد، فإنها خفتت بشكل ملحوظ.
وحملت الثلاثينات للحجاز – والتي سبقها عقدان دراميّان شهد فيهما الحجاز؛ انقلابين في دار الخلافة وثورة كبرى في مكة وحرباً عالمية وأخرى حدودية وفترتيّ حصار وجوائح وبائية وتمردات قبائلية شتّى – حملت، عكس كل ذلك، استقراراً مطلقاً، انتعش فيه الميناء، وتماسك فيه موسم الحج، فانفتح الأهليون بشكل هائل على العالم وروح العصر.
يقول بوند، السفير البريطاني في جدة في رسالة للخارجية البريطانية في السادس من مارس 1930م: “لقد تقلّصت نسبة العبيد في جدة في السنوات الأخيرة بشكل مطرد، هذا يعود الى كون كثير من التجار المعروفين انفتحوا على روح العصر وباتوا يمارسون أشكال تجارة اكثر عصرية وملائمة قانونيا وقطعوا مع الاشكال التقليدية”.
وضعف ارسال العبيد المهربين الى الحجاز عبر ميناء جدة وموانئها القريبة كما سبق.. مقابل ازدياد نشاط التهريب عن طريق البر من بلاد الشحر والمكلا في اليمن.. او من يجري اختطافه او بيعه أصالة في موسم الحج.
وسجّل شيخ الدلالّين، القيّم على دكة الرقيق بأطراف سوق سويقة، في مكة ألف عملية بيع في عام 1930م، لكنه عاد وسجّل مائة عملية بيع فقط بعد ثلاث سنوات في عام 1933م. وفي المدينة المنورة اُغلقت الدكّة، وخرجت عن الخدمة، حيث لم تسجّل سوى عشر عمليات بيع في عام 1933م.
وشهدت الثلاثينات، اقتحاماً مُفاجئاً للتقنيات الحديثة (التكنولوجيا) – ما ادى الى انقلاب في الوعي وتبدل قيّمي حاد خصوصاً في ذهنيّة وعادات البادية الحجازية.
ان احد الاسباب الجوهرية لتقلّص استهلاك العبيد بشكل كاسح في البادية الحجازية، هو إدخال النقل بالسيارات في موسم الحج والغاء نظام “الكوشان” – وهي رسوم الطريق التي كان يدفعها الجمّالة للشريف كنوع من الضريبة المحليّة (ويدفع الأهليون، مُمثلون في طبقات المطوفين ضريبة مماثلة).
لقد ضرب ذلك التحوّل، الهيكل الاقتصادي للبادية الحجازية، خصوصاً لدى قبيلتيّ الحوازم والأحامدة، في صميمه وقوّض مراكز قوته وشبكة علاقاته القديمة.
وأدى انخفاض الطلب في النقل التقليدي على الجمال والشقادف الى تقليص الطلب بين شيوخ الجمّالة والمخرّجين للعبيد الذين كانوا يستعينون بهم سابقاً في اعباء وتجهيزات قوافل الحجيج وتسييرها.
- أزمة دبلوماسية حادّة بين حكومتي بريطانيا والسعودية:
وفي الرابع والعشرين من ديسمبر 1931م سلّم احد العبيد، ويُدعى بخيت، نفسه لدار السفارة البريطانية في جدة طالباً تحريره وارساله الى بلاده في بورتسودان. لكن هذا تسبب في اندلاع فتيل أزمة دبلوماسية بين البلدين. كان بخيت قد اُهدي، كما جرت العادة العشائرية حينها، من ابن مساعد (امير حائل) الى الملك. لكنه لم ينخرط حقيقةً في القصر الملكي، وظل في مقابل ذلك يخدم في دار الوزير عبدالله السليمان في مكة.
واجاب الشيخ حافظ وهبة، من الطرف السعودي، في التاسع عشر من يناير 1932م ان بخيت هو احد عبيد القصر الملكي الذين لا تشملهم اتفاقية جدة.
