كان يزامل والده إلى أعمامه ، كلما اشتاق لزيارتهم . ولأن أبناء العمومة أصلب عوداً ، حيث يرعون مواشيهم ، ويحصدون القمح ، ويسقون الرعاء من البئر، وعهدوا ركوب الخيل والحمير ، فقد كان الوالد يريد الصبي أن ينشدّ إليهم ، بزياراته المتكررة لهم ، فيتركه عندهم لبضعة أيام في كل مرة .. تشتاق له الأم والأخوات ، وغالباً ما كن يتذكرنه ، عند اجتماعهن لتناول الطعام ، وحينما يأوين إلى الفراش ، فيسردن حكايات مفترضة ، عن حراكه ، في حضرة أعمامه ، تسلية لشوقهن إليه .
لم يكن احد من أبناء عمومته ليناكفه ، في ركض إلى مرعى ، أو سبق إلى بيدر ، أو فصل للحملان .. فالختيارة العجوز ، زوجة عمه ، هي الأم الكبرى للجميع في القرية ، دأبت ان تحيطه بحنان زائد .. تمنحه حصة الأسد من لبن الغنم ، وتسقيه الشنينة أولاً ، حالما تروب شجوتها اللبن المخضوض ، ثم هي لا تنسى ان تعزز حصته من الزبدة ، عند فطور الصباح .. لكنه مع ذلك اعتاد بفضوله ، أن يلحس من رغوة حليب الماعز ، التي تتفاقع ، من قدر النحاس العتيق ، كلما حلبت العجوز الغنم .. دون ان يستأذنها .
تسارع دوماً لتنعته بالذكاء ، وقارئة الكف الغجرية تلقي عليه من أوصاف التطلع الشيء الكثير .. في مداراة لمزاج الختيارة ، التي لا تبخل عليها بالمقسوم ، كلما بالغت لها بتنبؤ مستقبله .
وما ان اكتسب باحتكاكه بأبناء عمومته ، تجربتهم في الرعي ، وسقاية الشياه من بئر بطن الوادي .. حتى دأب على الخروج معهم للحصاد ، عند الصباح الباكر ، مستأنساً بما كانوا يرددونه من أغاني الحصاد ، بأداء جمعي مقصود ، يستفز حماسهم ، فيضع حداً للخمول ، الذي يتسرب إلى همة البعض ، بقسوة حرارة الصيف القائض . لكن العجوز كانت تغذ السير خلفهم ، بعد أن أنجزت مهماتها ، بخض اللبن ، وكنس دوار الغنم ، حاثة خطاها بتسارع متواتر ، يطوي الأرض تحت قدميها طياً ، على امل ان تلحق بهم على عجل ، وهي تحمل معها ، جود الماء ، على كتفها الأيمن ، وشجوة اللبن على كتفها الايسر ، لسقايتهم حالما يشعرون بالعطش .