موضوع هام وشائك بل يكاد يكون أخطر موضوع يتعلق بالإنسان وحياته وعقيدته،وموضوع بهذه الأهمية لابد لتناوله من صيغ شتى تجمع بين البساطة والعُمق وتبتعد فيه عن التقليد والترديد، وهنا وبإذن الله سأحاول الابتعاد عن الصورة النمطية الشائعة عند تناول قضية الآخر في الأفكار والأديان بالعموم..إذ ألزمت العادة بعض الباحثين تناوله بصيغ متشابهة تتسق مع النص القرآني والروائي بعيداً عن التعرض لحكمة الإنسان وتصوراته للذات وللآخر، فالمطلوب-وهو الشاهد والعماد-ليس الحُكم على الآخر بل في كيفية التعاطي معه وكيفية معاملته، إذ الحُكم- كإجراء- يتطلب المعرفة الشاملة ظاهراً وباطناً حاضراً وغيابياً وهذا غير ممكن .
ننطلق من فهمنا للإسلام بأن تفسيره كطابع واحد ونظرية واحدة مستحيل ولو حدث فنتائجه قد تهدم النظرية في قلوب كل مخالف يسعى إلى الحقيقة، إذ يُمكن الفُكاك من هذا الطابع وتلك النظرية بطُرق شتى أبرزها المقارنة، خاصة وأن الصيرورة التاريخية قد تجد لها أصداء في وعي المسلمين بين الإيجاب والسلب،لذلك أميل إلى فهم الإسلام كقيم ومبادئ عليا ومفاهيم عامة مشتركة بين عموم البشر، أما ما خصّ الإسلام عن غيره كالتوحيد فلو فهمناه في إطار القيمة فسننظر إلى كل موحد بأنه مؤمن ولو لم يتعرّف على الله كلفظ، كمثال من يقول بأن الإله واحد وهو الذي أوجد العالم والأشياء، ولكنه مع ذلك لا يعرف اللفظ ولا يفهم ضرورات ولوازم التوحيد أو حتى شريعة الإسلام.
هذا الرجل لو نظرنا إليه بأنه وثني أو كافر فهو إخلال بتصور الإله الواحد في ذهنه، وأن ما أردنا حمله عليه بلزوم الشريعة وضروراتها كما نفهمها ونلتزم بها قد يخل بمفهومنا عن الدين لديه، بل ربما يعتقد بأن ربه الواحد غير رب المسلمين الواحد، وهذا مُدخل خطير للوثنية ولو بغير قصد، أعتقد أن سوء التعامل وفهم الآخرين هو الذي أنتج هذا التشابك وقلة الحيلة،فالإنسان يحيل عليه تغيير الآخرين ولكن يمكنه فقط تغيير نظرته إليهم ،وأن ينجح في التغيير ولو مع مرور الزمن وطول فترة التغيير، كذلك فالإنسان يحيل عليه تقييم الآخرين قبل تقييم ذاته، إذ قد تكون سلبيات الآخر هي مجرد ردود أفعال نتيجة لتصرفاتنا السلبية أصلاً...ومن هنا اتفق مع من قال.."أنت لا تكرهني أنت تكره الصورة التي كونتها عني، هذه الصورة ليست لي إنما هي أنت" وبغض النظر عن الاتفاق معها كاملة أو منقوصة فمضمون الكلمة صحيح.
قضية كُفر الآخر ذاتية بشرية وترديدها -بقصد التصنيف- يحرم الإنسان من ميزاته ويجعله حتى يتبرأ من حسناته، إذ لا يلزم الاعتقاد بكفر معين ترديده بحُجج شتى تجمع بين التحذير والتطهير وما إلى ذلك من أوصاف إقصائية عامة، بل المطلوب هو التعاون لنفع المجتمع والبشرية...أما قضية الكفر والتكفير فهي نسبية بين كافة البشر هذا لأن الأديان قطعية عند معتنقيها، ولا يجوز فيها الشك أو النقد، فالمؤمن كافر عند غيره وهكذا..ولكن تبقى التقاطعات النفعية والإيمانية بين الجميع مُحفّزاً على التعاون والنهوض.
حكمة الآخر في الإسلام هي نفسها حكمته في سائر الأديان، فالأديان جميعها من أصل واحد، وكل قارئ لأصول الأديان يرى تقاطعاً –ليس بغريب-يجمعها وموقفها من الآخر ومن الثواب والعقاب والنفع والضرر والتقدم والجمود وغيرها من الجدليات والفرضيات..إضافة إلى اعتقاد موحد بحياة أخرى توزن بها كفة الإنسان بميزان أفعاله وأقواله..ولسنا بصدد تبيان الفارق فعلم مقارنة الأديان يكاد يكون قد أجمع على هذه الأصول جميعها.. فالآخر هو مسوّغ للاعتدال في المواقف والآراء، وبدون الآخر يحيل على الإنسان النفع والتنمية.
الآخر في الإسلام له عظيم القدر والاهتمام، وحرية الاعتقاد في الإسلام يكفلها القرآن والسنة النبوية، وبعيداً عن الخوض التفصيلي في تلك المسألة أُحيل القارئ الكريم لكتاب.."حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية"..للشيخ حسن بن فرحان المالكي، والكتاب هام جداً لكل باحث يريد تأصيل المسألة لديه تأصيلاً شرعياً...وهناك العديد من الكُتب التي ناقشت هذه المسألة بموسوعية وعُمق، ولكن كتاب المالكي يكفي لكل مبتدئ يريد أن يفهم ألف باء إسلام.
تبقى لدينا إشكالية الأنا والآخر أو ما يسميها البعض بالأنا والغير، ومناقشتها قديمة ما بين عُزلة ديكارت الذي كان لا يرى الآخر إلا في نفسه، وانفتاح هيجل وسارتر الذين كانوا يرون شرط المعرفة الذاتية من معرفتها للآخر، فلا قيمة إذاً لوجود غير مُعترف به وبالتالي غير نافع، ومن هنا تأتي أهمية الآخر وكونه أحد أضلاع المعرفة الإنسانية وبدونه يصير الإنسان إلى عُزلة وكبت فلا يحويه مكان ولا تتولد لديه نزعات الإبداع، إذ بالآخر فقط يتولد الدافع للحياة والقدرة على التمييز، ولذلك لا أستغرب معاناة كل من رفض الآخر-رفضاً عقائدياً وفكرياً- يعاني من أمراض نفسية معقدة قد تحيله إما للعُنف بشتى صوره وإما إلى العُزلة.