كان وهبة يشير الى الفقرة (أ) من المادة السابعة من اتفاقية عام 1927م. وكان في مفاوضات اتفاقية جدة مع السير جلبرت كلايتون ان اُستثني عبيد القصر الملكي كونهم في حقيقة الأمر اما جنود او خدم خاصين.
وكان بخيت قد فرّ مع عبد آخر يدعى هارون، من بيت عبدالله السليمان للسفارة البريطانية مطالبان بتسفيرهما الى بورتسودان. كان هارون قد خطف في موسم حج العام الماضي وتم بيعه. اما بخيت فقد ادّعى انه خطف وهو طفل من جيبوتي وتم بيعه صغيرا في الحجاز عبر سوداني اسمه محمد وهو في السادسة. ثم خطف من جماعة من البدو فيما كان يلعب خارج سور جدة في الكندرة، واخذوه الى اليمن حيث بيع من جديد لأحمد بن غصين الذي عاد به الى مكة وبيع مجدداً الى سيّد جديد هو شاكر ابوجمال (من أشراف مكة) حيث مكث معه خمس سنوات ثم بعث به مع عائلته للمدينة فيما بقي هو في مكة وحينما سقطت المدينة في يد السعوديين أخذه ابن مساعد في حائل وبعد سنوات من ذلك بعث به الى بن سليمان حيث امضى 18 شهرا قبل ان يهرب من بيت اخيه حمد السليمان الى السفارة البريطانية.
وفي 26 ديسمبر طالبت النيابة العامة في الحجاز باعادة السفارة البريطانية في جدة لبخيت وتسليمه الى نائب قائمقام جدة السيد علي طه رضوان.
وأرسل فؤاد حمزة، من الخارجية السعودية، رسالة في 29 يناير، الى السفير اندرو رايان يخبره بأن المسألة باتت مسألة مبدأ، وان الحكومة السعودية لا ترضخ من منطلق سيادي لرغبة البريطانيين في اي شأن خارج عن اتفاقية جدة 1927م.
لكن في ذات اليوم كان اندرو رايان قد بعث ببخيت على متن السفينة بينزانس.
ومن بعدها، في الثالث من فبراير، اصدرت السلطات السعودية قرارا مشدداً بأنه لا يحق للسفارة البريطانية تسفير اي شخص على اي قارب سوى بموافقة مسبقة من أمير جدة الذي يصدر وحده تأشيرات الخروج، اما ان كان عبداً لاجئاً تم تحريره فيستلزم موافقة خطية من امير جدة قبل ترحيله.
كان من العويص شرح كنه العلاقة بين جلالة الملك ووزيره الأول الشيخ السليمان لأيٍ من الغربيين، كما كان يتعذر للغربيين فهم نفسيات عبيد القصور الملكيّة حينها – او بشكل ادق غالبيتهم.
كان بعض اؤلئك العبيد يحظون بامتيازات تفوق تلك الممنوحة لدى الأعيان والأهليين. وكان الملك يقرّب اليه افراداً منهم.
وكان “مواليد” القصور يحظون برعاية كبيرة، بل ان بعضهم يتكبّر على المواطنين ويمارس اضطهاداً ممنهجاً ضدهم مدعوماً بما يتوهمه من نفوذ خاص. حد ان نكتة محلية شاعت في العشرينات الميلادية في الدوائر القنصليّة بجدة وصلت الى نائب القنصل البريطاني تقول بأنه يجب نقل جميع التكارنة للجزيرة العربية لتتحسن احوالهم المعيشية – لكن القنصل، في تقاريره، استهجنها وأنكرها، وان لم ينكر أصلها!
وتمتع حِلوان، احد عبيد القصر الملكي بحظوة وثقة هائلة وكان قائداً عسكرياً لاحد ألوية جيش جلالة الملك التي شاركت في تأديب عصيان ابن رفادة عام 1931م.
