السلام عليكم
قبل شهر تقريبا وصلني هذا الكتاب وقد قراءته وود فيه اشياء كثيره قط لم اكن اعرفها ااحبت ان اقله لكم وقد بحثت عنه عبر النت وها انه اجده لااضعه بين ايديكم
بعض الاخوة محجوب عنهم رابط كتاب سليم بن قيس وسننزله لهم
ورد عن الأمام الصادق ع أنه قال:
من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم بن قيس العامري فليس عنده من أمرنا شيء ولا يعلم من أسبابنا شيئاً وهو أبجد الشيعة وهو سر من اسرار آل محمد صلى الله عليه وآله
كتاب سُليم بن قيس الهلالي: أقدم نصّ تاريخي عقائدي في الإسلام
لا يوجد عند المسلمين بعد كتاب الله تعالى ومواريث الأنبياء التي عند أهل البيـت عليهم السلام كتاب أقدم من كتاب سُليم بن قيس رضوان الله عليه. وهي ميزة عظيمة لهذا النصّ التاريخي العقائدي؛ لأنّ مؤلّـفه قدس سره أوّل من فكّر في تدوين العقائد والتاريخ الإسلاميّين ، ثمّ قام بذلك وحده في ظروف خطيرة دون أن يجد مَن يُعينه في مهمّته ؛ وقد خاطَرَ بحياته الشريفة من أجل جمعه وتأليفه ؛ ثمّ استنساخه وحفظه والوصية به وإيصاله إلى الأجيال من بعده.
وما ذلك إلاّ لأنّه كان يحسُّ بمسؤوليةٍ شرعية للقيام بهذه المهمّة التاريخية ، وقد شاء الله تعالى أن يتفرّد عن جيله وينهض بمسؤولية هذا الأمر الخطير ، ويقدّم للأُمّة الإسلامية قصّـة الوجه الآخر لتاريخها. وقد تلقّت الأجيال كتاب سُليم في جميع العصور الإسلامية باهتمام خاصّ ، وحافَظَ عليه العلماء كأقدم تراث عقائدي وعلمي في الإسلام ، ورجعوا إليه في مختلف العلوم الإسلامية ، كالفقه والأُصول والرجال والحديث والتاريخ والتفسير وغيرها. وفي القرن الماضي طُبع كتاب سُليم ، وترجم إلى اللغة الأُردية ، وطبـع. وفي عصرنا هذا تمّ تحقيقه ، وترجم إلى الفارسية وطبع أيضاً.
ميزات الكتاب
يكفي كتاب سُليم أنّه تراثٌ علميٌّ ممتازٌ من أقدم ما وصلنا في الثقافة الإسلامية ، إلاّ أنّ له مع ذلك ميزاتٍ مهمّةٍ تضاعف من قيمته ، نجملها في النقاط التالية :
الميزة الأُولى : موضوعه :
وهو عقائد الإسلام وتاريخه ، وهذا يدلّ على حسن اختيار المؤلّف ؛ إذ اختار من المسائل الإسلامية ما هو في الدرجة الأُولى من الأهمّية ، فقد ألّف سُليم كتابه في موضوع العقائد أو التاريخ العقائدي ، وقد بلغت أهمّيّته أنّ أحداً لا يمكنه أن يمرّ به دون أن يُعنى بمعرفة الحقيقة المقابِلة لِما قالَته ودوّنَته في مصادرها دولةُ الخلافة وأتباعها الّذين سَيْطروا على تاريخ الإسلام وعلى أفواه المسلمين! فكتاب سُليم يكشف عن الوقائع التي حدثت في مرض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته ، وكيف وصل زعماء قريش إلى السلطة ، وكيف اضطهدوا النبـيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بـيته عليهم السلام بـيت العصمة والطهارة ، ثمّ حكموا باسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وباسم الإسلام.
الميزة الثانية : ظرف تأليفه :
فقد كتبه مؤلّفه سُليم رحمه الله في عصر المنع المطلق لتدوين أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، حتّى ما يتعلّق منها بالسنن والأحكام الشرعية ، بل لقد منعت الدولة حتّى مجردّ روايتها. في مثل تلك الظروف الخانقة قام سُليم بن قيس بتسجيل هذه الحقائق التاريخية والعقائدية وتأليفها في كتاب ، وجمع أحاديثه الشريفة عن عدد من الأئمّة الأطهار عليهم السلام والصحابة الأبرار. وكان سُليم يكتبها في كتابه ويحتفظ بها على خوف ووجل ؛ لأنّ الدولة وعملاءها لو اطّلعوا عليه لكان ذلك كافياً لإقدامهم على قتله وإعدامه!!
الميزة الثالثة : الفترة التي أرّخ سُليم أحداثها :
فقد كانت أكثر فترة حساسيةً وتأثيراً على عقائد المسلمين ، وذلك أنّ جميع عقائد المسلمين ومذاهبهم قد تكوّنت بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بسبب ما حدث عند وفاته وبعد وفاته من اختلاف ؛ فجميع ما طرح من عقائد وأحكام خلال أربعة عشر قرناً إلى يومنا هذا كلّه يرجع إلى تلك الفترة الحسّاسة. وقد أرّخ سُليم بن قيس لتلك الفترة بكلّ جرأة وصراحة ، فكان عمله عملاً فريداً من نوعه ، وبهذا احتلّ مكانة الدرجة الأُولى بعد أحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام الّذين قاموا بكشف حقائق تلك الفترة. إنّ الأجيال المسلمة مَدينة لهذا المؤلّف الشجاع الذي سدّ فراغاً لم يسدّه غيره ، ودوّن حقائق ما جرى عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسلّمها إلى الأجيال.
الميزة الرابعة : الدقّة والإتقان في أخذ أحاديثه وتسجيلها:
فإنّ كتاب سُليم بعد التدقيق والتمحيص والمقايسة مع المصادر الأُخرى ، يعدّ من مصادر الدرجة الأُولى في الدقّة والإتقان ، وهذه ميزةٌ تزيد من قيمة كتابه ، خاصة إذا لاحظنا أنّ إتقان الجوانب الثقافيّة أمرٌ مشكلٌ في ظروف الخوف الذي يُضطرّ الناس فيه إلى كتمان علمهم وعملهم وإخفاء مكتوباتهم.
الميزة الخامسة : تدوينه جرائم حكّام عصره :
فقد دوّن ما يتعلّق بالّذين كان يعيش معهم! واستطاع أن يخفي ذلك عن عيونهم ، فلو أنّ سُليماً ـ طوال نصف القرن الذي استغرقه تأليف كتابه وتدوين موادّه من الصحابة والتابعين ـ قد تهاون يوماً في الحذر والحيطة من الحكومات لَما بقي منه ولا من كتابه أثرٌ إلى اليوم!
وقد روى التاريخ عنه أنّه لشدّة حرصه على كتابه فقد كان يحمله معه في أسفاره وتنقّلاته العديدة. وبسبب هذه الميزات كلّها ينبغي أن ننظر إلى كتاب سُليم على أنّه أوّل نصٍّ متقن في أخطر الموضوعات الإسلامية ، تمَّ تدوينه في فترة حسّاسة وظروف صعبة! وأن نُكْبر مؤلّفه لِما عاناه في سبيل ذلك. وقد حفظ الله كتابه عبر القرون والأجيال حتّى وصل إلينا ، وتمَّ تحقيقه وطبعه بطبعات عديدة في عصرنا.
موضوعاتٌ حديثية لم يؤلِّف فيها أحدٌ أقدم من سُليم
أولاً : أحاديث أساسية في العقائد :
1 ـ حديث الغدير.
2 ـ حديث الثقلين.
3 ـ حديث المنزلة.
4 ـ حديث السفينة.
5 ـ حديث باب حطّة.
6 ـ حديث الحوض.
7 ـ حديث سدّ الأبواب.
8 ـ حديث الكساء وآية التطهير.
9 ـ حديث المباهلة.
10 ـ حديث الكتف.
ثانياً : مسائل عقائدية مهمّة :
1 ـ معنى الإسلام والإيمان ، وشروطهما ، ودرجاتهما.
2 ـ معنى إقامة النبيّ والإمام الحجّة لله تعالى ، ومن هم حجج الله تعالى على الناس ، وكيفيّة تبليغهم وإقامتهم الحجّة لله تعالى.
3 ـ عقيدة المسلمين في القرآن وأنّه الثقل الأكبر ، وبيان من هم المفسّرون الشرعيّون له ، وقد تضمّن كتابه تفسير عددٍ من آيات القرآن الكريم وسبب نزولها.
4 ـ عقيدة المسلمين في الخلافة والإمامة ، وضرورتها وحدودها ، وتسمية مستحقّيها ، وبيان غاصبيها.
5 ـ بيان معنى فريضة الولاية لأولياء الله تعالى ، والبراءة من أعدائه ، وتعيين من هم أولياء الله وأعداؤه.
6 ـ بيان أحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم التي نصّ فيها على إمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام وذِكر أسمائهم.
7 ـ بيان عددٍ من الأحاديث التي صدرت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مناقب أهل البيت عليهم السلام وأفضليّتهم على جميع الأُمّة.
8 ـ بيان العلم ومعدنه وأنواعه ، وأنّ أهل البيت عليهم السلام هم معدن علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وبيان جهل غاصبي الخلافة ، وانخفاض مستوى ثقافتهم ، وعدم معرفتهم عقائد الإسلام ، ولا جواب ما يرد عليهم من المسائل العادية.
9 ـ بيان بعض ما ورد في الكتب السماوية في البشارة بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
10 ـ ذِكر أحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم التي أخبر فيها عن ظلم قريش وغيرها لأهل البيت عليهم السلام ، واضطهادهم وغصب حقّهم.
11 ـ كما تضمّن كتاب سُليم إشاراتٍ إلى ما كان يصدر في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنافقين عامة ، وغاصبي الخلافة خاصة.
12 ـ بيان الضلال الذي حدث في الأُمّة ، وكشف أوّل من فتح بابه على الأُمّة ، وأدخل المسلمين فيه.
13 ـ بيان معاداة قريش والمنافقين وغيرهم لأهل البيت عليهم السلام ، وبغضهم لهم وحسدهم إيّاهم.
14 ـ بـيان العقيـدة الإسـلامية في الإمـام المهديّ عليه السلام ، وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في التبشير به وعلامات ظهوره.
15 ـ كما تضمّن كتاب سُليم بعض أحوال يوم القيامة وأحوال أهل الجنّة والنار ، والمستحقّين بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لدخول الجنّة أو النار من هذه الأُمّة.
16 ـ بيان معنى الشفاعة ، ومن يَشفع ، ومن يُشفع لهم يوم القيامة.
ثالثاً : مسائل تاريخية مهمّة :
1 ـ أحاديث مهمّة عن حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بدر وأُحد وخيبر والخندق وصلح الحديبية وفتح مكّة وحنين وتبوك ، وغيرها.
2 ـ بيان موارد مواساة عليّ عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإيثاره إيّاه وفداؤه إيّاه بنفسه.
3 ـ بيان عددٍ من أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التي نصّ فيها على خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، من أوّل بعثته إلى يوم الغدير.
4 ـ أحاديث إشهاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عند إقامة الحجّة عليهم وعلى الأُمّة بولاية عليّ عليه السلام بعده ، وخاصّةً من غصب منهم الخلافة بعده.
5 ـ جانب من مؤامرات المنافقين لقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
6 ـ خبر الصحيفة التي كتبها المنافقون من قريش ومن تبعهم ، ضدّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، وذِكر أصحابها.
7 ـ أخبار هامّة عن الأيّام الأخيرة والساعات الأخيرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
8 ـ أخبار دقيقة ومفصّلة عن قضايا السقيفة ، واستعجال أصحابها واغتنامهم فرصة انشغال عليّ وأهل البيت عليهم السلام بجنازة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثمّ تدبيرهم الهجوم المكرّر على بيت فاطمة عليها السلام وإحراق بابه ، ودخولهم بيتها بغير إذن ، وإجبارهم أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه على البيعة ، وما جرى لفاطمة عليها السلام في هذه الهجومات ، وإسقاطها جنينها المحسّن عليه السلام.
9 ـ قصّة ارتداد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما جرى بشأن الخلافة بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، وبرنامج الغاصبين ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام.
10 ـ ما جرى على شيعة أهل البيت عليهم السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذِكر جوانب عن نفي أبي ذرّ إلى الربذة ، وبيان جانب من ظلم معاوية للشيعة واضطهادهم وتقتيلهم.
11 ـ نماذج من دفاع أهل البيت عليهم السلام عن مذهبهم وشيعتهم.
12 ـ برنامج غاصبي الخلافة في منع الحديث ومعاقبة المحدّثين ، واختلاقهم الأحاديث.
13 ـ بيان بدع أعداء أهل البيت عليهم السلام ، وأغراضهم من البدعة ، وذِكر نماذج من البدع المبتدَعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
14 ـ التأريخ لجانب من الأُمور المالية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبيان خطّة غاصبي الخلافة في منع أهل البيت عليهم السلام من الإرث ومصادرة الأموال والأوقاف التي بأيديهم ، خاصة غصب فدك وما يتعلّق بها من القضايا.
15 ـ الإخبار عن عدد من الملاحم والفتن.
16 ـ نماذج من المجالس المنعقدة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحتجاجات أهل البيت عليهم السلام على الصحابة في تلك المجالس ، ومناشدات أهل البيت عليهم السلام الناس ليشهدوا بمناقبهم وبوصية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وإقرار الناس وشهادتهم ذلك.
17 ـ قصص أهل الكتاب مع أهل البيت عليهم السلام وإقرارهم بفضلهم ومقامهم.
18 ـ قضايا تتعلّق بموت أبي بكر وقتل عمر وعثمان.
19 ـ وثائق شعرية تُعدّ من أقدم ما قيل من الشعر في القضايا الإسلامية.
20 ـ وثائق تاريخية في القضايا الإسلامية يختصّ سُليم بنقلها ، مثل رسالة معاوية إلى زياد.
21 ـ قضايا من حروب الجمل وصِفّين والنهروان.
22 ـ بعض الرسائل المهمّة المتبادلة بين أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية.
23 ـ شهادة أمير المؤمنين عليه السلام.
24 ـ أخبار هامّة عمّا جرى من الفتن بعد أمير المؤمنين عليه السلام في زمن معاوية.
25 ـ صلح الإمام الحسـن عليه السلام وما وقع بينه وبين معاوية.
ترجمـة سُـليـم
حياة سُليم في لمحة خاطفة :
التابعي الكبير أبو صادق سُلَيْم بن قَيْس الهِلالي العامِري الكوفي ، من خواصّ أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام زين العابدين عليهم السلام ، وأدرك الإمام الباقر عليه السلام أيضاً .
وُلد سُليم بن قيس قبل الهجرة بسنتين، وكان عمره عند وفاة رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثـنـتا عشـرة سـنة ، ولـم يـكن فـي المدينـة زمـن رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا زمن أبي بكر ، وإنّما دخل المدينة شابّاً في أوائل إمارة عمر قبل السنة 16 الهجرية. وكان المجتمع الإسلامي بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ممنوعاً من الحديث مطلقاً ومن تدوينه والتأليف فيه.
في هذه الظروف الثقافية التي واجهها سُليم أوقف نفسه على المحافظة على سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فقام بتدوين أحاديثه وتاريخ الإسلام الصحيح ، الخالي من التلاعب والتشويه ، فبدأ بالتعرّف على الصحـابة واحـداً واحـداً وسـماع الأحـاديث منهم ، واتّصل بأميـر المؤمنين عليه السلام وأصحابه ، كسلمان وأبي ذرّ والمقداد وغيرهم ، وكان سُليم يكتب ما يسمعه منهم ، واستمرّ ذلك طيلة 25 سنة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما جاء عهد أمير المؤمنين عليه السلام سنة 35 كان سُليم قد أصبح من خلّص أصحابه والمضحّين من أجله ، وهو أمر يتّضح من جميع ما أورده سُليم في كتابه.
شهد سُليم مع أمير المؤمنين عليه السلام وقعة الجمل في سنة 35 ، وكتب كثيراً من جزئيّات ما وقع في تلك الوقعة وبعدها. وشهد سُليم وقعة صِفّين في سنة 36 من أوّلها إلى آخرها ، وكان من شرطة الخميس المتقدّمين في الحرب ، وكان حاضراً ليلة الهرير العاشر من صفر سنة 38 ، والتي هي آخر وقعات صِفّين وأشدّها ، وكان حاضراً أيضاً في ما جرى بين الحكمَين بعد ذلك ، ورجع معه عليه السلام إلى الكوفة.
شهد سُليم وقعة النهروان في سنة 39 ، وكان بعدها في الكوفة إلى شهادة أمير المؤمنين عليه السلام في شهر رمضان سنة 40 ، وقد أورد في كتابه بعض الخطب التي ألقاها الإمام عليه السلام.
والذى يلوح من كتاب سُليم أنّ اشتغاله بتدوين قسم كبير من كتابه كان من سنة 12 إلى سنة 40 هـ ، وهي توافق السـنين 14 إلى 42 من عمره ، وجَمَع الربع الأخير من كتابه في الأربعين سنة الأخيرة من عمره. وكان سُليم رحمه الله رجلاً كتوماً سيرته الخفاء والكتمان ، ويبغض الاشتهار ، وبذلك تمكّن من حفظ نفسه من زياد وابن زياد وأمثالهم ، كما تمكّن بكتمانه من تدوين كتابه وتأليفه وجمعه وحفظه.
وليس بعيداً أنّه كان في أثناء معركة كربلاء مسجوناً في سجن ابن زياد مع الكثيرين الّذين سجنهم من أهل الكوفة. ولمّا قدم الحجّاج الثقفي الكوفة سنة 75 بدأ يطلب أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان في من طلبه سُليم ، وذلك أنّه كان من أخصّ خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام ، فهرب منه سُليم ومعه كتابه أينما كان يذهب وينتقل ، وقد ساح متخفّياً من بلد إلى بلد حتّى وقع في أرض فارس بمدينة كبيرة تسمّى « نوبندجان » بالقرب من شيراز ، فأوى إلى تلك البلدة ، وهناك تعرّف عليه أبان بن أبي عيّاش راوي كتابه. ومرض سُليم بعدما دخل بلاد فارس ، فاختار أباناً لتسليمه الكتاب ، فدعاه وخلا به وأخبره عن المشاقّ التي تحمّلها في سبيل كتابه وكيفية جمعه وتأليفه ، واشترط عليه أن يدفعه عند موته إلى من يثق به من الشيعة ، ثمّ قرأ الكتاب كلّه عليه ، ثمّ ناوله إيّاه مناولة. ولم يلبث سُليم بعد ذلك إلاّ قليلاً حتّى فارقت روحه الدنيا ، وكان ذلك في سنة 76 من الهجرة ، عن عمر مبارك بلغ 78 سنة ، صرف أكثر من 60 سنة منها في سبيل إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام.
وثاقة سُليم وجلالة شأنه :
يدلّ على وثاقة سُليم العالية النصوص المذكورة في كتب العلماء التي تؤكّد أنّه كان فوق الوثاقة :
1 ـ قال ابن النديم والعقيقي : « كان ( سُليم ) شيخاً متعبّداً له نور يعلوه » ، وقد قال أبان في مفتتح الكتاب : « لم أر رجلا كان أشدّ إجلالا لنفسه ، ولا أشدّ اجتهاداً ، ولا أطول حزناً ، ولا أشدّ خمولاً لنفسه ، ولا أشدّ بغضاً لشهرة نفسه ، منه ».
2 ـ ذكره البرقي في رجاله ، وعدّه من الأولياء من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، ونقله عنه العلاّمة في « الخلاصة » ، وقد نصّ أمير المؤمنين عليه السلام في الحديث 38 من الكتاب على أنّه من الأصفياء الأولياء ذوي الخبرة في الدين.
3 ـ قد مرّ ذِكر الرواية التي رواها الشيخ المفيد في كتاب « الاختصاص » الدالّة على أنّ سُليماً كان من شرطة الخميس ، وبملاحظة ما ورد في شأن شرطة الخميس يُعلم جلالة سُليم.
4 ـ أورد الكشّي في رجاله روايتين تدلاّن على تصديق الأئمّة عليهم السلام لسُليم ، وهما موجودتان في مفتتح كتاب سُليم ، وفي الحديث 10 منه عيناً.
5 ـ ذكره الشيخ أبو العبّـاس النجاشي في رجاله « في عداد المتقدّمين في التصنيف من سلفنا الصالح ».
6 ـ قال العلاّمة الحلّي في « الخلاصة » : « روى الكشّي أحاديث تشهد بشكره... والوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه » ، ثمّ أورده في أولياء أمير المؤمنين عليه السلام .
7 ـ قال عنه العلاّمة السيّد محمّـد باقر الداماد في تعليقته على « أُصول الكافي » : « صاحب أمير المؤمنين عليه السلام ومن خواصّ أصحابه... وهو من الأولياء المتنسّـكين ، والحقّ عندي فيه ـ وفاقاً للعلاّمة وغيره من وجوه الأصحاب ـ تعديله ».
8 ـ ذكره العلاّمة المجلسي في « البحار » في عداد الثقات العظام ، والعلماء الأعلام .
9 ـ قال العلاّمة السيّد الخوانساري في « روضات الجنّات » : « قد كان من قدماء علماء أهل البيت عليهم السلام وكبراء أصحابهم... ولم ينقل إلى الآن رواية في مذمّته كما روي في مدحه وجلالته ، ولا وجد بيننا ناصٌّ على جهالته فضلا عن خلاف عدالته ».
10 ـ قال السيّد محسن الأمين العاملي في « أعيان الشيعة » : « إنّ المترجَـم (أي سُـليم)... يكـفي فيه عدّ البرقي إيّاه من أولياء أمير المؤمنين عليه السلام وكونه صاحب كتاب مشهور ».
11 ـ قال العلاّمة المامقاني في « تنقيح المقال » : « هو من الأولياء المتنسّـكين والعلماء المشهورين بين العامة والخاصة ، وظاهر أهل الرجال أنّه ثقة معتمَد عليه ، وقد يُطمئنّ بوثاقة الرجل من عدّ الشيخ في باب أصحاب السجّاد عليه السلام إيّاه صاحب أمير المؤمنين عليه السلام وجعله إيّاه من أوليائه ، وغير ذلك » .
12 ـ قال المحقّق الخبير السيّد حسن الصدر في كتابه « تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام » : « سُليم ـ بالتصغير ـ ابن قيس الهلالي ، التابعي ، صاحب عليّ عليه السلام ، والملازم له وللحسـنين عليهما السلام ، المنقطع إليهم ، أوّل من كتب الحوادث الكائنة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثقة صدوق ، متكلّم فقيه ، كثير السماع ».
13 ـ قال المتتبّع الخبير المولى هاشم الخراساني في كتابه « منتخب التواريخ » : « سُليم بن قيس الهلالي العامري الكوفي ، كان من عظماء الرجال في الغاية ».
14 ـ قال المحقّق الخياباني في « ريحانة الأدب » : « هو من أكابر أصحاب أمير المؤمنين والحسـنين والسجّاد والباقر عليهم السلام ، كان محبوباً لدى حضراتهم في الغاية ، وكان بمنزلة الأركان الأربعة ، ووردت أخبار كثيرة في مدحه ، وهو من أولياء أهل بيت العصمة عليهم السلام ».
15 ـ قال العلاّمة الأميني في كتابه « الغدير » : « هو ممّن يُحتجّ به وبكتابه عند الفريقين » ، وعبّر عنه بـ « التابعي الكبير ، الصدوق الثبت ».
16 ـ قال العلاّمة السيّد محمّـد صادق بحر العلوم في مقدّمته لـ كتاب سُليم : « قد أدرك سُليم خمسة من الأئمّة عليهم السلام واتّصل بهم... وكان موثّقاً عندهم ، مقتبساً من علومهم الفياضة ، وكان متصلّباً في دينه ، مناوئاً لأعداء آل البيت النبوي ، مجاهراً بالعداء لهم ».
17 ـ قال العلاّمة السيّد الخوئي في « معجم رجال الحديث » : « ثقة جليل القدر عظيم الشأن ، ويكفي في ذلك شهادة البرقي بأنّه من الأولياء من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ».
قال عمر بن أذينة: دعاني أبان بن أبي عياش قبل موته بنحو شهر فقال لي: رأيت البارحة رؤيا، أني خليق أن أموت سريعا. إني رأيتك الغداة ففرحت بك.
إني رأيت الليلة سليم بن قيس الهلالي فقال لي: (يا أبان، إنك ميت في أيامك هذه. فاتق الله في وديعتي ولا تضيعها، وف لي بما ضمنت من كتمانها. ولا تضعها إلا عند رجل من شيعة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه له دين وحسب).
فلما بصرت بك الغداة فرحت برؤيتك وذكرت رؤياي سليم بن قيس.
لما قدم الحجاج العراق (1) سأل عن سليم بن قيس، فهرب منه فوقع إلينا بالنوبندجان (2) متواريا، فنزل معنا في الدار. فلم أر رجلا كان أشد إجلالا لنفسه ولا أشد اجتهادا ولا أطول حزنا منه، ولا أشد خمولا لنفسه ولا أشد بغضا لشهرة نفسه منه. وأنا يومئذ ابن أربع عشرة سنة، وقد قرأت القرآن، وكنت أسأله فيحدثني عن أهل بدر.
فسمعت منه أحاديث كثيرة عن عمر بن أبي سلمة (3) ابن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله، وعن معاذ بن جبل وعن سلمان الفارسي وعن علي بن أبي طالب عليه السلام وأبي ذر والمقداد وعمار والبراء بن عازب. ثم استكتمنيها ولم يأخذ علي فيها يمينا.
قراءة سليم كتابه على أبان وتسليمه إياه
فلم ألبث أن حضرته الوفاة، فدعاني وخلا بي وقال: يا أبان، إني قد جاورتك فلم أر منك إلا ما أحب. وإن عندي كتبا سمعتها عن الثقات وكتبتها بيدي، فيها أحاديث لا أحب أن تظهر للناس، لأن الناس ينكرونها ويعظمونها. وهي حق أخذتها من أهل الحق والفقه والصدق والبر، عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود رضي الله عنهم.
وليس منها حديث أسمعه من أحدهم إلا سألت عنه الآخر حتى اجتمعوا عليه جميعا، فتبعتهم عليه، وأشياء بعد سمعتها من غيرهم من أهل الحق. وإني هممت
____________
(1). قدم الحجاج العراق حاكما عليها من قبل عبد الملك بن مروان في سنة 75 الهجرية.
(2). كانت مدينة كبيرة من أرض فارس من كورة سابور، قريبة من شعب بوان الموصوف بالحسن والنزاهة، وقد تدعى نوبنجان. ذكرها في معجم البلدان: ج 5 ص 302، ونزهة القلوب: المقالة الثالثة، ص 128 وآثار العجم: ص 90 و 304.
وقد بقيت اليوم منها قرية صغيرة في جنوبي إيران بين مدينتي شيراز وفسا تدعى (نوبندكان).
(3). عمر بن أبي سلمة هذا هو الذي قرء كتاب سليم على الإمام السجاد عليه السلام كما سيجيئ.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 126
--------------------------------------------------------------------------------
حين مرضت أن أحرقها، فتأثمت من ذلك وقطعت به. (1) فإن جعلت لي عهد الله عز وجل وميثاقه أن لا تخبر بها أحدا ما دمت حيا، ولا تحدث بشئ منها بعد موتي إلا من تثق به كثقتك بنفسك، وإن حدث بك حدث أن تدفعها إلى من تثق به من شيعة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ممن له دين وحسب.
فضمنت ذلك له، فدفعها إلي وقرأها كلها علي. فلم يلبث سليم أن هلك، رحمه الله.
إقرار الحسن البصري بمحتوى كتاب سليم
فنظرت فيها بعده فقطعت بها (2) وأعظمتها واستصعبتها (3)، لأن فيها هلاك جميع أمة محمد صلى الله عليه وآله من المهاجرين والأنصار والتابعين، غير علي بن أبي طالب وأهل بيته صلوات الله عليهم وشيعته.
فكان أول من لقيت بعد قدومي البصرة الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو يومئذ متوار من الحجاج. والحسن يومئذ من شيعة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومن مفرطيهم (4)، نادم متلهف على ما فاته من نصرة علي عليه السلام والقتال معه يوم الجمل.
فخلوت به في شرقي دار أبي خليفة الحجاج بن أبي عتاب الديلمي (5)، فعرضتها عليه، فبكى ثم قال: (ما في أحاديثه شئ إلا حق، قد سمعته من الثقات من شيعة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وغيرهم ".
____________
(1). تأثم أي امتنع من الإثم، وقطع به أي امتنع منه ولم يره صوابا.
(2). أي جزمت بما فيها. في (د): ففظعت بها.
(3). أي وجدتها صعبا.
(4). إن الحسن البصري من المذبذبين المنافقين، وإن أبان يشير إلى نفاقه بقوله: (يومئذ)، أي كان في تلك الأيام يظهر الإفراط في التشيع. راجع عن أحوال الحسن البصري: بحار الأنوار: ج 2 ص 64، و ج 42 ص 141.
(5). هو الذي توارى عنده الحسن البصري كما يصرح بذلك أبان في الحديث 58. وقد يذكر بعنوان (الحجاج بن عتاب العبدي البصري). وفي (د): (الدئلي) مكان (الديلمي).
قال أبان: فحججت من عامي ذلك فدخلت على علي بن الحسين عليه السلام، وعنده أبو الطفيل عامر بن واثلة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله - وكان من خيار أصحاب علي عليه السلام - ولقيت عنده عمر بن أبي سلمة ابن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله. (1)
فعرضته عليه وعلى أبي الطفيل وعلى علي بن الحسين عليه السلام ذلك أجمع ثلاثة أيام - كل يوم إلى الليل - ويغدو عليه عمر وعامر. فقرآه عليه ثلاثة أيام، فقال عليه السلام لي (2):
(صدق سليم، رحمه الله، هذا حديثنا كله (3) نعرفه). وقال أبو الطفيل وعمر بن أبي سلمة: (ما فيه حديث إلا وقد سمعناه من علي صلوات الله عليه، ومن سلمان ومن أبي ذر ومن المقداد).
فقلت لأبي الحسن علي بن الحسين عليه السلام: جعلت فداك، إنه ليضيق صدري ببعض ما فيه، لأن فيه هلاك أمة محمد صلى الله عليه وآله رأسا من المهاجرين والأنصار والتابعين، غيركم أهل البيت وشيعتكم.
فقال عليه السلام: يا أخا عبد القيس، أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (إن مثل أهل بيتي في أمتي كمثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وكمثل باب حطة في بني إسرائيل)؟ (4) فقلت: نعم. قال: من حدثك؟ فقلت: قد سمعته من أكثر من
____________
(1). أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني الأسقع ولد عام أحد وأدرك النبي صلى الله عليه وآله ثماني سنين من حياة النبي. كان له منزلة عند أمير المؤمنين عليه السلام وشهد صفين وكان يسكن الكوفة ثم انتقل إلى مكة. وهو من جملة من أراد الحجاج قتلهم لكنه نجا لأنه كانت له يد عند عبد الملك. مات سنة 100 وهو آخر من بقي من الصحابة.
وأبو حفص عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وكان من أصحابه. كان واليا على البحرين من قبل علي عليه السلام وشهد معه صفين. توفي بالمدينة في سنة 83.
(2). (ب): فقرأته عليهم، فقالوا لي.
(3). (ب): كل. (ب) خ ل: كلنا. وفي (د): كله أعرفه.
(4) " باب حطة " في بني إسرائيل كان علامة الخضوع أمام الأوامر الإلهية ولذلك كان الوجب عليهم أن يدخلوا منها في حالة السجود ليعرف خضوعهم. فتشبيه أهل البيت عليهم السلام بباب حطة لأن الخلق بالتواضع والخضوع أمامهم يخضعون تجاه الأوامر الإلهية، فقد ورد في إثبات الهداة: ج 1 ص 618 ح 657 أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل الذي من دخله غفرت ذنوبه واستحق الزيادة من خالقه كما قال الله عز وجل: أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. راجع عن باب حطة: البحار: ج 13 ص 185 - 180.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 128
--------------------------------------------------------------------------------
مائة من الفقهاء. فقال: ممن؟ فقلت: سمعته من حنش بن المعتمر، وذكر أنه سمعه من أبي ذر وهو آخذ بحلقة باب الكعبة ينادي به نداء ويرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله.(1) فقال:
وممن؟ فقلت: ومن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه سمعه من أبي ذر ومن المقداد بن الأسود الكندي ومن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فقال: وممن؟ (2) فقلت:
ومن سعيد بن المسيب وعلقمة بن قيس، ومن أبي ظبيان الجنبي، ومن عبد الرحمن بن أبي ليلى (3) - كل هؤلاء حاجين - أخبروا أنهم سمعوا من أبي ذر.
____________
(1). أوردنا هذا الحديث عن سليم في المستدركات: الحديث 75.
(2). من هنا إلى آخر العبارة في (د) هكذا: قال: وممن نقلت؟ قلت: من سعيد بن المسيب وعلقمة بن قيس وأبي ظبيان الجنبي وأبي وائل أنهم سمعوه من أبي ذر، ومن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعاصم بن ضمرة وهبيرة بن مريم عن علي عليه السلام.
ثم إن أبا وائل هو شقيق بن سلمة مات في إمارة عمر بن عبد العزيز. وعاصم بن ضمرة السلولي من أصحاب علي عليه السلام. وهبيرة بن مريم الحميري الكوفي من أصحاب علي عليه السلام.
(3). أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي المتوفى سنة 94، رباه أمير المؤمنين عليه السلام وقد عد في الخمس الذين كانوا حواري علي بن الحسين عليه السلام.
وعلقمة بن قيس كان فقيها في دينه قارئا لكتاب الله عالما بالفرائض وهو من كبار التابعين ورؤسائهم وزهادهم، وكان من ثقات أمير المؤمنين عليه السلام. شهد صفين وأصيبت إحدى رجليه فعرج منها.
وأبو ظبيان حصين بن جندب بن الحارث الجنبي من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام من اليمن، تابعي مشهور الحديث. مات سنة 90.
وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، عربي كوفي من خواص أمير المؤمنين عليه السلام ومن أصحابه من اليمن.
شهد مع علي عليه السلام مشاهده وهو الذي ضربه الحجاج حتى اسود كتفاه. قتل سنة 82.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 129
--------------------------------------------------------------------------------
وقال أبو الطفيل وعمر بن أبي سلمة: (ونحن والله سمعنا من أبي ذر، وسمعناه من علي بن أبي طالب عليه السلام والمقداد وسلمان). ثم أقبل عمر بن أبي سلمة فقال: والله، لقد سمعته ممن هو خير من هؤلاء كلهم، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله، سمعته أذناي ووعاه قلبي.
فأقبل علي علي بن الحسين عليه السلام فقال: أوليس هذا الحديث وحده ينتظم جميع ما أفظعك وعظم في صدرك من تلك الأحاديث؟ اتق الله يا أخا عبد القيس، فإن وضح لك أمر فاقبله وإلا فاسكت تسلم ورد علمه إلى الله، فإنك في أوسع مما بين السماء والأرض.
قال أبان: فعند ذلك سألته عما يسعني جهله وعما لا يسعني جهله، فأجابني بما أجابني.
