كان المرحوم المحدّث القمي الشيخ عباس صاحب كتاب (مفاتيح الجنان) من خيار علماء الشيعة وزهّادهم ، وكان قد نذر حياته كلّها في سبيل خدمة الإسلام والمسلمين ، وما من بيت من بيوت الشيعة اليوم إلا وفيه أثر من آثار مؤلفات الشيخ القمي (رحمة الله عليه) عادة .
توفّي هذا الرجل العظيم في النجف الأشرف ودفن إلى جوار أمير المؤمنين (سلام الله عليه) . وبما أن عالم البرزخ عالم له أهميّة كبيرة وخطر عظيم بالنسبة إلى الإنسان الذي ينتقل من هذه الدنيا الفانية إليه ، فهو لا يستغني عن الاستئناس بما يبعث إليه ذووه من الخيرات والمبرّات . والقصة التالية ـ التي نقلت عن نجل الشيخ وهو فضيلة الشيخ ميرزا علي محدّث زاده الذي توفي مؤخّراً ـ تؤيّد ذلك ، إنه قال :
لما توفّي والدنا المرحوم الحاج الشيخ عباس القمي ، وفرغنا من دفنه ومن مراسم التعزية والفاتحة إلى روحه فكّرنا في عمل الخيرات له ، وحيث كان والدنا يعيش حياة زهيدة ، لم يترك من بعده من أموال الدنيا قليلاً ولا كثيراً ـ وهكذا يكون دأب الصلحاء والعلماء والربانيّين ـ لذلك اتّفقتُ أنا وأخي على أن نسبل الماء ونسقي به زوّار الإمام أمير المؤمنين (ع) في ليالي الجمعة ، وذلك بأن نملأ كوزاً لنا في صباح يوم الخميس بالماء ونجعله في مكان بارد حتى يبرد الماء ، وفي المساء نأتي به بارداً ونسقيه الزائرين العطاشا بثواب والدنا (رحمه الله) .
وقررنا تقسيم هذا العمل بيننا, بأن أعمله مرّة أنا في ليلة الجمعة الأولى مثلاً ويعمله هو في ليلة الجمعة الثانية وهكذا ، وفي ليلة من ليالي الجمعة التي كانت القسمة فيها لأخي ، وكان عليه أن يسقي الزائرين حسب القرار ، رأيتُ في المنام والدنا المرحوم وهو يتلظّى عطشاً ، وكان من شدّة عطشه يستغيث ويقول : العطش العطش ، فتذكّرتُ وأنا في النوم أن والدنا في عالم البرزخ وأنا نسقي زوّار الإمام أمير المؤمنين (ع) ماءً بثوابه ، ولذلك قلت له : يا والدي ، ألم يصلك الماء الذي نسبله على الزائرين بثوابك ؟
قال : نعم ، ولكن هذه الليلة لا .
استيقظتُ من النوم على أثر فزعي من مشهد والدي وشدّة عطشه وأسرعتُ إلى مأوى أخي فأيقظته من نومه وقصصتُ عليه رؤياي التي رأيتها عن والدنا وسألته عن قيامه بما تقرّر بيننا من تسبيل الماء .
فأجاب متعجّباً وهو يقول : الله أكبر، نعم لقد صدق والدنا حيث قال , ولكن هذه الليلة لا , فإني نسيتُ تسبيل الماء في هذه الليلة ، ثم قام وأسرع إلى الكوز وأخذه واتجّه به إلى صحن الإمام أمير المؤمنين (ع) وأخذ يسقي زوّار الإمام (ع) من مائه حتى نفذ الماء .
قلنا
نعم، إنّ هذه القصّة وما شابهها دليل على شدّة ما يحتاجه الإنسان من الخيرات والمبرّات في عالم البرزخ مهما كان ذلك الإنسان صالحاً ، كما وتدلّ أيضاً على لزوم عمل الخيرات والمبرّات المادية أيضاً مضافاً إلى عمل الخيرات والمبّرات المعنوية ، يعني أن الإنسان هناك محتاج إلى من يبعث له ثواب قراءة القرآن والزيارة والبكاء على الإمام الحسين (ع) وثواب إقامة المجالس والشعائر الحسينية ، وإطعام الجائعين ، وسقي الظامئين ، وتكفّل اليتامى والمساكين ، وسدّ عوز المعوزين ، وسدّ الفراغ الفكري وخاصّة لدى الشباب المسلم بنشر الكتب الثقافية والأخلاقية التي رويت عن الرسول (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) الذين جعلهم الله تعالى أسوة لنا وقدوة في سيرتهم وأخلاقهم وتعاملهم مع الحياة ، فقهـاً وسياسة واجتماعاً واقتصاداً وما إلى ذلك وإهداء ثوابه إلى أمواتنا ، فإنهم بأمسّ الحاجة إليها .
حتى إنه نقل عن ملك مات (في الأثر) ، فرآه ذووه في المنام وهو يلتمسهم ويستجديهم فعل الخيرات والمبرّات ويقول لهم : أرأيتم كلبكم الذي يحرس لكم بيتكم كم هو بحاجة إلى ما تقدّمون له من عظام ؟ فإني أشدّ احتياجاً منه إلى ما تبعثونه إليّ ، وذلك لأن الكلب إذا حُرم منكم، استطاع أن يسدّ حاجته من غيركم ، ولكني لو حرمتُ من خيراتكم ومبرّاتكم لي ، فإني لا أستطيع تحصيلها من غيركم . إذن فما أحوجني إليكم وإلى ما تبعثون إليّ من صدقاتكم وخيراتكم ومبرّاتكم ؟