ماذا بعد الموت؟؟؟ قصه من عالم البرزخ (الجزء الاول)
بتاريخ : 18-01-2013 الساعة : 02:26 AM
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
من كتاب سياحة في الغرب
أو
مسير الأرواح بعد الموت
الستار يتلاشى
من الواضح أنّ عالم الطبيعة المادّي المؤلّف من العناصر، يشكّل سدّاً ضخماً وستارة سميكة تغطّي عين الإنسان فتحجبها عن رؤية العالم الآخر، ولكنّها بالموت وبالخروج من هذا العالم المادّي وبتلاشي تلك الستارة، ترى وتصل إلى اُمور لم تستطع رؤيتها ولا الوصول إليها من قبل.
لَقَد كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ! (1)
لقد متّ (2) فرأيت أن مرضي الجسماني قد تلاشى وأصبحت في أتمّ صحّة، ورأيت أقربائي حول جنازتي يبكون عليّ، فحزنت على بكائهم، وقلت لهم: إنّني لم أمُت، بل زال عنّي مرضي. إلاّ أنّ أحداً لم يسمعني، وكأنّهم لا يرونني ولا يسمعون صوتي (3)، فعلمت أنّني بعيد عنهم، ولكنّي كنت هناك بسبب معرفتي وحبّى لتلك الجنازة، وكنت اُحدّق بعيني في جنبها الأيسر العاري.
وبعد غُسل الجنازة وإجراء ما يلزم لها، اتجهوا بها نحو المقابر، وكنت مع المشيّعين الذين أرعبني أن أرى بينهم حيوانات وحشيّة مفترسة من كلّ نوع، إلاّ أنّ الآخرين لم يخافوها، وهي لم تؤذِ أحداً، وكأنّها حيوانات أهلية يأنسون بها.
* * *
الدخول في عالم القبر
أنزلوا الجنازة في القبر، وكنت أقف في القبر أتفرّج، وعندئذ أحسست بالخوف وارتهبت، وعلى الأخصّ عندما لاحظت أنّ حيوانات أخذت تظهر في القبر وتهاجم الجثّة، وأنّ الرجل الذي كان يوسّد الجثّة في التراب لم يدفع تلك الحيوانات عنها، وكأنّه لا يبصرها.
ثمّ خرج من القبر، فدخلت أنا القبر، لطرد تلك الحيوانات، بالنظر لما يربطني بتلك الجثّة من روابط، ولكنّ الحيوانات تكاثر عددها وغلبتني على أمري. ثمّ إنّي كنت في أشدّ الخوف، بحيث كانت جميع أعضائي ترتجف، وطلبت النجدة من الناس، ولكن لم ينجدني أحد، واستمر كلٌّ فيما كان يعمل فيه، وكأنّهم لا يرون ما يحدث في القبر.
وبغتةً ظهر اُناسٌ في القبر ساعدوني على طرد الحيوانات فهربَتْ. فأردت أن أسألهم من هم ؟ فقالوا: إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيِّئَاتِ (4)، واختفَوا.
بعد الانتهاء من هذه المعركة انتبهت إلى أنّ الناس كانوا قد أغلقوا القبر، وتركوني في ذلك المكان الضيق المظلم، وانصرفوا إلى بيوتهم، حتّى أقربائي وأصدقائي وزوجتي وأطفالي الذين كنت أسعى ليل نهار لراحتهم؛ فآلمني نُكرانهم الجميلَ وعدمُ وفائهم، وقد أوشك قلبي أن ينفطر خوفاً وهلعاً من وحشة القبر ومن الوحدة.
في تلك الحال من الاستيحاش الرهيب واليأس الشديد إلاّ من الله.. جلستُ عند رأس الجنازة، ولاحظتُ شيئاً فشيئاً أنّ القبر أخذ يهتزّ وراح التراب ينهال من سقف اللحد، وكانت الأرض التي تلي قدمَي الجثّة تضطرب وكأنّ حيواناً يحاول أن يشقّها ليدخل القبر. وأخيرا انشقّت الأرض وخرج منها شخصان لهما ملامح مخيفة وهيكلان مهيبان (5).