أبان وأبو الطفيل
قال أبان: ثم لقيت أبا الطفيل بعد ذلك في منزله، فحدثني في الرجعة عن أناس من أهل بدر وعن سلمان وأبي ذر والمقداد وأبي بن كعب. (1) وقال أبو الطفيل: فعرضت ذلك الذي سمعته منهم على علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة، فقال لي: (هذا علم خاص يسع الأمة جهله ورد علمه إلى الله تعالى). ثم صدقني بكل ما حدثوني فيها وقرأ علي بذلك قرآنا كثيرا وفسره تفسيرا شافيا، حتى صرت ما أنا بيوم القيامة بأشد يقينا مني بالرجعة. (2)
وكان مما قلت: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن حوض رسول الله صلى الله عليه وآله، أفي الدنيا هو أم في الآخرة؟ فقال: بل في الدنيا. (3) قلت: فمن الذائد عنه؟ قال: أنا بيدي هذه، فليردنه
____________
(1). أبو المنذر أبي بن كعب بن قيس بن عبيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله. شهد العقبة مع السبعين وكان يكتب الوحي. شهد بدرا والعقبة وهو من الاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر.
(2). راجع عن (الرجعة): البحار: ج 53 ص 39 ب 29.
(3). الظاهر - بقرينة كلمة (بل) - أنه عليه السلام يريد بذلك أن أصل الحوض في الدنيا وهو محبة محمد وآله عليهم السلام وولايتهم وبغض أعدائهم كما يستفاد ذلك من أحاديث كثيرة. يراجع البحار: ج 8 ص 16 الباب 20.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 130
--------------------------------------------------------------------------------
أوليائي وليصرفن عنه أعدائي.
قلت: يا أمير المؤمنين، قول الله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم، أن الناس...) الآية (1)، ما الدابة؟ قال: يا أبا الطفيل، اله (2) عن هذا. فقلت:
يا أمير المؤمنين، أخبرني به جعلت فداك. قال: هي دابة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتنكح النساء. فقلت: يا أمير المؤمنين، من هو؟ قال: هو زر الأرض (3) الذي إليه تسكن الأرض. قلت: يا أمير المؤمنين، من هو؟ قال: صديق هذه الأمة وفاروقها ورئيسها وذو قرنها. قلت: يا أمير المؤمنين، من هو؟ قال: الذي قال الله عز وجل:
(ويتلوه شاهد منه) (4)، والذي (عنده علم الكتاب) (5)، (والذي جاء بالصدق) (6)، والذي (صدق به) أنا، والناس كلهم كافرون غيري وغيره. (7)
قلت: يا أمير المؤمنين، فسمه لي. قال: قد سميته لك.
____________
(1). سورة النمل: الآية 82. وبقية الآية هكذا: (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون). روى في البحار: ج 39 ص 243 ح 31 عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه. فحركه برجله ثم قال:
قم يا دابة الله فقال رجل من أصحابه:
يا رسول الله، أيسمى بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا والله، ما هو إلا له خاصة وهو دابة الأرض الذي ذكر الله في كتابه: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون).
ثم قال: يا علي، إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك....
(2). (ب): إليك.
(3). زر الأرض كناية عما به قوامها.
(4). سورة هود: الآية 17، وما قبل الآية هكذا: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه).
(5). سورة الرعد: الآية 43، وما قبل الآية هكذا: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب).
(6). سورة الزمر: الآية 33. وتمام الآية هكذا: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون).
(7). أي أنا الذي صدقت الصدق الذي جاء به، والناس كلهم كانوا كافرين به ومكذبين له غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وآله. وفي (د) هكذا: والذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي صدق به (أنا) أيام كان الناس كلهم كافرين مكذبين غيري وغيره.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 131
--------------------------------------------------------------------------------
يا أبا الطفيل، والله لو دخلت على عامة شيعتي الذين بهم أقاتل، الذين أقروا بطاعتي وسموني (أمير المؤمنين) واستحلوا جهاد من خالفني، فحدثتهم شهرا ببعض ما أعلم من الحق في الكتاب الذي نزل به جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وببعض ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرقوا عني حتى أبقى في عصابة حق قليلة، أنت وأشباهك من شيعتي.
ففزعت وقلت: يا أمير المؤمنين، أنا وأشباهي نتفرق عنك أو نثبت معك؟ قال: لا، بل تثبتون.
ثم أقبل علي فقال: إن أمرنا صعب مستصعب لا يعرفه ولا يقر به إلا ثلاثة: ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن نجيب امتحن الله قلبه للإيمان. يا أبا الطفيل، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض فارتد الناس ضلالا وجهالا (1)، إلا من عصمه الله بنا أهل البيت.
قراءة أبان كتاب سليم على ابن أذينة وتسليمه إياه
قال عمر بن أذينة: ثم دفع إلي أبان (كتاب سليم بن قيس الهلالي العامري)، ولم يلبث أبان بعد ذلك إلا شهرا (2) حتى مات. فهذه نسخة كتاب سليم بن قيس العامري الهلالي، دفعه إلي أبان بن أبي عياش وقرأه علي. وذكر أبان أنه قرأه على علي بن الحسين عليه السلام فقال: (صدق سليم، هذا حديثنا نعرفه). (3)
____________
(1). في (د): فارتد الناس بعده كفارا.
(2). (ب): شهرين.
(3). في مختصر البصائر: (هذه أحاديثنا صحيحة)، والظاهر أنه نقل بالمعنى.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 132
--------------------------------------------------------------------------------
1
كلام النبي صلى الله عليه وآله في اللحظة الأخيرة من عمره المبارك
قال سليم: سمعت سلمان الفارسي يقول: كنت جالسا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي قبض فيه. فدخلت فاطمة عليها السلام، فلما رأت ما برسول الله صلى الله عليه وآله من الضعف خنقتها العبرة حتى جرت دموعها على خديها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا بنية، ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله، أخشى على نفسي وولدي الضيعة من بعدك.
آل محمد عليهم السلام خيرة الله في أرضه
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله - واغرورقت عيناه بالدموع -: يا فاطمة، أوما علمت إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنه حتم الفناء على جميع خلقه وإن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارني منهم فجعلني نبيا. ثم اطلع إلى الأرض ثانية فاختار بعلك وأمرني أن أزوجك إياه، وأن أتخذه أخا ووزيرا ووصيا وأن أجعله خليفتي في أمتي.
فأبوك خير أنبياء الله ورسله، وبعلك خير الأوصياء والوزراء، وأنت أول من يلحقني من أهلي. ثم اطلع إلى الأرض إطلاعة ثالثة فاختارك وأحد عشر رجلا من ولدك وولد أخي بعلك منك.
بشارة النبي بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام
فأنت سيدة نساء أهل الجنة وابناك الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأنا
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 133
--------------------------------------------------------------------------------
وأخي والأحد عشر إماما أوصيائي إلى يوم القيامة، كلهم هادون مهديون.
أول الأوصياء بعد أخي، الحسن ثم الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين في منزل واحد في الجنة. وليس منزل أقرب إلى الله من منزلي ثم منزل إبراهيم وآل إبراهيم.
إكرام الله لفاطمة عليها السلام
أما تعلمين - يا بنية - أن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي وخير أهل بيتي، أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما وأكرمهم نفسا وأصدقهم لسانا وأشجعهم قلبا وأجودهم كفا وأزهدهم في الدنيا وأشدهم اجتهادا. فاستبشرت فاطمة عليها السلام بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وفرحت.
ميزات أمير المؤمنين عليه السلام
ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لعلي بن أبي طالب ثمانية أضراس ثواقب نوافذ، ومناقب ليست لأحد من الناس:
إيمانه بالله وبرسوله قبل كل أحد ولم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي، وعلمه بكتاب الله وسنتي وليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي غير بعلك، لأن الله علمني علما لا يعلمه غيري وغيره، ولم يعلم ملائكته ورسله وإنما علمه إياي وأمرني الله أن أعلمه عليا ففعلت ذلك. فليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي وفهمي وفقهي كله غيره.
وإنك - يا بنية - زوجته، وإن ابنيه سبطاي الحسن والحسين وهما سبطا أمتي. وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإن الله جل ثناؤه علمه الحكمة وفصل الخطاب.
ميزات أهل البيت عليهم السلام الخاصة
يا بنية، إنا أهل بيت أعطانا الله سبع خصال لم يعطها أحدا من الأولين ولا أحدا من الآخرين غيرنا: أنا سيد الأنبياء والمرسلين وخيرهم، ووصيي خير الوصيين، ووزيري بعدي خير الوزراء، وشهيدنا خير الشهداء أعني حمزة عمي.
قالت: يا رسول الله، سيد الشهداء الذين قتلوا معك؟ قال: لا، بل سيد الشهداء من الأولين والآخرين ما خلا الأنبياء والأوصياء. (1)
وجعفر بن أبي طالب ذو الهجرتين وذو الجناحين المضرجين يطير بهما مع الملائكة في الجنة. (2) وابناك الحسن والحسين سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة. ومنا - والذي نفسي بيده - مهدي هذه الأمة الذي يملأ الله به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
قالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله، فأي هؤلاء الذين سميت أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أخي علي أفضل أمتي، وحمزة وجعفر هذان أفضل أمتي بعد علي وبعدك وبعد ابني وسبطي الحسن والحسين وبعد الأوصياء من ولد ابني هذا - وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله بيده إلى الحسين عليه السلام - منهم المهدي. والذي قبله أفضل منه، الأول خير من الآخر لأنه إمامه والآخر وصي الأول. إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا.
إخبار النبي صلى الله عليه وآله بتظاهر الأمة على علي عليه السلام من بعده
ثم نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى فاطمة وإلى بعلها وإلى ابنيها فقال: يا سلمان، أشهد الله أني حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم. أما إنهم معي في الجنة.
ثم أقبل النبي صلى الله عليه وآله على علي عليه السلام فقال: يا علي، إنك ستلقي بعدي من قريش شدة، من تظاهرهم عليك وظلمهم لك. فإن وجدت أعوانا عليهم فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك، فإن لم تجد أعوانا فاصبر وكف يدك ولا تلق بيدك إلى التهلكة،
____________
(1). (ب): ما خلا النبيين والوصيين. وبيان ذلك أن الأنبياء والأوصياء لا يقاسوا بغيرهم وخاصة المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وقد تواترت الروايات بأن أبا عبد الله الحسين بن علي عليه السلام هو سيد الشهداء من الأولين والآخرين.
(2). ذكر حمزة وجعفر قبل أصحاب الكساء إنما هو للتقدم الزماني أو أن الكلام في بيان خير الشهداء كما ترى بيانه بعد ذلك بأسطر.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 135
--------------------------------------------------------------------------------
فإنك مني بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أسوة حسنة. إنه قال لأخيه موسى (1):
(إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني).
____________
(1). سورة الأعراف: الآية 150، وتمام الآية هكذا: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 136
--------------------------------------------------------------------------------
2
تظاهر الأمة على علي عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
قال سليم: وحدثني علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض طرق المدينة. فأتينا على حديقة فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة قال: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها.
ثم أتينا على حديقة أخرى، فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة قال:
ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها. حتى أتينا على سبع حدائق، أقول: يا رسول الله، ما أحسنها ويقول: لك في الجنة أحسن منها.
علي عليه السلام الشهيد الوحيد الفريد
فلما خلا له الطريق اعتنقني، ثم أجهش باكيا فقال: بأبي الوحيد الشهيد فقلت:
يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي، أحقاد بدر وترات أحد.
مني بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه.
فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك، فإنك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه وهم بمنزلة العجل ومن تبعه. وإن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم: إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم بهم، وإن لم يجد أعوانا أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم.
اختلاف الأمة امتحان إلهي
يا علي، ما بعث الله رسولا إلا وأسلم معه قوم طوعا وقوم آخرون كرها، فسلط الله الذين أسلموا كرها على الذين أسلموا طوعا فقتلوهم ليكون أعظم لأجورهم.
يا علي، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة، ولو شاء لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه ولا يتنازع في شئ من أمره، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله. ولو شاء عجل النقمة فكان منه التغيير (1) حتى يكذب الظالم ويعلم الحق أين مصيره، ولكن جعل الدنيا دار الأعمال وجعل الآخرة دار القرار، (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى). (2)
فقلت: الحمد لله شكرا على نعمائه وصبرا على بلائه وتسليما ورضى بقضائه.
____________
(1). أي لو شاء الله أن ينصر أوليائه لعجل النقمة على الظالمين وغير النعمة عليهم.
(2). سورة النجم: الآية 31.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 138
--------------------------------------------------------------------------------
3
قضايا السقيفة على لسان البراء بن عازب
وعن سليم، قال: سمعت البراء بن عازب يقول:
كنت أحب بني هاشم حبا شديدا في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد وفاته.
كيفية تغسيل رسول الله صلى الله عليه وآله
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى عليا عليه السلام أن لا يلي غسله غيره، وأنه لا ينبغي لأحد أن يرى عورته غيره، وأنه ليس أحد يرى عورة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ذهب بصره.
فقال علي عليه السلام: يا رسول الله، فمن يعينني على غسلك؟ قال: جبرائيل في جنود من الملائكة.
فكان علي عليه السلام يغسله، والفضل بن العباس مربوط العينين يصب الماء والملائكة يقلبونه له كيف شاء. ولقد أراد علي عليه السلام أن ينزع قميص رسول الله صلى الله عليه وآله، فصاح به صائح:
(لا تنزع قميص نبيك، يا علي). فأدخل يده تحت القميص فغسله ثم حنطه وكفنه، ثم نزع القميص عند تكفينه وتحنيطه.
مفاجأة أهل البيت عليهم السلام بعمل أصحاب السقيفة
قال البراء بن عازب: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله تخوفت أن تتظاهر قريش على إخراج هذا الأمر من بني هاشم.
فلما صنع الناس ما صنعوا من بيعة أبي بكر أخذني ما يأخذ الواله الثكول مع ما بي من الحزن لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.
فجعلت أتردد وأرمق وجوه الناس، وقد خلا الهاشميون برسول الله صلى الله عليه وآله لغسله وتحنيطه. وقد بلغني الذي كان من قول سعد بن عبادة ومن اتبعه من جهلة أصحابه، فلم أحفل بهم وعلمت أنه لا يؤول إلى شئ.
فجعلت أتردد بينهم وبين المسجد وأتفقد وجوه قريش. فإني لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر. ثم لم ألبث حتى إذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمر بهم أحد إلا خبطوه، فإذا عرفوه مدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر، شاء ذلك أم أبى (1)
فأنكرت عند ذلك عقلي جزعا منه، مع المصيبة برسول الله صلى الله عليه وآله. فخرجت مسرعا حتى أتيت المسجد، ثم أتيت بني هاشم، والباب مغلق دونهم. فضربت الباب ضربا عنيفا وقلت: يا أهل البيت فخرج إلي الفضل بن العباس، فقلت: قد بايع الناس أبا بكر فقال العباس: (قد تربت أيديكم منها إلى آخر الدهر. أما إني قد أمرتكم فعصيتموني).
ما جرى بين صالحي الصحابة ليلة السقيفة
فكمثت أكابد ما في نفسي. فلما كان الليل خرجت إلى المسجد، فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرآن. فانبعثت من مكاني فخرجت نحو الفضاء - فضاء بني بياضة -، فوجدت نفرا يتناجون. فلما دنوت منهم سكتوا، فانصرفت عنهم، فعرفوني وما عرفتهم، فدعوني إليهم فأتيتهم فإذا المقداد وأبو ذر وسلمان وعمار بن ياسر وعبادة بن الصامت وحذيفة بن اليمان والزبير بن العوام،
____________
(1). روى الشيخ المفيد في كتاب (الجمل): ص 59 عن أبي مخنف بأسناده قال: كان جماعة من الأعراب قد دخلوا المدينة ليتماروا منها، فشغل الناس عنهم بموت رسول الله صلى الله عليه وآله فشهدوا البيعة وحضروا الأمر.
فأنفذ إليهم عمر واستدعاهم وقال لهم: (خذوا بالحظ من المعونة على بيعة خليفة رسول الله واخرجوا إلى الناس واحشروهم ليبايعوا، فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه). قال: والله، لقد رأيت الأعراب تحزموا واتشحوا بالأزر الصنعانية وأخذوا بأيديهم الخشب وخرجوا حتى خبطوا الناس خبطا وجاءوا بهم مكرهين للبيعة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 140
--------------------------------------------------------------------------------
وحذيفة يقول: والله ليفعلن ما أخبرتكم به. فوالله ما كذبت ولا كذبت.
وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين والأنصار. فقال حذيفة:
انطلقوا بنا إلى أبي بن كعب فقد علم مثل ما علمت.
فانطلقنا إلى أبي بن كعب فضربنا عليه بابه، فأتى حتى صار خلف الباب، ثم قال:
من أنتم؟ فكلمه المقداد. فقال: ما جاء بكم؟ فقال: إفتح بابك، فإن الأمر الذي جئنا فيه أعظم من أن يجري وراء الباب. فقال: ما أنا بفاتح بابي، وقد علمت ما جئتم له. وما أنا بفاتح بابي، كأنكم أردتم النظر في هذا العقد.
فقلنا: نعم. فقال: أفيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم. قال: القول ما قال حذيفة، فأما أنا فلا أفتح بابي حتى يجري على ما هو جار عليه، ولما يكون بعدها شر منها، وإلى الله جل ثنائه المشتكى.
قال: فرجعوا. ثم دخل أبي بن كعب بيته.
محاولة أصحاب السقيفة تطميع العباس في الخلافة
قال: وبلغ أبا بكر وعمر الخبر، فأرسلا إلى أبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة فسألاهما الرأي. فقال المغيرة بن شعبة: أرى أن تلقوا العباس بن عبد المطلب فتطمعوه في أن يكون له في هذا الأمر نصيب يكون له ولعقبه من بعده فتقطعوا عنكم بذلك ناحية علي بن أبي طالب، فإن العباس بن عبد المطلب لو صار معكم كانت الحجة على الناس وهان عليكم أمر علي بن أبي طالب وحده.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة حتى دخلوا على العباس بن عبد المطلب في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: فتكلم أبو بكر فحمد الله جل وعز وأثنى عليه ثم قال: إن الله بعث لكم محمدا نبيا وللمؤمنين وليا، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم، حتى اختار له ما عنده وترك للناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم، متفقين لا مختلفين. فاختاروني عليهم
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 141
--------------------------------------------------------------------------------
واليا ولأمورهم راعيا، فتوليت ذلك. وما أخاف بعون الله وهنا ولا حيرة ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله.
غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني فيقول بخلاف قول العامة، فيتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع وخطبه البديع، فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه أو صرفتموهم عما مالوا إليه. فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك، إذ كنت عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن كان الناس أيضا قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا بهذا الأمر عنكما.
فقال عمر (1): أي والله، وأخرى يا بني هاشم على رسلكم (2)، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم، وإنا لم نأتكم لحاجة منا إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون، فيتفاقم الخطب بكم وبهم. فانظروا لأنفسكم وللعامة. ثم سكت.
مواجهة العباس لمؤامرة أصحاب السقيفة
فتكلم العباس فقال: إن الله تبارك وتعالى ابتعث محمدا صلى الله عليه وآله - كما وصفت - نبيا وللمؤمنين وليا، فإن كنت برسول الله صلى الله عليه وآله طلبت هذا الأمر فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن من المؤمنين، ما تقدمنا في أمرك ولا تشاورنا ولا تآمرنا ولا نحب لك ذلك، إذ كنا من المؤمنين وكنا لك من الكارهين.
وأما قولك (أن تجعل لي في هذا الأمر نصيبا)، فإن كان هذا الأمر لك خاصة فأمسك عليك فلسنا محتاجين إليك وإن كان حق المؤمنين فليس لك أن تحكم في حقهم دونهم، وإن كان حقنا فإنا لا نرضى منك ببعضه دون بعض. (3)
____________
(1). (ب): فتكلم عمر فقال. وفي شرح النهج: (فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته فقال...).
(2). (ترسل) أي تمهل ولم يعجل. و (على رسلك) أي على هينتك، و (الرسل): الرفق. وقوله (يتفاقم الخطب) أي يعظم الأمر ولا يجري على استواء.
(3). زاد في شرح النهج: (وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه، ولكن للحجة نصيبها من البيان).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 142
--------------------------------------------------------------------------------
وأما قولك يا عمر (إن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم)، فإن رسول الله شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها، فنحن أولى به منكم.
وأما قولك (إنا نخاف تفاقم الخطب بكم وبنا)، فهذا الذي فعلتموه أوائل ذلك، والله المستعان.
فخرجوا من عنده وأنشأ العباس يقول:
ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفا عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعلم الناس بالآثار والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم وليس في الناس ما فيه من الحسن
من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه ها إن بيعتكم من أول الفتن
قضايا السقيفة على لسان سلمان الفارسي
1
احتجاج الأنصار على أهل السقيفة
وعن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس قال: سمعت سلمان الفارسي قال:
لما أن قبض النبي صلى الله عليه وآله وصنع الناس ما صنعوا جاءهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح فخاصموا الأنصار فخصموهم بحجة علي عليه السلام فقالوا: يا معاشر الأنصار، قريش أحق بالأمر منكم لأن رسول الله صلى الله عليه وآله من قريش، والمهاجرون خير منكم لأن الله بدأ بهم في كتابه وفضلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (الأئمة من قريش).
كيفية تغسيل النبي صلى الله عليه وآله والصلاة عليه
قال سلمان: فأتيت عليا عليه السلام وهو يغسل رسول الله صلى الله عليه وآله. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى عليا عليه السلام أن لا يلي غسله غيره. فقال: يا رسول الله، فمن يعينني على ذلك؟
فقال: (جبرائيل). فكان علي عليه السلام لا يريد عضوا إلا قلب له.
فلما غسله وحنطه وكفنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام. فتقدم علي عليه السلام وصففنا خلفه وصلى عليه، وعائشة في الحجرة لا تعلم قد أخذ الله ببصرها.
ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار، فكانوا يدخلون ويدعون ويخرجون، حتى لم يبق أحد شهد من المهاجرين والأنصار إلا صلى عليه. (1)
أفراد قلائل بايعوا أبا بكر
قال سلمان الفارسي: فأخبرت عليا عليه السلام - وهو يغسل رسول الله صلى الله عليه وآله - بما صنع القوم، وقلت: إن أبا بكر الساعة لعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، ما يرضون يبايعونه بيد واحدة (2) وإنهم ليبايعونه بيديه جميعا بيمينه وشماله!
فقال علي عليه السلام: يا سلمان، وهل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قلت: لا، إلا أني رأيته في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار، وكان أول من بايعه المغيرة بن شعبة ثم بشير (3) بن سعيد ثم أبو عبيدة الجراح ثم عمر بن الخطاب ثم سالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل.
قال عليه السلام: لست أسألك عن هؤلاء، ولكن هل تدري من أول من بايعه حين صعد المنبر؟ قلت: لا، ولكني رأيت شيخا كبيرا يتوكأ على عصاه، بين عينيه سجادة شديدة التشمير، صعد المنبر أول من صعد وخر وهو يبكي ويقول: (الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك في هذا المكان، ابسط يدك). فبسط يده فبايعه، ثم قال: (يوم كيوم آدم) ثم نزل فخرج من المسجد. (4)
____________
(1). عن أبي جعفر عليه السلام، قيل له: كيف كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله؟ قال: لما غسله أمير المؤمنين عليه السلام وكفنه وسجاه، أدخل عليه عشرة فداروا حوله ثم وقف أمير المؤمنين عليه السلام في وسطهم فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). فيقول القوم كما يقول حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي. أورد ذلك في الكافي: ج 1 ص 450، إعلام الورى: ص 84. وسائل الشيعة:
ج 2 ص 779.
(2). في (د) وروضة الكافي: والله ما يرضى أن يبايعوه بيد واحدة.
(3). (ب): بشر. يوجد ضبطه بكلا العنوانين، كما أن اسم أبيه قد يذكر بعنوان (سعد).
(4). روي في البحار: ج 30 ص 155 ح 13 عنه عليه السلام: أن إبليس هو الذي أشار على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله في دار الندوة وأضل الناس بالمعاصي وجاء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبي بكر فبايعه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 145
--------------------------------------------------------------------------------
فقال علي عليه السلام: يا سلمان، أتدري من هو؟ قلت: لا، لقد ساءتني مقالته كأنه شامت بموت رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال علي عليه السلام: فإن ذلك إبليس لعنه الله.
إبليس ينتقم بالسقيفة من يوم الغدير
أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله: إن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله صلى الله عليه وآله إياي يوم غدير خم بأمر الله، وأخبرهم بأني أولى بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب. فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه فقالوا: (إن هذه الأمة أمة مرحومة معصومة، فما لك ولا لنا عليهم سبيل، وقد أعلموا مفزعهم وإمامهم بعد نبيهم).
فانطلق إبليس كئيبا حزينا.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ذلك وقال: يبايع الناس أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد تخاصمهم بحقنا وحجتنا. ثم يأتون المسجد فيكون أول من يبايعه على منبري إبليس في صورة شيخ كبير مشمر يقول كذا وكذا. ثم يخرج فيجمع أصحابه وشياطينه وأبالسته فيخرون سجدا فيقولون: (يا سيدنا، يا كبيرنا، أنت الذي أخرجت آدم من الجنة). فيقول: أي أمة لن تضل بعد نبيها؟ كلا (1)، زعمتم أن ليس لي عليهم سلطان ولا سبيل؟ فكيف رأيتموني صنعت بهم حين تركوا ما أمرهم الله به من طاعته وأمرهم به رسول الله وذلك قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين). (2)
____________
(1). (ب) مكان قوله (فيقولون) إلى هنا هكذا: (فيجث ويكسع ثم يقول). ويجث بمعنى يقلع من مكانه، ويكسع أي يضرب دبره بيده فرحا.
2
أمير المؤمنين عليه السلام يقيم الحجة على الأجيال
قال سلمان: فلما أن كان الليل حمل علي عليه السلام فاطمة عليها السلام على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام، فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتاه في منزله فذكرهم حقه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم إلا أربعة وأربعون رجلا. فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم معهم سلاحهم ليبايعوا على الموت.
فأصبحوا فلم يواف منهم أحد إلا أربعة. فقلت لسلمان: من الأربعة؟ فقال: أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام.
ثم أتاهم علي عليه السلام من الليلة المقبلة فناشدهم، فقالوا: (نصبحك بكرة) فما منهم أحد أتاه غيرنا. ثم أتاهم الليلة الثالثة فما أتاه غيرنا.
علي عليه السلام يجمع القرآن ويعرضه على الناس
فلما رآى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع. (1)
فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع. فبعث إليه علي عليه السلام: (إني لمشغول وقد آليت نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه).
فسكتوا عنه أياما فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله. فنادى علي عليه السلام بأعلى صوته:
____________
(1). الأشظاظ بمعنى العيدان المتفرقة، والأسيار جمع السير وهو قدة من الجلد مستطيلة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 147
--------------------------------------------------------------------------------
(يا أيها الناس، إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد. فلم ينزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وآله آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمني تأويلها).
ثم قال لهم علي عليه السلام: لئلا تقولوا غدا: (إنا كنا عن هذا غافلين). (1)
ثم قال لهم علي عليه السلام: لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته.
فقال عمر: ما أغنانا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه (2) ثم دخل علي عليه السلام بيته.
إقامة الحجة على أبي بكر في ما ادعاه من ألقاب
وقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى علي فليبايع، فإنا لسنا في شئ حتى يبايع، ولو قد بايع أمناه.
____________
(1). لعله إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأعراف الآية 172: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).
(2). في الإحتجاج: فقالوا: لا حاجة لنا به، عندنا مثله وبعده في (د) هكذا: فدخل بيته وأغلق بابه.
في البحار: ج 92 ص 42 ح 2 عن أبي ذر: أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله جمع علي عليه السلام القرآن وجاء إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم كما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله. فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم. فوثب عمر وقال: يا علي، أردده فلا حاجة لنا فيه فأخذه علي عليه السلام وانصرف. ثم أحضروا زيد بن ثابت وكان قارئا للقرآن، فقال له عمر: إن عليا عليه السلام جاءنا بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والأنصار. فأجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه، أليس قد بطل ما قد علمتم؟ قال عمر: فما الحيلة؟ قال: زيد: أنتم أعلم بالحيلة. فقال عمر: ما الحيلة دون أن نقتله ونستريح منه. فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد، فلم يقدر على ذلك....
فلما استخلف عمر سأل عليا عليه السلام أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم، فقال: يا أبا الحسن، إن جئت بالقرآن الذي كنت جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه فقال علي عليه السلام: هيهات، ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة: (إنا كنا عن هذا غافلين)، أو تقولوا: (ما جئتنا به).
إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي. فقال عمر: فهل وقت لإظهاره معلوم؟ قال علي عليه السلام: نعم، إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه، فتجري السنة عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 148
--------------------------------------------------------------------------------
فأرسل إليه أبو بكر: (أجب خليفة رسول الله) فأتاه الرسول فقال له ذلك. فقال له علي عليه السلام: (سبحان الله ما أسرع ما كذبتم على رسول الله، إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري). وذهب الرسول فأخبره بما قال له.
قال: اذهب فقل له: (أجب أمير المؤمنين أبا بكر) فأتاه فأخبره بما قال. فقال له علي عليه السلام: سبحان الله ما والله طال العهد فينسى. فوالله إنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي، ولقد أمره رسول الله وهو سابع سبعة فسلموا علي بإمرة المؤمنين. فاستفهم هو وصاحبه عمر من بين السبعة فقالا: أحق من الله ورسوله؟ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم، حقا حقا من الله ورسوله إنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغر المحجلين، يقعده الله عز وجل يوم القيامة على الصراط، فيدخل أوليائه الجنة وأعداءه النار. فانطلق الرسول فأخبره بما قال. قال: فسكتوا عنه يومهم ذلك.
إتمام الحجة على الأنصار ومطالبتهم بالوفاء ببيعتهم
فلما كان الليل حمل علي عليه السلام فاطمة عليها السلام على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام، فلم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أتاه في منزله، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته. فما استجاب منهم رجل غيرنا الأربعة، فإنا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا، وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته.
3
شهادة فاطمة الزهراء عليها السلام
هجوم قبائل قريش على بيت الوحي وإحراقه
فلما رآى علي عليه السلام خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 149
--------------------------------------------------------------------------------
وطاعتهم له وتعظيمهم إياه لزم بيته.
فقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة. وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا، والآخر أفظهما وأغلظهما وأجفاهما.
فقال أبو بكر: من نرسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذا، وهو رجل فظ غليظ جاف من الطلقاء أحد بني عدي بن كعب.
فأرسله إليه وأرسل معه أعوانا وانطلق فاستأذن على علي عليه السلام، فأبى أن يأذن لهم.
فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر - وهما جالسان في المسجد والناس حولهما - فقالوا: لم يؤذن لنا. فقال عمر: اذهبوا، فإن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذن!
فانطلقوا فاستأذنوا، فقالت فاطمة عليها السلام: (أحرج عليكم (1) أن تدخلوا على بيتي بغير إذن). فرجعوا وثبت قنفذ الملعون. فقالوا: إن فاطمة قالت كذا وكذا فتحرجنا (2) أن ندخل بيتها بغير إذن. فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء!
____________
(1). حرج عليه أي شدد عليه.
(2). من هنا إلى قوله: (ثم انطلق بعلي عليه السلام...) (بعد صفحات) في (د) هكذا: فقالوا: إن فاطمة حرجت علينا، فتحرجنا أن ندخل عليها بيتها بغير إذنها. فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء ثم أمر أناسا حوله فحملوا حزم الحطب وحمل عمر معهم فجعلوه حول منزله وفيه علي وفاطمة وابناهما. ثم نادى عمر: يا علي، والله لتخرجن فلتبايعن خليفة رسول الله عليك أو لأضرمنها عليك نارا فلم يجبه.
فوضع عمر النار بالباب وهو متخوف أن يخرج علي عليه السلام بسيفه لما عرف من بأسه وشدته حتى احترق الباب. ثم قال لقنفذ: اقتحم عليه فأخرجه فاقتحم هو وأصحابه وثار علي عليه السلام إلى سيفه فسبقوا إليه وكاثروه فضبطوه وألقوا في عنقه حبلا.
وجاءت فاطمة عليها السلام لتحول بينهم وبينه، فضربها قنفذ بسوطه وأضغطت بين الباب فصاحت: يا أبتاه يا رسول الله وألقت جنينا ميتا وأثر سوط قنفذ في عضدها مثل الدملوج.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 150
--------------------------------------------------------------------------------
ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام. ثم نادى عمر حتى أسمع عليا وفاطمة عليهما السلام: (والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك بيتك النار)!
فقالت فاطمة عليها السلام: يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم.
فقالت: (يا عمر، أما تتقي الله تدخل على بيتي)؟ فأبى أن ينصرف.
ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت:
(يا أبتاه يا رسول الله) فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت:
(يا أبتاه) فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: (يا رسول الله، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر).
دفاع علي عليه السلام عن سليلة النبوة
فوثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيبه ثم نتره (1) فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله، فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وما أوصاه به، فقال: (والذي كرم محمدا بالنبوة - يا بن صهاك - لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وآله لعلمت إنك لا تدخل بيتي).
أبو بكر يصدر أمره بإحراق البيت مرة أخرى
فأرسل عمر يستغيث، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وثار علي عليه السلام إلى سيفه.
فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوف أن يخرج علي عليه السلام إليه بسيفه، لما قد عرف من بأسه وشدته.
فقال أبو بكر لقنفذ: (إرجع، فإن خرج وإلا فاقتحم عليه بيته، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النار). فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وثار علي عليه السلام إلى
____________
(1). أي جذبه بشدة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 151
--------------------------------------------------------------------------------
سيفه فسبقوه إليه وكاثروه وهم كثيرون، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه وضبطوه (1) فألقوا في عنقه حبلا!
وحالت بينهم وبينه فاطمة عليها السلام عند باب البيت، فضربها قنفذ الملعون بالسوط (2) فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته، لعنه الله ولعن من بعث به.
4
بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بالجبر والإكراه
ثم انطلق بعلي عليه السلام يعتل عتلا (3) حتى انتهي به إلى أبي بكر، وعمر قائم بالسيف على رأسه (4)، وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حضير وبشير بن سعيد وسائر الناس جلوس حول أبي بكر عليهم السلاح (5)!
الدخول إلى بيت فاطمة عليها السلام بغير إذن
قال: قلت لسلمان: أدخلوا على فاطمة عليها السلام بغير إذن؟ (6) قال: إي والله، وما عليها من
____________
(1). في الإحتجاج: فضبطوه وألقوا في عنقه حبلا أسود!
(2). (ب): بسوط كان معه. وفي الإحتجاج: بالسوط على عضدها فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج من ضرب قنفذ إياها. فأرسل أبو بكر إلى قنفذ: (اضربها) فألجأها إلى عضادة باب بيتها، فدفعها فكسر ضلعا من جنبها وألقت جنينا من بطنها فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة.