ولوجود أفارقة ملحقون بالحراسة الأميرية الخاصة جذور عشائرية قديمة في الجزيرة العربية. لقد منَح قانون الولايات العثماني أمير مكة حق تشكيل حرسه النظامي الخاص فكوّنه في عام 1872م من مجموعتين: البياشة، وهم من اهل وادي بيشة بعسير، ومن التكارنة، واغلبهم من العبيد المعتقين القاطنين في مكة من اصول نيجيرية وكونغولية.. وقد انحصرت مهتهم اول الامر في تأمين سلامة القوافل بين جدة ومكة، وبين مكة والطائف، ثم شكلّوا نواة جيش الشريف النظامي.
ومحمد عبدالقادر محمد فلاتة، تم بيعه صغيراً على كذا بيت في مكة ثم امتلكه الأمير سعود ولي العهد الذي اعتقه في يونيو 1938م، لكنه آثر البقاء عنده، فتزوج وتسلّك في الحرس الخاص لقصر ولي العهد. [83]
وفي عام 1944م اصيب القيّمين على فندق وولدورف استوريا في نييورك بصدمة كبيرة عندما أحضر الأمير فيصل معه مرافقه الافريقي مرزوق، اثناء زيارته الرسمية، وكانت صدمتهم اكبر عندما أصرّ الأمير على أن يأكل مرزوق معه، كما هي عادته، ذلك لأن هذا كان يقتضي السماح له بدخول قاعة المآدب الشهيرة “ويدجوود روم” التي لم يكن يسمح لزنجي أبداً ان يدخلها. [84]
وبرز في الاربعينات الميلادية نفر قليل من اعيان جدة، كانوا رقيقاً في اصولهم.. حتى انه كان من النادر ان تجد اي عائلة تجارية دون ان تجد تميز احد افرداها بلون اسمر، يحمل اسمها ويعمل في ادارة بيتها التجاري.
وكان المعتنون بالكعبة واعمال المسجد النبوي عبيداً “أغوات” طائلي الثراء والمتانة الوقفية وواسعي الوجاهة الاجتماعية في الحرمين الشريفين.
وقدرَ السير رايان، قنصل بريطانيا في جدة، عدد عبيد القصر الملكي بحوالي ثلاث آلاف نفر؛ القليل منهم بالاقتناء، فيما غالبيتهم بالاهداء او مولدون.
كان تجار الرق، انطلاقاً من صلال العوائد العشائرية البالية، يهدون الملك العبيد بكثير من الحماسة طمعاً في التعويضات الملكية السخية.. ولكن قبضة الوزير عبدالله السليمان الصارمة، وسياسته المتقشفة والحريصة على المال العام وعلى عدم تكبيد الموازنة اية مصاريف اضافية في سنوات التقشف، رشّدت الكثير من حماستهم فيما بعد، وساهمت في ابطال تلك العادة.
- آخر تُجار ووكلاء العبيد في جدة:
وكان من اشهر دلاّلي الجواري في جدة: باسترة أفندي، وأبوالسعود .
وفي رسالة من اسماعيل افندي حول العبيد في التاسع من مارس 1933م من مقتنيات الخارجية البريطانية، عدّد اسماء كبار وكلاء العبيد في جدة، مزودة بهويّاتهم الجهوية:
“كبار وكلاء العبيد في جدة: حسن العمودي (حضرمي) وأحمد بن سيف (من بدو الحجاز) وشمعون بن عمر (صومالي/ايطالي) واحمد الحنبولي (جدّاوي) وأبو زيدان (جّداوي) والليّاتي (جدّاوي)”.
وبات العبيد يرسون مباشرة في ميناء جدة، عكس السابق حينما كانوا ينزلون في النزلة اليمانية حيث يقيم الوكيل ابن سيف.
وتقمّص اسماعيل افندي مع صديق جدّاوي دور الراغب في الشراء ليراقب اوضاعهم: “كانوا في اقبية احد البيوت، حيث الجو خانقاً والروائح لا تكاد تطاق والدكّة كان فيها رجال ونساء مختلطون”.
وآخر مقر لبيع العبيد في جدة كان في منطقة حوش الهواشم – داخل سور المدينة القديم.
واحد مكافحي تجارة العبيد في ساحل جيبوتي هو السيّد علي العطاس، وهو أخ السيّد حسين العطاس من تجار وأعيان جدة.