***
فتّانا القبر
كانا كوحشَين قويّين يخرج من فمَيهما ومناخيرهما النار والدخان، وبيديهما هِراوَتان من حديد محمرّ، كجمرتين يتطاير منهما الشر. أخذا يطرحان على الجثّة أسئلة بصوت كرعد قاصف كاد يهزّ الأرض والسماء، قالا له: « مَن ربّك ؟ ».
أمّا أنا فقد جفّ حلقي من شدّة الخوف والهلع، وقلت: إنّ هذه الجثّة التي لا روح فيها لا يمكن أن تجيب عن سؤالهما، ولا شكّ أنّهما سينهالان عليها بالضرب بهراوتَي النار فيمتلئ القبر بالنار المحرقة ويشتدّ الأمر، فمن الخير إذن أن أردّ أنا. فتوجّهت إلى الله أملِ البائسين والمساكين وملجأ الحَيارى، وتوسّلتُ في قلبي بالإمام عليّ بن أبي طالب (6) الذي كنت أعرفه جيداً، وأعرف أنّه يدرك الملهوفين.
كنت أحبّ أن أرى قدرته نافذة في كلّ مكان وفي جميع العوالم، وكانت هذه واحدة من نعم الله تعالى أعدّها لإنقاذ عبيده من ذلك الوضع المخيف الذي يجرّد الإنسان من كلّ إحساس وشعور:
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارى وَمَا هُمْ بِسُكَارى (7)
إنّه يذكّرهم بتلك الوسيلة الكبيرة.
وفعلاً، ما أن تذكّرت ذلك حتّى قوي قلبي وانحلّت عقدة لساني.
ولمّا طال الزمن على ردّ الجواب، عاد السائلان يسألان بغيظ وحَنَق وبصوت أشدّ من الأوّل وبغضب شديد اسوَدّ منه وجهاهما وانبعث الشرر يتطاير من عينيهما: « مَن ربك ؟ ».
ولكنّني قبل أن يركبني الخوف كالسابق (8)، أجبت بصوت ضعيف: الله ربّي هُوَ اللهُ الّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ والشّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحيمُ * هُوَ اللهُ الّذي لا إلهَ إلاّ هُوَ المَلِكُ القُدُوسُ السّلامُ المُؤمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجبَّارُ المُتَكَبّرُ سُبْحَانَ الله عَمّا يُشْرِكُوَن (9).
هذه الآيات الشريفة التي كنت أتلوها في تعقيب صلاة الصبح دائماً، تَلَوتُها عليهما لمجرد إظهار أنّي أحفظها، ولكي لا يقولا: إنّ الإنسان لا يملك علماً ولا كمالاً، كما قيل يوم خلق الله آدم إنّه ليس فيه سوى الفساد وإراقة الدماء.
* * *
انفراج نسبيّ
على كلّ حال، ما أن تَلَوتُ تلك الآيات عليهما حتّى لاحظتُ أنّ غضبهما قد هدأ، فانبسطت ملامح وجهيهما، والتفتَ أحدُهما يقول للآخر: يبدو أنّ هذا من علماء المسلمين، وهو جدير بأن نتلطّف في سؤاله.
إلاَّ أنّ الآخر قال: إنّ سلوكنا معه يعتمد على جوابه عن سؤال آخر، وبما أنّ جوابه ليس معروفاً بعد فعلينا أن نواصل مهمّتنا ونؤدّي واجبنا المطلوب، لا تهمّنا شخصية هذا الميت، فالمراكز والمقامات لا اعتبار لها في نظرنا. ثمّ التفت إلى الجثّة قائلاً:
« مَن نبيّك ؟ ».
عندئذ هدأتْ ضربات قلبي وانطلق لساني أكثر، فقلت: « النبيّ ورسول الله إلى الناس كافة: محمّد بن عبدالله، خاتم النبيّين وسيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله.
هنا زال عنهما كلّ غضب وحنق، وأشرق وجهاهما، كما زايَلَني كلّ ما كنت أشعر به من خوف ورهبة.