(3). أي يجذب ويجر جرا عنيفا. وفي الإحتجاج: ثم انطلقوا بعلي عليه السلام ملببا بحبل حتى انتهوا به إلى أبي بكر.
(4). (ب): على رأس أبي بكر بالسيف.
(5). في (د): قد سلوا السيوف.
(6). قد نظم العلامة الفقيه السيد محمد بن السيد مهدي القزويني المتوفى 1335 هـ ق، هذا الموضع من أن يدخلوا منها في حالة السجود ليعرف خضوعهم. فتشبيه أهل البيت عليهم السلام بباب حطة لأن الخلق بالتواضع والخضوع أمامهم يخضعون تجاه الأوامر الإلهية، فقد ورد في إثبات الهداة: ج 1 ص 618 ح 657 أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل الذي من دخله غفرت ذنوبه واستحق الزيادة من خالقه كما قال الله عز وجل: أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. راجع عن باب حطة: البحار: ج 13 ص 185 - 180.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 152
--------------------------------------------------------------------------------
خمار فنادت: (وا أبتاه، وارسول الله يا أبتاه فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر عيناك لم تتفقأ في قبرك) - تنادي بأعلى صوتها -. فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون وينتحبون ما فيهم إلا باك غير عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وعمر يقول: إنا لسنا من النساء ورأيهن في شئ.
أمير المؤمنين عليه السلام يقيم الحجة على قريش
قال: فانتهوا بعلي عليه السلام إلى أبي بكر وهو يقول: أما والله لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا أبدا. أما والله ما ألوم نفسي في جهادكم، ولو كنت استمكنت من الأربعين رجلا لفرقت جماعتكم، ولكن لعن الله أقواما بايعوني ثم خذلوني.
ولما أن بصر به أبو بكر صاح: (خلوا سبيله) فقال علي عليه السلام: يا أبا بكر، ما أسرع ما توثبتم على رسول الله بأي حق وبأي منزلة دعوت الناس إلى بيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله؟
وقد كان قنفذ لعنه الله ضرب فاطمة عليها السلام بالسوط - حين حالت بينه وبين زوجها وأرسل إليه عمر: (إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها) - فألجأها قنفذ لعنه الله إلى عضادة باب بيتها ودفعها فكسر ضلعها من جنبها (1) فألقت جنينا من بطنها. فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت صلى الله عليها من ذلك شهيدة.
قال: ولما انتهى بعلي عليه السلام إلى أبي بكر انتهره عمر وقال له: بايع ودع عنك هذه الأباطيل فقال عليه السلام له: فإن لم أفعل فما أنتم صانعون؟ قالوا: نقتلك ذلا وصغارا فقال عليه السلام: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله. فقال أبو بكر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فما نقر بهذا قال: أتجحدون أن رسول الله صلى الله عليه وآله آخى بيني وبينه؟ قال:
نعم. فأعاد ذلك عليهم ثلاث مرات.
ثم أقبل عليهم علي عليه السلام فقال: يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار، أنشدكم الله، أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم غدير خم كذا وكذا وفي غزوة تبوك كذا وكذا؟ فلم يدع عليه السلام شيئا قاله فيه رسول الله صلى الله عليه وآله علانية للعامة إلا ذكرهم إياه.
قالوا: اللهم نعم.
أبو بكر يختلق حديثا لغصب الخلافة
فلما تخوف أبو بكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه بادرهم فقال له (2): كل ما قلت حق قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا، ولكن قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول بعد هذا: (إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة).
____________
(1). (د): ألجأها إلى عضادة بابها فأضغطها فتكسر ضلعا من أضلاعها.
(2). (د): فقال مبادرا: نعم، كل ما قلت حق.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 154
--------------------------------------------------------------------------------
فقال علي عليه السلام: هل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله شهد هذا معك؟ فقال عمر:
صدق خليفة رسول الله، قد سمعته منه كما قال. وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: صدق، قد سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
أمير المؤمنين عليه السلام يفضح الصحيفة الملعونة
فقال لهم علي عليه السلام: لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة (1): " إن قتل الله محمدا أو مات لتزون (2) هذا الأمر عنا أهل البيت ".
فقال أبو بكر: فما علمك بذلك؟ ما أطلعناك عليها (3) فقال عليه السلام: أنت يا زبير وأنت
____________
(1). فضحك أمير المؤمنين عليه السلام وقال: الله أكبر، ما أشد ما وفيتم بصحيفتكم المعلومة التي تعاهدتم وتعاقدتم عليها في الكعبة.
(2). زوى عنه حقه: منعه إياه.
(3). روي في البحار: ج 28 ص 111 - 96، تفصيل المعاقدة ضد الخلافة وكتابة الصحيفة الملعونة ومحتوى الصحيفة، كل ذلك نقلا عن حذيفة بن اليمان الذي كان ممن عايش القضايا وفحص عن جزئياتها.
وملخص ذلك أن أول من تعاقد على غصب الخلافة هو أبو بكر وعمر، وكان الأساس الذي تعاقدوا عليه وارتكز عليه سائر معاهداتهم هو: (إن مات محمد أو قتل نزوي هذا الأمر عن أهل بيته فلا يصل أحد منهم الخلافة ما بقينا).
ثم اتصل بهما أبو عبيدة الجراح ومعاذ بن جبل وأخيرا التحق بهم سالم مولى أبي حذيفة وصاروا خمسة، فاجتمعوا ودخلوا الكعبة فكتبوا بينهم كتابا: (إن مات محمد أو قتل...) وكانت عائشة وحفصة عينين لأبويهما في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع القضايا.
ثم إن أبا بكر وعمر اجتمعا وأرسلا إلى جماعة الطلقاء والمنافقين ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي صلى الله عليه وآله ناقته على عقبة هرشى عند منصرفه من حجة الوداع وهي في طريق مكة قريبة من الجحفة. وكان المتصدين لنفر الناقة أربعة عشر رجلا وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك.
فتقدم الأمر من الله في غدير خم بنصب أمير المؤمنين عليه السلام. ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله من عقبة هرشى تقدم القوم فتواروا في ثنية العقبة، إلا أن الله صرف الشر عن نبيه وفضح أولئك الأربعة عشر.
فلما دخلوا المدينة اجتمعوا جميعا في دار أبي بكر وكتبوا صحيفة بينهم على ما تعاهدوا عليه في الكعبة. وكان أول ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، وأن الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم، ليس بخارج منهم وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلا: هؤلاء أصحاب العقبة وعشرون رجلا آخر منهم أبو سفيان، عكرمة بن أبي جهل، صفوان بن أمية بن خلف، سعيد بن العاص، خالد بن الوليد، عياش بن أبي ربيعة، بشير بن سعيد، سهيل بن عمرو، حكيم بن حزام، صهيب بن سنان، أبو الأعور الأسلمي، مطيع بن الأسود المدري.
وهؤلاء كانوا رؤساء القبائل وأشرافها، وما من رجل من هؤلاء إلا ومعه من الناس خلق عظيم يسمعون له ويطيعون.
وكان الكاتب سعيد بن العاص الأموي، فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم في المحرم سنة عشرة من الهجرة. ثم دفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح فوجه بها إلى مكة فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى أوان عمر بن الخطاب فاستخرجها من موضعها.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 155
--------------------------------------------------------------------------------
يا سلمان وأنت يا أبا ذر وأنت يا مقداد، أسألكم بالله وبالإسلام، أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ذلك وأنتم تسمعون: (إن فلانا وفلانا - حتى عد هؤلاء الخمسة - قد كتبوا بينهم كتابا وتعاهدوا فيه وتعاقدوا أيمانا على ما صنعوا إن قتلت أو مت)؟ (1) فقالوا: اللهم نعم، قد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ذلك لك: (إنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا، وكتبوا بينهم كتابا إن قتلت أو مت أن يتظاهروا عليك وأن يزووا عنك هذا يا علي).
قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فما تأمرني إذا كان ذلك أن أفعل؟ فقال لك: إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعوانا فبايع واحقن دمك.
فقال علي عليه السلام: أما والله، لو أن أولئك الأربعين رجلا الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله، ولكن أما والله لا ينالها أحد من عقبكما إلى يوم القيامة. (2)
الرد على الحديث المختلق بكتاب الله تعالى
وفيما يكذب قولكم على رسول الله صلى الله عليه وآله قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم
____________
(1). (د): وكتبوا بينهم كتابا: إن هلك محمد أن يتظاهروا على أهل بيتي حتى يزيلوا هذا الأمر عنهم.
(2). (د): أما والله لقد أزلتموها عن أهل بيت نبيكم ولا ينالها أحد من عقبكم إلى يوم القيامة. ثم التفت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فنادى: يا بن عم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فالمعذرة إلى الله ثم إليك.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 156
--------------------------------------------------------------------------------
الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) (1)، فالكتاب النبوة، والحكمة السنة، والملك الخلافة، ونحن آل إبراهيم.
دفاع المقداد وسلمان وأبي ذر عن علي عليه السلام
فقام المقداد فقال: يا علي، بما تأمرني؟ والله إن أمرتني لأضربن بسيفي وإن أمرتني كففت. فقال علي عليه السلام: كف يا مقداد، واذكر عهد رسول الله وما أوصاك به.
فقمت (2) وقلت: والذي نفسي بيده، لو أني أعلم أني أدفع ضيما وأعز لله دينا لوضعت سيفي على عنقي ثم ضربت به قدما قدما. أتثبون على أخي رسول الله ووصيه وخليفته في أمته وأبي ولده؟ فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء.
وقام أبو ذر فقال: أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها المخذولة بعصيانها، إن الله يقول:
(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) (3). وآل محمد الأخلاف من نوح وآل إبراهيم من إبراهيم والصفوة والسلالة من إسماعيل وعترة النبي محمد، أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة والكعبة المستورة والعين الصافية والنجوم الهادية والشجرة المباركة، أضاء نورها وبورك زيتها. محمد خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، وعلي وصي الأوصياء وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وهو الصديق الأكبر والفاروق الأعظم ووصي محمد ووارث علمه وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
____________
(1) سورة النساء: الآية 54.
(2). القائل هو سلمان.
(3). سورة آل عمران: الآيتان 33 و 34.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 157
--------------------------------------------------------------------------------
في كتاب الله) (1). فقدموا من قدم الله وأخروا من أخر الله واجعلوا الولاية والوراثة لمن جعل الله.
عمر يهدد عليا بالقتل
فقام عمر فقال لأبي بكر - وهو جالس فوق المنبر -: ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك؟ أو تأمر به فنضرب عنقه - والحسن والحسين قائمان - فلما سمعا مقالة عمر بكيا، فضمهما عليه السلام إلى صدره فقال: لا تبكيا، فوالله ما يقدران على قتل أبيكما.
دفاع أم أيمن وبريدة عن علي عليه السلام
وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: (يا أبا بكر، ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم) فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد وقال: ما لنا وللنساء.
وقام بريدة الأسلمي وقال: أتثب - يا عمر - على أخي رسول الله وأبي ولده وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك؟ ألستما قال لكما رسول الله صلى الله عليه وآله: (انطلقا إلى علي وسلما عليه بإمرة المؤمنين)؟ فقلتما: أعن أمر الله وأمر رسوله؟ قال: نعم.
فقال أبو بكر: قد كان ذلك ولكن رسول الله قال بعد ذلك: (لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة). فقال: والله ما قال هذا رسول الله، والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير.
فأمر به عمر فضرب وطرد!
كيفية بيعة أمير المؤمنين عليه السلام
ثم قال: قم يا بن أبي طالب فبايع. فقال: فإن لم أفعل؟ قال: إذا والله نضرب عنقك
____________
(1). سورة الأحزاب: الآية 6.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 158
--------------------------------------------------------------------------------
فاحتج عليهم ثلاث مرات، ثم مد يده من غير أن يفتح كفه، فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك منه.
فنادى علي عليه السلام قبل أن يبايع - والحبل في عنقه -: (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). (1)
بيعة الزبير وسلمان وأبي ذر والمقداد
وقيل للزبير: بايع، فأبى، فوثب إليه عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة في أناس معهم، فانتزعوا سيفه من يده فضربوا به الأرض حتى كسروه ثم لببوه. فقال الزبير - وعمر على صدره -: يا بن صهاك، أما والله لو أن سيفي في يدي لحدت عني).
ثم بايع.
قال سلمان: ثم أخذوني فوجئوا عنقي حتى تركوها كالسلعة، ثم أخذوا يدي وفتلوها فبايعت مكرها.
ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين، وما بايع أحد من الأمة مكرها غير علي عليه السلام وأربعتنا. ولم يكن منا أحد أشد قولا من الزبير، فإنه لما بايع قال: يا بن صهاك، أما والله لولا هؤلاء الطغاة الذين أعانوك لما كنت تقدم علي ومعي سيفي لما أعرف من جبنك ولؤمك، ولكن وجدت طغاة تقوي بهم وتصول.
فغضب عمر وقال: أتذكر صهاك؟ فقال: ومن صهاك وما يمنعني من ذكرها؟
وقد كانت صهاك زانية، أو تنكر ذلك؟ أوليس كانت أمة حبشية لجدي عبد المطلب، فزنى بها جدك نفيل، فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب لجدك - بعد ما زنى بها - فولدته، وإنه لعبد لجدي ولد زنا؟ (2)
____________
(1). سورة الأعراف: الآية 150.
(2). روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 295: إن صهاك كانت أمة حبشية لعبد المطلب وكانت ترعى له الإبل فوقع عليها نفيل فجاءت بالخطاب. ثم إن الخطاب لما بلغ الحلم رغب في صهاك فوقع عليها فجاءت بابنة، فلفقها في خرقة من صوف ورمتها خوفا من مولاها في الطريق. فرآها هاشم بن المغيرة مرمية فأخذها ورباها وسماها حنتمة. فلما بلغت رآها خطاب يوما فرغب فيها وخطبها من هاشم فأنكحها إياه فجاءت بعمر بن الخطاب. فكان الخطاب أبا وجدا وخالا لعمر، وكانت حنتمة أما وأختا وعمة له.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 159
--------------------------------------------------------------------------------
فأصلح بينهما أبو بكر وكف كل واحد منهما عن صاحبه.
5
أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام يقيمون الحجة على الغاصبين
كلمة سلمان بعد البيعة
قال سليم بن قيس: فقلت لسلمان: أفبايعت أبا بكر - يا سلمان - ولم تقل شيئا؟
قال: قد قلت - بعد ما بايعت -: تبا لكم سائر الدهر أو تدرون ما صنعتم بأنفسكم؟
أصبتم وأخطأتم أصبتم سنة من كان قبلكم من الفرقة والاختلاف، وأخطأتم سنة نبيكم حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها. (1)
فقال عمر: يا سلمان، أما إذ بايع صاحبك وبايعت فقل ما شئت وافعل ما بدا لك وليقل صاحبك ما بدا له.
قال سلمان: فقلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إن عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب جميع أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم جميعا). فقال: قل ما شئت، أليس قد بايعت ولم يقر الله عينيك بأن يليها صاحبك؟
____________
(1). في (د) هكذا: قال: بلى، قد قلت: تبا لكم، أصبتم وأخطأتم، لو تدرون ما صنعتم بأنفسكم. قالوا: وما الذي أصبنا وأخطأنا؟ قلت: أصبتم سنة من كان قبلكم من الفرقة والضلالة والاختلاف، وأخطأتم سنة نبيكم حين أخرجتموها من معدنها وأهلها.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 160
--------------------------------------------------------------------------------
فقلت: أشهد أني قد قرأت في بعض كتب الله المنزلة: (إنك - باسمك ونسبك وصفتك - باب من أبواب جهنم) فقالوا لي: قل ما شئت، أليس قد أزالها الله عن أهل هذا البيت الذين اتخذتموهم أربابا من دون الله؟
فقلت له: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول، وسألته عن هذه الآية: (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد) (1)، فأخبرني بأنك أنت هو.
فقال عمر: أسكت، أسكت الله نامتك، أيها العبد، يا بن اللخناء!
فقال علي عليه السلام: أقسمت عليك يا سلمان لما سكت.
فقال سلمان: والله لو لم يأمرني علي عليه السلام بالسكوت لخبرته بكل شئ نزل فيه، وكل شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وفي صاحبه. فلما رآني عمر قد سكت قال لي: إنك له لمطيع مسلم.
كلمة أبي ذر بعد البيعة
فلما أن بايع أبو ذر والمقداد ولم يقولا شيئا قال عمر: يا سلمان، ألا تكف كما كف صاحباك؟ والله ما أنت بأشد حبا لأهل هذا البيت منهما ولا أشد تعظيما لحقهم منهما، وقد كفا كما ترى وبايعا.
فقال أبو ذر: يا عمر، أفتعيرنا بحب آل محمد وتعظيمهم؟ لعن الله - وقد فعل - من أبغضهم وافترى عليهم وظلمهم حقهم وحمل الناس على رقابهم ورد هذه الأمة القهقرى على أدبارها.
فقال عمر: آمين لعن الله من ظلمهم حقهم لا والله ما لهم فيها من حق وما هم فيها وعرض الناس إلا سواء. قال أبو ذر: فلم خاصمتم الأنصار بحقهم وحجتهم؟
____________
(1). سورة الفجر: الآيتان 25 و 26. روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 336: عن الباقر عليه السلام في قوله (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد) قال: زفر، فلا يعذب عذابه يوم القيامة أحد من خلقه. راجع تأويل الآيات: ج 2 ص 795.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 161
--------------------------------------------------------------------------------
كلمة أمير المؤمنين عليه السلام بعد البيعة
فقال علي عليه السلام لعمر: يا بن صهاك، فليس لنا فيها حق وهي لك ولابن آكلة الذبان؟
فقال عمر: كف الآن يا أبا الحسن إذ بايعت، فإن العامة رضوا بصاحبي ولم يرضوا، بك فما ذنبي؟
فقال علي عليه السلام: ولكن الله عز وجل ورسوله لم يرضيا إلا بي، فأبشر أنت وصاحبك ومن اتبعكما ووازركما بسخط من الله وعذابه وخزيه. ويلك يا بن الخطاب، لو ترى ماذا جنيت على نفسك لو تدري ما منه خرجت وفيما دخلت وما ذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك؟
فقال أبو بكر: يا عمر، أما إذ قد بايعنا وآمنا شره وفتكه وغائلته فدعه يقول ما شاء.
أصحاب الصحيفة الملعونة في تابوت جهنم
فقال علي عليه السلام: لست بقائل غير شئ واحد. أذكركم بالله أيها الأربعة - يعنيني وأبا ذر والزبير والمقداد -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن تابوتا من نار فيه اثنا عشر رجلا، ستة من الأولين وستة من الآخرين، في جب في قعر جهنم في تابوت مقفل (1)، على ذلك الجب صخرة. فإذا أراد الله أن يسعر جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجب فاستعرت جهنم من وهج ذلك الجب ومن حره.
قال علي عليه السلام: فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنهم - وأنتم شهود به - عن الأولين، فقال: أما الأولون فابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون الفراعنة، والذي حاج إبراهيم في ربه، ورجلان من بني إسرائيل بدلا كتابهم وغيرا سنتهم، أما أحدهما فهود اليهود والآخر نصر النصارى (2)، وإبليس سادسهم. وفي الآخرين الدجال وهؤلاء الخمسة أصحاب
____________
(1). (د): في جب في قعر جهنم، ذلك التابوت في تابوت آخر من نار مقفل عليه.
(2). في النسخ هكذا: (... والآخر نصر النصارى، وعاقر الناقة، وقاتل يحيى بن زكريا)، وإبليس غير مذكور في النسخ إلا في (ب) خ ل. ونحن صححناه على ما في كتاب الإحتجاج حيث أورد الحديث بعينه نقلا عن سليم وذكر إبليس ولم يذكر عاقر الناقة وقاتل يحيى.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 162
--------------------------------------------------------------------------------
الصحيفة والكتاب وجبتهم وطاغوتهم الذي تعاهدوا عليه وتعاقدوا على عداوتك يا أخي، وتظاهرون عليك بعدي، هذا وهذا حتى سماهم وعدهم لنا.
قال سلمان: فقلنا: صدقت، نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
كلمة رسول الله صلى الله عليه وآله في عثمان والزبير
فقال عثمان: يا أبا الحسن، أما عندك وعند أصحابك هؤلاء حديث في؟ فقال علي عليه السلام: بلى، سمعت رسول الله يلعنك مرتين (1) ثم لم يستغفر الله لك بعد ما لعنك.
فغضب عثمان ثم قال: ما لي وما لك ولا تدعني على حال، عهد النبي ولا بعده.
فقال علي عليه السلام: نعم، فأرغم الله أنفك. فقال عثمان: فوالله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إن الزبير يقتل مرتدا عن الإسلام)!
قال سلمان: فقال علي عليه السلام لي - فيما بيني وبينه -: صدق عثمان، وذلك أنه يبايعني بعد قتل عثمان وينكث بيعتي فيقتل مرتدا.
ارتد الناس بعد الرسول صلى الله عليه وآله إلا أربعة
قال سلمان: فقال علي عليه السلام (2): (إن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله غير أربعة).
إن الناس صاروا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون ومن تبعه ومنزلة العجل ومن تبعه.
فعلي في شبه هارون وعتيق في شبه العجل وعمر في شبه السامري.
____________
(1). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 312: أنه لما توفي أبو سلمة وعبد الله بن حذافة، وتزوج النبي صلى الله عليه وآله امرأتيهما أم سلمة وحفصة، قال طلحة وعثمان: أينكح محمد نسائنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات؟
والله لو قد مات لقد أجلنا على نساءه بالسهام وكان طلحة يريد عائشة وعثمان يريد أم سلمة. فأنزل الله تعالى: (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلك كان عند الله عظيما إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما) وأنزل: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا).
(2). في الإحتجاج: قال سليم: ثم أقبل علي سلمان فقال: إن القوم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله إلا من عصمه الله بآل محمد عليهم السلام.
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ليجيئن قوم من أصحابي من أهل العلية والمكانة مني ليمروا على الصراط. فإذا رأيتهم ورأوني وعرفتهم وعرفوني اختلجوا دوني.
فأقول: أي رب، أصحابي أصحابي فيقال: ما تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم حيث فارقتهم. فأقول: بعدا وسحقا.
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لتركبن أمتي سنة بني إسرائيل حذو النعل بالنعل وحذو القذة بالقذة، شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع، حتى لو دخلوا جحرا لدخلوا فيه معهم. إن التوراة والقرآن كتبه ملك واحد في رق واحد بقلم واحد، وجرت الأمثال والسنن سواء.
عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت سلمان الفارسي يقول (1):
إذا كان يوم القيامة يؤتى بإبليس مزموما بزمام من نار، ويؤتى
____________
(1). ينبغي أن أورد بذيل هذا الحديث ما رواه في البحار: ج 8 قديم ص 315 ح 95 عن الإختصاص للشيخ المفيد بأسناده عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: خرجت ذات يوم إلى ظهر الكوفة وبين يدي قنبر، فإذا إبليس قد أقبل، فقلت: بئس الشيخ أنت فقال: ولم تقول هذا يا أمير المؤمنين؟
فوالله لأحدثنك بحديث عني عن الله عز وجل ما بيننا ثالث. إنه لما هبطت بخطيئتي إلى السماء الرابعة ناديت: يا إلهي وسيدي، ما أحسبك خلقت خلقا هو أشقى مني. فأوحى الله تعالى إلي: بلى، قد خلقت من هو أشقى منك، فانطلق إلى مالك يريكه. فانطلقت إلى مالك فقلت: السلام يقرء عليك السلام ويقول: أرني من هو أشقى مني. فانطلق بي مالك إلى النار، فرفع الطبق الأعلى فخرجت نار سوداء ظننت أنها قد أكلتني وأكلت مالكا. فقال لها: اهدئي فهدأت.
ثم انطلق بي إلى الطبق الثاني فخرجت نار هي أشد من تلك سوادا وأشد حمى. فقال لها: اخمدي.
فخمدت، إلى أن انطلق بي إلى السابع، وكل نار تخرج من طبق هي أشد من الأولى. فخرجت نار ظننت أنها قد أكلتني وأكلت مالكا وجميع ما خلقه الله عز وجل. فوضعت يدي على عيني وقلت: مرها يا مالك تخمد وإلا خمدت. فقال: إنك لن تخمد إلى الوقت المعلوم. فأمرها فخمدت. فرأيت رجلين في أعناقهما سلاسل النيران معلقين بهما إلى فوق، وعلى رؤوسهما قوم معهم مقامع النيران يقمعونهما بها. فقلت: يا مالك، من هذان؟ فقال: أو ما قرأت على ساق العرش - وكنت قبل قرأته، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام - (لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أيدته ونصرته بعلي). فقال: هذان عدوا أولئك وظالماهم.
وروي في البحار: ج 8 قديم ص 298: قال الله تعالى: (لأصلبنه (أي عمر) وأصحابه قعرا يشرف عليه إبليس فيلعنه).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 165
--------------------------------------------------------------------------------
بزفر (1) مزموما بزمامين من نار!
فينطلق إليه إبليس فيصرخ ويقول: ثكلتك أمك، من أنت؟ أنا الذي فتنت الأولين والآخرين وأنا مزموم بزمام واحد وأنت مزموم بزمامين!
فيقول: أنا الذي أمرت فأطعت، وأمر الله فعصي.
____________
(1). قال العلامة المجلسي في البحار: ج 22 ص 223: (زفر) و (حبتر) عمر وصاحبه، فالأول لموافقة الوزن والثاني لمشابهته لحبتر وهو الثعلب في الحيلة والمكر.
أقول: أستعمل كلمة (زفر) كناية عن عمر في كثير من الروايات. راجع البحار: ج 22 ص 223 و ج 37 ص 119.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 166
--------------------------------------------------------------------------------
(6)
مفاخر أمير المؤمنين عليه السلام
وقال سليم: وحدثني أبو ذر وسلمان والمقداد، ثم سمعته من علي عليه السلام، قالوا:
إن رجلا فاخر علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أي أخي، فاخر العرب، فأنت أكرمهم ابن عم (1) وأكرمهم أبا وأكرمهم أخا وأكرمهم نفسا وأكرمهم نسبا وأكرمهم زوجة وأكرمهم ولدا وأكرمهم عما، وأعظمهم عناء بنفسك ومالك، وأتمهم حلما وأقدمهم سلما وأكثرهم علما.
وأنت أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم بسنن الله (2) وأشجعهم قلبا في لقاء يوم الهيج، وأجودهم كفا وأزهدهم في الدنيا وأشدهم اجتهادا وأحسنهم خلقا وأصدقهم لسانا وأحبهم إلى الله وإلي.
إخبار النبي صلى الله عليه وآله بظلم الأمة لأمير المؤمنين عليه السلام
وستبقى بعدي ثلاثين سنة تعبد الله وتصبر على ظلم قريش، ثم تجاهدهم في سبيل الله عز وجل إذا وجدت أعوانا. تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت معي على تنزيله الناكثين والقاسطين والمارقين من هذه الأمة.
ثم تقتل شهيدا تخضب لحيتك من دم رأسك. قاتلك يعدل عاقر الناقة في البغض إلى الله والبعد من الله ومني، ويعدل قاتل يحيى بن زكريا وفرعون ذا الأوتاد. (3)
____________
(1). في الفضائل: يا علي فاخر أهل الشرق والغرب والعجم والعرب، فأنت أكرمهم وابن عم رسول الله وأكرمهم زواجا....
(2). (ب): بسر الله.
(3). زاد في الفضائل: (يا علي، إنك من بعدي في كل أمر غالب مغلوب مغصوب، تصبر على الأذى في الله وفي رسوله محتسبا أجرك غير ضائع عند الله، فجزاك الله بعدي عن الإسلام خيرا).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 167
--------------------------------------------------------------------------------
كلام الحسن البصري عن فضائل أمير المؤمنين عليه السلام
قال أبان: وحدثت بهذا الحديث الحسن البصري عن أبي ذر، فقال: صدق سليم وصدق أبو ذر. لعلي بن أبي طالب السابقة في الدين والعلم والحكمة والفقه، وفي الرأي والصحبة وفي الفضل وفي البسطة وفي العشيرة وفي الصهر، وفي النجدة (1) في الحرب، وفي الجود وفي الماعون وفي العلم بالقضاء وفي القرابة للرسول والعلم بالقضاء والفصل وفي حسن البلاء في الإسلام. إن عليا في كل أمر أمره علي، فرحم الله عليا وصلى عليه. ثم بكى حتى بل لحيته.
قال: (2) فقلت له: يا أبا سعيد، أتقول لأحد غير النبي (صلى الله عليه) إذا ذكرته؟
فقال: ترحم على المسلمين إذا ذكرتهم وصل على محمد وآل محمد. وإن عليا خير آل محمد.
فقلت: يا أبا سعيد، خير من حمزة ومن جعفر ومن فاطمة ومن الحسن والحسين؟
فقال: إي والله، إنه لخير منهم، ومن يشك أنه خير منهم؟ فقلت له: بما ذا؟ قال: إنه لم يجر عليه اسم شرك ولا كفر ولا عبادة صنم ولا شرب خمر. وعلي خير منهم بالسبق إلى الإسلام والعلم بكتاب الله وسنة نبيه. وإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفاطمة عليها السلام: (زوجتك خير أمتي)، فلو كان في الأمة خيرا منه لاستثناه. وإن رسول الله صلى الله عليه وآله آخى بين أصحابه، وآخى بين علي ونفسه، فرسول الله خيرهم نفسا وخيرهم أخا. ونصبه يوم غدير خم وأوجب له من الولاية على الناس مثل ما أوجب لنفسه فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه). وقال له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، ولم يقل ذلك لأحد من أهل بيته ولا لأحد من أمته غيره. وله سوابق كثيرة ومناقب ليس لأحد من الناس مثلها.
قال: فقلت له: من خير هذه الأمة بعد علي عليه السلام؟ قال: زوجته وابناه. قلت: ثم من؟
قال: ثم جعفر وحمزة. إن خير الناس أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير،
____________
(1). أي الشجاعة والغلبة.
(2). القائل أبان يخاطب الحسن البصري.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 168
--------------------------------------------------------------------------------
ضم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه وعليا وفاطمة والحسن والحسين، ثم قال: هؤلاء ثقتي وعترتي في أهل بيتي، فأذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فقالت أم سلمة: أدخلني معك ومعهم في الكساء. فقال لها: يا أم سلمة، أنت بخير وإلى خير، وإنما نزلت هذه الآية في وفي هؤلاء خاصة.
محاولة الحسن البصري تبرير نفاقه
فقلت: الله يا أبا سعيد ما ترويه في علي عليه السلام وما سمعتك تقول فيه؟
قال: يا أخي، أحقن بذلك دمي من هؤلاء الجبابرة الظلمة لعنهم الله. يا أخي، لولا ذلك لقد شالت بي الخشب ولكني أقول ما سمعت فيبلغهم ذلك فيكفون عني. وإنما أعني ببغض علي غير علي بن أبي طالب عليه السلام، فيحسبون أني لهم ولي. قال الله عز وجل:
(ادفع بالتي هي أحسن السيئة) (1) يعني التقية.
____________
(1). سورة المؤمنون: الآية 96.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 169
--------------------------------------------------------------------------------
(7)
اختلاف الأمة وفرقها
افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة
قال أبان: قال سليم: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:
إن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار وفرقة في الجنة. وثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين تنتحل محبتنا أهل البيت، واحدة منها في الجنة واثنتا عشرة في النار!
تعيين الفرقة الناجية
وأما الفرقة الناجية المهدية المؤملة المؤمنة المسلمة الموافقة المرشدة فهي المؤتمنة بي المسلمة لأمري المطيعة لي المتبرئة من عدوي المحبة لي والمبغضة لعدوي، التي قد عرفت حقي وإمامتي وفرض طاعتي من كتاب الله وسنة نبيه، فلم ترتد ولم تشك لما قد نور الله في قلبها من معرفة حقنا وعرفها من فضلها، وألهمها وأخذها بنواصيها فأدخلها في شيعتنا حتى اطمأنت قلوبها واستيقنت يقينا لا يخالطه شك.
أئمة الفرقة الناجية
إني أنا وأوصيائي بعدي إلى يوم القيامة هداة مهتدون، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه في آي من الكتاب كثيرة، وطهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وخزانه على علمه ومعادن حكمه وتراجمة وحيه وجعلنا مع القرآن والقرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا حتى نرد على رسول الله صلى الله عليه وآله حوضه كما قال.
وتلك الفرقة الواحدة من الثلاث والسبعين فرقة هي الناجية من النار ومن جميع الفتن والضلالات والشبهات، وهم من أهل الجنة حقا، وهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب.
وجميع تلك الفرق الاثنتين والسبعين هم المتدينون بغير الحق، الناصرون لدين الشيطان الآخذون عن إبليس وأوليائه، هم أعداء الله تعالى وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين، يدخلون النار بغير حساب. براء من الله ومن رسوله، نسوا الله ورسوله (1) وأشركوا بالله وكفروا به وعبدوا غير الله من حيث لا يعلمون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، يقولون يوم القيامة: (والله ربنا ما كنا مشركين) (2)، (يحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون) (3).
المستضعفون دينيا
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أرأيت من قد وقف فلم يأتم بكم ولم يعادكم ولم ينصب لكم ولم يتعصب ولم يتولكم ولم يتبرء من عدوكم وقال: (لا أدري) وهو صادق؟
قال: ليس أولئك من الثلاث والسبعين فرقة، إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله بالثلاث والسبعين فرقة الباغين الناصبين الذين قد شهروا أنفسهم ودعوا إلى دينهم.
ففرقة واحدة منها تدين بدين الرحمن، واثنتان وسبعون تدين بدين الشيطان وتتولى على قبولها وتتبرأ ممن خالفها.
فأما من وحد الله وآمن برسول الله صلى الله عليه وآله ولم يعرف ولايتنا ولا ضلالة عدونا ولم ينصب شيئا ولم يحل ولم يحرم، وأخذ بجميع ما ليس بين المختلفين من الأمة
____________
(1). في (د) هكذا: براء من الله ومن رسوله والله ورسوله براء منهم، سبوا الله ورسوله وأشركوا....
(2). سورة الأنعام: الآية 23.
(3). سورة المجادلة: الآية 18.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 171
--------------------------------------------------------------------------------
فيه خلاف في أن الله عز وجل أمر به، وكف عما بين المختلفين من الأمة خلاف في أن الله أمر به أو نهى عنه، فلم ينصب شيئا ولم يحلل ولم يحرم ولا يعلم ورد علم ما أشكل عليه إلى الله فهذا ناج.