كان العطاس قد اخبر نائب القنصل البريطاني في جيبوتي بتحركات تجارة العبيد الأخيرة، وكان يعتبر ان من لا يُخطئه ضميره بحمل العبيد والمتاجرة بالبشر سيقع في كل محظور آخر.
وكان الشيخ محمد بابو احد شيوخ دنقلة ومحتكر تجارة العبيد في ساحل جيبوتي في عام 1934م، قد فرض على جميع السنابيك المغادرة مينائي تاجورة و أوبخ بحمولات العبيد الى ميدي او جيزان ان تجلب معها في ايابها حمولات سلاح. فكانت السنابيك تتظاهر بنقل الخشب والفحم لكنها تقايض حقيقةً العبيد بالسلاح.
وفي احصاء لعام 1931م.. قُدر عدد العبيد في السعودية بأربعين ألفا، وُزعت جغرافيا كالتالي:
الرياض وبادية نجد وخصوصا واحات الاحساء والبريمي: عشرون ألفاً.
وانحصرت اجناس العبيد في هذه الفترة بين سودانيين او اثيوبيين حاميين او تكارنة.. ونساء يمنيات. وعند اهالي الحجاز كان يوجد نفر قليل من جواري وعبيد جاويين وهنود وسوريين وماليزيين.
في عام 1932م رفض قاضٍ من محكمة مكة الشرعية منح صك اعتاق لعبد تم تحريره كون الحكومة قد اخطرته بعدم القيام بذلك لأي عبد عمره يزيد عن العشرين عاما.
وفي 22 فبراير 1934م.. اُرسل السير ماكسويل من قِبل لجنة الرقيق بعصبة الأمم واصدر تقريرا عن حالة العبيد بين افريقيا والجزيرة العربية.
ونشطت البوارج الحربية البريطانية في تفتيش السنابيك في المياة الدولية بالبحر الاحمر بحثاً عن العبيد. وقبضت على 56 عبداً في 1931م، و35 عبداً في 1932م، و35 عبداً في 1933م.
وفي اكتوبر 1936م خطت السلطات السعودية أكبر خطوة فيما يخص الحد من الاتجار بالرقيق في الجزيرة العربية.
فصدر في الثاني من اكتوبر 1936م، المرسوم المعروف بـ: تعليمات بشأن الاتجار بالرقيق، من ستة عشر مادة. وحظر المرسوم ادخال الارقاء الى السعودية عبر البحر او البر (مالم يبرز جالب الرقيق وثيقة حكومية رسمية تخوّله بذلك).. كما حظر استرقاق الأحرار. والمرسوم- وان لم يلغ ممارسة الرقيق، الا انه اعترف بها كظاهرة ونظمها وجعل للعمل فيها وكيلاً او سمساراً برخصة رسمية. اما من يخالف تلك التعليمات تنذره الحكومة بعقوبة حبس لمدة لا تزيد عن سنة.
لكن هذه القرارات وماجلبت من محاسن على نفسيات الرقيق الا انه ترتب عليها مساوئ جديدة – اذ ازداد اصرار الملاك على ابقاء عبيدهم للندرة الحاصلة في الأسواق فنتج عن ذلك تقلص مطرد لنشاط العتق.
واستمرت الممارسات بشكل مُستتر.
وكان جابر احمد من اهل كسلا في السودان في أسر العبودية في الحجاز حتى حرر في عام 1927م.. وحينما عاد للحج بعد عشر سنوات في 1937م رصده مالكه السابق الحسين بن علي الحارثي من أشراف المضيق، واثر مشادة وقعت بينهما أصر الأخير على استعادته فعصى لكنه ألحقه بحاشيته بالقوة. فارسلت القنصلية البريطانية من السفير بولارد للأمير فيصل نائب الملك تطالبه باطلاق سراحه في الثاني عشر من يونيو 1938م، فنال حريته ورحل ادراجه على احد سفن شركة جلالتي هنكي الى ميناء سواكن.
