لم يكن التاسع من يناير من العام الماضي هو التاريخَ الأوَّل للبداية العمليَّة لتَفتيت أكبر الدول العربيَّة والإسلامية في القارَّة الإفريقية، والتي تُعدُّ الامتداد الإسراتيجي لمصر (قلْب العالَمَين العربي والإسلامي)؛ فالمُخطَّطات مُعدَّة منذ سنوات طويلة، وعلى مَرأى ومسمِع من الجميع، وإنِ اختلفتْ مُسمَّياتها ما بين (الشرق الأوسط الكبير، أو الجديد، أو إعادة هيكلة المنطقة ... إلخ)، كلُّ هذا مُعدٌّ سَلفًا، ونحن كعرب ومسلمين لم يَشغلْنا هذا، وكأنَّ الأمر في كوكب آخر، ونعقِد المعاهدات، ونَتبادَل الزيارات، ونُعطي المعلومات سواء بقصد أو بغير قصْد، ونتركُ أجهزة المخابَرات للدول التي نعلم جميعًا ماذا تكِنُّ لنا، تعمَل لسنوات طويلة، وتستبيح عناصرها كلَّ شبر من أراضينا، ونَتباكَى اليومَ على اللبن المسكوب.
لقد نَجح الصهاينة في تأجيج الصراع في أطراف السودان المختلفة منذ سنوات، وأَوقَدوا نار الطائفية والعرقيَّة والعداوات القديمة، وتَمَّ تغذيةُ تلك الصراعاتِ بمعلومات دقيقة، لا يُمكن لغير أجهزة المخابرات أنْ تصل إليها؛ فقد استمرَّت الحرب بين شمال وجنوب السودان أكثر من نصف قرن، وعندما تواءمتِ الظروف في العام 2005، وبعد أنْ أصبح السودان مُحاصرًا من كل اتِّجاه، والأمريكان وقواعدهم على مَرمى البصر، هنا، وفي هذا التوقيت، وبالتحديد في (نيفاشا)، تَّم وضْع خطوات التنفيذ الفعلي للانفصال، ووضْع سيناريوهات ما بعد الانفصال، وسجِّلت تواريخ وإجراءات ورقيَّة، كعملية الاستفتاء التي تَمت في التاسع من يناير 2011 لتقرير مصير الجنوب، وكنَّا نعلم النتيجة مُسبَقًا، وقد ذكَرتُ في مقالات سبَقتْ هذا التاريخَ: "إنَّ الانفصال قد تَمَّ إقرارُه منذ سنوات، وهذا مُخطَّط أكبر من الشمال والجنوب" ، وقلنا وقتها: إنَّ إسرائيل هي التي تُدير الجنوب السوداني من وراء الستار قبل الانفصال؛ نظرًا لأنَّ الجنوب قبل الانفصال كان جزءًا من السودان، وذكرنا أيضًا أنَّ عمليَّة انفصال الجنوب لم ولن تكون إلا الخُطوة الأولى للتوغُّل في باقي السودان، وإدارة المعركة من مكان قريب ضدَّ الشمال؛ للوصول إلى الخريطة النهائيَّة المطلوبِ تنفيذُها، وهذا ما حدَث بالفعل، وكانت أولى زيارات سلفاكير للخارج بعد إعلان نتيجة الاستفتاء على الانفصال للكِيان الصهيوني، وقالها صريحة: "إنَّ هناك علاقات إستراتيجية بين دولة الجنوب والكِيان الصِهيوني" ، فمتى بدأت تلك العلاقات؟
لقد كان الاتفاق الموقَّع في (نيفاشا) واضِحًا، وكلُّ ما يريده في البداية هو كتابة عقد الانفصال أمام العالم أجمع، واعتراف أصحاب المصالح والمنظَّمات الدوليَّة التي يسيطرون عليها بتلك الدولة، وفي نفس الوقت لا يتم حسْم أهم القضايا التي يتَطلَّبها الاعتراف بالدول في الأمم المتحدة، وهي الحدود واضِحة المَعالِم؛ فتُركت مسألة الحدود وأهم المناطق النفطيَّة المُشترَكة، وهي منطقة (أبيي)، ولم يُحسم أمر العديد من المناطق الأخرى، وكذا توزيع الثروات والعلاقة بين جنوب السودان وشماله، وسارت الأمور وكأنَّها طبيعيَّة، أو حاولوا إيهام الناس بذلك.
لم تَمرَّ سوى شهور قلائل على استفتاء الانفصال، والذي جاء بنسبة تكاد تكون 100% لصالح الانفصال كما قالوا، إلا وبدأ الصهاينة يُحرِّكون المرحلة الثانية من المُخطَّط؛ حتى لا تكون هناك فرصة لأنْ يَلتقِط الشمال أنفاسَه، وتم العبث وإشعال نار الفتن بين قبائل منطقة (أبيي) النفطية، وبدأ الصراع في الخَفاء، ويَتمُّ تسريب أخبار أنَّ هناك صراعًا قَبليًّا، وتَوغَّلت المخابرات الصهيونية والأمريكية، ولعبت الدورَ المطلوب منها على أكمل وجه، وقامت بعمليَّات ضدَّ الشماليِّين وعمليات ضدَّ الجنوبيين، وأخذت الخرطوم تنفي ما يُنسب إليها، وكذلك جوبا، وتكرَّرت تلك العمليات الاستفزازية؛ فدَخل الجيش السوداني (أبيي)، وهنا صرَخ الجنوبيون للعالَم عن اختراق شمالي، واستمر هذا الأمر حتى تمَّ الإعلان عن الحرب رسميًّا بعد تصديق البرلمان في الخرطوم على قرارٍ يَنصُّ على أنَّ جنوب السودان دولة عدوٍّ، وهذا ما يُريده الصهاينة والأمريكان.