أهل الجنة وأهل النار وأصحاب الأعراف
وهذه الطبقة بين المؤمنين وبين المشركين، هم أعظم الناس وجلهم، وهم أصحاب الحساب والموازين والأعراف، والجهنميون الذين يشفع لهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون، ويخرجون من النار فيسمون (الجهنميين). (1)
فأما المؤمنون فينجون ويدخلون الجنة بغير حساب، أما المشركون فيدخلون النار بغير حساب. وإنما الحساب على أهل هذه الصفات بين المؤمنين والمشركين، والمؤلفة قلوبهم والمقترفة والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا والمستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة الكفر والشرك ولا يحسنون أن ينصبوا ولا يهتدون سبيلا إلى
____________
(1). روي في البحار: ج 8 ص 355 ح 8 عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: ثم تأخذ بحجزتي وآخذ بحجزة الله - وهي الحق - وتأخذ ذريتك بحجزتك وتأخذ شيعتك بحجزة ذريتك، فأين يذهب بكم إلا إلى الجنة؟ فإذا دخلتم الجنة فتبوأتم مع أزواجكم ونزلتم منازلكم أوحى الله إلى مالك:
أن افتح باب جهنم لينظر أوليائي إلى ما فضلتهم على عدوهم. فيفتح أبواب جهنم فتطلون عليهم. فإذا وجد أهل جهنم روح رائحة الجنة قالوا: يا مالك، أتطمع لنا في تخفيف العذاب عنا؟ إنا لنجد روحا.
فيقول لهم مالك: إن الله أوحى إلي أن أفتح أبواب جهنم لينظر أهل الجنة إليكم. فيرفعون رؤوسهم، فيقول هذا: يا فلان، ألم تك تجوع فأشبعك؟ ويقول هذا: ألم تك تعري فأكسوك؟ ويقول هذا: يا فلان، ألم تك تخاف فآويتك؟ ويقول هذا: يا فلان، ألم تك تحدث فأكتم عليك؟ فيقولون: بلى. فيقولون:
استوهبونا من ربكم. فيدعون لهم فيخرجون من النار إلى الجنة فيكونون فيها ملومين ويسمون (الجهنميين). فيقولون: سألتم ربكم فأنقذنا من عذابه فادعوه يذهب عنا هذا الاسم ويجعل لنا في الجنة مأوى. فيدعون فيوحي الله إلى ريح فتهب على أفواه أهل الجنة فينسيهم ذلك الاسم ويجعل لهم في الجنة مأوى.
وروي في البحار: ج 8 ص 360 ح 29 عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن (الجهنميين)، فقال: كان أبو جعفر عليه السلام يقول: يخرجون منها فينتهى بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى (عين الحيوان) فينضح عليهم من مائها، فينبتون كما تنبت الزرع، تنبت لحومهم وجلودهم وشعورهم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 172
--------------------------------------------------------------------------------
أن يكونوا مؤمنين عارفين، فهم أصحاب الأعراف، وهؤلاء لله فيهم المشيئة. إن الله عز وجل إن يدخل أحدا منهم النار فبذنبه وإن تجاوز عنه فبرحمته.
المؤمن والكافر والمستضعف
فقلت: أصلحك الله، أيدخل النار المؤمن العارف الداعي؟ قال عليه السلام: لا.
قلت: أفيدخل الجنة من لا يعرف إمامه؟ قال عليه السلام: لا، إلا أن يشاء الله.
قلت: أيدخل الجنة كافر أو مشرك؟ قال: لا يدخل النار إلا كافر، إلا أن يشاء الله.
قلت: أصلحك الله، فمن لقي الله مؤمنا عارفا بإمامه مطيعا له، أمن أهل الجنة هو؟
قال: نعم إذا لقي الله وهو مؤمن من الذين قال الله عز وجل: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (1)، (الذين آمنوا وكانوا يتقون) (2)، (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم). (3)
قلت: فمن لقي الله منهم على الكبائر؟ قال: هو في مشيته، إن عذبه فبذنبه وإن تجاوز عنه فبرحمته.
قلت: فيدخله النار وهو مؤمن؟ قال: نعم بذنبه، لأنه ليس من المؤمنين الذين عنى الله (أنه ولي المؤمنين)، لأن الذين عنى الله (أنه لهم ولي) و (أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، هم المؤمنون (4) (الذين يتقون الله والذين عملوا الصالحات والذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم). (5)
____________
(1). سورة البقرة: الآية 82، وتمام الآية هكذا: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون).
(2). سورة يونس: الآية 63.
(3). سورة الأنعام: الآية 82، وتمام الآية هكذا: (... أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
(4). أي إن المؤمنين الذين عنى الله في تلك الآية هم المؤمنون الذين جاء وصفهم في هذه الآيات. وهي إشارة إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: الآية 68: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) وإلى قوله تعالى في سورة يونس: الآية 62: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
(5). قد مر الإشارة إلى مواضع الآيات في المصحف.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 173
--------------------------------------------------------------------------------
الفرق بين الإيمان والإسلام
قلت: يا أمير المؤمنين، ما الإيمان وما الإسلام؟ قال: أما الإيمان فالإقرار بالمعرفة، والإسلام فما أقررت به والتسليم والطاعة لهم.
قلت: الإيمان الإقرار بعد المعرفة به؟ قال: من عرفه الله نفسه ونبيه وإمامه ثم أقر بطاعته فهو مؤمن.
قلت: المعرفة من الله والإقرار من العبد؟ قال: المعرفة من الله دعاء وحجة ومنة ونعمة، والإقرار من الله قبول العبد، يمن على من يشاء، والمعرفة صنع الله تعالى في القلب، والإقرار فعال القلب من الله وعصمته ورحمته.
تكليف الجاهل بالحق
فمن لم يجعله الله عارفا فلا حجة عليه، وعليه أن يقف ويكف عما لا يعلم، فلا يعذبه الله على جهله. فإنما يحمده على عمله بالطاعة ويعذبه على عمله بالمعصية.
ويستطيع أن يطيع ويستطيع أن يعصي، ولا يستطيع أن يعرف ويستطيع أن يجهل؟
هذا محال!
لا يكون شئ من ذلك إلا بقضاء من الله وقدره وعلمه وكتابه بغير جبر لأنهم لو كانوا مجبورين كانوا معذورين وغير محمودين.
ومن جهل وسعه أن يرد إلينا ما أشكل عليه ومن حمد الله على النعمة واستغفره من المعصية وأحب المطيعين وحمدهم على الطاعة، وأبغض العاصين وذمهم فإنه يكتفي بذلك إذا رد علمه إلينا.
لهذا الحديث زيادة في (ج) وهي تنطبق على أواسطه هكذا:
أصحاب الحساب والشفاعة
... يحاسبون، منهم من يغفر له ويدخله الجنة بالإقرار والتوحيد، ومنهم من يعذب في النار ثم يشفع له الملائكة والأنبياء والمؤمنون، فيخرجون من النار ويدخلون الجنة
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 174
--------------------------------------------------------------------------------
فيسمون فيها (الجهنميين)!
منهم أصحاب الإقرار، وليست الموازين والحساب إلا عليهم، لأن أولياء الله العارفين لله ولرسوله والحجة في أرضه وشهدائه على خلقه المقرين لهم المطيعين لهم يدخلون الجنة بغير حساب، والمعاندين لهم المنذرين المكابرين المناصبين أعداء الله يدخلون النار بغير حساب. وأما ما بين هذين، فهم جل الناس وهم أصحاب الموازين والحساب والشفاعة.
دعاء أمير المؤمنين عليه السلام لسليم بالولاية
قال (1): قلت: فرجت عني وأوضحت لي وشفيت صدري، فادع الله أن يجعلني لك وليا في الدنيا والآخرة. قال: اللهم اجعله منهم.
قال: ثم أقبل علي فقال: ألا أعلمك شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله، علمه سلمان وأبا ذر والمقداد؟ قلت: بلى، يا أمير المؤمنين.
قال: قل كلما أصبحت وأمسيت: (اللهم ابعثني على الإيمان بك والتصديق بمحمد رسولك والولاية لعلي بن أبي طالب والايتمام بالأئمة من آل محمد، فإني قد رضيت بذلك يا رب)، عشر مرات.
قلت: يا أمير المؤمنين، قد حدثني بذلك سلمان وأبو ذر والمقداد، فلم أدع ذلك منذ سمعته منهم. قال: لا تدعه ما بقيت.
____________
(1). القائل هو سليم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 175
--------------------------------------------------------------------------------
(8)
1
معنى الإسلام والإيمان
وعن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس قال:
سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام - وسأله رجل عن الإيمان - فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن الإيمان، لا أسأل عنه أحدا غيرك ولا بعدك.
فقال علي عليه السلام: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسأله عن مثل ما سألتني عنه، فقال له مثل مقالتك، فأخذ يحدثه. ثم قال له: اقعد. فقال له: آمنت.
ثم أقبل علي عليه السلام على الرجل فقال: أما علمت أن جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله في صورة آدمي فقال له: ما الإسلام؟ فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان والغسل من الجنابة). فقال:
وما الإيمان؟ قال: (تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالحياة بعد الموت وبالقدر كله خيره وشره وحلوه ومره).
فلما قام الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (هذا جبرئيل، جاءكم ليعلمكم دينكم). فكان كلما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا قال له: (صدقت). قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: صدقت.
ثم قال علي عليه السلام - بعد ما فرغ من قول جبرئيل (صدقت) -: ألا إن الإيمان بني على أربع دعائم: على اليقين والصبر والعدل والجهاد.
فاليقين منه على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهد والترقب.
فمن اشتاق إلى الجنة سلا (1) عن الشهوات، ومن أشفق من النار اتقى المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
والصبر على أربع شعب: على تبصرة الفطنة وتأول الحكمة ومعرفة العبرة وسنة الأولين.
فمن تبصر الفطنة تبين في الحكمة، ومن تبين في الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة أبصر العبرة، ومن أبصر العبرة فكأنما كان في الأولين.
والعدل منه على أربع شعب: على غوامض الفهم وغمر العلم وزهرة الحكم وروضة الحلم.
فمن فهم فسر جمل العلم، ومن علم عرضه شرائع الحكمة، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش به في الناس حميدا.
والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن والغضب لله وشنآن الفاسقين.
____________
(1). أي طابت نفسه عنه وذهل عن ذكره وهجره.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 177
--------------------------------------------------------------------------------
فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الفاسق، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له.
وذلك الإيمان ودعائمه وشعبه.
أدنى درجات الإيمان والكفر والضلالة
فقال له: يا أمير المؤمنين، ما أدنى ما يكون به الرجل مؤمنا، وأدنى ما يكون به كافرا، وأدنى ما يكون به ضالا؟
قال: قد سألت فاسمع الجواب: أدنى ما يكون به مؤمنا أن يعرفه الله نفسه فيقر له بالربوبية والوحدانية وأن يعرفه نبيه فيقر له بالنبوة وبالبلاغة. وأن يعرفه حجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة.
قال: يا أمير المؤمنين، وإن جهل جميع الأشياء غير ما وصفت؟ قال: نعم، إذا أمر أطاع وإذا نهي انتهى.
وأدنى ما يكون به كافرا أن يتدين بشئ فيزعم أن الله أمره به - مما نهى الله عنه - ثم ينصبه دينا فيتبرأ ويتولى ويزعم أنه يعبد الله الذي أمره به.
وأدنى ما يكون به ضالا أن لا يعرف حجة الله في أرضه وشاهده على خلقه الذي أمر الله بطاعته وفرض ولايته.
نص الرسول صلى الله عليه وآله على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
فقال: يا أمير المؤمنين، سمهم لي. قال: الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). (1)
قال: أوضحهم لي. قال: الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر خطبة خطبها ثم قبض من يومه: (إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وأهل بيتي، فإن
____________
(1). سورة النساء: الآية 59.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 178
--------------------------------------------------------------------------------
اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين - وأشار بإصبعيه المسبحتين - ولا أقول كهاتين - وأشار بالمسبحة والوسطى - لأن إحديهما قدام الأخرى. فتمسكوا بهما لا تضلوا، ولا تقدموهم فتهلكوا، ولا تخلفوا عنهم فتفرقوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).
قال: يا أمير المؤمنين، سمه لي. قال: الذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم، فأخبرهم (أنه أولى بهم من أنفسهم). ثم أمرهم أن يعلم الشاهد الغائب منهم.
فقلت: أنت هو، يا أمير المؤمنين؟
قال: أنا أولهم وأفضلهم، ثم ابني الحسن من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ثم ابني الحسين من بعده أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ثم أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يردوا عليه حوضه واحدا بعد واحد.
فقام الرجل إلى علي عليه السلام فقبل رأسه، ثم قال: أوضحت لي وفرجت عني وأذهبت كل شئ في قلبي. (1)
____________
(1). في البحار بيان مفصل في توضيح عبارات الحديث وغوامضه: راجع: ج 68 ص 365.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 179
--------------------------------------------------------------------------------
(9)
خصائص الإسلام وآثاره
عن أبان بن أبي عياش عن سليم، قال: جاء رجل (1) إلى أمير المؤمنين عليه السلام فسأله عن الإسلام. فقال عليه السلام:
إن الله تبارك وتعالى شرع الإسلام وسهل شرائعه لمن ورده وأعز أركانه لمن حاربه، وجعله عزا لمن تولاه، وسلما لمن دخله، وإماما لمن ائتم به، وزينة لمن تحلاه، وعدة لمن انتحله، وعروة لمن اعتصم به، وحبلا لمن تمسك به، وبرهانا لمن تعلمه، ونورا لمن استضاء به، وشاهدا لمن خاصم به، وفلجا (2) لمن حاكم به وعلما لمن وعاه، وحديثا لمن رواه، وحكما لمن قضى به وحلما لمن جرب، وشفاء ولبا لمن تدبر، وفهما لمن تفطن، ويقينا لمن عقل، وبصيرة لمن عزم، وآية لمن توسم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، ومودة لمن أصلح، وزلفى لمن اقترب وثقة لمن توكل، ورجاء (3) لمن فوض، وسابقة لمن أحسن، وخيرا لمن سارع، وجنة لمن صبر، ولباسا لمن اتقى، وظهيرا لمن رشد، وكهفا لمن آمن، وأمنة لمن أسلم، وروحا للصادقين، وموعظة للمتقين ونجاة للفائزين.
____________
(1). الرجل هو ابن الكواء، كما صرح به في الكافي: ج 1 ص 49.
(3). قال المجلسي: معناه أن القيامة محل اجتماع الحلبة إما للسباق أو لحيازة السبقة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 181
--------------------------------------------------------------------------------
(10)
1
علة الفرق بين أحاديث الشيعة وأحاديث مخالفيهم
أبان عن سليم، قال: قلت لعلي عليه السلام (1): يا أمير المؤمنين، إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن ومن الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم. ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله تخالف الذي سمعته منكم، وأنتم تزعمون أن ذلك باطل. أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين ويفسرون القرآن برأيهم؟
قال: فأقبل علي فقال لي: يا سليم، قد سألت فافهم الجواب. إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وخاصا وعاما، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما. وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام فيهم خطيبا فقال:
(أيها الناس، قد كثرت علي الكذابة. (2) فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار). ثم كذب عليه من بعده حين توفي، رحمة الله على نبي الرحمة وصلى الله عليه وآله.
____________
(1). يظهر مما رواه مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام كان في خطبة له فسأله سليم هذا السؤال أثناء الخطبة، وأصل الخطبة هي الحديث 18 من كتاب سليم. راجع البحار: ج 2 ص 230، والاحتجاج: ج 1 ص 392.
(2). قال المحقق السيد الداماد في التعليقة على الكافي: ص 146 في شرح حديث سليم ما ملخصه: (الكذابة) مصدر كذب يكذب، أي (كثرت علي كذابة الكاذبين)، أو بمعنى (المكذوب)، أي كثرت الأحاديث المفتراة المختلقة علي. وأما الكذابة بمعنى البليغ في الكذب أي (كثرت علي أكاذيب الكذابة)، أو (كثرت الجماعة الكذابة علي).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 182
--------------------------------------------------------------------------------
المحدثون أربعة
وإنما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا. فلو علم المسلمون أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا: (هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، رآه وسمع منه وهو لا يكذب ولا يستحل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله). وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبر ووصفهم بما وصفهم فقال الله عز وجل: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) (1).
ثم بقوا بعده وتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والنفاق والبهتان، فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم من الدنيا. وإنما الناس مع الملوك في الدنيا إلا من عصم الله. فهذا أول الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا فلم يحفظه على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذبا وهو في يده يرويه ويعمل به ويقول: (أنا سمعته من رسول الله). فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوا، ولو علم هو أنه وهم فيه لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه نهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ. فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.
ورجل رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله بغضا للكذب وتخوفا من الله وتعظيما لرسوله صلى الله عليه وآله ولم يوهم، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمعه
ولم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ.
وإن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله ونهيه مثل القرآن، ناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، ومحكم ومتشابه. وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان: كلام خاص وكلام عام، مثل القرآن، يسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ومن عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله.
وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم حتى أن كانوا ليحبون أن يجيئ الطارئ والأعرابي فيسأل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا منه.
وكنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله كل يوم دخلة وفي كل ليلة دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار. وقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لم يكن يصنع ذلك بأحد من الناس غيري. وربما كان ذلك في منزلي يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآله، فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه فلم يبق غيري وغيره. وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة ولا أحد من ابني.
وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت أو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي، فكتبتها بخطي. ودعا الله أن يفهمني إياها ويحفظني.
فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها وعلمني تأويلها، فحفظته وأملاه علي فكتبته. وما ترك شيئا علمه الله من حلال وحرام أو أمر ونهي أو طاعة ومعصية كان أو يكون إلى يوم القيامة إلا وقد علمنيه وحفظته ولم أنس منه حرفا واحدا. ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما وفهما وفقها وحكما ونورا، وأن يعلمني فلا أجهل، وأن يحفظني فلا أنسى.
فقلت له ذات يوم: يا نبي الله، إنك منذ يوم دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا مما علمتني، فلم تمليه علي وتأمرني بكتابته؟ أتتخوف علي النسيان؟ فقال: يا أخي، لست أتخوف عليك النسيان ولا الجهل، وقد أخبرني الله أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك.
الأئمة الأحد عشر عليهم السلام شركاء أمير المؤمنين عليه السلام
قلت: يا نبي الله، ومن شركائي؟ قال: الذين قرنهم الله بنفسه وبي معه، الذين قال في حقهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فإن (خفتم التنازع في شئ فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم.
قلت: يا نبي الله، ومن هم؟ قال: الأوصياء إلى أن يردوا علي حوضي كلهم هاد مهتد لا يضرهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم. هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم. بهم ينصر الله أمتي وبهم يمطرون، ويدفع عنهم بمستجاب دعوتهم.
فقلت (2): يا رسول الله، سمهم لي. فقال: ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسن عليه السلام - ثم ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسين عليه السلام - ثم ابن ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسين عليه السلام - ثم ابن له على اسمي، اسمه (محمد) باقر علمي وخازن وحي الله، وسيولد (علي) في حياتك يا أخي، فاقرأه مني السلام. ثم أقبل على الحسين عليه السلام فقال: سيولد لك (محمد بن علي) في حياتك فاقرأه مني السلام. ثم تكملة الاثني عشر إماما من ولدك يا أخي.
فقلت: يا نبي الله، سمهم لي. فسماهم لي رجلا رجلا. منهم - والله يا أخا بني هلال - مهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. والله إني لأعرف جميع من يبايعه بين الركن والمقام وأعرف أسماء الجميع وقبائلهم.
____________
(1). سورة النساء: الآية 59. وتمام الآية هكذا: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).
(2). هذه الفقرة في مختصر إثبات الرجعة هكذا: (قلت: سمهم لي يا رسول الله، قال: أنت يا علي أولهم، ثم ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسن عليه السلام - ثم ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسين عليه السلام - ثم سميك علي ابنه زين العابدين، وسيولد في زمانك يا أخي فاقرأه مني السلام. ثم ابنه محمد الباقر، باقر علمي وخازن وحي الله تعالى. ثم ابنه جعفر الصادق، ثم ابنه موسى الكاظم، ثم ابنه علي الرضا، ثم ابنه محمد التقي، ثم ابنه علي النقي، ثم ابنه الحسن الزكي، ثم ابنه الحجة القائم، خاتم أوصيائي وخلفائي والمنتقم من أعدائي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام:
والله إني لأعرف جميع من يبايعه بين الركن والمقام، وأعرف أسماء أنصاره وأعرف قبائلهم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 185
--------------------------------------------------------------------------------
2
تقرير الأئمة عليهم السلام لسليم في نقل هذا الحديث
قال سليم: ثم لقيت الحسن والحسين صلوات الله عليهما بالمدينة (1) بعد ما قتل أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فحدثتهما بهذا الحديث عن أبيهما. فقالا: صدقت، حدثك أبونا علي عليه السلام بهذا الحديث ونحن جلوس، وقد حفظنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما حدثك أبونا سواء لم يزد فيه ولم ينقص منه شيئا.
قال سليم: ثم لقيت علي بن الحسين عليه السلام - وعنده ابنه محمد بن علي عليه السلام - فحدثته بما سمعته من أبيه وعمه وما سمعته من علي عليه السلام. فقال علي بن الحسين عليه السلام: قد أقرأني أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله، السلام وهو مريض وأنا صبي.
ثم قال محمد عليه السلام: وقد أقرأني جدي الحسين عليه السلام بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله - وهو مريض - السلام.
قال أبان: فحدثت علي بن الحسين عليه السلام بهذا الحديث كله عن سليم، فقال: صدق سليم، وقد جاء جابر بن عبد الله الأنصاري إلى ابني وهو غلام يختلف إلى، الكتاب (2) فقبله واقرأه من رسول الله صلى الله عليه وآله السلام. (3)
____________
(1). في (د) وفي إعتقادات الصدوق: بالمدينة بعد ما ملك معاوية.
(2). الكتاب بمعنى موضع التعليم.
(3). روي في البحار: ج 36 ص 360 ح 230 بأسناده عن زيد بن علي قال: كنت عند أبي علي بن الحسين عليه السلام إذ دخل عليه جابر بن عبد الله الأنصاري. فبينما هو يحدثه إذ خرج أخي محمد (يعني الإمام الباقر عليه السلام) من بعض الحجر. فأشخص جابر ببصره نحوه ثم قام إليه فقال: يا غلام، أقبل، فأقبل. ثم قال: أدبر، فأدبر. فقال: شمائل كشمائل رسول الله ما اسمك يا غلام؟ قال: محمد. قال: ابن من؟ قال: ابن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. قال: أنت إذا الباقر. قال: فانكب عليه وقبل رأسه ويديه ثم قال: يا محمد، إن رسول الله يقرؤك السلام. قال: على رسول الله أفضل السلام وعليك يا جابر بما أبلغت السلام. ثم عاد إلى مصلاه. فأقبل يحدث أبي ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي يوما: يا جابر، إذا أدركت ولدي الباقر فاقرأه مني السلام، فإنه سميي وأشبه الناس بي....
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 186
--------------------------------------------------------------------------------
قال أبان: فحججت بعد موت علي بن الحسين عليه السلام، فلقيت أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام فحدثته بهذا الحديث كله لم أترك منه حرفا واحدا. فاغرورقت عيناه ثم قال: صدق سليم، قد أتاني بعد أن قتل جدي الحسين عليه السلام وأنا قاعد عند أبي فحدثني بهذا الحديث بعينه. فقال له أبي: صدقت، قد حدثك أبي بهذا الحديث بعينه عن أمير المؤمنين عليه السلام ونحن شهود. ثم حدثاه بما هما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال حماد بن عيسى: قد ذكرت هذا الحديث عند مولاي أبي عبد الله عليه السلام فبكى وقال:
صدق سليم، فقد روى لي هذا الحديث أبي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عليهم السلام قال: سمعت هذا الحديث من أمير المؤمنين عليه السلام حين سأله سليم. (1)
3
غدر الأمة بأهل بيت نبيها عليهم السلام
قال أبان: ثم قال لي أبو جعفر الباقر عليه السلام: ما لقينا أهل البيت من ظلم قريش وتظاهرهم علينا وقتلهم إيانا، وما لقيت شيعتنا ومحبونا من الناس!!
إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وقد قام بحقنا وأمر بطاعتنا وفرض ولايتنا ومودتنا، وأخبرهم بأنا أولى الناس بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب.
____________
(1). جاء هذه الفقرة في آخر حديث سليم في مختصر إثبات الرجعة، رواها الفضل بن شاذان عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن حماد بن عيسى عن الإمام الصادق عليه السلام. راجع (مختصر إثبات الرجعة) لابن شاذان، مخطوطة في مكتبة آستان قدس رقمها 7442 و طبع بأجمعه في مجلة (تراثنا) العدد 15. ثم إن حماد بن عيسى من رواة كتاب سليم بأجمعه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 187
--------------------------------------------------------------------------------
السقيفة لأبي بكر وعمر
فتظاهروا على علي عليه السلام، فاحتج عليهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وما سمعته العامة.
فقالوا: صدقت، قد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن قد نسخه فقال: (إنا أهل بيت أكرمنا الله عز وجل واصطفانا ولم يرض لنا بالدنيا، وإن الله لا يجمع لنا النبوة والخلافة) فشهد بذلك أربعة نفر: عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، فشبهوا على العامة وصدقوهم وردوهم على أدبارهم وأخرجوها من معدنها من حيث جعلها الله.
واحتجوا على الأنصار بحقنا وحجتنا فعقدوها لأبي بكر. ثم ردها أبو بكر إلى عمر يكافيه بها.
الشورى لعثمان
ثم جعلها عمر شورى بين ستة، فقلدوها عبد الرحمن. ثم جعلها ابن عوف لعثمان على أن يردها عليه، فغدر به عثمان وأظهر ابن عوف كفره وجهله وطعن عليه (1) في حياته وزعم ولده أن عثمان سمه فمات.
حروب الجمل وصفين والنهروان
ثم قام طلحة والزبير فبايعا عليا عليه السلام طائعين غير مكرهين. ثم نكثا وغدرا، ثم ذهبا بعائشة معهما إلى البصرة مطالبة بدم عثمان. ثم دعا معاوية طغاة أهل الشام إلى الطلب بدم عثمان ونصب لنا الحرب. ثم خالفه أهل حروراء على أن يحكم بكتاب الله وسنة نبيه،
____________
(1). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 9 ص 86: أنه لما أحدث عثمان ما أحدث، قيل لعبد الرحمن بن عوف: هذا كله فعلك. فقال: ما كنت أظن هذا به، لكن لله علي أن لا أكلمه أبدا. ومات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان. ودخل عليه عثمان عائدا في مرضه فتحول إلى الحائط ولم يكلمه. مات عبد الرحمن سنة 32.
وروى العلامة المجلسي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 319 عن الثقفي في تاريخه قال: كثر الكلام بين عبد الرحمن وبين عثمان حتى قال عبد الرحمن: أما والله لئن بقيت لك لأخرجنك من هذا الأمر كما أدخلتك فيه، وما غررتني إلا بالله.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 188
--------------------------------------------------------------------------------
فلو كانا حكما بما اشترط عليهما لحكما أن عليا عليه السلام (1) أمير المؤمنين في كتاب الله وعلى لسان نبيه وفي سنته، فخالفه أهل النهروان وقاتلوه. (2)
النكث والغدر بالإمامين الحسن والحسين عليهما السلام
ثم بايعوا الحسن بن علي عليه السلام بعد أبيه وعاهدوه، ثم غدروا به وأسلموه ووثبوا عليه حتى طعنوه بخنجر في فخذه وانتهبوا عسكره وعالجوا خلاخيل أمهات أولاده.
فصالح معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته وشيعته، وهم قليل حق قليل، حين لا يجد أعوانا.
ثم بايع الحسين عليه السلام من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا. ثم غدروا به، ثم خرجوا إليه فقاتلوه حتى قتل.
مظلومية الشيعة في عصر زياد وابن زياد والحجاج
ثم لم نزل أهل البيت - منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله - نذل ونقصي ونحرم ونقتل ونطرد ونخاف على دمائنا وكل من يحبنا. ووجد الكاذبون لكذبهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاتهم وعمالهم في كل بلدة، يحدثون عدونا عن ولاتهم الماضين بالأحاديث الكاذبة الباطلة، ويروون عنا ما لم نقل تهجينا منهم لنا وكذبا منهم علينا وتقربا إلى ولاتهم وقضاتهم بالزور والكذب.
وكان عظم ذلك وكثرته في زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام، فقتلت الشيعة في كل بلدة قطعت أيديهم وأرجلهم وصلبوا على التهمة والظنة من ذكر حبنا والانقطاع إلينا (3).
____________
(1). الضمير في (كانا حكما) راجع إلى (الحكمين).
(2). في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد هيهنا زيادة هكذا: ثم تداولتها قريش واحدا بعد واحد حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصب الحرب لنا ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود.
(3). في شرح نهج البلاغة هكذا: وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 189
--------------------------------------------------------------------------------
ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان ابن زياد بعد قتل الحسين عليه السلام. ثم جاء الحجاج فقتلهم بكل قتلة وبكل ظنة وبكل تهمة، حتى أن الرجل ليقال له (زنديق) أو (مجوسي) كان ذلك أحب إليه من أن يشار إليه أنه من (شيعة الحسين صلوات الله عليه)!!
4
تاريخ الجعل والتحريف في الأحاديث
وربما رأيت الرجل الذي يذكر بالخير - ولعله يكون ورعا صدوقا - يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد مضى من الولاة، لم يخلق الله منها شيئا قط، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد سمعها منه ممن لا يعرف بكذب ولا بقلة ورع. ويروون عن علي عليه السلام أشياء قبيحة، وعن الحسن والحسين عليهما السلام ما يعلم الله أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور.
نماذج من الأحاديث المختلقة
قال: قلت له: أصلحك الله، سم لي من ذلك شيئا. (1) قال: رووا (أن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر)، و (أن عمر محدث)، و (أن الملك يلقنه)، و (أن السكينة تنطق على لسانه)، و (أن عثمان، الملائكة تستحي منه)، و (أن لي وزيرا من أهل السماء
____________
(1). لقد قام العلامة الأميني في موسوعته (الغدير) بإيراد سلسلة من الموضوعات بشأن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية مشفوعا بذكر المصادر الناقلة لها من كتب القوم، وأثبت بالأدلة القاطعة أنها مما وضعته أيدي الكذابين الوضاعين. وذلك في ج 5 ص 378 - 297، ج 6 ص 96 - 87، ج 8 ص 96 - 33، ج 9 ص 396 - 273، ج 10 ص 138 - 70، ج 11 ص 101 - 75. هذا وقد أورد في البحار: ج 49 ص 208 - 189 احتجاج الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام مع العلماء بحضور المأمون في نفس الموضوع.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 190
--------------------------------------------------------------------------------
ووزيرا من أهل الأرض " (1)، و " أن اقتدروا بالذين من بعدي "، و " أثبت حراء، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد) (2) - حتى عدد أبو جعفر عليه السلام أكثر من مائة رواية يحسبون أنها حق - فقال عليه السلام: هي والله كلها كذب وزور.
قلت: أصلحك الله لم يكن منها شئ؟ قال عليه السلام: منها موضوع ومنها محرف، فأما المحرف فإنما عنى (إن عليك نبي الله وصديقا وشهيدا) يعني عليا عليه السلام، فقبلها. (3)
ومثله (4) (كيف لا يبارك لك وقد علاك نبي وصديق وشهيد) يعني عليا عليه السلام. وعامها كذب وزور وباطل.
اللهم اجعل قولي قول رسول الله صلى الله عليه وآله، وقول علي عليه السلام ما اختلف فيه أمة محمد من بعده إلى أن يبعث الله المهدي عليه السلام.
____________
(1). أورده في الغدير: ج 5 ص 318 هكذا: (إن الله أيدني بأربعة وزراء. قلنا: من هؤلاء الوزراء يا رسول الله؟
قال: اثنين من أهل السماء واثنين من أهل الأرض. قلنا: من هؤلاء الاثنين من أهل السماء؟ قال: جبرئيل وميكائيل. قلنا: من هؤلاء الاثنين من أهل الأرض - أو من أهل الدنيا -؟ قال: أبو بكر وعمر!!
(2). روي في البحار: ج 17 ص 288 عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله على جبل حراء، إذ تحرك الجبل. فقال له: (قر، فليس عليك إلا نبي وصديق شهيد). فقر الجبل مجيبا لأمره ومنتهيا إلى طاعته.
وأورده في الغدير: ج 9 ص 332 هكذا: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان بحراء. فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته إلى الحضيض. فركضه برجله فقال: اسكن، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد). وفسرت العامة (الشهيد) بعثمان، وفي بعض رواياتهم بأبي بكر وعمر كما في الغدير: ج 10 ص 73.
(3). معناه على الظاهر: فقبل حراء كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسكن.
1
أمير المؤمنين عليه السلام يقيم الحجة على المسلمين في عصر عثمان
أبان عن سليم قال: رأيت عليا عليه السلام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله في خلافة عثمان وجماعة يتحدثون ويتذاكرون الفقه والعلم.
فذكروا قريشا وفضلها وسوابقها وهجرتها وما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم من الفضل، مثل قوله: (الأئمة من قريش)، وقوله: (الناس تبع لقريش) و (قريش أئمة العرب)، وقوله: (لا تسبوا قريشا)، وقوله: (إن للقرشي قوة رجلين من غيرهم)، وقوله:
(أبغض الله من أبغض قريشا)، وقوله: (من أراد هوان قريش أهانه الله).
وذكروا الأنصار وفضلها وسوابقها ونصرتها وما أثنى الله عليهم في كتابه وما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم من الفضل. وذكروا ما قال في سعد بن معاذ في جنازته (1) وحنظلة بن الراهب غسيل الملائكة (2) والذي حمته الدبر (3)، حتى لم يدعوا شيئا من فضلهم، فقال
____________
(1). في الإحتجاج زيادة هكذا: وذكروا ما قال في سعد بن معاذ في جنازته، و (إن العرش اهتز لموته)، وقوله صلى الله عليه وآله - لما جيئ إليه بمناديل من اليمن فأعجب الناس - فقال: (لمناديل سعد في الجنة أحسن منها).
ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله في جنازة سعد: إن الملائكة كانت بلا حذاء ولا رداء، فتأسيت بها وكانت يدي في يد جبرئيل آخذ حيث ما أخذ من سريره. راجع البحار: ج 10 ص 43 و ج 20 ص 236.
(2). هو الذي استشهد يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: رأيت الملائكة يغسلون ابن أبي عامر. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة سأل زوجته عن حاله، قالت: لما كان حنظلة راغبا في الجهاد توجه إلى الحرب بدون أن يغتسل للجنابة فلذا يقال له: (غسيل الملائكة). راجع البحار: ج 20 ص 47 و 58.
(3). الدبر بالفتح جماعة النحل والزنابير. فسر أهل الغريب بهما في قصة عاصم بن ثابت الأنصاري المعروف بحمى الدبر. أصيب يوم أحد فمنعت النحل الكفار منه. روي في البحار: ج 20 ص 152: أن المشركين أحاطوا بعاصم بن ثابت فقتلوه، وأرادوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت نذرت أن تشرب في قحفه الخمر لأنه قتل ابنيها يوم أحد. فحمته الدبر، فقالوا: امهلوه حتى يمسي فتذهب عنه.
فبعث الله الوادي (أي السيل) فاحتمله، فسمي (حمى الدبر).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 192
--------------------------------------------------------------------------------
كل حي: (منا فلان وفلان).