وفي يونيو 1936م باع علي بريمة ياسين وزوجته ست الأهل في مكة، آمنة التي ادعيا انها ابنتهما، ثم رحلا برا لليمن ومنها للفاشر. تُركت آمنة عند الشيخ حسن زيني وهو رجل طاعن في السن، الذي سلمها بدوره لابن ناصر تاجر الرقيق النجدي في مكة الذي عرضها على كذا منزل فنزلت عند بيت السادة آل المرغني الذي كان يخلو من الذكور، واشترتها سيدة ومكثت معها عاماً كاملاً ولكنها مرضت فاضطرت الى بيعها لتذهب للعلاج في مصر، فاشتراها محمد الشيبي بـ 35 جنيهاً ذهبياً استرلينياً، وقبل شراءها عرضها على سيدة قابلة اكدت انها لم تنجب من قبل، وظلت عنده ثلاث سنوات دون ان يُعاشرها. ثم عادت لسيدتها القديمة في بيت الميرغني لانها كانت تحسن معاملتها وهناك وجدها القنصل البريطاني واستدعاها وارسلها الى السودان.
ومع عام 1943م خفت نشاط شراء الجواري، واصبح التسري يمارس بعيداً عن أعين الزوجات اللاتي بِتن مع الانفتاح على العالم يرفضن على أزواجهن ذلك النمط الشاذ من الممارسة الجنسيّة.
وكان آخر ثلاثة وكلاء للعبيد في مكة في يدهم كل التجارة: وكان آخر المسيّطرين عليها بحسب وثائق الخارجية البريطانية: ميمش، والقرّعا، وبن ناصر، والأخيران نجديّان. وصعد افراد من نجد في دلالة العبيد في مكة، كون بوصلة جلب الجواري الى مكة باتت تتجه شرقاً، حيث تجلب الجواري من التجار النجديين عبر واحة البريمي والساحل الغربي للخليج: بلوشيات وفارسيات بدلاً من الأجناس المعتادة الافارقة والاحباش والجاوا.
ومن ابرز التجار النجديين في سواحل الخليج: عبدالله بن سالم بن غراب، ومبارك وعبدالعزيز الدليمي، وعلي بن موفي الودعاني، وسليمان بن موسى، وعبدالله بن خفره، وعبدالله بن غانم العوار وهذا الاخير كان اصبعه الاوسط في يده اليمنى مقطوعا وكان يبيع الجاريات في الدوحة. وحينما قُبض عليه في سبتمبر 1952م حلف أيمانا مغلظة انه ترك التجارة منذ خمسة عشر عاما وانه يعمل الان في الزراعة وان المشتبه به هو عبدالله بن غانم القطري وهو شخص آخر ولكن تبين لاحقا ان كلاهما يعمل في تلك التجارة.
ونحن لا يمكن ان نجزم ان جميعهم كان يتاجر بشكل حصري في العبيد، لكن اسماؤهم وردت في الوثائق البريطانية مرة واحدة على الأقل.
وطالب السفير السير تروت في ديسمبر 1947م، من يوسف ياسين من الخارجية السعودية، بملاحقة المتورطين في تجارة الرق في البحر الاحمر، وانزال اشد العقوبات عليهم، وكانوا: احمد ابوصالحه في ميناء البرك (عسير)، بن سيف في الرويس، وحسن العمودي في جدة.
وفي 1948 قبضت السلطات السعودية على احمد علي ابوصالحة وهو يُهرّب العبيد سراً من مصوّع الى ميناء البرك في عسير.
ومن تجار العبيد في الرياض حينها بحسب الوثائق البريطانية: ابن غراب المري، وجابو بن حضفه وبن عبدربه، وهم يحضرون الجواري عبر حمد البوشامس من دبي او مسقط الى كبار المستهلكين في الاحساء والرياض. وكان كبير التجار في سوق الرياض اسمه عبدالله بن مروان.
في الرياض كانت الجارية الجميلة تباع بسبعة عشر الف ريال، والمتوسطة الجمال تباع بسبع الى ثماني آلاف.
ومع عام 1948م خفت اهتمام السعوديين باقتناء العبيد الذكور.