ثمَّ أخذا يسألانني عن الكتاب والقِبلة والإمام وخليفة رسول الله، فأجبت:
« كتابي القرآن الكريم، وقد نزل من ربّ رحيم على نبيّ حكيم، وقبلتي الكعبة المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (10)؛ المسجد الحرام ظاهراً، والحقّ المتعالي باطناً وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أنَا مِنَ المُشْرِكِينَ (11). وأئمّتي وخلفاء نبيّي اثنا عشر إماماً، أوّلهم عليّ بن أبي طالب، وآخرهم الحجّة بن الحسن صاحب العصر والزمان، مفترضو الطاعة ومعصومون من الخطأ والزلل، شهداء دار الفَناء، وشفعاء دار البقاء ».
ورُحتُ أذكر لهما اسم كلّ واحد من أُولئك العظام ونسَبَه وحسَبَه، فقالا:
« لا حاجة لهذا التفصيل، فجواب كلّ سؤال كلمة واحدة ».
فقلت:
« كان لابدّ من هذا التفصيل وأكثر، لأنّكم منذ البداية أظهرتم سوء الظنّ بنا، واعترضتم على خلقنا، مع أنّه لا يجوز الاعتراض على فعل العليّ الحكيم، ومنذ اليوم الذي علمتُ فيه باعتراضكم ضِقتُ ذَرعاً بكم، وألزمتُ نفسي ـ إن أُتيحت لي الفرصة ـ أن أطرح عليكم بعض الأسئلة، واُثير حولكم القيل والقال، ولكن من المؤسف أنّ ذلك لا يتاح لي وأنا في هذا الضيق والابتلاء ».
* * *
تأمّلات في عالم الحقيقة
سكتُّ أنتظر أن يطرحا عليّ أسئلة اُخرى، ولكنّهما لم يسألا تلك الأسئلة، وإنّما سألاني: « مِن أين لك هذه الإجابات، وممّن تعلّمتها ؟ ».
فلم أُجِب، بل احتواني التفكير، وسألت نفسي: الأدلّة والبراهين التي كنّا قد أعددناها في دار الغفلة والجهالة والخطأ والسهو، مَن يضمن أنّها كانت بعيدة عن السهو والخطأ في المادّة، أو في الصورة، أو في ظروف وضعها ؟ وكيف ندري أننا لم نحسب العقيم وَلوداً ؟ (12) وكيف نعلم أنّها تنطبق على المقاييس المنطقية، وأنّ المقاييس المنطقية تنسجم مع الواقع، وأنَّ أرسطو نفسه الذي وضع تلك المقاييس لم يك على خطأ (13) ؟ فكثيراً ما ننتبه في ذلك العالم نفسه إلى بعض أخطائنا ومزالقنا. وعلى فرض صّحة تلك البراهين، فإنّها لا تنفع إلا في ذلك العالم الذي هو عالم العمى والجهل، حيث تكون الحاجة إلى تلك المقاييس كحاجة الأعمى إلى العصا أو كحاجة البصير إليها حيث الظلام المتراكم. أمّا في هذا العالم الذي يسطع فيه النور على الحقائق، وحيث يكون البصر حديداً، فلن تكون حاجة إلى عصا. وعليه، فما الذي يريده منّي هذان ؟ إلهي، إنّني حديث الولادة في هذا العالم، ولا أعرف شيئاً من مصطلحاته، فأدرِكْني بحقّ عليّ بن أبي طالب.
كنتُ غارقاً في بحر هذه التأمّلات عندما سمعت صيحتَهما كصاعقة من السماء، وهما يطلبان جواب سؤالهما الأخير: مِن أين لك هذا الذي قلتَه (14) ؟
نظرتُ، وليتني لم أنظر! فقد رأيت علامات الغضب الشديد على ملامحهما، وقد برزت عيونهما محمرّة كشعلة من النار، واسودّ وجهاهما، فَغَرا فمَيهما كأفواه الإبل بدت فيهما الأنياب الصُّفر الطويلة، وقد رفعا هِراوتَيهما تهيّؤاً للضرب. فأصابني فزع شديد وخوف لا مزيد عليه، فغُشي عليّ، ولكنّي في تلك اللحظة اُلهمت أن أقول بصوت ضعيف وأنا أُغمض عينيّ من شدّة الخوف: « ذلك ما هداني الله إليه ».