وقالت قريش: (منا رسول الله صلى الله عليه وآله ومنا حمزة بن عبد المطلب ومنا جعفر ومنا عبيدة بن الحارث وزيد بن حارثة (1) وأبو بكر وعمر وعثمان وسعد وأبو عبيدة وسالم وابن عوف). فلم يدعوا أحدا من الحيين من أهل السابقة إلا سموه.
وفي الحلقة أكثر من مأتي رجل، منهم مسانيد إلى القبلة ومنهم في الحلقة. فكان ممن حفظت من قريش: علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وعمار والمقداد وأبو ذر وهاشم بن عتبة (2) وعبد الله بن عمر والحسن والحسين عليهما السلام وابن عباس ومحمد بن أبي بكر وعبد الله بن جعفر وعبيد الله بن العباس، ومن الأنصار (3): أبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو أيوب
____________
(1). أبو الحارث عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، صحابي كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وآله بعشر سنين. شهد بدرا وتوفي عائدا منها عن 63 سنة.
وزيد بن حارثة هو الذي تبناه رسول الله صلى الله عليه وآله وجعله أميرا على سرية مؤتة من أرض الشام فقتل هناك في سنة ثمان من الهجرة.
(2). هاشم بن عتبة المرقال الزهري كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وكان من الفضلاء الأخيار. كان من الأبطال، فقعت عينه يوم اليرموك. شهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين وأبلى بلاء حسنا وقتل في صفين.
(3). زيد بن ثابت بن ضحاك الأشعري الخزرجي الأنصاري صحابي مات سنة 51. كان عثمانيا ولم يشهد مع علي عليه السلام شيئا من حروبه.
وأبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري من أصحاب رسول الله وأمير المؤمنين عليهما السلام. شهد بدرا واحدا والعقبة وسائر المشاهد وكان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وكان ممن أنكر على أبي بكر وشهد مع علي عليه السلام مشاهده كلها وكان على مقدمته يوم النهروان.
وأبو الهيثم مالك بن تيهان الأوسي الأنصاري، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهو من الاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر غصب الخلافة ولزم أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن استشهد بين يديه بصفين.
ومحمد بن مسلمة هو الذي اعتزل عن القتال مع أمير المؤمنين عليه السلام ولم يشهد شيئا من حروبه ومات بالمدينة سنة 46.
وأبو مريم الأنصاري من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام.
وأبو معاوية عبد الله بن أبي أوفى صحابي شهد الحديبية وبايع بيعة الرضوان وشهد خيبر وما بعدها من المشاهد، وتحول إلى الكوفة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وتوفي سنة 86.
أبو ليلى والد عبد الرحمن، يقال إنه استشهد بصفين. وقد مر ترجمة عبد الرحمن في مفتتح الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 193
--------------------------------------------------------------------------------
الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان ومحمد بن مسلمة وقيس بن سعد بن عبادة وجابر بن عبد الله وأبو مريم وأنس بن مالك وزيد بن أرقم وعبد الله بن أبي أوفى وأبو ليلى ومعه ابنه عبد الرحمن قاعد بجنبه، غلام أمرد صبيح الوجه.
وجاء أبو الحسن البصري ومعه ابنه الحسن غلام أمرد صبيح الوجه معتدل القامة.
قال: فجعلت أنظر إليه وإلى عبد الرحمن بن أبي ليلى، فلا أدري أيهما أجمل، غير أن الحسن أعظمهما وأطولهما.
فأكثر القوم، وذلك من بكرة إلى حين الزوال - وعثمان في داره لا يعلم بشئ مما هم فيه - وعلي بن أبي طالب عليه السلام ساكت لا ينطق هو ولا أحد من أهل بيته.
2
احتجاجات أمير المؤمنين عليه السلام
فأقبل القوم عليه فقالوا: يا أبا الحسن، ما يمنعك أن تتكلم؟ قال عليه السلام: ما من الحيين أحد إلا وقد ذكر فضلا وقال حقا. ثم قال: يا معاشر قريش، يا معاشر الأنصار، بمن أعطاكم الله هذا الفضل؟ أبأنفسكم وعشائركم وأهل بيوتاتكم، أم بغيركم؟ قالوا: بل أعطانا الله ومن علينا برسول الله صلى الله عليه وآله
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 194
--------------------------------------------------------------------------------
وبه أدركنا ذلك كله ونلناه. فكل فضل أدركناه في دين أو دنيا فبرسول الله صلى الله عليه وآله لا بأنفسنا ولا بعشائرنا ولا بأهل بيوتاتنا.
قال: صدقتم، يا معاشر قريش والأنصار. أتقرون أن الذي نلتم به خير الدنيا والآخرة منا خاصة - أهل البيت - دونكم جميعا، وأنكم سمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
(إني وأخي علي بن أبي طالب بطينة واحدة إلى آدم)؟ (1) قال أهل بدر وأهل أحد وأهل السابقة والقدمة: نعم، سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: أتقرون أن ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (إني وأهل بيتي كنا نورا يسعى بين يدي الله، قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف سنة. فلما خلق آدم وضع ذلك النور في صلبه وأهبطه إلى الأرض، ثم حمله في السفينة في صلب نوح، ثم قذف به في النار في صلب إبراهيم. ثم لم يزل الله ينقلنا من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ومن الأرحام الطاهرة إلى الأصلاب الكريمة بين الآباء والأمهات لم يلتق واحد منهم على سفاح قط)؟ فقال أهل السابقة والقدمة وأهل بدر وأهل أحد: نعم، قد سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: فأنشدكم الله، أتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله آخى بين كل رجلين من أصحابه وآخى بيني وبين نفسه وقال: (أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة)؟ فقالوا: اللهم نعم.
قال: أتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله اشترى موضع مسجده فابتناه ثم بنى عشرة منازل، تسعة له وجعل لي عاشرها في وسطها وسد كل باب شارع إلى المسجد غير بابي.
فتكلم في ذلك من تكلم، فقال صلى الله عليه وآله: (ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه). ولقد نهى الناس جميعا أن يناموا في المسجد غيري، وكنت أجنب في المسجد، ومنزلي ومنزل رسول الله صلى الله عليه وآله واحد في المسجد، يولد لرسول الله صلى الله عليه وآله
____________
(1). راجع عن بدء خلق أهل البيت عليهم السلام: البحار: ج 25.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 195
--------------------------------------------------------------------------------
ولي فيه أولاد؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتقرون أن عمر حرص على كوة قدر عينه يدعها من منزله إلى المسجد فأبى عليه (1)، ثم قال صلى الله عليه وآله: (إن الله أمر موسى أن يبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيره وغير هارون وابنيه، وإن الله أمرني أن أبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وأخي وابنيه)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاني يوم غدير خم فنادى لي بالولاية، ثم قال: ليبلغ الشاهد منكم الغائب. قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في غزوة تبوك: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت ولي كل مؤمن بعدي)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله - حين دعا أهل نجران إلى المباهلة - إنه لم يأت إلا بي و بصاحبتي وابني؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أنه دفع إلي لواء خيبر ثم قال: (لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، ليس بجبان ولا فرار يفتحها الله على يديه)؟ قالوا: اللهم نعم.
____________
(1). روي في البحار: ج 39 ص 23: أنه لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بسد الأبواب جاء عمر بن الخطاب فقال: إني أحب النظر إليك يا رسول الله صلى الله عليه وآله إذا مررت إلى مصلاك، فائذن لي في خوخة أنظر إليك منها. فقال:
قد أبى الله ذلك. فقال: فمقدار ما أضع عليه وجهي. قال: قد أبى الله ذلك. قال: فمقدار ما أضع عليه عيني. فقال: قد أبى الله ذلك، ولو قلت (قدر طرف إبرة) لم آذن لك. والذي نفسي بيده ما أنا أخرجتكم ولا أدخلتهم ولكن الله أدخلهم وأخرجكم....
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 196
--------------------------------------------------------------------------------
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعثني بسورة براءة ورد غيري - بعد أن كان بعثه - بوحي من الله وقال: (إن العلي الأعلى يقول: إنه لا يبلغ عنك إلا رجل منك)؟ قالوا:
اللهم بلى. (1)
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم تنزل به شديدة قط إلا قدمني لها ثقة بي، وأنه لم يدعني باسمي قط إلا أن يقول: (يا أخي) و (ادعوا لي أخي)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى بيني وبين جعفر وزيد في ابنة حمزة فقال:
(يا علي، أما أنت مني وأنا منك، وأنت ولي كل مؤمن بعدي)؟ قالوا: اللهم نعم. (2)
قال: أفتقرون أنه كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وآله في كل يوم وليلة دخلة وخلوة، إذا
____________
(1). روي في البحار: ج 35 ص 295 عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس. فنزل جبرئيل فقال: (لا يبلغ عنك إلا علي). فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام فأمره أن يركب ناقته العضباء وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة ويقرأه على الناس بمكة. فقال أبو بكر: أسخطة؟ فقال: لا، إلا أنه أنزل عليه أنه لا يبلغ إلا رجل منك. فلما قدم علي عليه السلام مكة - وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الأكبر - قام ثم قال: إني رسول رسول الله إليكم، فقرأها عليهم: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)، عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا من ربيع الآخر. وقال: (لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك. ألا من كان له عهد عند رسول الله فمدته إلى هذه الأربعة أشهر). راجع البحار: ج 35 ص 284 ب 9، والغدير: ج 6 ص 341 (2). في البحار: ج 20 ص 372 وصحيح البخاري: ج 3 ص 168: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما خرج من مكة بعد عمرة القضاء تبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، يا عم. فتناولها علي وقال لفاطمة عليها السلام: دونك بنت عمك، فحملتها. فاختصم فيها علي وزيد بن حارثة وجعفر. قال علي عليه السلام: أنا أحق بها وهي بنت عمي. وقال جعفر: بنت عمي وخالتها تحتي. وقال زيد: بنت أخي. فقضى بها النبي صلى الله عليه وآله لخالتها وقال: (الخالة بمنزلة الأم)، وقال لعلي عليه السلام: (أنت مني وأنا منك). وقال لجعفر: (أشبهت خلقي وخلقي) وقال لزيد:
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله فضلني على جعفر وحمزة، فقال لفاطمة عليها السلام: (إني زوجتك خير أهلي وخير أمتي وأقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أنا سيد ولد آدم وأخي علي سيد العرب وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة وابناي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني أن أغسله، وأخبرني أن جبرئيل يعينني على غسله؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم بالله، أفتقرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في آخر خطبة خطبكم: (أيها الناس، إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وأهل بيتي)؟ قالوا: اللهم نعم.
ثم قال (1) علي عليه السلام: أنشدكم الله، أتعلمون أن الله عز وجل فضل في كتابه السابق على المسبوق في غير آية، وإني لم يسبقني إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وآله أحد من هذه الأمة؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم الله، أتعلمون حيث نزلت (والسابقون الأولون من المهاجرين
____________
(1). زاد في (الإحتجاج) هنا هذه الفقرة: ثم قال: أنشدكم بالله، أتعلمون أني أول الأمة إيمانا بالله وبرسوله؟
والأنصار) (1)، (والسابقون السابقون أولئك المقربون) (2)، سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: أنزلها الله تعالى ذكره في الأنبياء وأوصيائهم، فأنا أفضل أنبياء الله ورسله وعلي بن أبي طالب وصيي أفضل الأوصياء؟ قالوا: اللهم نعم.
يوم غدير خم على لسان أمير المؤمنين عليه السلام
قال: فأنشدكم، أتعلمون حيث نزلت (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (3)، وحيث نزلت (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (4)، وحيث نزلت (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (5)، قال الناس: يا رسول الله، خاصة في بعض المؤمنين أم عامة لجميعهم؟
فأمر الله عز وجل أن يعلمهم ولاة أمرهم وأن يفسر لهم من الولاية ما فسر لهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجهم. فنصبني للناس بغدير خم، ثم خطب وقال:
(أيها الناس، إن الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس تكذبني فأوعدني لأبلغها أو ليعذبني).
ثم أمر فنودي بالصلاة جامعة، ثم خطب فقال: (أيها الناس، أتعلمون أن الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم)؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: (قم، يا علي). فقمت، فقال: (من كنت مولاه فعلي هذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
____________
(1). سورة التوبة: الآية 100، وتمام الآية هكذا: (والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).
(2). سورة الواقعة: الآية 10.
(3). سورة النساء: الآية 59.
(4). سورة المائدة: الآية 55.
(5). سورة التوبة: الآية 16.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 199
--------------------------------------------------------------------------------
فقام سلمان فقال: يا رسول الله، ولاء كما ذا؟ فقال: (ولاء كولايتي، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه). فأنزل الله تعالى ذكره: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). (1) فكبر النبي صلى الله عليه وآله وقال: (الله أكبر، تمام نبوتي وتمام دين الله ولاية علي بعدي).
فقام أبو بكر وعمر فقالا: يا رسول الله، هذه الآيات خاصة في علي؟ قال: بلى، فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة. قالا: يا رسول الله، بينهم لنا. قال: علي أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي، ثم ابني الحسن، ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد ابني الحسين واحد بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي حوضي.
فقالوا كلهم: اللهم نعم، قد سمعنا ذلك وشهدنا كما قلت سواء. وقال بعضهم: قد حفظنا جل ما قلت ولم نحفظه كله، وهؤلاء الذين حفظوا أخيارنا وأفاضلنا.
فقال علي عليه السلام: صدقتم، ليس كل الناس يستوون في الحفظ، أنشد الله من حفظ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله لما قام فأخبر به.
فقام زيد بن أرقم والبراء بن عازب وأبو ذر والمقداد وعمار فقالوا: نشهد لقد حفظنا قول النبي صلى الله عليه وآله - وهو قائم على المنبر وأنت إلى جنبه - وهو يقول: (يا أيها الناس، إن الله أمرني أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي وخليفتي والذي فرض الله على المؤمنين في كتابه طاعته فقرنه بطاعته وطاعتي، وأمركم فيه بولايته. وإني راجعت ربي خشية طعن أهل النفاق وتكذيبهم، فأوعدني لتبلغنها أو ليعذبني.
أيها الناس، إن الله أمركم في كتابه بالصلاة فقد بينتها لكم، وبالزكاة والصوم والحج
فبينتها لكم وفسرتها، وأمركم بالولاية وإني أشهدكم أنها لهذا خاصة - ووضع يده على علي بن أبي طالب عليه السلام - ثم لابنيه بعده ثم للأوصياء من بعدهم من ولدهم، لا يفارقون القرآن ولا يفارقهم القرآن حتى يردوا علي حوضي.
أيها الناس، قد بينت لكم مفزعكم بعدي وإمامكم بعدي ووليكم وهاديكم، وهو أخي علي بن أبي طالب وهو فيكم بمنزلتي فيكم. فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم، فإن عنده جميع ما علمني الله من علمه وحكمته فسلوه وتعلموا منه ومن أوصيائه بعده ولا تعلموهم ولا تتقدموهم ولا تخلفوا عنهم، فإنهم مع الحق والحق معهم لا يزايلونه ولا يزايلهم). ثم جلسوا. (1)
قال سليم: ثم قال علي عليه السلام: أيها الناس، أتعلمون أن الله أنزل في كتابه: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). (2) فجمعني وفاطمة وابني حسنا وحسينا، ثم ألقى علينا كساء وقال: (هؤلاء أهل بيتي ولحمتي، يؤلمهم ما يؤلمني ويؤذيني ما يؤذيهم ويحرجني ما يحرجهم (3)، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا). فقالت أم سلمة: وأنا يا رسول الله؟ فقال: (أنت إلى خير، إنما نزلت في وفي أخي وفي ابنتي فاطمة وفي ابني وفي تسعة من ولد ابني الحسين خاصة ليس معنا فيها أحد غيرهم)؟
فقالوا كلهم: نشهد أن أم سلمة حدثتنا بذلك، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وآله فحدثنا كما حدثتنا به أم سلمة.
ثم قال علي عليه السلام: أنشدكم الله، أتعلمون أن الله أنزل (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
____________
(1). أي ثم جلس زيد بن أرقم والبراء وأبو ذر والمقداد وعمار بعد شهادتهم.
(2). سورة الأحزاب: الآية 33.
(3). سورة الأحزاب: الآية 33.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 201
--------------------------------------------------------------------------------
وكونوا مع الصادقين). (1) فقال سلمان: يا رسول الله، عامة هذا أم خاصة؟ قال صلى الله عليه وآله: (أما المأمورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك، وأما الصادقون فخاصة لأخي علي وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، أتعلمون أني قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك: لم خلفتني؟ قال: (إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله، أتعلمون أن الله أنزل في سورة الحج: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير). (2) فقام سلمان فقال: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس، الذين اجتباهم الله ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، ملة أبيهم إبراهيم؟ قال: عنى بذلك ثلاثة عشر رجلا خاصة دون هذه الأمة. قال سلمان: بينهم لنا يا رسول الله؟ فقال: (أنا وأخي وأحد عشر من ولدي). قالوا: اللهم نعم.
فقال: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قام خطيبا ثم لم يخطب بعد ذلك فقال: (يا أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي. فتمسكوا بهما لن تضلوا، فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). فقام عمر بن الخطاب - وهو شبه المغضب - فقال: يا رسول الله، أكل أهل
____________
(1). سورة التوبة: الآية 119.
(2). سورة الحج: الآية: 78.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 202
--------------------------------------------------------------------------------
أهل بيتك؟ قال: (لا، ولكن أوصيائي منهم. أولهم أخي علي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي. هو أولهم، ثم ابني الحسن، ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد حتى يردوا علي الحوض. شهداء الله في أرضه وحججه على خلقه وخزان علمه ومعادن حكمته. من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله)؟
فقالوا كلهم: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك.
وصف مجلس المناشدة
ثم تمادى بعلي عليه السلام السؤال، فما ترك شيئا إلا ناشدهم الله فيه وسألهم عنه حتى أتى على آخر مناقبه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله كثيرا، كل ذلك يصدقونه ويشهدون أنه حق.
قال: فلم يدع شيئا مما أنزل الله فيه خاصة أو فيه وفي أهل بيته في القرآن ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ناشدهم الله فيه. فمنه ما يقولون جميعا: (نعم) ومنه ما يسكت بعضهم ويقول بعضهم: (اللهم نعم) ويقول الذين سكتوا للذين أقروا: أنتم عندنا ثقات، وقد حدثنا غيركم ممن نثق به أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم قال حين فرغ: اللهم اشهد عليهم. قالوا: اللهم اشهد أنا لم نقل إلا حقا وما قد سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد حدثنا من نثق به أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: أتقرون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من زعم أنه يحبني ويبغض عليا فقد كذب وليس يحبني) - ووضع يده على رأسي - فقال له قائل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال:
(لأنه مني وأنا منه، ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله)؟ فقال نحو من عشرين رجلا من أفاضل الحيين: (اللهم نعم)، وسكت بقيتهم.
فقال علي عليه السلام للسكوت: ما لكم سكوت؟ فقالوا: هؤلاء الذين شهدوا عندنا ثقات
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 203
--------------------------------------------------------------------------------
في صدقهم وفضلهم وسابقتهم. فقال علي عليه السلام: اللهم اشهد عليهم.
فقالوا: اللهم إنا لم نشهد ولم نقل إلا ما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وما حدثنا به من نثق به من هؤلاء وغيرهم أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله.
3
كلمات بين أمير المؤمنين عليه السلام وطلحة
سبعة أجوبة عن حديث أبي بكر المختلق في الخلافة
فقال طلحة بن عبيد الله - وكان يقال له (داهية قريش) -: فكيف نصنع بما ادعى أبو بكر وعمر وأصحابه الذين صدقوه وشهدوا على مقالته يوم أتوا بك تعتل وفي عنقك حبل، فقالوا لك: (بايع)، فاحتججت بما احتججت به من الفضل والسابقة، فصدقوك جميعا. ثم ادعى أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وآله يقول: (إن الله أبى أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة)، فصدقه عمر وأبو عبيدة بن الجراح وسالم ومعاذ بن جبل؟
ثم أقبل طلحة فقال: كل الذي ذكرت وادعيت حق وما احتججت به من السابقة والفضل نحن نقر به ونعرفه، وأما الخلافة فقد شهد أولئك الخمسة بما سمعت!
الجواب الأول: فضح تعاهدهم على الصحيفة الملعونة
فقام عند ذلك علي عليه السلام - وغضب من مقالة طلحة - فأخرج شيئا قد كان يكتمه وفسر
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 204
--------------------------------------------------------------------------------
شيئا قد كان قاله يوم مات عمر لم يدروا ما عنى به (1)، وأقبل على طلحة - والناس يسمعون - فقال: يا طلحة، أما والله ما من صحيفة ألقى الله بها يوم القيامة أحب إلي من صحيفة هؤلاء الخمسة الذين تعاهدوا على الوفاء بها في الكعبة في حجة الوداع: (إن قتل الله محمدا أو مات أن يتوازروا ويتظاهروا علي فلا أصل إلى الخلافة)!
الجواب الثاني: حديث الغدير
وقال عليه السلام: والدليل - يا طلحة - على باطل ما شهدوا عليه قول نبي الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم: (من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه)، فكيف أكون أولى بهم من أنفسهم وهم أمراء علي وحكام؟
الجواب الثالث: حديث المنزلة
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة)، أفلستم تعلمون أن الخلافة غير النبوة؟ ولو كان مع النبوة غيرها لاستثناه رسول الله صلى الله عليه وآله.
الجواب الرابع: حديث الثقلين
وقوله صلى الله عليه وآله: (إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي لا تتقدموهم ولا تتخلفوا عنهم ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)، فينبغي أن لا يكون الخليفة على الأمة إلا أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وقد قال الله: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (2)، وقال: (وزاده بسطة
____________
(1). عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام لما نظر إلى الثاني وهو مسجى بثوبه: (ما من أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى). فقال عليه السلام: عنى بها صحيفته التي في الكعبة. راجع البحار: ج 8 طبع قديم ص 27. وروي في ص 22 عن حذيفة بن اليمان أنه قال:
وهي الصحيفة التي تمنى أمير المؤمنين عليه السلام لما توفي عمر فوقف به وهو مسجى بثوبه قال: (ما أحب إلي أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى)!
(2). سورة يونس: الآية 35.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 205
--------------------------------------------------------------------------------
في العلم والجسم " (1)، وقال: " أو أثارة من علم إن كنتم صادقين " (2) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما ولت أمة قط أمرها رجلا وفيهم أعلم إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا)، فما الولاية غير الإمارة على الأمة؟
الجواب الخامس: حديث التسليم عن علي عليه السلام بإمرة المؤمنين
والدليل على كذبهم وباطلهم وفجورهم أنهم سلموا علي بإمرة المؤمنين بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي الحجة عليهم وعليك خاصة وعلى هذا الذي معك - يعني الزبير - وعلى الأمة رأسا وعلى هذين - وأشار إلى سعد وابن عوف - وعلى خليفتكم هذا الظالم - يعني عثمان -.
الجواب السادس: الشورى التي أمر بها عمر
وإنا معشر الشورى الستة أحياء كلنا، فلم جعلني عمر في الشورى إن كان قد صدق هو وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أجعلنا في الشورى في الخلافة أم في غيرها؟ فإن زعمتم أنه جعلها شورى في غير الإمارة فليس لعثمان إمارة علينا ولا بد من أن نتشاور في غيرها لأنه أمرنا أن نتشاور في غيرها؟ وإن كانت الشورى فيها فلم أدخلني فيكم؟
فهلا أخرجني وقد قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخرج أهل بيته من الخلافة فأخبر أنه ليس لهم فيها نصيب)؟
الجواب السابع: ما قال عمر عند موته
ولم قال عمر - حين دعانا رجلا رجلا - لابنه عبد الله - وها هو ذا (3) - أنشدك بالله، ما قال لك حين خرجنا؟ فقال عبد الله: أما إذ ناشدتني فإنه قال: (إن بايعوا أصلع
____________
(1). سورة البقرة: الآية 247.
(2). سورة الأحقاف: الآية 4.
(3). كان عبد الله بن عمر حاضر المجلس كما مر في صدر الحديث فأشار عليه السلام إليه وصير الخطاب إليه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 206
--------------------------------------------------------------------------------
بني هاشم حملهم على المحجة البيضاء، وأقامهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم)!
ثم قال عليه السلام: يا بن عمر، فما قلت أنت عند ذلك؟ قال: قلت له: فما يمنعك - يا أبه - أن تستخلفه؟ قال: فما رد عليك؟ قال: رد علي شيئا أكتمه قال عليه السلام: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبرني بكل ما قال لك وقلت له. قال: ومتى أخبرك؟ قال عليه السلام: أخبرني في حياته ثم أخبرني به ليلة مات أبوك في منامي، ومن رآى رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام فقد رآه في اليقظة.
قال له ابن عمر: فما أخبرك؟ قال عليه السلام: أنشدك الله يا بن عمر، لئن حدثتك به لتصدقني. قال: أو أسكت قال: فإنه قد قال لك - حين قلت له: (فما يمنعك أن تستخلفه؟) - قال: الصحيفة التي كتبناها بيننا والعهد الذي تعاهدنا عليه في الكعبة في حجة الوداع فسكت ابن عمر فقال: أسألك بحق رسول الله صلى الله عليه وآله لما أمسكت عني!
قال سليم: فلقد رأيت ابن عمر في ذلك المجلس وقد خنقته العبرة وعيناه تسيلان دموعا.
شورى عمر غير الشرعية
ثم أقبل علي عليه السلام على طلحة والزبير وابن عوف وسعد قال: والله إن كان أولئك الخمسة كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله فما يحل لكم ولايتهم، وإن كانوا صدقوا ما حل لكم - أيها الخمسة - أن تدخلوني معكم في الشورى لأن إدخالكم إياي فيه خلاف على رسول الله صلى الله عليه وآله ورغبة عنه.
الخلافة والإمامة فقط للأئمة الاثني عشر عليهم السلام
ثم أقبل علي عليه السلام على الناس فقال: أخبروني عن منزلتي فيكم وما تعرفوني به، أصدوق أنا عندكم أم كذاب؟ فقالوا: بل صديق صدوق، لا والله ما علمناك كذبت في
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 207
--------------------------------------------------------------------------------
جاهلية ولا إسلام. قال عليه السلام: فوالله الذي أكرمنا أهل البيت بالنبوة فجعل منا محمدا وأكرمنا من بعده بأن جعلنا أئمة المؤمنين، لا يبلغ (1) عنه صلى الله عليه وآله غيرنا ولا تصلح الإمامة والخلافة إلا فينا، ولم يجعل الله معنا أهل البيت لأحد من الناس فيها نصيبا ولا حقا.
أما رسول الله، فخاتم النبيين ليس بعده رسول ولا نبي، ختم الأنبياء برسول الله صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة، وختم بالقرآن الكتب إلى يوم القيامة، وجعلنا من بعد محمد خلفاء في أرضه وشهداء على خلقه وفرض طاعتنا في كتابه وقرننا بنفسه ونبيه في الطاعة في غير آية من القرآن. والله جعل محمدا نبيا وجعلنا خلفاء من بعده في خلقه وشهداء على خلقه وفرض طاعتنا في كتابه المنزل، ثم أمر الله جل وعز نبيه أن يبلغ ذلك أمته، فبلغهم كما أمره الله عز وجل.
من هو الأحق بمجلس رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فأيهما أحق بمجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وبمكانه، وقد سمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله حين بعثني ببراءة فقال: (إنه لا يصلح أن يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني)؟ فأنشدكم الله، أسمعتم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالوا: اللهم نعم، نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله حين بعثك ببراءة.
قال: فلم يصلح لصاحبكم أن يبلغ عنه صحيفة قدر أربع أصابع ولم يصلح أن يكون المبلغ لها غيري فأيهما أحق بمجلسه ومكانه؟ الذي سماه خاصة أنه من رسول الله أو من خص من بين هذه الأمة أنه ليس من رسول الله؟ (2)
____________
(1). قوله (لا يبلغ...) جواب للقسم.
(2). المراد أنا أحق بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله أو أبو بكر الذي علم رسول الله صلى الله عليه وآله أمته في تبليغ سورة البراءة أنه خاصة ليس من رسول الله صلى الله عليه وآله.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 208
--------------------------------------------------------------------------------
ألم يقل النبي صلى الله عليه وآله: ليبلغ الشاهد الغائب؟
فقال طلحة: قد سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله، ففسر لنا كيف لا يصلح لأحد أن يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وقد قال لنا ولسائر الناس: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، وقال بعرفة حين حج حجة الوداع: (رحم الله امرء سمع مقالتي فوعاها ثم أبلغها عني، فرب حامل فقه ولا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاثة لا يغل (1) عليهن قلب امرء مسلم: إخلاص العمل لله، والسمع والطاعة والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم محيطة من ورائهم)، وقام في غير موطن فقال: (ليبلغ الشاهد الغائب)؟
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم ويوم عرفة في حجة الوداع ويوم قبض (2). فانظر في آخر خطبة خطبها حين قال: (إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله وأهل بيتي. فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين الأصبعين - وأشار بمسبحته والوسطى - فإن إحديهما قدام الأخرى فتمسكوا بهما لا تضلوا ولا تزلوا، ولا تقدموهم ولا تخلفوا عنهم ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).
وإنما أمر العامة أن يبلغوا من لقوا من العامة بإيجاب طاعة الأئمة من آل محمد عليهم السلام وإيجاب حقهم، ولم يقل ذلك في شئ من الأشياء غير ذلك. وإنما أمر العامة أن يبلغوا العامة بحجة من لا يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله جميع ما بعثه الله به غيرهم.
____________
(1). روي في البحار: ج 21 ص 138 ح 33 عن الصادق عليه السلام قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف:
نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يبلغه. يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب. فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. المؤمنون إخوة، تتكافئ دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم. والمراد من ذكر هذه الفقرة إيراد موارد قوله (ليبلغ الشاهد الغائب).
(2). معنى الجملة: أن قوله (ليبلغ الشاهد الغائب) كان في هذه المواضع الثلاثة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 209
--------------------------------------------------------------------------------
ألا ترى يا طلحة، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي - وأنتم تسمعون -: يا أخي، إنه لا يقضي عني ديني ولا يبرئ ذمتي غيرك. أنت تبرئ ذمتي وتؤدي أمانتي وتقاتل على سنتي).
فلما ولى أبو بكر هل قضى عن رسول الله صلى الله عليه وآله دينه وعداته؟ فأثبتهم جميعا فقضيت دينه وعداته. وأخبرهم أنه لا يقضي عنه دينه وعداته غيري. ولم يكن ما أعطاهم أبو بكر بقضاء لدينه وعداته، وإنما كان قضاي دينه وعداته هو الذي أبرء ذمته وقضى أمانته.
الأئمة عليهم السلام هم مبلغوا أوامر الله إلى الناس
وإنما يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله جميع ما جاء عن الله عز وجل الأئمة الذين فرض الله طاعتهم في كتابه وأمر بولايتهم، الذين من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله.
فقال طلحة: فرجت عني، ما كنت أدري ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك حتى فسرته لي. فجزاك الله يا أبا الحسن خيرا عن جميع الأمة.
4
كلمة عن جمع القرآن
جمع أمير المؤمنين عليه السلام للقرآن
يا أبا الحسن، شئ أريد أن أسألك عنه: رأيتك خرجت بثوب مختوم عليه فقلت: (يا أيها الناس، إني لم أزل مشغولا برسول الله صلى الله عليه وآله، بغسله وتكفينه ودفنه. ثم شغلت بكتاب الله حتى جمعته، فهذا كتاب الله مجموعا لم يسقط منه حرف)، فلم أر ذلك الكتاب الذي كتبت وألفت.
ولقد رأيت عمر بعث إليك - حين استخلف - أن ابعث به إلي، فأبيت أن تفعل. فدعا عمر الناس، فإذا شهد اثنان على آية قرآن كتبها وما لم يشهد عليها غير رجل واحد رماها ولم يكتبه وقد قال عمر - وأنا أسمع -: (إنه قد قتل يوم اليمامة رجال كانوا يقرؤون قرآنا لا يقرأه غيرهم فذهب)، وقد جاءت شاة إلى صحيفة - وكتاب عمر يكتبون - فأكلتها وذهب ما فيها، والكاتب يومئذ عثمان فما تقولون؟ (1)
وسمعت عمر يقول وأصحابه الذين ألفوا ما كتبوا على عهد عثمان: (إن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، والنور ستون ومائة آية، والحجرات تسعون آية) فما هذا؟
وما يمنعك - يرحمك الله - أن تخرج إليهم ما قد ألفت للناس؟
وقد شهدت عثمان حين أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة ومزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار. (2) فما هذا؟
____________
(1). لا يخفى أن هذا كله كلام طلحة في كيفية جمع القرآن كما يوجد مثله في كتب العامة أيضا، أنظر: منتخب كنز العمال: ج 2 ص 42 و 45. مسند أحمد: ج 5 ص 117. كنز العمال: ج 2 ص 569. الإتقان: ج 2 ص 25. الدر المنثور: ج 6 ص 378.
وروى الفضل بن شاذان في كتاب (الإيضاح): ص 112 عن العامة: أن أبا بكر وعمر جمعا القرآن من أوله إلى آخره من أفواه الرجال بشهادة شاهدين وكان الرجل الواحد منهم إذا أتى بآية سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقبلا منه، وإذا جاء اثنان بآية قبلاها وكتباها. وأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف كانا وضعا صحيفة فيها القرآن ليكتباها فجاءت شاة فأكلت الصحيفة التي فيها القرآن، فذهب من القرآن جميع ما كان في تلك الصحيفة. وأن عمر قال: لقد قتل باليمامة قوم يقرؤون قرآنا لا يقرؤه غيرهم، فذهب من القرآن ما كان عند هؤلاء النفر.
وأما كلام أمير المؤمنين عليه السلام في تأييد القرآن الموجود فسيجئ بعد أسطر.
(2). روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 308: أن عثمان جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة وأحرق المصاحف وكتب المصاحف السبعة على المشهور بين القراء، فبعث بواحد منها إلى الكوفة وبواحد إلى البصرة وإلى كل من الشام ومكة واليمن والبحرين بواحد وأمسك في المدينة مصحفا كانوا يقولون له (الإمام).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 211
--------------------------------------------------------------------------------
إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله للقرآن على أمير المؤمنين عليه السلام
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا طلحة، إن كل آية أنزلها الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وآله عندي بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخطي بيدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وآله وكل حلال أو حرام أو حد أو حكم أو أي شئ تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخط يدي حتى أرش الخدش.
قال طلحة: كل شئ من صغير أو كبير أو خاص أو عام، كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو مكتوب عندك؟
قال: نعم، وسوى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله أسر إلي في مرضه مفتاح ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب. ولو أن الأمة منذ قبض الله نبيه اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم رغدا إلى يوم القيامة.
ما كتب في الكتف بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله
يا طلحة، ألست قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله حين دعا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الأمة ولا تختلف، فقال صاحبك ما قال: (إن نبي الله يهجر) فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم تركها؟ قال: بلى، قد شهدت ذاك.
قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وبالذي أراد أن يكتب فيها وأن يشهد عليها العامة. فأخبره جبرائيل: (أن الله عز وجل قد علم من الأمة الاختلاف والفرقة)، ثم دعا بصحيفة فأملى علي ما أراد أن يكتب في الكتف وأشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان وأبا ذر والمقداد، وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر الله بطاعتهم إلى يوم القيامة. فسماني أولهم ثم ابني هذا - وأدنى بيده إلى الحسن - ثم الحسين ثم تسعة من ولد ابني هذا - يعني الحسين -. كذلك كان يا أبا ذر وأنت يا مقداد؟
فقاموا وقالوا: نشهد بذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال طلحة: والله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لأبي ذر: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولا أبر عند الله)، وأنا أشهد أنهما
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 212
--------------------------------------------------------------------------------
لم يشهدا إلا على حق، ولأنت أصدق وآثر عندي منهما.
ثم أقبل عليه السلام على طلحة فقال: إتق الله يا طلحة وأنت يا زبير وأنت يا سعد وأنت يا بن عوف، اتقوا الله وآثروا رضاه واختاروا ما عنده ولا تخافوا في الله لومة لائم.
سند القرآن الموجود في زماننا
قال طلحة: ما أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عما سألتك عنه من أمر القرآن ألا تظهره للناس؟ قال عليه السلام: يا طلحة، عمدا كففت عن جوابك.
قال: فأخبرني عما كتب عمر وعثمان، أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال عليه السلام: بل هو قرآن كله، إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا وبيان أمرنا وحقنا وفرض طاعتنا. فقال طلحة: حسبي، أما إذا كان قرآنا فحسبي.
ثم قال طلحة: فأخبرني عما في يديك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام، إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك؟ قال عليه السلام: إلى الذي أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أدفعه إليه.
قال: من هو؟ قال: وصيي وأولى الناس بالناس بعدي، ابني هذا الحسن، ثم يدفعه ابني الحسن عند موته إلى ابني هذا الحسين، ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين، حتى يرد آخرهم على رسول الله صلى الله عليه وآله حوضه. وهم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم.
اثنا عشر إمام ضلالة من قبائل قريش
أما إن معاوية وابنه سيليان بعد عثمان، ثم يليهما سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، واحدا بعد واحد تكملة اثني عشر إمام ضلالة، وهم الذين رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله على منبره يردون أمته على أدبارهم القهقرى، عشرة منهم من بني أمية ورجلان أسسا ذلك لهم، وعليهما مثل أوزار هذه الأمة.
فقالوا: يرحمك الله يا أبا الحسن وغفر لك وجزاك الله أفضل الجزاء عنا بنصحك وحسن قولك.
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في السنة الأخيرة من عمره المبارك
أبان عن سليم قال: كنا جلوسا حول أمير المؤمنين عليه السلام وعنده جماعة من أصحابه، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين، لو استنفرت الناس.
فقام وخطب فقال: ألا إني قد استنفرتكم فلم تنفروا ونصحتكم فلم تقبلوا، ودعوتكم فلم تسمعوا. فأنتم شهود كغياب وأحياء كأموات وصم ذوو أسماع، أتلو عليكم الحكمة وأعظكم بالموعظة الشافية الكافية وأحثكم على الجهاد لأهل الجور، فما آتي على آخر كلامي حتى أراكم متفرقين حلقا شتى، تتناشدون الأشعار وتضربون الأمثال وتسألون عن سعر التمر واللبن!
تبت أيديكم، لقد سئمتم الحرب والاستعداد لها، وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأباطيل والأضاليل والأعاليل. ويحكم، أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. وأيم الله ما أظن أن تفعلوا حتى يفعلوا ثم وددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على بصيرتي ويقيني واسترحت من مقاساتكم ومن ممارستكم. فما أنتم إلا كإبل جمة ضل راعيها، فكلما ضمت من جانب انتشرت من جانب. كأني بكم والله فيما أرى، لو قد حمس الوغى واستحر الموت قد انفرجتم عن علي بن أبي طالب انفراج الرأس وانفراج المرأة عن ولدها لا تمنع يد لامس.
لماذا لم يفعل أمير المؤمنين عليه السلام ما فعل عثمان من السكوت؟
قال الأشعث بن قيس الكندي: فهلا فعلت كما فعل ابن عفان؟
فقال علي عليه السلام: يا عرف النار (1)، أو كما فعل ابن عفان رأيتموني فعلت؟ أنا عائذ بالله من شر ما تقول، يا بن قيس، والله إن الذي فعل ابن عفان لمخزاة لمن لا دين له ولا الحق في يده، فكيف أفعل ذلك وأنا على بينة من ربي وحجته في يدي والحق معي؟
والله إن امرء مكن عدوه من نفسه حتى يجز لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه ويسفك دمه وهو يقدر على أن يمنعه لعظيم وزره وضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره. فكن أنت ذلك يا بن قيس فأما أنا فدون - والله - أن أعطي بيدي ضرب بالمشرفي تطير له فراش الهام وتطيح منه الكف والمعصم ويفعل الله بعد ما يشاء.
ويلك يا بن قيس، المؤمن يموت بكل موتة غير أنه لا يقتل نفسه، فمن قدر على حقن دمه ثم خلا بينه وبين قاتله فهو قاتل نفسه.
ويلك يا بن قيس، إن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة منها في الجنة واثنتان وسبعون في النار. وشرها وأبغضها إلى الله وأبعدها منه السامرة الذين يقولون: (لا قتال)، وكذبوا. قد أمر الله عز وجل بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسنة نبيه وكذلك المارقة.
لماذا لم يقم أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف في قضايا السقيفة
فقال الأشعث بن قيس - وغضب من قوله -: فما يمنعك يا بن أبي طالب حين بويع أخو تيم بن مرة وأخو بني عدي بن كعب وأخو بني أمية بعدهما، أن تقاتل وتضرب بسيفك؟ وأنت لم تخطبنا خطبة - منذ كنت قدمت العراق - إلا وقد قلت فيها قبل
____________
(1). خطاب إلى الأشعث بن قيس. روي في البحار: ج 41 ص 306 أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يسمي أشعثا (عنق النار) فسئل عن ذلك فقال: إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النار ممدود من السماء فتحرقه وقت وفاته، فلا يدفن إلا وهو فحمة سوداء. فلما توفي نظر سائر من حضر إلى النار وقد دخلت عليه كالعنق الممدود حتى أحرقته وهو يصيح ويدعو بالويل والثبور.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 215
--------------------------------------------------------------------------------
أن تنزل عن منبرك: (والله إني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض الله محمدا صلى الله عليه وآله).
فما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟
فقال له علي عليه السلام: يا بن قيس، قلت فاسمع الجواب: لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية للقاء ربي، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وعهده إلي.
أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أك بما صنعوا - حين عاينته - بأعلم مني ولا أشد يقينا مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله أشد يقينا مني بما عاينت وشهدت. فقلت: يا رسول الله، فما تعهد إلي إذا كان ذلك؟ قال: إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعوانا.
وأخبرني صلى الله عليه وآله أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري.
وأخبرني صلى الله عليه وآله أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له موسى: (يا هارون، ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني)، وقال: (يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي). (1) وإنما يعني: إن موسى أمر هارون - حين استخلفه عليهم - إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم، وإن لم يجد أعوانا أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم. وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله صلى الله عليه وآله: (لم فرقت بين الأمة ولم ترقب قولي وقد عهدت إليك إن لم تجد أعوانا أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك)؟
____________
(1). سورة الأعراف: الآية 150.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 216
--------------------------------------------------------------------------------
إقدام أمير المؤمنين عليه السلام لمحاربة أبي بكر وعمر
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله صلى الله عليه وآله بغسله ودفنه. ثم شغلت بالقرآن، فآليت على نفسي أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمعه في كتاب، ففعلت.
ثم حملت فاطمة وأخذت بيد ابني الحسن والحسين، فلم أدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ودعوتهم إلى نصرتي.
فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به، أما حمزة فقتل يوم أحد، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة، وبقيت بين جلفين جافيين ذليلين حقيرين عاجزين: العباس وعقيل، وكانا قريبي العهد بكفر.
فأكرهوني وقهروني، فقلت كما قال هارون لأخيه: (يا بن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). فلي بهارون أسوة حسنة ولي بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله حجة قوية.
قال عليه السلام: فقال الأشعث: كذلك صنع عثمان، استغاث بالناس ودعاهم إلى نصرته فلم يجد أعوانا فكف يده حتى قتل مظلوما.
قال عليه السلام: ويلك يا بن قيس، إن القوم - حين قهروني واستضعفوني وكادوا يقتلونني - لو قالوا لي: (نقتلك البتة) لامتنعت من قتلهم إياي ولو لم أجد غير نفسي وحدي، ولكن قالوا: (إن بايعت كففنا عنك وأكرمناك وقربناك وفضلناك وإن لم تفعل قتلناك).
فلما لم أجد أحدا بايعتهم، وبيعتي إياهم لا يحق لهم باطلا ولا يوجب لهم حقا.
فلو كان عثمان - حين قال له الناس: (اخلعها ونكف عنك) - خلعها لم يقتلوه، ولكنه قال: (لا أخلعها). قالوا: (فإنا قاتلوك)، فكف يده عنهم حتى قتلوه. ولعمري لخلعه إياها كان خيرا له، لأنه أخذها بغير حق ولم يكن له فيها نصيب وادعى ما ليس له وتناول حق غيره.
ويلك يا بن قيس، إن عثمان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما أن يكون دعا الناس إلى نصرته فلم ينصروه، وإما أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم عن نصرته، فلم يكن يحل له أن ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماما هاديا مهتديا لم يحدث حدثا ولم يؤو محدثا. وبئس ما صنع حين نهاهم وبئس ما صنعوا حين أطاعوه وإما أن يكون جوره وسوء سريرته قضى أنهم لم يروه أهلا لنصرته لجوره وحكمه بخلاف الكتاب والسنة.
وقد كان مع عثمان - من أهل بيته ومواليه وأصحابه - أكثر من أربعة آلاف رجل، ولو شاء أن يمتنع بهم لفعل. فلم نهاهم عن نصرته؟ ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم تتمة أربعين رجلا مطيعين لي لجاهدتهم، وأما يوم بويع عمر وعثمان فلا، لأني قد كنت بايعت ومثلي لا ينكث بيعته.
مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في الحروب
ويلك يا بن قيس، كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان إذ وجدت أعوانا؟ هل رأيت مني فشلا أو تأخرا أو جبنا أو تقصيرا في وقعتي يوم البصرة وهم حول جملهم.
الملعون من معه، الملعون من قتل حوله، الملعون من رجع بعده لا تائبا ولا مستغفرا، فإنهم قتلوا أنصاري ونكثوا بيعتي ومثلوا بعاملي وبغوا علي. وسرت إليهم في اثني عشر ألفا وهم نيف على عشرين ومائة ألف، فنصرني الله عليهم وقتلهم بأيدينا وشفى صدور قوم مؤمنين.
وكيف رأيت - يا بن قيس - وقعتنا بصفين وما قتل الله منهم بأيدينا خمسين ألفا في صعيد واحد إلى النار.
وكيف رأيتنا يوم النهروان، إذ لقيت المارقين وهم مستمسكون يومئذ بدين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ فقتلهم الله بأيدينا في صعيد واحد إلى النار لم يبق منهم عشرة ولم يقتلوا من المؤمنين عشرة.
ويلك يا بن قيس، هل رأيت لي لواء رد أو راية ردت؟ إياي تعير يا بن قيس؟ وأنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع مواطنه ومشاهده والمتقدم إلى الشدائد بين يديه، لا أفر ولا أزول ولا أعيى ولا أنحاز ولا أمنح العدو دبري، لأنه لا ينبغي للنبي ولا للوصي إذا لبس لامته وقصد لعدوه أن يرجع أو ينثني حتى يقتل أو يفتح الله له.
لو وجدت أربعين رجلا مثل الأربعة!!
يا بن قيس، هل سمعت لي بفرار قط أو نبوة؟
يا بن قيس، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إني لو وجدت يوم بويع أخو تيم - الذي عيرتني بدخولي في بيعته - أربعين رجلا كلهم على مثل بصيرة الأربعة الذين قد وجدت لما كففت يدي ولناهضت القوم، ولكن لم أجد خامسا فأمسكت.
قال الأشعث: فمن الأربعة، يا أمير المؤمنين؟
قال عليه السلام: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير بن صفية قبل نكثه بيعتي، فإنه بايعني مرتين: أما بيعته الأولى التي وفى بها فإنه لما بويع أبو بكر أتاني أربعون رجلا من المهاجرين والأنصار فبايعوني وفيهم الزبير، فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رؤوسهم عليهم السلاح، فما وفى لي ولا صدقني منهم أحد غير أربعة: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير.
وأما بيعته الأخرى إياي، فإنه أتاني هو وصاحبه طلحة بعد ما قتل عثمان فبايعاني طائعين غير مكرهين، ثم رجعا عن دينهما مرتدين ناكثين مكابرين معاندين
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 219
--------------------------------------------------------------------------------
خاسرين، فقتلهما الله إلى النار. وأما الثلاثة - سلمان وأبو ذر والمقداد - فثبتوا على دين محمد صلى الله عليه وآله وعلى ملة إبراهيم حتى لحقوا بالله يرحمهم الله.
يا بن قيس، والذي فلق الحبة وبرء النسمة، لو أن أولئك الأربعين الذين بايعوا وفوا لي وأصبحوا على بابي محلقين رؤوسهم قبل أن تجب لعتيق في عنقي بيعته لناهضته وحاكمته إلى الله عز وجل. ولو وجدت قبل بيعة عثمان أعوانا لناهضتهم وحاكمتهم إلى الله، فإن ابن عوف جعلها لعثمان واشترط عليه فيما بينه وبينه أن يردها عليه عند موته، وأما بعد بيعتي إياهم فليس إلى مجاهدتهم سبيل.
الشيعة، النواصب، المستضعفون
فقال الأشعث: والله لئن كان الأمر كما تقول لقد هلكت أمة محمد صلى الله عليه وآله غيرك وغير شيعتك.
فقال له علي عليه السلام: فإن الحق والله معي يا بن قيس كما أقول. وما هلك من الأمة إلا الناصبون والناكثون والمكابرون والجاحدون والمعاندون، فأما من تمسك بالتوحيد والإقرار بمحمد صلى الله عليه وآله والإسلام ولم يخرج من الملة ولم يظاهر علينا الظلمة ولم ينصب لنا العداوة وشك في الخلافة ولم يعرف أهلها وولاتها ولم يعرف لنا ولاية ولم ينصب لنا عداوة، فإن ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة الله ويتخوف عليه ذنوبه.
قال أبان: قال سليم بن قيس: فلم يبق يومئذ من شيعة علي عليه السلام أحد إلا تهلل وجهه وفرح بمقالته، إذ شرح أمير المؤمنين عليه السلام الأمر وباح به وكشف الغطاء وترك التقية.
ولم يبق أحد من القراء ممن كان يشك في الماضين ويكف عنهم ويدع البراءة منهم ورعا وتأثما إلا استيقن واستبصر وحسن رأيه وترك الشك يومئذ والوقوف. ولم يبق حوله ممن أبى بيعته إلا على وجه ما بويع عليه عثمان والماضون قبله إلا رئي ذلك في
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 220
--------------------------------------------------------------------------------
وجهه وضاق به أمره وكره مقالته. ثم إنه استبصر عامتهم وذهب شكهم. (1)
قال أبان عن سليم: فما شهدت يوما قط على رؤوس العامة كان أقر لأعيننا من ذلك اليوم، لما كشف أمير المؤمنين عليه السلام للناس من الغطاء وأظهر فيه من الحق وشرح فيه من الأمر والعاقبة وألقى فيه من التقية، وكثرت الشيعة بعد ذلك المجلس من ذلك اليوم وتكلموا، وقد كانوا أقل أهل عسكره وسائر الناس يقاتلون معه على غير علم بمكانه من الله ورسوله، وصارت الشيعة بعد ذلك المجلس أجل الناس وأعظمهم.
شهادة أمير المؤمنين عليه السلام
وذلك بعد وقعة أهل النهروان وهو يأمر بالتهيئة والمسير إلى معاوية. ثم لم يلبث أن قتل صلوات الله عليه، قتله ابن ملجم لعنه الله غيلة وفتكا، وقد كان سيفه مسموما قد سمه قبل ذلك. وصلى الله على سيدنا أمير المؤمنين وسلم تسليما.
____________
(1). المراد أن عددا من الناس أبوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام إلا على وجه ما بويع أبو بكر وعمر وعثمان. وهؤلاء لما سمعوا هذه الخطبة والاحتجاج منه عليه السلام كرهوا مقالته ورئي أثر الكراهة في وجوههم. وفي (ج) هكذا: ولم يبق أحد ممن أبى بيعته على وجه الأرض ممن بايع عثمان، بلغه ذلك إلا ضاق صدره وكره مقالته.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 221
--------------------------------------------------------------------------------
(13)
بيت المال في عصر عمر
عن أبان، قال سليم: كتب أبو المختار بن أبي الصعق (1) إلى عمر بن الخطاب هذه الأبيات:
ألا أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في المال والأمر
وأنت أمين الله فينا ومن يكن أمينا لرب الناس يسلم له صدري
فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى يخونون مال الله في الأدم الحمر
وأرسل إلى النعمان وابن معقل وأرسل إلى حزم وأرسل إلى بشر
وأرسل إلى الحجاج واعلم حسابه وذاك الذي في السوق مولى بني بدر
ولا تنسين التابعين كليهما وصهر بني غزوان في القوم ذا وفر
وما عاصم فيها بصفر عيابه ولا ابن غلاب من رماة بني نصر
واستل ذاك المال دون ابن محرز وقد كان منه في الرساتيق ذا وقر (2)
فأرسل إليهم يصدقوك ويخبروا أحاديث هذا المال من كان ذا فكر
وقاسمهم أهلي فداؤك إنهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
____________
(1). أبو المختار هو يزيد بن قيس بن يزيد.
(2). قوله: بصفر عيابه، الصفر بمعنى الخالي والعياب جمع العيبة بمعنى الزنبيل من الأدم. وقوله (ابن محرز) جاء في فتوح البلاذري: ابن محرش.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 222
--------------------------------------------------------------------------------
ولا تدعوني للشهادة إنني أغيب ولكني أرى عجب الدهر
أرى الخيل كالجدران والبيض كالدمى (1) وخطية (2) في عدة النمل والقطر
ومن ريطة (3) مطوية في قرابها ومن طي أبراد مضاعفة صفر
إذ التاجر الداري جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري
ننوب إذا نابوا ونغزو إذا غزوا فإن لهم مالا وليس لنا وفر
فقال ابن غلاب المصري (4):
ألا أبلغ أبا المختار إني أتيته ولم أك ذا قربى لديه ولا صهر
وما كان عندي من تراث ورثته ولا صدقات من سبي ولا غدر
ولكن دراك الركض في كل غارة وصبري إذا ما الموت كان ورا السمر
بسابغة يغشى اللبان فصولها (5) أكفكفها عني بأبيض ذي وفر
حكم عمر بمصادرة نصف أموال عماله
قال سليم: فأغرم عمر بن الخطاب تلك السنة جميع عماله أنصاف أموالهم لشعر
____________
(1). الدمى جمع الدمية وهي الصور المزينة فيها حمرة.
(2). جمع الخطي وهو الرمح المنسوب إلى الخط وهو مرفأ بالبحرين.
(3). الريطة: كل ثوب يشبه الملحفة.
(4). ابن غلاب هو خالد بن الحرث من بني دهمان كان على بيت المال بإصبهان.
(5). السابغة كناية عن الدرع الواسعة، واللبان هو الصدر.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 223
--------------------------------------------------------------------------------
أبي المختار (1) ولم يغرم قنفذ العدوي شيئا - وقد كان من عماله - ورد عليه ما أخذ منه وهو عشرون ألف درهم ولم يأخذ منه عشره ولا نصف عشره!
وكان من عماله الذين أغرموا أبو هريرة - وكان على البحرين - فأحصى ماله فبلغ أربعة وعشرون ألفا، فأغرمه اثني عشر ألفا.
علة العفو عن قنفذ من مصادرة أمواله
قال أبان: قال سليم: فلقيت عليا عليه السلام فسألته عما صنع عمر، فقال: هل تدري لم كف عن قنفذ ولم يغرمه شيئا؟ قلت: لا. قال: لأنه هو الذي ضرب فاطمة عليها السلام بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم، فماتت صلوات الله عليها وإن أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج.
____________
(1). ذكر البلاذري أسماء عدد من عمال عمر بن الخطاب، شاطرهم أموالهم حتى أخذ نعلا وترك نعلا وهم:
أبو بكرة نفيع بن الحرث بن كلدة الثقفي، نافع بن الحرث بن كلدة الثقفي، الحجاج بن عتيك الثقفي وكان على الفرات، جزء بن معاوية عم الأحنف كان على سرق، بشر بن المحتفز كان على جندي سابور، ابن غلاب خالد بن الحرث كان على بيت المال بإصبهان، عاصم بن قيس بن الصلت السلمي كان على مناذر، سمرة بن جندب كان على سوق الأهواز، النعمان بن عدي بن نضلة الكعبي كان على كور دجلة، مجاشع بن مسعود السلمي صهر بني غزوان كان على أرض البصرة وصدقاتها، شبل بن معبد البجلي ثم الأحمسي كان على قبض المغانم، أبو مريم بن محرش الحنفي كان على رامهرمز.
وهؤلاء ذكرهم أبو المختار في شعره الذي ورد في المتن مع اختلاف في ضبط بعض الأسماء. وكان أيضا من عماله الذين شاطرهم سعد بن أبي وقاص وكان على الكوفة، وأبو موسى الأشعري وكان على البصرة ، وعمرو بن العاص وكان على مصر، وعتبة بن أبي سفيان وكان على الطائف، وأبو هريرة وكان على البحرين، وخالد بن الوليد. راجع الغدير: ج 6 ص 277 - 271. إثبات الهداة: ج 2 ص 369 ح 218.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 224
--------------------------------------------------------------------------------
(14)
بدع واعتراضات أبي بكر وعمر في الدين
قال أبان عن سليم، قال: انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ليس فيها إلا هاشمي غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمد بن أبي بكر وعمر بن أبي سلمة وقيس بن سعد بن عبادة.
1
بدع أبي بكر وعمر
تغريم عمر لعماله
فقال العباس لعلي عليه السلام: ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذا كما أغرم جميع عماله؟
فنظر علي عليه السلام إلى من حوله ثم اغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال: شكر له ضربة ضربها فاطمة عليها السلام بالسوط، فماتت وفي عضدها أثره كأنه الدملج.
ثم قال عليه السلام: العجب مما أشربت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله، والتسليم له في كل شئ أحدثه لئن كان عماله خونة وكان هذا المال في أيديهم خيانة ما كان حل له تركه، وكان له أن يأخذه كله فإنه فيئ المسلمين، فما له يأخذ نصفه ويترك نصفه؟ ولئن كانوا غير خونة فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئا منهم قليلا
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 225
--------------------------------------------------------------------------------
ولا كثيرا، وإنما أخذ أنصافها. ولو كانت في أيديهم خيانة ثم لم يقروا بها ولم تقم عليهم البينة ما حل له أن يأخذ منهم قليلا ولا كثيرا وأعجب من ذلك إعادته إياهم إلى أعمالهم لئن كانوا خونة ما حل له أن يستعملهم، ولئن كانوا غير خونة ما حلت له أموالهم.
أمير المؤمنين عليه السلام يتعجب من ميل الناس إلى البدع
ثم أقبل علي عليه السلام على القوم فقال: العجب لقوم يرون سنة نبيهم تتبدل وتتغير شيئا شيئا وبابا بابا ثم يرضون ولا ينكرون، بل يغضبون له ويعتبون على من عاب عليه وأنكره ثم يجيئ قوم بعدنا، فيتبعون بدعته وجوره وأحداثه ويتخذون أحداثه سنة ودينا يتقربون بها إلى الله في مثل:
نقل مقام إبراهيم عليه السلام إلى موضعه في الجاهلية
تحويله مقام إبراهيم عليه السلام من الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الموضع الذي كان فيه في الجاهلية الذي حوله منه رسول الله صلى الله عليه وآله. (1)
تغيير صاع رسول الله صلى الله عليه وآله ومده
وفي تغييره صاع رسول الله صلى الله عليه وآله ومده، وفيهما فريضة وسنة. فما كان زيادته إلا سوء لأن المساكين - في كفارة اليمين والظهار - بهما يعطون ما يجب من الزرع. وقد قال
____________
(1). روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 287 عن أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنه قال: كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم. فلما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السلام. فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس: من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال رجل: أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي فقال: تأتيني به. فأتاه به، فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان!!
وذكر اليعقوبي في تاريخه: ج 2 ص 149 أن ذلك كان في سنة 17.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 226
--------------------------------------------------------------------------------
رسول الله صلى الله عليه وآله: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا). لا يحولون بينه وبين ذلك (1)، لكنهم رضوا وقبلوا ما صنع.
غصب فدك
وقبضه وصاحبه فدك وهي في يد فاطمة عليها السلام مقبوضة قد أكلت غلتها على عهد النبي صلى الله عليه وآله. فسألها البينة على ما في يدها ولم يصدقها ولا صدق أم أيمن. وهو يعلم يقينا - كما نعلم - أنها في يدها. ولم يكن يحل له أن يسألها البينة على ما في يدها ولا أن يتهمها. ثم استحسن الناس ذلك وحمدوه وقالوا: (إنما حمله على ذلك الورع والفضل)!!
ثم حسن قبح فعلهما أن عدلا عنها فقالا: (نظن إن فاطمة لن تقول إلا حقا وإن عليا لم يشهد إلا بحق، ولو كانت مع أم أيمن امرأة أخرى أمضيناها لها). فحظيا بذلك عند الجهال وما هما ومن أمر هما أن يكونا حاكمين فيعطيان أو يمنعان؟ ولكن الأمة ابتلوا بهما فأدخلا أنفسهما فيما لا حق لهما فيه ولا علم لهما به. وقد قالت فاطمة عليها السلام لهما - حين أراد انتزاعها وهي في يدها -: (أليست في يدي وفيها وكيلي وقد أكلت غلتها ورسول الله صلى الله عليه وآله حي)؟
قالا: بلى. قالت: (فلم تسألني البينة على ما في يدي)؟ قالا: لأنها فيئ المسلمين، فإن قامت بينة وإلا لم نمضها!
قالت لهما - والناس حولهما يسمعون -: (أفتريدان أن تردا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين؟ أيها الناس، اسمعوا ما ركباها.
أرأيتما إن ادعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم، أتسألونني البينة أم تسألونهم)؟
قالا: بل نسألك.
____________
(1). أي لا يحول الناس بين عمر وفعله ذلك، بل رضوا به وقبلوه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 227
--------------------------------------------------------------------------------
قالت: (فإن ادعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألونني)؟
فغضب عمر وقال: إن هذا فيئ للمسلمين وأرضهم، وهي في يدي فاطمة تأكل غلتها، فإن أقامت بينة على ما ادعت أن رسول الله وهبها لها من بين المسلمين - وهي فيئهم وحقهم - نظرنا في ذلك!
فقالت: حسبي أنشدكم بالله أيها الناس، أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إن ابنتي سيدة نساء أهل الجنة)؟ قالوا: اللهم نعم، قد سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله. قالت: أفسيدة نساء أهل الجنة تدعي الباطل وتأخذ ما ليس لها؟ أرأيتم لو أن أربعة شهدوا علي بفاحشة أو رجلان بسرقة أكنتم مصدقين علي؟ فأما أبو بكر فسكت، وأما عمر فقال: نعم، ونوقع عليك الحد!!
فقالت: كذبت ولؤمت، إلا أن تقر أنك لست على دين محمد صلى الله عليه وآله. إن الذي يجيز على سيدة نساء أهل الجنة شهادة أو يقيم عليها حدا لملعون كافر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله، لأن من (أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) لا تجوز عليهم شهادة لأنهم معصومون من كل سوء مطهرون من كل فاحشة. حدثني - يا عمر - من أهل هذه الآية، لو أن قوما شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبرؤون منهم ويحدونهم؟ قال: نعم، وما هم وسائر الناس في ذلك إلا سواء!!
قالت: كذبت وكفرت، ما هم وسائر الناس في ذلك سواء لأن الله عصمهم ونزل عصمتهم وتطهيرهم وأذهب عنهم الرجس. فمن صدق عليهم فإنما يكذب الله ورسوله. فقال أبو بكر: أقسمت عليك - يا عمر - لما سكت!!
مؤامرة قتل أمير المؤمنين عليه السلام
فلما أن كان الليل أرسلا إلى خالد بن الوليد فقالا: إنا نريد أن نسر إليك أمرا
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 228
--------------------------------------------------------------------------------
ونحملكه لثقتنا بك. فقال: احملاني على ما شئتما، فإني طوع أيديكما. فقالا له: (إنه لا ينفعنا ما نحن فيه من الملك والسلطان ما دام علي حيا أما سمعت ما قال لنا وما استقبلنا به؟ ونحن لا نأمنه أن يدعو في السر فيستجيب له قوم فيناهضنا فإنه أشجع العرب، وقد ارتكبنا منه ما رأيت وغلبناه على ملك ابن عمه ولا حق لنا فيه، وانتزعنا فدك من امرأته. فإذا صليت بالناس صلاة الغداة فقم إلى جنبه وليكن سيفك معك، فإذا صليت وسلمت فاضرب عنقه)!
قال علي عليه السلام: فصلى خالد بن الوليد بجنبي متقلدا السيف. فقام أبو بكر في الصلاة وجعل يؤامر نفسه وندم وأسقط في يده (1) حتى كادت الشمس أن تطلع ثم قال - قبل أن يسلم -: (لا تفعل ما أمرتك) ثم سلم فقلت لخالد: وما ذاك؟ قال: كان قد أمرني - إذا سلم - أن أضرب عنقك قلت: أو كنت فاعلا؟ قال: إي وربي إذا لفعلت!
حبس الخمس
قال سليم: ثم أقبل عليه السلام على العباس وعلى من حوله، ثم قال: ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا، فقال: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). (2)
____________
(1). أسقط في يده أي تحير.
(2). سورة الأنفال: الآية 41. والعبارة في إرشاد القلوب هكذا: وأقبل عليه السلام على من كان حوله فقال: أوليس قد ظهر لكم رأى وحملهم علينا أهل البيت من كل جانب ووجه لا يألون به إبعاد ا وتقاصيا وأخذ حقوقنا؟ أليس العجب بحبسه وصاحبه عنا...
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 229
--------------------------------------------------------------------------------
إلحاق بيت جعفر بالمسجد
والعجب لهدمه منزل أخي جعفر وإلحاقه في المسجد، ولم يعط بنيه من ثمنه قليلا ولا كثيرا. ثم لم يعب ذلك عليه الناس ولم يغيروه، فكأنما أخذ منزل رجل من الديلم. (1)
البدعة في غسل الجنابة
والعجب لجهله وجهل الأمة أنه كتب إلى جميع عماله: (أن الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصلي وليس له أن يتيمم بالصعيد حتى يجد الماء وإن لم يجده حتى يلقى الله) ثم قبل الناس ذلك ورضوا به، وقد علم وعلم الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أمر عمارا وأمر أبا ذر أن يتيمما من الجنابة ويصليا، وشهدا به عنده وغيرهما (2) فلم يقبل ذلك ولم يرفع به رأسا.
البدعة في إرث الجد
والعجب لما خلطا قضايا مختلفة في الجد بغير علم تعسفا وجهلا وادعائهما ما لم يعلما جرأة على الله وقلة ورع.
____________
(1). (ب) و (د): ولم يعيروه فكأنما أخذ دار رجل من ترك أو كابل. روي في الغدير: ج 6 ص 262 عن طبقات ابن سعد: أنه لما كثر المسلمون في عهد عمر ضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دور العباس بن عبد المطلب وحجرات أمهات المؤمنين.
(2). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 83 عن صحيح مسلم: أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال عمر: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت. فقال النبي صلى الله عليه وآله: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك؟ فقال عمر: إتق الله يا عمار قال: إن شئت لم أحدث به.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 230
--------------------------------------------------------------------------------
ادعيا أن رسول الله صلى الله عليه وآله مات ولم يقض في الجد شيئا منه (1) ولم يدع أحد يعلم (2) ما للجد من الميراث ثم تابعوهما على ذلك وصدقوهما.
عتق أمهات الأولاد
وعتقه أمهات الأولاد (3) فأخذ الناس بقوله وتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله.
القضاء الباطل في ثلاثة أشخاص
وما صنع بنصر بن الحجاج وبجعدة من سليم وبابن وبرة. (4)
____________
(1). أي من الميراث.
(2). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 117 عن سنن البيهقي عن عبيدة قال: حفظت عن عمر مائة قضية في الجد قال: وقال (عمر): إني قد قضيت في الجد قضايا مختلفة كلها آلو فيه عن الحق، ولئن عشت إن شاء الله إلى الصيف لأقضين فيها بقضية تقضي به المرأة وهي على ذيلها ثم إن أبا بكر أيضا حكم في الجد بقضايا مختلفة (راجع الغدير: ج 7 ص 120)، ولذلك جاء بضمير التثنية في هذا المورد.
(3). قوله " عثقه أمهات الأولاد " إشارة إلى بدعة عمر حيث حكم بأن كل أمة حبلى تعتق إذا وضعت حملها.
(4). إشارة إلى تغريب نصر بن الحجاج أبي ذويب من المدينة من غير ذنب. روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 286: بينا عمر يطوف في بعض سكك المدينة إذ سمع امرأة تهتف من خدرها:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى آخر الأبيات. فقال: لا أرى معي رجلا تهتف به العواتق في خدورهن. علي بنصر بن الحجاج. فأتي به وإذا هو أحسن الناس وجها وعينا وشعرا. فأمر بشعره فجز، فخرجت له وجنتان كأنهما قمر، فأمره أن يعتم، فاعتم ففتن النساء بعينيه فقال: عمر: لا والله، لا تساكنني بأرض أنا بها فقال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: هو ما أقول لك فسيره إلى البصرة. هذا وقد فعل مثل ذلك لك بابن عم لنصر بن الحجاج. راجع طبقات ابن سعد: ج 3 ص 385.
وقوله (بجعدة من سليم)، في النسخ (بجعدة بن سليم)، والصحيح ما أوردناه. روى ابن سعد في طبقاته: ج 3 ص 285: أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا - هداك الله - إنا شغلنا عنكم زمن الحصار
فما قلص وجدن معقلات قفا سلع بمختلف البحار
قلائص من بني سعد بن بكر وأسلم أو جهينة أو غفار
يعقلهن جعدة من سليم معيدا يبتغي سقط العذار
فقال (عمر): ادعوا لي جعدة من سليم. قال: فدعوا به، فجلد مائة معقولا، ونهاه أن يدخل على امرأة مغيبة. وأما قوله (بابن وبرة)، فلم أظفر على مصدر يذكر قصته.