وفي الخمسينات الميلادية تلاشت تجارة العبيد، وانقشعت مظاهر العبودية تقريبا عن جدة، فيما بقيت في الرياض ومكة والمدينة، وان حُصرت في الجاريات المجلوبات من حضرموت واليمن والبلوشيات المجلوبات من السواحل المسقطية والسواحل المتصالحة. فلم تعد تأتي الافريقيات، من موانئ جيبوتي والصومال، كما في السابق.
وفي السادس والعشرين من نوفمبر 1952م ارسل يوسف ياسين، من الخارجية السعودية، خطاباً لبيلهام يخبره ان الحكومة السعودية ترغب في اخطارها عن اي رعايا سعوديين يرحلون الى امارات الخليج بحثاً عن عبيدهم الفارين. وان الحكومة السعودية لا تريد التهاون في هذا.
وفي نوفمبر 1953م ارسل السفير الفرنسي في جدة قائمة بمن يشتبه بهم بنقل العبيد الى ساحل جدة وذكر منهم:
أحمدو بوبوي وهو سنغالي مقيم في جدة، والشيخ عبدو بجني من النيجر يقيم في جدة، والشيخ عبدالله البحيري من كبار حارة اليمن في جدة وهو من شيوخ الدلالين.
واتبعها بقائمة لدلالين اقسم يقيناً بأنهم يبيعون الجواري مباشرة للقصور والمتنفذين والميسورين، وهم: عمر كِندي – سنغالي في مكة، حاج محمد عمر فتاي – سنغالي في جدة، تيرنو يوروبا – سنغالي في جدة، احمدو تديان ديو في جدة، حاج بلي – سنغالي في مكة، محمد طاهر – من الطوارق يقيم في السودان ويتاجر في جدة، ومحسن – وهو نيجيري موظف في شركة باكر الامريكية في جدة.
وقُبض على محمد حسين وهو يتاجر في الكربلاء والنجف وكان يجمع خمسين فتاة صغيرة ليحضرهن للرياض وقد حكم عليه في العراق عام 1955م بالسجن عشر اعوام.
وضرب الكساد سوق الرياض حيث كان يتعيّن على كل تاجر عبيد ربط سبع الى ثماني من العبيد خلفه والمشي بهم، فيما كانت دكة الرقيق في مكة تحتضر وتعيش آخر أيامها.
- ضغوط دوليّة ومحلية يتوّجها قرار فيصل:
لم يكن عقد الخمسينات رحيماً على سمعة وصورة السعودية دولياً، كما كانت مهمة الدبلوماسية السعودية لترطيب الاجواء وتحسين صورة البلاد مُضاعفة. وفي عام 1953م قامت حملة تلفزيونية وصحافية كبرى في فرنسا على قانون الرقيق في السعودية. كما اشتدّت ضرواة دعوات الخارج -والداخل- على الحكومة لحسم ملف العبيد وطي صفحته للأبد.
واستوعبت الحكومة المعاتيق الحديثين في مكة او المستقرين فيها بعد موسم الحج من جاليات التكارنة وفرضت عليهم دفع رسوم اقامة سنوية.. وقام الأمن العام منذ 25 ابريل 1952م بتنظيم المسألة بشكل أكثر مرونة.
وصعد مطلب الغاء نظام الرق منذ الخمسينات الميلادية عند الحركات القومية والوطنية الشعبية الداخلية. وفي ميثاق جبهة التحرير الوطني العربية الصادر عام 1961م، نلاحظ حضوراً مركزياً لمسألة الغاء نظام الرقيق وتحرير الارقاء كأحد مطالب برنامج الاصلاح – كان ذلك ذروة حراك وطني سابق امتد لأكثر من عشر سنوات اجتر ذات المطلب.
وفي السادس من نوفمبر 1962م اصدر الأمير فيصل بن عبدالعزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، برنامجه الاصلاحي المعروف بـ (النقاط العشر).. الذي قضت نقطته العاشرة بالغاء الرق مطلقاً، وتحرير جميع الأرقاء وتعويض مُلاكهم.