ثم إن الأشكال في فعل عمر في الموردين من جهة أنه حكم بما لم يثبت مقتضيه، فمجرد حسن الوجه في نصر بن الحجاج لا يقتضي نفيه عن البلد ومجرد تلك الأبيات الدالة على أن الرجل كانت تفتن النساء إليه بفعاله مع عدم ثبوته بالبينة لا يوجب حد الرجل ولا تعزيره.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 231
--------------------------------------------------------------------------------
البدعة في الطلاق
وأعجب من ذلك أن أبا كنف العبدي أتاه فقال: (إني طلقت امرأتي وأنا غائب فوصل إليها الطلاق. ثم راجعتها وهي في عدتها وكتبت إليها فلم يصل الكتاب إليها حتى تزوجت). فكتب له: (إن كان هذا الذي تزوجها قد دخل بها فهي امرأته، وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك)!!
وكتب له ذلك وأنا شاهد، فلم يشاورني ولم يسألني، يرى استغناءه بعلمه عني، فأردت أن أنهاه، ثم قلت: (ما أبالي أن يفضحه الله). ثم لم يعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبلوه منه ورأوه صوابا وذلك قضاء لو قضى به مجنون نحيف سخيف لما زاد.
إسقاط أجزاء الأذان
ثم تركه من الأذان (حي على خير العمل)، فاتخذوه سنة وتابعوه على ذلك. (1)
____________
(1). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 213 عن الطبري عن عمر أنه قال: ثلاث كن على عهد رسول الله أنا محرمهن ومعاقب عليهن: متعة الحج ومتعة النساء وحي على خير العمل في الأذان.
وروي في إثبات الهداة: ج 2 ص 371 ح 232: أن عمر ترك " حي على خير العمل " وقال: خففت أن يتكل الناس عليها ويدع غيرها. وقد روت العامة أن النبي صلى الله عليه وآله قد أمر بها.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 232
--------------------------------------------------------------------------------
البدعة في حكم المفقود زوجها
وقضيته في المفقود وأن (أجل امرأته أربع سنين، ثم تتزوج، فإن جاء زوجها خير بين امرأته وبين الصداق). (1) فاستحسنه الناس واتخذوه سنة وقبلوه منه جهلا وقلة علم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه.
بدعه في الأعاجم
وإخراجه من المدينة كل أعجمي. (2)
وإرساله إلى عماله بالبصرة بحبل طوله خمسة أشبار وقوله: (من أخذتموه من الأعاجم فبلغ طول هذا الحبل فاضربوا عنقه)!
ورده سبايا تستر وهن حبالى!!
وإرساله بحبل في صبيان سرقوا بالبصرة وقوله: (من بلغ طول هذا الحبل فاقطعوه)!(3)
وأعجب من ذلك أن كذابا رجم بكذابة فقبلها وقبلها الجهال فزعموا أن الملك ينطق على لسانه ويلقنه!(4)
وإعتاقه سبايا أهل اليمن. (5)
____________
(1). أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 8 ص 200 ما رواه مالك أن عمر قال: (أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين. ثم تنتظر أربعة أشهر وعشرا ثم تحل). وأنه إن جاء زوجها وقد تزوجت خير بين امرأته وبين صداقها، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر، وإن اختار امرأته اعتدت حتى تحل، ثم ترجع إلى زوجها الأول وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحل من فرجها!
(2). ذكر المسعودي في مروج الذهب: ج 2 ص 320: أن عمر كان لا يترك أحدا من العجم يدخل المدينة.
(3). أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 171 عن ابن أبي مليكة: أن عمر كتب في غلام من أهل العراق سرق، فكتب: أن اشبروه، فإن وجدتموه ستة أشبار فاقطعوه. فشبر فوجد ستة أشبار تنقص أنملة فترك!
(4). قوله (رجم بكذابة) أي ألقى كلاما كاذبا رجما بالغيب وهو ادعائه (أن الملك ينطق على لسان عمر).
راجع عن هذه المنقبة المختلقة لعمر: الغدير: ج 6 ص 331، وراجع الحديث 10 من هذا الكتاب.
(5). روى الفضل بن شاذان في (الإيضاح) ص 463: أن عمر أعتق سبايا اليمن وهن حبالى من المسلمين وفرق بينهن وبين من اشتراهن.
وروى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 108: أن أبا بكر أرق سبي اليمن وبيعوا، فوطئت الفروج. فلما استخلف الثاني أعتق ذلك السبي وقال: لا أملك على عربي فأعتقهن وهن حبالى، وفرق بينهن وبين من اشتراهن. فمضين إلى بلادهن ومعهن أولاد أيضا منهن وذلك أن أبا موسى ادعى أنه أعطاهن عهدا وحلف على ذلك فردهم عمر إلى أرضهم حبالى!!
وروي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 196 عن تقريب المعارف والخصال: أن عمر قال عند موته: أتوب إلى الله من ثلاث: من ردي (عتقي) سبايا اليمن و....
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 233
--------------------------------------------------------------------------------
2
معصية أبي بكر وعمر للرسول صلى الله عليه وآله واعتراضاتهما عليه!!(1)
وتخلفه وصاحبه عن جيش أسامة بن زيد مع تسليمهما عليه بالأمرة. (2)
ثم أعجب من ذلك أنه قد علم الله وعلمه الناس أنه الذي صد رسول الله صلى الله عليه وآله عن الكتف الذي دعاه به. ثم لم يضره ذلك عندهم ولم ينقصه. (3)
وإنه صاحب صفية حين قال لها ما قال. فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قال ما قال. (4)
____________
(1). قد أورد في إثبات الهداة: ج 2 ص 325 موارد كثيرة من اعتراضات عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله.
(2). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 245 بطرق كثيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة. فدعا أسامة بن زيد وولاه الجيش وأعطاه الراية ولعن المتخلف عن جيش أسامة وكان ممن نص على أسمائهم أبو بكر وعمر. فرجعا ودخلا المدينة ليلة وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله. وتهيئوا لغصب الخلافة وما في سقيفة بني ساعدة. وقال صلى الله عليه وآله في تلك الليلة: (دخل المدينة الليلة شر عظيم).
(3). راجع عن قصة الكتف: الحديث 11 و 49.
(4). روى العلامة المجلسي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 200 ب 19 ح 3 عن أبي جعفر عليه السلام: إن صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقبلت فقال لها عمر: غطي قرطك فإن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله لا تنفعك شيئا فقالت له: هل رأيت لي قرطا يا بن اللخناء؟ ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته بذلك فبكت.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فنادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فقال: ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع... وجاء مثله في مجمع الزوائد: ج 8 ص 216.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 234
--------------------------------------------------------------------------------
وإنه وصاحبه اللذان كفا عن قتل الرجل الذي أمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله بقتله، ثم أمرني بعدهما وقال النبي صلى الله عليه وآله في ذلك ما قال. (1)
وأمر النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر ينادي في الناس: (إنه من لقي الله موحدا لا يشرك به شيئا دخل الجنة)، فرده عمر وأطاعه أبو بكر (2) وعصى رسول الله صلى الله عليه وآله فلم تنفذ أمره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك ما قال.
فمساويه ومساوي صاحبه أكثر من أن تحصى أو تعد، ثم لم ينقصهم ذلك عند الجهال والعامة، وهما أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأنفسهم، ويبغضون لهما ما لا يبغضون لرسول الله صلى الله عليه وآله. (3)
____________
(1). أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 7 ص 216 عن أبي سعيد الخدري: أن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب إليه أبو بكر، فلما رآه على تلك الحالة كره أن يقتله، فجاء إلى رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله لعمر: إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب عمر فرآه على تلك الحالة التي رآه أبو بكر، فكره أن يقتله. فرجع فقال: يا رسول الله، إني رأيته متخشعا فكرهت أن أقتله. فقال: يا علي، إذهب فاقتله. فذهب علي عليه السلام فلم يره. فرجع فقال: يا رسول الله، إني لم أره. فقال النبي صلى الله عليه وآله: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه، فاقتلوهم، هم شر البرية). وروي مثله في البحار: ج 8 طبع قديم ص 229 و 270.
(2). أي رد عمر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وأطاع أبو بكر قول عمر. روى ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 3 ص 108 أن أبا هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: إذهب فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة. فخرجت فكان أول من لقيت عمر، فقال: ما هذا؟... فضرب عمر في صدري فخررت لأستي وقال: إرجع إلى رسول الله فأجهشت بالبكاء راجعا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما بالك؟ فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا عمر، فقال: ما حملك يا عمر على فعلت؟
(3). زاد في إرشاد القلوب: ويتورعون ذكرهما بسوء ما لا يتورعون عن ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال علي عليه السلام: ثم مررت بالصهاكي (1) يوما فقال لي: (ما مثل محمد إلا كمثل نخلة نبتت في كناسة) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله فذكرت له ذلك. فغضب النبي صلى الله عليه وآله وخرج مغضبا فأتى المنبر، وفزعت الأنصار فجاءت شاكة في السلاح لما رأت من غضب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ما بال أقوام يعيرونني بقرابتي؟ وقد سمعوا مني ما قلت في فضلهم وتفضيل الله إياهم وما اختصهم الله به من إذهاب الرجس عنهم وتطهير الله إياهم، وقد سمعتم ما قلت في أفضل أهل بيتي وخيرهم مما خصه الله به وأكرمه وفضله من سبقه في الإسلام وبلاؤه فيه وقرابته مني وأنه بمنزلة هارون من موسى، ثم تزعمون أن مثلي في أهل بيتي كمثل نخلة نبتت في كناسة؟
ألا إن الله خلق خلقه ففرقهم فرقتين، فجعلني في خير الفريقين. ثم فرق الفرقة ثلاث فرق، شعوبا وقبائل وبيوتا وجعلني في خيرها شعبا وخيرها قبيلة. ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2)، فحصلت (3) في أهل بيتي وعترتي وأنا وأخي علي بن أبي طالب.
ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة فاختارني منهم، ثم نظر نظرة فاختار أخي عليا ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي. فبعثني رسولا ونبيا ودليلا، فأوحى إلي أن أتخذ عليا أخا ووليا ووصيا وخليفة في أمتي بعدي.
ألا وإنه ولي كل مؤمن بعدي، من والاه والاه الله ومن عاداه عاداه الله ومن أحبه أحبه الله ومن أبغضه أبغضه الله. لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر. رب الأرض
____________
(1). المراد بالصهاكي عمر بن الخطاب باعتبار أمه الصهاك الحبشية. راجع الحديث 4 من هذا الكتاب.
(2). سورة الأحزاب: الآية 33.
(3). أي فحصلت هذه الآية في هذه الأشخاص.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 236
--------------------------------------------------------------------------------
بعدي وسكنها وهو كلمة الله التقوى وعروة الله الوثقى.
أتريدون أن تطفؤوا نور الله بأفواهكم؟ والله متم نوره ولو كره المشركون. ويريد أعداء الله أن يطفؤوا نور أخي، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
يا أيها الناس، ليبلغ مقالتي شاهدكم غائبكم. اللهم اشهد عليهم.
يا أيها الناس، إن الله نظر نظرة ثالثة فاختار منهم بعدي اثني عشر وصيا من أهل بيتي وهم خيار أمتي منهم أحد عشر إماما بعد أخي واحدا بعد واحد كلما هلك واحد قام واحد منهم. مثلهم كمثل النجوم في السماء كلما غاب نجم طلع نجم لأنهم أئمة هداة مهتدون، لا يضرهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم بل يضر الله بذلك من كادهم وخذلهم.
فهم حجة الله في أرضه وشهداءه على خلقه. من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله. هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على حوضي.
أول الأئمة أخي علي خيرهم، ثم ابني الحسن ثم ابني الحسين ثم تسعة من ولد الحسين، وأمهم ابنتي فاطمة، صلوات الله عليهم. ثم من بعدهم (1) جعفر بن أبي طالب ابن عمي وأخو أخي، وعمي حمزة بن عبد المطلب.
ألا إني محمد بن عبد الله. أنا خير المرسلين والنبيين، وفاطمة ابنتي سيدة نساء أهل الجنة، وعلي وبنوه الأوصياء خير الوصيين، وأهل بيتي خير أهل بيوتات النبيين وابناي سيدا شباب أهل الجنة.
____________
(1). أي ثم من بعدهم في الفضل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 237
--------------------------------------------------------------------------------
أيها الناس، إن شفاعتي ليرجوها رجاءكم، أفيعجز عنها أهل بيتي؟ ما من أحد ولده جدي عبد المطلب يلقى الله موحدا لا يشرك به شيئا إلا أدخله الجنة ولو كان فيه من الذنوب عدد الحصى وزبد البحر.
أيها الناس، عظموا أهل بيتي في حياتي ومن بعدي وأكرموهم وفضلوهم، فإنه لا يحل لأحد أن يقوم من مجلسه لأحد إلا لأهل بيتي. إني لو أخذت بحلقة باب الجنة ثم تجلى لي ربي تبارك وتعالى فسجدت وأذن لي بالشفاعة، لم أوثر على أهل بيتي أحدا.
أيها الناس، انسبوني من أنا؟ فقام إليه رجل من الأنصار فقال: نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، أخبرنا - يا رسول الله - من الذي آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه وليبر عترته. فقال: انسبوني، أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم حتى انتسب إلى نزار، ثم مضى في نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله (1)، ثم قال: إني وأهل بيتي بطينة طيبة من تحت العرش إلى آدم نكاح غير سفاح لم يخالطنا نكاح الجاهلية.
تحدي الرسول صلى الله عليه وآله لهم في أنسابهم وآخرتهم
فسلوني، فوالله لا يسألني رجل عن أبيه وعن أمه وعن نسبه إلا أخبرته به.
فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ فقال صلى الله عليه وآله: أبوك فلان الذي تدعى إليه. فحمد الله
____________
(1). روي في البحار: ج 15 ص 107 نسب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى آدم عليه السلام هكذا: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن خزيمة بن مدركة بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت حمل بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروغ بن هود بن أرفخشذ بن متوشلخ بن سام بن نوح بن لمك بن إدريس بن مهلائيل بن زبارز بن قينان بن أنوش بن شيث وهو هبة الله بن آدم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 238
--------------------------------------------------------------------------------
وأثنى عليه وقال: لو نسبتني إلى غيره لرضيت وسلمت. ثم قام إليه رجل آخر فقال له:
من أبي؟ فقال: أبوك فلان - لغير أبيه الذي يدعى إليه - فارتد عن الإسلام. ثم قام إليه رجل آخر فقال: أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟ فقال: من أهل الجنة. ثم قام رجل آخر فقال: أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟ فقال: من أهل النار.
اعتراض عمر بإهانته لساحة رسول الله صلى الله عليه وآله القدسية
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله - وهو مغضب -: ما يمنع الذي عير أفضل أهل بيتي وأخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي أن يقوم فيسألني من أبوه وأين هو، أفي الجنة أم في النار؟
فقام إليه عمر بن الخطاب فقال (1): أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، أعف عنا يا رسول الله عفا الله عنك، أقلنا أقالك الله، استرنا سترك الله، اصفح عنا صلى الله عليك.
فاستحى رسول الله صلى الله عليه وآله فكف.
اعتراض عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في زكاة أموال العباس
قال علي عليه السلام: وهو صاحب العباس الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله ساعيا فرجع وقال: إن العباس قد منع صدقة ماله. فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: (الحمد لله الذي عافانا أهل البيت من شر ما يلطخونا به. إن العباس لم يمنع صدقة ماله ولكنك عجلت عليه وقد عجل زكاة سنين. ثم أتاني بعد ذلك يطلب أن أمشي معه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله شافعا ليرضى عنه، ففعلت.
اعتراض عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في الصلاة على جنازة المنافق
وهو صاحب عبد الله بن أبي سلول حين تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله ليصلي عليه فأخذ
____________
(1). في الفضائل: فعند ذلك خشي الثاني على نفسه أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وآله ويفضحه بين الناس، فقام وقال:
بثوبه من ورائه فمده إليه من خلفه وقال: (قد نهاك الله أن تصلي عليه ولا يحل لك أن تصلي عليه) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك، قد آذيتني إنما صليت عليه كرامة لابنه، وإني لأرجو أن يسلم به سبعون رجلا من بني أبيه وأهل بيته. وما يدريك ما قلت، إنما دعوت الله عليه. (1)
اعتراض عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية
وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية (2) - حين كتب القضية - إذ قال له: أنعطي
____________
(1). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 200 أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع إلى المدينة مرض عبد الله بن أبي (وكان من المنافقين) وكان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمنا. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وأبوه يجود بنفسه فقال:
يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إنك لم تأت أبي عائدا كان ذلك عارا علينا. فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله والمنافقون عنده، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله، استغفر الله له. فاستغفر له. فقال عمر:
ألم ينهك الله - يا رسول الله - أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعاد عليه، فقال له: ويلك، إني خيرت فاخترت. إن الله يقول: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ".
فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن رأيت أن تحضر جنازته؟ فحضره رسول الله صلى الله عليه وآله وقام على قبره؟ فقال له عمر: يا رسول الله، ألم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبدا وأن تقوم على قبره؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك وهل تدري ما قلت؟ إنما قلت:
" اللهم احش قبره نارا وجوفه نارا وأصله النار ". فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن يحب.
(2). روي في البحار: ج 2 ص 334 عند ذكر كتاب الصلح الذي تصالح عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسهيل بن عمرو من جملة ما كتبوه أن سهيلا قال: (على أن لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، ومن جاءنا ممن معك لم نرده عليك). فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من جاءهم منا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا)...
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: يا محمد، هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده... قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت. وكان قد عذب عذابا شديدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 240
--------------------------------------------------------------------------------
الدنية في ديننا؟ ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله يشككهم ويحضضهم ويقول: (أنعطي الدنية في ديننا)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أفرجوا عني، أتريدون أن أغدر بذمتي؟ ولأفي لهم بما كتبت لهم، خذ يا سهيل بيد أبي جندل). فأخذه فشده وثاقا في الحديد. ثم جعل الله عاقبة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الخير والرشد والهدى والعزة والفضل.
اعتراض عمر يوم غدير خم
وهو صاحب يوم غدير خم إذ قال هو وصاحبه - حين نصبني رسول الله صلى الله عليه وآله لولايتي - فقال: (ما يألو أن يرفع خسيسته) وقال الآخر: (ما يألو رفعا بضبع ابن عمه) وقال لصاحبه - وأنا منصوب -: (إن هذه لهي الكرامة). فقطب صاحبه في وجهه وقال: لا والله لا أسمع له ولا أطيع أبدا ثم اتكأ عليه ثم تمطى وانصرفا، فأنزل الله فيه: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى) (1)، وعيدا من الله له وانتهارا.
اعتراض عمر في مرض علي عليه السلام واستهزاءه
وهو الذي دخل علي مع رسول الله صلى الله عليه وآله يعودني في رهط من أصحابه، حين غمزه صاحبه فقام وقال: يا رسول الله، إنك قد كنت عهدت إلينا في علي عهدا وإني لأراه لما به فإن هلك فإلى من؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إجلس، فأعادها ثلاث مرات، فأقبل عليهما رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إيه، والله إنه لا يموت في مرضه هذا. والله لا يموت حتى تملياه غيظا وتوسعاه غدرا وظلما، ثم تجداه صابرا قواما. ولا يموت حتى يلقى منكما هنات وهنات، ولا يموت إلا شهيدا مقتولا.
3
إتمام الحجة على أبي بكر وعمر وعثمان في خلافة علي عليه السلام
وأعظم من ذلك كله أن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع ثمانين رجلا، أربعين من العرب وأربعين من العجم - وهما فيهم - فسلموا علي بإمرة المؤمنين. ثم قال: (إني أشهدكم أن عليا أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي ووصيي في أهلي وولي كل مؤمن بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا)، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسالم ومعاذ بن جبل ورهط من الأنصار. ثم قال:
(إني أشهد الله عليكم).
الانتخاب أو الانتصاب أو الشورى
ثم أقبل علي عليه السلام على القوم فقال: سبحان الله، مما أشربت قلوب هذه الأمة من بليتهما وفتنتهما، من عجلها وسامريها. إنهم أقروا وادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا وأنه أمر بالشورى وقال من قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا وإن نبي الله قال: (إن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت بين النبوة والخلافة)، وقد قال لأولئك الثمانين رجلا: (سلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين) وأشهدهم على ما أشهدهم عليه.
والعجب أنهم أقروا ثم ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا وأنهم أمروا بالشورى، ثم أقروا أنهم لم يشاوروا في أبي بكر وأن بيعته كانت فلتة. وأي ذنب أعظم من الفلتة.
ثم استخلف أبو بكر عمر ولم يقتد برسول الله صلى الله عليه وآله فيدعهم بغير استخلاف فقيل له في ذلك، فقال: (أدع أمة محمد كالنعل الخلق، أدعهم بغير أحد أستخلف عليهم)؟
طعنا منه على رسول الله صلى الله عليه وآله ورغبة عن رأيه!!
ثم صنع عمر شيئا ثالثا. لم يدعهم على ما ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف ولا استخلف كما استخلف أبو بكر، وجاء بشئ ثالث وجعلها شورى بين ستة نفر وأخرج منها جميع العرب. ثم حظى بذلك عند العامة، فجعلهم مع ما أشربت قلوبهم من الفتنة والضلالة أقراني!
ثم بايع ابن عوف عثمان فبايعوه، وقد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله في عثمان ما قد سمعوا من لعنه إياه في غير موطن. (1)
أبو بكر وعمر أسوء حالا من عثمان
فعثمان على ما كان عليه خير منهما.
ولقد قال منذ أيام قولا رققت له وأعجبتني مقالته. بينما أنا قاعد عنده في بيته إذ أتته عائشة وحفصة تطلبان ميراثهما من ضياع رسول الله صلى الله عليه وآله وأمواله التي بيده، فقال: (لا والله ولا كرامة لكما ولا نعمت عنه ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما. فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (النبي لا يورث، ما ترك فهو صدقة). ثم لقنتما أعرابيا جلفا يبول على عقبيه ويتطهر ببوله (مالك بن أوس بن الحدثان) فشهد معكما، ولم يكن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي. أما والله، ما أشك أنه قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وكذبتما عليه معه. ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما.
فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه.
فقال: ارجعا، أليس قد شهدتما بذلك عند أبي بكر؟ قالتا: نعم. قال: فإن شهدتما بحق فلا حق لكما، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلى من أجاز شهادتكما على أهل هذا البيت لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال عليه السلام: ثم نظر إلي فتبسم ثم قال: يا أبا الحسن، أشفيتك منهما؟ قلت: نعم، والله
____________
(1). راجع عن لعن عثمان: الحديث 4 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 243
--------------------------------------------------------------------------------
وأبلغت وقلت حقا، فلا يرغم الله إلا آنافهما.
فرققت لعثمان وعلمت أنه إنما أراد بذلك رضاي وأنه أقرب منهما رحما وأكف عنا منهما، ح وإن كان لا عذر له ولا حجة بتأميره علينا وادعائه حقنا.
من احتجاجات أمير المؤمنين عليه السلام حول أبي بكر وعمر وعثمان
وصف رجال الحرب
أبان عن سليم، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول قبل وقعة صفين:
إن هؤلاء القوم لن ينيبوا إلى الحق ولا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم حتى يرموا بالعساكر تتبعها العساكر، وحتى يردفوا بالكتائب تتبعها الكتائب، وحتى يجر ببلادهم الخميس تتبعها الخميس، وحتى تشن الغارات عليهم من كل فج عميق، وحتى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله.
الصحبة الصادقون مع رسول الله صلى الله عليه وآله
والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آبائنا وأبنائنا وأخوالنا وأعمامنا وأهل بيوتاتنا، ثم لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما وجدا في طاعة الله واستقلالا بمبارزة الأقران. وإن كان الرجل منا والرجل من عدونا ليتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس الموت. فمرة لنا من عدونا ومره لعدونا منا. فلما رآنا الله صدقا وصبرا أنزل الكتاب بحسن الثناء علينا والرضا عنا وأنزل علينا النصر.
فرار أبي بكر وعمر في الحروب وسوء أدبهما عند الصلح
ولست أقول: إن كل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك، ولكن أعظمهم وجلهم وعامتهم كانوا كذلك. ولقد كانت معنا بطانة لا تألونا خبالا. قال الله عز وجل: (قد بدت
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 245
--------------------------------------------------------------------------------
البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " (1).
ولقد كان منهم بعض من تفضله أنت وأصحابك - يا ابن قيس - فارين، فلا رمى بسهم ولا ضرب بسيف ولا طعن برمح (2). إذا كان الموت والنزال لاذ وتوارى واعتل، ولاذ كما تلوذ النعجة العوراء لا تدفع يد لامس، وإذا لقي العدو فر ومنح العدو دبره جبنا ولؤما (3)، وإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم، كما قال الله: " سلقوكم بألسنة حداد
____________
(1) سورة آل عمران: الآية 118. وقوله " لا تألونا خبالا " أي لا تقصرون في فساد الأمور.
(2) روي في البحار: ج 29 ص 564 خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال فيه:
يا معشر المجاهدين المهاجرين والأنصار أين كانت سبقة تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة؟ إلا كانت يوم الأبواء إذ تكاثفت الصفوف، وتكاثرت الحتوف، وتقارعت السيوف؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ود وقد نفح بسيفه، وشمخ بأنفه، وطمح بطرفه؟ ولم لم يشفقا على الدين وأهله يوم بواط إذ اسود لون الأفق، وأعوج عظم العنق، وانحل سيل الغرق؟ ولم لم يشفقا يوم رضوى إذ السهام تطير، والمنايا تسير، والأسد تزأر؟ وهلا بادرا يوم العشيرة إذ الأسنان تصطك، والأذان تستك، والدروع تهتك؟ وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي، والجياد بالصناديد ترتدي، والأرض من دماء الأبطال ترتوي؟ ولم لم يشفقا على الدين يوم بدر الثانية، والرعابيب ترعب، والأوداج تشخب، والصدور تخضب؟ أم هلا بادرا يوم ذات الليوث، وقد أبيح المتولب، واصطلم الشقب، وادلهم الكوكب؟ ولم لا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الكدر، والعيون تدمع، والمنية تلمع، والصفائح تنزع.
ثم عدد وقائع النبي صلى الله عليه وآله كلها على هذا النسق، وقرعهما بأنهما في هذه المواقف كلها كانا من النظارة والخوالف والقاعدين، فكيف بادرا الفتنة بزعمهما يوم السقيفة وقد توطأ الإسلام بسيفه، واستقر قراره، وزال حذاره.
(3) روي في البحار: ج 20 ص 228: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر عمر بن الخطاب في يوم الخندق أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما. فقال ضرار: ويلك يا بن صهاك، أرمي في مبارزة؟
والله لئن رميتني لا تركت عدويا بمكة إلا قتلته. فانهزم عنه عمر ومر نحوه ضرار وضرب بالقناة على رأسه، ثم قال: احفظها يا عمر، فإني آليت أن لا أقتل قرشيا ما قدرت عليه. فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولي، وولاه!!
وروي في البحار: ج 21 ص 11 ح 7 عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث سعد بن معاذ براية الأنصار إلى خيبر فرجع منهزما. ثم بعث عمر بن الخطاب براية المهاجرين فأتي بسعد جريحا، وجاء عمر يجبن أصحابه ويجبنونه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 246
--------------------------------------------------------------------------------
أشحة على الخير). (1)
فلا يزال قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في ضرب عنق الرجل الذي ليس يريد رسول الله صلى الله عليه وآله قتله، فأبى عليه. (2) ولقد نظر رسول الله صلى الله عليه وآله يوما وعليه السلاح تام،
____________
(1). سورة الأحزاب: الآية 19.
(2). روي في البحار: ج 19 ص 271 عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لما كان يوم بدر وأسرت الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ترون في هؤلاء القوم؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، هم الذين كذبوك وأخرجوك فاقتلهم!!
وروي في البحار: ج 21 ص 94 و 121، وصحيح البخاري: ج 5 ص 9، و ج 8 ص 54، والكشاف للزمخشري: ج 4 ص 511، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 58:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتجهز لفتح مكة، فأتى حاطب بن أبي بلتعة إلى سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام وهي تريد مكة، فكتب معها كتابا إلى أهل مكة... وكتب في الكتاب: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: إن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم). فخرجت سارة.
ونزل جبرئيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله بما فعل. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام... فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأرسل إلى حاطب فأتاه فقال له: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ صحبتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عزيزا فيهم - أي غريبا - وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي فأردت أ ن أتخذ عندهم يدا. وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وآله وعذره.
فقام عمر بن الخطاب وقال: دعني - يا رسول الله - أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وروي في البحار: ج 21 ص 103 عند ذكر فتح مكة أنه لما أجار العباس أبا سفيان وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله دخل عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه!
وروي في البحار: ج 19 ص 241 و 271 و 277 و 281، ج 21 ص 158 و 173، ودلائل النبوة للبيهقي: ج 3 ص 140: أن ابن الأكوع كان عينا على النبي صلى الله عليه وآله أيام الفتح وأسر يوم حنين. فمر به عمر بن الخطاب، فلما رآه أقبل على رجل من الأنصار وقال: هذا عدو الله الذي كان علينا عينا، ها هو أسير فاقتله. فضرب الأنصاري عنقه، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فكره ذلك وقال: ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا؟ وقتل بعده جميل بن معمر بن زهير وهو أسير، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الأنصار وهو مغضب فقال: ما حملكم على قتله وقد جاءكم الرسول أن لا تقتلوا أسيرا؟ فقالوا: إنما قتلناه بقول عمر. فأعرض رسول الله صلى الله عليه وآله حتى كلمه عمير بن وهب في الصفح عن ذلك.
وروي في صحيح البخاري: ج 8 ص 52: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم جاء عبد الله التميمي من ذي الخويصرة فقال: اعدل يا رسول الله فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قال عمر بن الخطاب:
دعني أضرب عنقه فقال صلى الله عليه وآله: دعه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 247
--------------------------------------------------------------------------------
فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال - يكنيه -: (أبا فلان، اليوم يومك)!!
فقال الأشعث: ما أعلمني بمن تعني إن ذلك يفر منه الشيطان (1) قال عليه السلام: يا بن قيس، لا آمن الله روعة الشيطان إذ قال!
إخبار أمير المؤمنين عليه السلام عن عاقبة أمر أصحابه
ثم قال: ولو كنا - حين كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وتصيبنا الشدائد والأذى والبأس - فعلنا كما تفعلون اليوم لما قام لله دين ولا أعز الله الإسلام. وأيم الله لتحتلبنها دما وندما وحسرة، فاحفظوا ما أقول لكم واذكروه. فليسلطن عليكم شراركم والأدعياء منكم والطلقاء والطرداء والمنافقون، فليقتلنكم ثم لتدعن الله فلا يستجيب لكم ولا يرفع البلاء عنكم حتى تتوبوا وترجعوا فإن تتوبوا وترجعوا يستنقذكم الله من فتنتهم وضلالتهم كما استنقذكم من شركم وجهالتكم.
التعجب من استخلاف أبي بكر وعمر وعثمان على الأمة!!
ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضلالها وقادتها وساقتها إلى النار لأنهم قد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول عودا وبدءا: (ما ولت أمة رجلا قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا)، فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن ولا يدعي أن له علما بكتاب الله ولا سنة نبيه.
وقد علموا يقينا أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله،
____________
(1). يريد بذلك عمر، وقد اختلقوا له حديثا: (إن الشيطان يفر منه). راجع الغدير: ج 5 ص 311 و ج 8 ص 64 و 94. وراجع الحديث 10 من هذا الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 248
--------------------------------------------------------------------------------
وأقضاهم بحكم الله.
وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولا عناء معه في جميع مشاهده، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف جبنا ولؤما ورغبة في البقاء.
وقد علموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف وقتل مسجع بن عوف. (1) وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك. (2)
وقد علموا يقينا أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي، ولا يبارز الأبطال ولا يفتح الحصون غيري، ولا نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله شديدة قط ولا كربة أمر ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال: (أين أخي علي، أين سيفي، أين رمحي، أين المفرج غمي عن وجهي)، فيقدمني، فأتقدم فأفديه بنفسي ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه. ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول حيث خصني بذلك ووفقني له.
لم يكن لأبي بكر وعمر أي سابقة في الدين
وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ولا فتح ولا نصر غير مرة واحدة، ثم فر ومنح عدوه دبره ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه وقد فر مرارا!(3)
____________
(1). روي في البحار: ج 18 ص 68 و 69 و 74 و 95: أن أبي بن خلف قال للنبي صلى الله عليه وآله بمكة: إني أعلف العوراء - يعني فرسا له - أقتلك عليه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لكن أنا إن شاء الله. فلقي يوم أحد، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وآله الحربة من الحارث بن الصمة، فمشى إليه فطعن وانصرف. فرجع إلى قريش وهو يقول:
قتلني محمد. قالوا: ما بك بأس قال: إنه قال لي بمكة: (إني أقتلك) ولو بصق علي لقتلني. فمات بشرف. وقصة مسجع لم أعثر عليه.
(2). في البحار: ج 16 ص 117: ومن أسمائه صلى الله عليه وآله (القتال)، (سيفه على عاتقه)، سمي بذلك لحرصه على الجهاد ومسارعته إلى القراع ودؤوبه في ذات الله وعدم إحجامه. ولذلك قال علي عليه السلام: (كنا إذا احمر البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن أحد أقرب إلى العدو منه). وذلك مشهور من فعله يوم أحد إذ ذهب القوم في سمع الأرض وبصرها، ويوم حنين إذ ولوا مدبرين.
(3). روي في البحار: ج 20 ص 107 ح 24: أنه لما انهزم الناس يوم أحد عن النبي صلى الله عليه وآله انصرف إليهم بوجهه وهو يقول: (أنا محمد...). فالتفت إليه أبو بكر وعمر فقالا: الآن يسخر بنا أيضا وقد هزمنا وأورد في البحار: ج 21 ص 70 انهزامهما في غزوة ذات السلاسل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 249
--------------------------------------------------------------------------------
فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير وأمر ونهى.
ولقد نادى ابن عبد ود - يوم الخندق - باسمه، فحاد عنه ولاذ بأصحابه (1) حتى تبسم رسول الله صلى الله عليه وآله مما رآى به من الرعب وقال صلى الله عليه وآله: (أين حبيبي علي؟ تقدم يا حبيبي يا علي).
عبادتهما الأصنام بعد الإسلام!!
وهو القائل يوم الخندق لأصحابه الأربعة - أصحاب الكتاب والرأي -: (والله إن ندفع محمدا إليهم برمته نسلم من ذلك، حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا) كما قال الله تعالى: (وزلزلوا زلزالا شديدا)، (وظنوا بالله الظنونا)، (وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا). (2) فقال له صاحبه: (لا، ولكن نتخذ صنما عظيما نعبده لأنا لا نأمن أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ولكن يكون هذا الصنم لنا ذخرا فإن ظفرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم (3) وأعلمناهم أنا لن نفارق ديننا، وإن رجعت دولة ابن أبي كبشة كنا مقيمين على عباد ة هذا الصنم سرا).
فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وآله بذلك، ثم خبر به رسول الله صلى الله عليه وآله بعد قتلي ابن عبد ود. فدعاهما فقال: (كم صنم عبدتما في الجاهلية)؟ فقالا: يا محمد، لا تعيرنا بما مضى في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وآله لهما: (فكم صنم تعبدان يومكما هذا)؟ فقالا: والذي بعثك بالحق نبيا ما نعبد إلا الله منذ أظهرنا من دينك ما أظهرنا.
____________
(1). روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 336: إن عمرو بن عبد ود رآى بيد عمر بن الخطاب (يوم الخندق) قوسا فقال: يا بن صهاك، واللات لئن نقل عن يدك سهم لأقطعنها فتناثر النبل من يده ورجع القهقرى.
(2). سورة الأحزاب: الآيات 10 و 11 و 12، وفي المصحف هكذا: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).
(3). قد أورد قصة عبادتهما للصنم المرندي في (مجمع النورين): ص 229 عن كتاب المحتضر.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 250
--------------------------------------------------------------------------------
فقال: يا علي، خذ هذا السيف، فانطلق إلى موضع كذا وكذا فاستخرج الصنم الذي يعبدانه فاهشمه. فإن حال بينك وبينه أحد فاضرب عنقه.
فانكبا على رسول الله صلى الله عليه وآله فقالا: استرنا سترك الله. فقلت أنا لهما: (اضمنا لله ولرسوله أن لا تعبدا إلا الله ولا تشركا به شيئا). فعاهدا رسول الله صلى الله عليه وآله على ذلك.
وانطلقت حتى استخرجت الصنم من موضعه وكسرت وجهه ويديه وجذمت رجليه، ثم انصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. فوالله لقد عرفت ذلك في وجههما علي حتى ماتا!
مخاصمة أبي بكر وعمر للأنصار بحجة علي عليه السلام
ثم انطلق هو وأصحابه - حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله - فخاصموا الأنصار بحقي. فإن كانوا صدقوا واحتجوا بحق (أنهم أولى من الأنصار لأنهم من قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله من قريش)، فمن كان أولى برسول الله صلى الله عليه وآله كان أولى بالأمر، وإنما ظلموني حقي، وإن كانوا احتجوا بباطل فقد ظلموا الأنصار حقهم، والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا.
ابتلاء الأمة بحب مضليها وقصورها عن لعنهم
والعجب لما قد أشربت قلوب هذه الأمة من حبهم وحب من صدهم عن سبيل ربهم وردهم عن دينهم!
والله، لو أن هذه الأمة قامت على أرجلها على التراب ووضعت الرماد على رؤوسها وتضرعت إلى الله ودعت إلى يوم القيامة على من أضلهم وصدهم عن سبيل الله ودعاهم إلى النار وعرضهم لسخط ربهم وأوجب عليهم عذابه - بما أجرموا إليهم - لكانوا مقصرين في ذلك.
ما منع أمير المؤمنين عليه السلام عن إعلان الحقائق
وذلك أن المحق الصادق والعالم بالله ورسوله يتخوف إن غير شيئا من بدعهم
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 251
--------------------------------------------------------------------------------
وسننهم وأحداثهم، وعادته العامة، ومتى فعل شاقوه وخالفوه وتبرؤا منه وخذلوه وتفرقوا عن حقه، وإن أخذ ببدعهم وأقر بها وزينها ودان بها أحبته وشرفته وفضلته.
والله لو ناديت في عسكري هذا بالحق الذي أنزل الله على نبيه وأظهرته ودعوت إليه وشرحته وفسرته - على ما سمعت من نبي الله صلى الله عليه وآله فيه - ما بقي فيه إلا أقله وأذله وأرذله ولاستوحشوا منه ولتفرقوا عني.
ولولا ما عاهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلي وسمعته منه وتقدم إلي فيه لفعلت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال: (يا أخي، كل ما اضطر إليه العبد فقد أحله الله له وأباحه إياه)، وسمعته يقول: (إن التقية من دين الله، ولا دين لمن لا تقية له). ثم أقبل عليه السلام علي فقال:
أدفعهم بالراح دفعا عني ثلثان من حي وثلث مني
فإن عوضني ربي فأعذرني
ابتلاء أمير المؤمنين عليه السلام بأخابث الناس
وقال علي عليه السلام للحكمين - حين بعثهما -: (أحكما بكتاب الله وسنة نبيه وإن كان فيهما حز حلقي، فإنه من قادها إلى هؤلاء فإن نيتهم أخبثت).
فقال له رجل من الأنصار: ما هذا الانتشار الذي بلغني عنك؟ ما كان أحد من الأمة أضبط للأمر منك، فما هذا الاختلاف والانتشار؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: أنا صاحبك الذي تعرف، إلا أني قد بليت بأخابث من خلق الله، أريدهم على الأمر فيأبون، فإن تابعتهم على ما يريدون تفرقوا عني!
نبوءات نبي الله عيسى عليه السلام عن الرسول والأئمة عليهم السلام والأئمة المضلين
أبان عن سليم: قال: أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام، فنزل العسكر قريبا من دير نصراني. فخرج إلينا من الدير شيخ كبير جميل حسن الوجه حسن الهيئة والسمت ومعه كتاب في يده، حتى أتى أمير المؤمنين عليه السلام فسلم عليه بالخلافة. فقال له علي عليه السلام: مرحبا يا أخي شمعون بن حمون، كيف حالك رحمك الله؟
فقال: بخير يا أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصي رسول رب العالمين. إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم عليه السلام، وأنا من نسل شمعون بن يوحنا وصي عيسى بن مريم. وكان من أفضل حواري عيسى بن مريم عليه السلام الاثني عشر وأحبهم إليه وآثرهم عنده وإليه أوصى عيسى بن مريم عليه السلام وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته فلم يكفروا ولم يبدلوا ولم يغيروا.
النبي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام في كتب عيسى عليه السلام
وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده، وفيها كل شئ يفعل الناس من بعده ملك ملك، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم، حتى يبعث الله رجلا من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن من أرض تدعى (تهامة) من قرية يقال لها (مكة)، يقال له (أحمد)، الأنجل العينين، المقرون الحاجبين، صاحب الناقة والحمار والقضيب والتاج - يعني العمامة - له اثنا عشر اسما.
ثم ذكر مبعثه ومولده وهجرته ومن يقاتله ومن ينصره ومن يعاديه وكم يعيش وما تلقى أمته من بعده من الفرقة والاختلاف.
وفيه تسمية كل إمام هدى وإمام ضلالة إلى أن ينزل الله عيسى بن مريم من السماء.
فذكر في الكتاب ثلاثة عشر رجلا (1) من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، هم خير من خلق الله وأحب من خلق الله إلى الله. وإن الله ولي من والاهم وعدو من عاداهم. من أطاعهم اهتدى ومن عصاهم ضل. طاعتهم لله طاعة ومعصيتهم لله معصية.
مكتوبة فيه أسمائهم وأنسابهم ونعتهم وكم يعيش كل رجل منهم واحدا بعد واحد، وكم رجل منهم يستسر بدينه ويكتمه من قومه، ومن يظهر منهم ومن يملك وينقاد له الناس حتى ينزل الله عيسى بن مريم عليه السلام على آخرهم. فيصلي عيسى خلفه ويقول: (إنكم أئمة لا ينبغي لأحد أن يتقدمكم)، فيتقدم فيصلي بالناس وعيسى خلفه في الصف الأول. أولهم أفضلهم، وآخرهم له مثل أجورهم وأجور من أطاعهم واهتدى بهداهم.
نص ما في كتب عيسى عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد رسول الله واسمه محمد وياسين وطه ون والفاتح والخاتم والحاشر والعاقب والماحي، وهو نبي الله وخليل الله وحبيب الله وصفيه وأمينه وخيرته. يرى تقلبه في الساجدين - يعني في أصلاب النبيين - ويكلمه برحمته فيذكر إذا ذكر. وهو أكرم خلق الله على الله وأحبهم إلى الله، لم يخلق الله خلقا - ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، من آدم فمن سواه - خيرا عند الله ولا أحب إلى الله منه، يقعده الله يوم القيامة على عرشه ويشفعه في كل من شفع فيه. وباسمه جرى القلم في اللوح المحفوظ في أم الكتاب وبذكره، محمد رسول الله.
ثم أخوه صاحب اللواء يوم القيامة يوم الحشر الأكبر، وأخوه ووصيه ووزيره،
____________
(1). هم النبي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 254
--------------------------------------------------------------------------------
وخليفته في أمته، وأحب خلق الله إلى الله بعده علي بن أبي طالب ولي كل مؤمن بعده.
ثم أحد عشر إماما من ولد أول الاثني عشر، اثنان سميا ابني هارون شبر وشبير وتسعة من ولد أصغرهما وهو الحسين، واحدا بعد واحد، آخرهم الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه). (1)
فيه تسمية كل من يملك منهم ومن يستسر بدينه ومن يظهر. فأول من يظهر منهم يملأ جميع بلاد الله قسطا وعدلا، ويملك ما بين المشرق والمغرب حتى يظهره الله على الأديان كلها.
فلما بعث النبي - وأبي حي - صدق به وآمن به وشهد أنه رسول الله، وكان شيخا كبيرا ولم يكن به شخوص. فمات أبي وقال لي: (إن وصي محمد وخليفته - الذي اسمه في هذا الكتاب ونعته - سيمر بك إذا مضى ثلاثة أئمة من أئمة الضلالة والدعاة إلى النار المسمين بأسمائهم وقبائلهم فلان وفلان وفلان ونعتهم وكم يملك كل واحد منهم، فإذا مر بك فاخرج إليه وبايعه وقاتل معه عدوه فإن الجهاد معه كالجهاد مع محمد، والموالي له كالموالي لمحمد والمعادي له كالمعادي لمحمد).
الأخبار عن أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الغاصبين في كتب عيسى عليه السلام
وفي هذا الكتاب - يا أمير المؤمنين - إن اثني عشر إماما من قريش من قومه يعادون أهل بيته ويمنعونهم حقهم ويقتلونهم ويطردونهم ويحرمونهم ويتبرؤون منهم ويخيفونهم، مسمون واحدا بعد واحد بأسمائهم ونعوتهم، وكم يملك كل رجل منهم وما يملك، وما يلقى منهم ولدك وأنصارك وشيعتك من القتل والخوف والبلاء.
وكيف يديلكم الله منهم ومن أوليائهم وأنصارهم وما يلقون من الذل والحرب والبلاء والخزي والقتل والخوف منكم أهل البيت.
____________
(1). هنا آخر النص الذي ينقله من كتاب الراهب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 255
--------------------------------------------------------------------------------
الراهب يبايع أمير المؤمنين عليه السلام
ثم قال: يا أمير المؤمنين، ابسط يدك أبايعك، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأشهد أنك خليفة رسول الله في أمته ووصيه وشاهده على خلقه وحجته في أرضه، وإن الإسلام دين الله وإني أبرء من كل دين خالف دين الإسلام، فإنه دين الله الذي اصطفاه لنفسه ورضيه لأوليائه، وإنه دين عيسى بن مريم ومن كان قبله من أنبياء الله ورسله، وهو الذي دان به من مضى من آبائي. وإني أتولاك وأتولى أوليائك، وأبرء من عدوك وأتولى الأحد عشر الأئمة من ولدك وأبرء من عدوهم وممن خالفهم وبرء منهم وادعى حقهم وظلمهم من الأولين والآخرين. ثم تناول يده وبايعه.
ثم قال له أمير المؤمنين عليه السلام: ناولني كتابك، فناوله إياه. فقال علي عليه السلام لرجل من أصحابه: قم مع هذا الرجل فانظر ترجمانا يفهم كلامه، فلينسخه لك بالعربية مفسرا.
فأتاه مكتوبا بالعربية.
فلما أتاه به قال لابنه الحسن عليه السلام: يا بني، ائتني بالكتاب الذي دفعته إليك. فأتاه به، فقال: أنت يا بني اقرأه، وانظر أنت يا فلان - الذي تستجهل - في نسخة هذا الكتاب، فإنه خطي بيدي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله علي.
فقرأه فما خالف حرفا واحدا ليس فيه تقديم ولا تأخير، كأنه إملاء رجل واحد على رجلين!
فحمد الله أمير المؤمنين عليه السلام وأثنى عليه وقال: (الحمد لله الذي لو شاء لم تختلف الأمة ولم تفترق، والحمد لله الذي لم ينسني ولم يضع أمري ولم يخمل ذكري عنده وعند أوليائه إذ صغر وخمل ذكر أولياء الشيطان وحزبه).
ففرح بذلك من حضر عند أمير المؤمنين عليه السلام من شيعته وشكر، وساء ذلك كثيرا ممن حوله حتى عرفنا ذلك في وجوههم وألوانهم.
أبان عن سليم بن قيس قال: صعد أمير المؤمنين عليه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أيها الناس، أنا الذي فقأت (1) عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها غيري. وأيم الله لو لم أكن فيكم لما قوتل أهل الجمل ولا أهل صفين ولا أهل النهروان. وأيم الله لولا أن تتكلموا وتدعوا العمل لحدثتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله لمن قاتلهم مستبصرا في ضلالتهم عارفا بالهدى الذي نحن عليه.
ثم قال عليه السلام: سلوني عما شئتم قبل أن تفقدوني، فوالله إني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض. أنا يعسوب المؤمنين وأول السابقين وإمام المتقين وخاتم الوصيين ووارث النبيين وخليفة رب العالمين. أنا ديان الناس يوم القيامة وقسيم الله بين أهل الجنة والنار، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الذي أفرق بين الحق والباطل، وإن عندي علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب، وما من آية نزلت إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت.
أيها الناس، إنه وشيك أن تفقدوني، إني مفارقكم وإني ميت أو مقتول. ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقها؟ يعني لحيته من دم رأسه.
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا تسألوني من فئة تبلغ ثلاثمائة فما فوقها فيما
____________
(1). أي قلعت.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 257
--------------------------------------------------------------------------------
بينكم وبين قيام الساعة إلا أنبأتكم بسائقها وقائدها وناعقها (1)، وبخراب العرصات متى تخرب ومتى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة.
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن البلايا.
فقال عليه السلام: إذا سأل سائل فليعقل وإذا سئل مسؤول فليلبث. إن من ورائكم أمورا ملتجة مجلجلة (2) وبلاء مكلحا مبلحا. (3)
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو قد فقدتموني ونزلت عزائم الأمور وحقائق البلاء لقد أطرق كثير من السائلين واشتغل كثير من المسؤولين. وذلك إذا ظهرت حربكم ونصلت عن ناب وقامت عن ساق وصارت الدنيا بلاء عليكم حتى يفتح الله لبقية الأبرار.
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن الفتن.
فقال عليه السلام: إن الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت أسفرت. وإن الفتن لها موج كموج البحر وإعصار كإعصار الريح، تصيب بلدا وتخطئ الآخر. فانظروا أقواما كانوا أصحاب الرايات يوم بدر فانصروهم تنصروا وتؤجروا وتعذروا.
فتنة بني أمية أخوف الفتن
ألا إن أخوف الفتن عليكم من بعدي فتنة بني أمية. إنها فتنة عمياء صماء مطبقة مظلمة، عمت فتنتها وخصت بليتها. أصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها. أهل باطلها ظاهرون على أهل حقها، يملؤون الأرض بدعا وظلما وجورا. وأول من يضع جبروتها ويكسر عمودها وينزع أوتادها الله رب العالمين وقاصم الجبارين.
____________
(1). تشبيه بالراعي إذا نعق بغنمه أي صاح بها وزجرها.
(2). أي مضطربة مرددة.
(3). أي مفزعة معجزة.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 258
--------------------------------------------------------------------------------
ألا إنكم ستجدون بني أمية أرباب سوء بعدي كالناب الضروس تعض بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجليها وتمنع درها.
وأيم الله، لا تزال فتنتهم حتى لا تكون نصرة أحدكم لنفسه إلا كنصرة العبد السوء لسيده، إذا غاب سبه وإذا حضر أطاعه. وأيم الله لو شردوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله لشر يوم لهم.
فتن ما بعد بني أمية
فقال الرجل: فهل من جماعة - يا أمير المؤمنين - بعد ذلك؟ قال عليه السلام: إنها ستكونون جماعة شتى، عطاؤكم وحجكم وأسفاركم واحد والقلوب مختلفة.
قال: قال واحد: كيف تختلف القلوب؟ قال عليه السلام: هكذا - وشبك بين أصابعه - ثم قال: يقتل هذا هذا وهذا هذا، هرجا هرجا ويبقى طغام جاهلية ليس فيها منار هدى ولا علم يرى. نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة.
قال: فما أصنع في ذلك الزمان يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: انظروا أهل بيت نبيكم، فإن لبدوا فالبدوا وإن استنصروكم فانصروهم تنصروا وتعذروا، فإنهم لن يخرجوكم من هدى ولن يدعوكم إلى ردى، ولا تسبقوهم بالتقدم فيصرعكم البلاء وتشمت بكم الأعداء.
يفرج الله عن الفتن بالإمام المهدي عليه السلام
قال: فما يكون بعد ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: يفرج الله البلاء برجل من بيتي كانفراج الأديم من بيته. ثم يرفعون إلى من يسومهم خسفا ويسقيهم بكأس مصبرة ولا يعطيهم ولا يقبل منهم إلا السيف، هرجا هرجا، يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر حتى تود قريش بالدنيا وما فيها أن يروني مقاما واحدا فأعطيهم وآخذ منهم بعض ما قد منعوني وأقبل منهم بعض ما يرد عليهم حتى يقولوا: (ما هذا من قريش، لو
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 259
--------------------------------------------------------------------------------
كان هذا من قريش ومن ولد فاطمة لرحمنا) يغريه الله ببني أمية فيجعلهم تحت قدميه ويطحنهم طحن الرحى. (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). (1)
أهل البيت عليهم السلام هم الملجأ في الفتن
أما بعد، فإنه لا بد من رحى تطحن ضلالة، فإذا طحنت قامت على قطبها. ألا وإن لطحنها روقا وإن روقها حدها وعلى الله فلها.
ألا وإني وأبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا. معنا راية الحق والهدى، من سبقها مرق ومن خذلها محق ومن لزمها لحق.
إنا أهل بيت من علم الله علمنا، ومن حكم الله الصادق قيلنا، ومن قول الصادق سمعنا. فإن تتبعونا تهتدوا ببصائرنا وإن تتولوا عنا يعذبكم الله بأيدينا أو بما شاء.
نحن أفق الإسلام، بنا يلحق المبطئ وإلينا يرجع التائب.
والله لولا أن تستعجلوا ويتأخر الحق لنبأتكم بما يكون في شباب العرب والموالي، فلا تسألوا أهل بيت محمد العلم قبل إبانه، ولا تسألوهم المال على العسر فتبخلوهم، فإنه ليس منهم البخل.
وكونوا أحلاس البيوت، ولا تكونوا عجلا بذرا. كونوا من أهل الحق تعرفوا به وتتعارفوا عليه، فإن الله خلق الخلق بقدرته وجعل بينهم الفضائل بعلمه وجعل منهم عبادا اختارهم لنفسه ليحتج بهم على خلقه. فجعل علامة من أكرم منهم طاعته وعلامة من أهان منهم معصيته. وجعل ثواب أهل طاعته النضرة في وجهه في دار الأمن والخلد الذي لا يورع أهله، وجعل عقوبة أهل معصيته نارا تأجج لغضبه، (وما ظلمهم
____________
(1). سورة الأحزاب: الآية 62. وفي المتن: وأخذوا.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 260
--------------------------------------------------------------------------------
الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). (1)
يا أيها الناس، إنا أهل بيت بنا ميز الله الكذب، وبنا يفرج الله الزمان الكلب وبنا ينزع الله ربق الذل من أعناقكم وبنا يفتح الله وبنا يختم الله. فاعتبروا بنا وبعدونا وبهدانا وبهداهم وبسيرتنا وسيرتهم وميتتنا وميتتهم، يموتون بالدال والقرح والدبيلة، ونموت بالبطن والقتل والشهادة.
بلاء آل محمد عليهم السلام في الفتن
ثم التفت عليه السلام إلى بنيه فقال: يا بني، ليبر صغاركم كباركم، وليرحم كبار كم صغاركم، ولا تكونوا أمثال السفهاء الجفاة الجهال الذين لا يعطون في الله اليقين، كبيض بيض في داح. (2)
ألا ويح للفراخ فراخ آل محمد من خليفة يستخلف، جبار (3) عتريف مترف يقتل خلفي وخلف الخلف بعدي.
أما والله، لقد علمت تبليغ الرسالات وتنجيز العدات وتمام الكلمات وفتحت لي الأسباب وعلمت الأنساب وأجري لي السحاب، ونظرت في الملكوت فلم يعزب عني شئ فات ولم يفتني ما سبقني ولم يشركني أحد فيما أشهدني ربي يوم يقوم الأشهاد. وبي يتم الله موعده ويكمل كلماته، وأنا النعمة التي أنعمها الله على خلقه، وأنا الإسلام الذي ارتضاه لنفسه، كل ذلك من من الله به علي وأذل به منكبي.
وليس إمام إلا وهو عارف بأهل ولايته، وذلك قول الله عز وجل: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد). (4)
ثم نزل، صلى الله عليه وآله الطاهرين الأخيار وسلم تسليما كثيرا.
____________
(1). سورة النحل: الآية 33.
(2). الداح نقش يلوح به للصبيان يعللون به.
(3). العتريف بمعنى الخبيث الفاجر. وفي (د): الغطريف، بمعنى المتكبر.
(4). سورة الرعد: الآية 7.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 261
--------------------------------------------------------------------------------
(18)
1
تأثير الميل إلى الدنيا في علم الإنسان ودينه
قال سليم بن قيس: سمعت أبا الحسن عليه السلام يحدثني ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله قال:
منهومان لا يشبعان: منهوم في الدنيا لا يشبع منها، ومنهوم في العلم لا يشبع منه. فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير حلها هلك إلا أن يتوب ويراجع. ومن أخذ العلم من أهله وعمل به نجا، ومن أراد به الدنيا هلك وهو حظه.
والعلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناج، وعالم تارك لعلمه فهو هالك. إن أهل النار ليتأذون من نتن ريح العالم التارك لعلمه. وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له، فأطاع الله فدخل الجنة وعصى الله الداعي فأدخل النار بتركه علمه واتباعه هواه وعصيانه لله.
إنما هما اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة.
إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنما اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
وإنما ابتداء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله، يتولى فيها رجال رجالا ويتبرء رجال من رجال. ألا إن الحق لو خلص لم يكن فيه اختلاف وإن الباطل لو خلص لم يخف على ذي حجى، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيحسبان معا، فهنالك استولى الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم منا الحسنى.
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الوليد ويزيد (1) فيها الكبير، يجري الناس عليها فيتخذونها سنة، فإذا غير منها شئ قيل: (إن الناس قد أتوا منكرا)!!
ثم يشتد البلاء وتسبى الذرية وتدقهم الفتن كما تدق النار الحطب وكما تدق الرحى بثفالها (2)، يتفقه الناس لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة.
2
كلام أمير المؤمنين عليه السلام عن بدع أبي بكر وعمر وعثمان
ثم أقبل عليه السلام بوجهه على ناس من أهل بيته وشيعته فقال: والله لقد عملت الأئمة قبلي بأمور عظيمة خالفت فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين، لو حملت الناس على تركها وتحويلها عن موضعها إلى ما كانت تجري عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرق عني جندي، حتى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الذين إنما عرفوا فضلي وإمامتي من
____________
(1). أي ينمو.
(2). الثفال: حجر الرحى الأسفل.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 263
--------------------------------------------------------------------------------
كتاب الله وسنة نبيه لا من غيرهما أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام، ورددت صاع رسول الله صلى الله عليه وآله ومده إلى ما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله لأهلها ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته وهدمتها من المسجد (1)، ورددت قضايا من قضى من كان قبلي بجور، ورددت ما قسم من أرض خيبر (2)، ومحوت ديوان الأعطية (3) وأعطيت كما كان يعطي رسول الله (ص). (صلى الله عليه وآله
____________
(1). راجع الحديث 14 من هذا الكتاب. وقوله (رددت قضايا من قضى...)، القضى والقضاء بمعنى واحد.
(2) روى ابن شبة في تاريخ المدينة المنورة: ج 1 ص 185 وأحمد في مسنده: ج 6 ص 330: أنه لما أخرج عمر اليهود من خيبر ركب في المهاجرين والأنصار وخرج معه جبار بن صخر بن خنساء - وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم - ويزيد بن ثابت، فهما قسما خيبر بين أهلها على أصل جماعة السهمان التي كانت عليها. فكانت مما قسم عمر من وادي القرى لعثمان وعبد الرحمن بن عوف وعمر بن أبي سلمة وعامر بن ربيعة وعمرو بن سراقة والأشيم وبني جعفر ولابن عبد الله بن حجش وعبد الله بن الأرقم وغيرهم، لكل إنسان حظر، والحظر القطعة من النخيل أو الإبل أو غيره.
وعن ابن عباس: قسمت خيبر على ألف سهم: خمسمائة وثمانين سهما للذين شهدوا الحديبية، ألف وخمسمائة وأربعين رجلا والذين كانوا مع جعفر بأرض الحبشة أربعون رجلا وكان معهم يومئذ مائتا فرس أو نحوها فأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما.
(3). روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 288 عن ابن أبي الحديد بأسناده: أن عمر استشار الصحابة بمن يبدء في القسم والفريضة؟ فقالوا: ابدء بنفسك. فقال: بل أبدء بآل رسول الله وذوي قرابته. فبدء بالعباس قال ابن الجوزي: قد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فرض له. روى أنه فرض له خمسة عشر ألفا، وروى أنه فرض له اثني عشر ألفا وهو الأصح. ثم فرض لزوجات رسول الله صلى الله عليه وآله لكل واحدة عشرة آلاف. وفضل عائشة عليهن بألفين... ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف، ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف. وقد روي أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين أو من الأنصار أو غيرهم من القبائل خمسة آلاف. ثم فرض لمن شهد أحدا وما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف، ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف. ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ألفين وخمسمائة وألفين وألفا وخمسمائة وألفا واحدا إلى مائتين وهم أهل هجر. ومات عمر على ذلك.
فأما ما اعتمده في النساء فإنه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعد بدر إلى إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة ثلاثمائة، وجعل نساء أهل القادسية على مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك. وكان ذلك في سنة 20 للهجرة. راجع تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 153 وكتاب الخراج لأبي يوسف: ج 1 ص 43.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 264
--------------------------------------------------------------------------------
ولم أجعله دولة بين الأغنياء، وسبيت ذراري بني تغلب (1)، وأمرت الناس أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، لنادى بعض الناس من أهل العسكر - ممن يقاتل معي -: (يا أهل الإسلام) وقالوا: (غيرت سنة عمر، نهيتنا أن نصلي في شهر رمضان تطوعا) حتى خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. (2)
____________
(1). روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 287 عن الإمام الصادق عليه السلام: أن بني تغلب من نصارى العرب أنفوا واستنكفوا من قبول الجزية وسألوا عمر أن يعفيهم عن الجزية ويؤدوا الزكاة مضاعفا. فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة، فرضوا بذلك.
قال المجلسي: فهؤلاء ليسوا بأهل ذمة لمنع الجزية وقد جعل الله الجزية على أهل الذمة ليكونوا أذلاء صاغرين وليس في أحد من الزكاة صغار وذل. فكان عليه أن يقاتلهم ويسبي ذراريهم لو أصروا على الاستنكاف والاستكبار.
(2). روى العلامة الأميني في الغدير: ج 5 ص 31 عن السيوطي وغيره: أن أول من سن التراويح عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة وأن أول من جمع الناس على التراويح عمر وأن إقامة النوافل بالجماعات في شهر رمضان من محدثات عمر. و (التراويح) عشرون ركعة يصلونها جماعة في ليالي شهر رمضان.
روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 284 عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أيها الناس، إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة...). ثم روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد. فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع. فقال: بدعة ونعمت البدعة!!
روى الشيخ الطوسي في التهذيب: ج 3 ص 70 ح 227 عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليه السلام أن ينادي في الناس: (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة). فنادى في الناس الحسن بن علي عليه السلام بما أمره به أمير المؤمنين عليه السلام. فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي عليه السلام صاحوا: واعمراه واعمراه فلما رجع الحسن عليه السلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الناس يصيحون: واعمراه، واعمراه فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
قل لهم: صلوا!
روي في البحار: ج 96 ص 385 ح 5 أنه لما كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما منا في رمضان. فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: (ابكوا في رمضان، وارمضاناه) فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين، ضج الناس وكرهوا قولك. فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون. ليصلي بهم من شاءوا. ثم قال: (فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 265
--------------------------------------------------------------------------------
بؤسي لما لقيت من هذه الأمة بعد نبيها من الفرقة وطاعة أئمة الضلال والدعاة إلى النار.
ولم أعط سهم ذوي القربى منهم إلا لمن أمر الله بإعطائه الذين قال الله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) (1)، فنحن الذين عنى الله بذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كل هؤلاء منا خاصة (2) لأنه لم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا وأكرم الله نبيه صلى الله عليه وآله وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ أيدي الناس. (3)
____________
(1). سورة الأنفال: الآية 41.
(2). في الكافي والتهذيب: نحن والله الذين عنى الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين)، منا خاصة.
(3). من قوله (ورددت من قضى من كان قبلي بجور...) إلى آخر الحديث في روضة الكافي زيادة مهمة هكذا:
(... ورددت قضايا من الجور قضى بها، ونزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام وسبيت ذراري بني تغلب ورددت ما قسم من أرض خيبر ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة وسويت بين المناكح وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه، ورددت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه وحرمت المسح على الخفين وحددت على النبيذ وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجده ممن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجه وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ممن كان رسول الله أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، إذا لتفرقوا عني.
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن جماعتهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: (يا أهل الإسلام، غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا) ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري.
ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار. وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)، فنحن والله عني بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله فقال تعالى: (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل - فينا خاصة - كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) و (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله - في ظلم آل محمد - إن الله شديد العقاب) لمن ظلمهم رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به ووصى به نبيه صلى الله عليه وآله، ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا، أكرم الله رسوله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس. فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ومنعونا فرضا فرضه الله لنا. ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا، والله المستعان على من ظلمنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
ولا بأس بالإشارة إلى ذكر تفصيل بعض ما أشار عليه السلام إليه من البدع:
قوله عليه السلام: (وألقيت المساحة)، روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 284 أن عمر وضع الخراج على أرض السواد وأمر بمساحة أرضها، ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم وعلى الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم وعلى الشعير درهمين.
وكان الفرض في الأراضي المفتوحة عنوة أن يخرج خمسها لأرباب الخمس وأربعة الأخماس الباقية تكون للمسلمين قاطبة.
قوله عليه السلام: (أنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل)، قال ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393:
إن عمر صرف الأخماس عن أهلها فجعلها في الكراع والسلاح ومنع الخمس منهم حين كثره واستعظم ما رآى من كثرته أن يدفعه إلى أهله!
وقوله عليه السلام: (سويت بين المناكح) إشارة إلى ما سيجئ في الحديث 23 من أن عمر سن أن تنكح العرب في الأعاجم ولا ينكحوهم.
وقوله عليه السلام (حرمت المسح على الخفين)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 عن أبي جعفر عليه السلام قال:
جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وفيهم علي عليه السلام وقال: ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح على الخفين. فقال علي عليه السلام: قبل المائدة أو بعدها؟
(أي قبل نزول سورة المائدة أو بعدها؟) فقال: لا أدري. فقال علي عليه السلام: سبق الكتاب الخفين، إنما أنزلت مائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة.
وقوله عليه السلام (وحددت على النبيذ)، روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 257 عن عدة طرق: أن عمر كان يشرب النبيذ الشديد وكان يقول: إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا فمن رابه من شرابه شئ فليمزجه بالماء!
وقوله عليه السلام (وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 عن ابن حزم في كتاب المحلى قال: جمع عمر بن الخطاب الناس فاستشارهم في التكبير على الجنائز.
فقالوا: أكبر النبي صلى الله عليه وآله سبعا وخمسا وأربعا. فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وأورده في الغدير: ج 6 ص 244.
وقوله عليه السلام: (وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)، إشارة إلى إسقاط عمر للبسملة عن أول السور، فقد روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 381: أن عمر حذف بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن ومن الصلاة وقال: ليس في القرآن إلا مرة واحدة!
وقوله عليه السلام (الطلاق على السنة)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب:
إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم. وأورده العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 178.
وقوله عليه السلام (رددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها)، إشارة إلى البدع التي أحدث فيها كالمسح على الخفين ومسح الرأس والأذنين وغسل الرجلين، وكترك الصلاة لمن لم يجد الماء للغسل، ومثل وضع اليمين على الشمال في الصلاة وإسقاط البسملة وقول (آمين) بعد الحمد وكتأخير صلاة الصبح حتى تغيب النجوم وتأخير صلاة المغرب حتى تطلع النجوم وغير ذلك.
وقوله عليه السلام (رددت أهل نجران إلى مواضعهم)، روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393 والطبري في وقائع سنة 20: أن عمر أجلى أهل نجران وخيبر عن ديارهم وقال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وآله عليه أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمن وكتب لهم كتابا بذمتهم وهو معهم إلى يومنا هذا.
وقوله عليه السلام (رددت سائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله)، روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393 عن كتاب آداب الوزراء: أن عمر كان يأخذ من جميع أهل الذمة فيما اتجروا فيه كل سنة العشر ومرتين إن اتجروا مرتين ومن لم يتجر أربعة دنانير أو أربعين درهما. والفقهاء أجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله أخذ من كل حالم دينارا ولم ينقل أحد من أهل الأثر خبرا أن النبي صلى الله عليه وآله جعلهم في الجزية طبقات. وقد جعلهم عمر طبقات ثلاث فأخذ من الأغنياء خمسة دنانير إلى مائة درهم ومن الأوساط خمسين درهما ونحو هذا ومن الفقراء دينارا واحدا.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 266
--------------------------------------------------------------------------------
أبان عن سليم قال: شهدت أبا ذر مرض مرضا على عهد عمر في إمارته، فدخل عليه عمر يعوده وعنده أمير المؤمنين عليه السلام وسلمان والمقداد، وقد أوصى أبو ذر إلى علي عليه السلام وكتب وأشهد.
فلما خرج عمر قال رجل من أهل أبي ذر من بني عمه بني غفار: ما منعك أن توصي إلى أمير المؤمنين عمر؟
قال: قد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا حقا.
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن أربعون رجلا من العرب وأربعون رجلا من العجم، فسلمنا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين، فينا هذا القائم الذي سميته (أمير المؤمنين).
ولا أحد من العرب ولا من الموالي العجم راجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلا هذا وصويحبه الذي استخلفه، فإنهما قالا: (أحق من الله ورسوله)؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: اللهم نعم، حق من الله ورسوله، أمرني الله بذلك فأمرتكم به.
قال سليم: فقلت: يا أبا الحسن وأنت يا سلمان وأنت يا مقداد، أتقولون كما قال أبو ذر؟ قالوا: نعم، صدق. قلت: أربعة عدول، ولو لم يحدثني غير واحد ما شككت في صدقه ولكن أربعتكم أشد لنفسي وبصيرتي.
قلت: أصلحك الله، أتسمون الثمانين من العرب والموالي؟ فسماهم سلمان رجلا رجلا. فقال علي عليه السلام وأبو ذر والمقداد: (صدق سلمان) رحمة الله ومغفرته عليه وعليهم.