وصار الناس في ارتباك. فالقرار كان يكتنف طرق تطبيقه الكثير من الغموض – والنقاط العشر كانت مُغلفة بلغة عمومية غير حاسمة.
وكتب صالح محمد جمال في جريدة الندوة المكيّة في السادس والعشرين من نوفمبر 1962م مُنتقداً: “كثير من الارقاء ينتظرون ان يُبادر مسترقوهم بتحريرهم واعلان ذلك لهم تنفيذا لقرار الحكومة الا ان احدا لم يحرك ساكنا، ويبدو انهم ينتظرون ان تاتي اليهم الحكومة لتدفع لهم التعويض سلفا … ان تلك الفقرة الموجزة في البيان الوزاري عن الغاء الرق اصبحت في حاجة الى مذكرة ايضاحية مستعجلة يجري اعلانها للطريقة التي يجب ان يتم تنفيذ التحرير”.
واستجاب مجلس الوزراء للتساؤلات التي انطوى عليها مقال جمال وغيره، وأصدر قراره رقم (4305) الصادر في التاسع من يناير من عام 1963م، مبيناً الطريقة التي سيتم بها التعويض، مفوضاً وزارة الداخلية الى اشعار المواطنين الذين كانوا يمتلكون رقيقاً بالتقدم بطلبات التعويض مصحوبة بالوثائق والصكوك الشرعية الى اللجان المختصة.
واعتمد مجلس الوزراء السعودي مبلغ خمسة ملايين ريال سعودي، كدفعة أولى لتعويضات الرقيق.
وشُكّلت لجان تعويض المّلاك الشهر التالي في 26 مدينة سعودية: من جدة ومكة والقنفذة الى الدمام والحساء، ومن الجوف والقريّات الى بيشة وجيزان، مروراً بالرياض والحوطة وبريدة وشقراء!
وكان الرقيق قبل البيان الايضاحي ينفرون اجتهاداً الى الديوان الملكي في الرياض يطلبون اوراق تحريرهم ومن ثم يعودون الى ملاّكهم يقدمونها لهم ويخيّرونهم بين اطلاق سراحهم لوجه الله وبين رغبتهم في طلب تعويض من الحكومة.
وبادر الشيخ علي طايع – من أثرياء محلة شِعب عامر في مكة، وهو جد الشاعر محمد حسن فقي لأمه، فاعتق وحده مائة رقبة ما بين جارية وعبد. وقام سعادة الشيخ مساعد السديري بعتق جميع عبيده البالغ عددهم 17 شخصاً بين ذكر وانثى، وسجّل ذلك في محكمة تبوك. وحرر وزير الداخلية فهد بن عبدالعزيز جميع الارقاء التابعين له وقدم لكل منهم صكاً بتحريره، واعلن ذلك في برقية عامة لتشجيع غيره. كما قام سعادة اللواء علي جميل، وحرمه في مكة، بتحرير كافة الارقاء لديهم.
انطوت الصفحة رغماً عن ممانعة أعداد من ملاّك العبيد في بعض القصور والمزارع والحقول والنجوع والبيوت.. ورغماً عن صرخات السُفهاء المضللين وقوارص المتحذلقين.
وارسل كيندي رسائل تهنئة الى الامير فيصل ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، يشكره ضمنا على الغاء الرق، ويعلن عن عصر جديد في العلاقات الامريكية والسعودية. فرد عليه الأمير فيصل في الحادي عشر من يناير 1963م قائلاً: “ان القضايا الأصلية لشعوب هذه المنطقة: رفع مستوى السكان واستغلال كافة طاقاتهم وزيادة دخلهم القومي وتزويدهم بمؤسسات ديموقراطية للحكم يستطيعون في ظلها التعبير عن ذاتهم وأمانيهم وآمالهم في حرّية بناءة”.
منذ بيان كامل باشا الذي تلاه قائمقامه بالنيابة في سوق مكة عام 1855م، وقوبل بممانعة رهيبة، دارت الأرحاء لأكثر من قرن من الزمان، حتى استجابت الذهنيّة المحلية.