لمعرفة السرّ في ذلك ينبغي لنا أن نتحدَّث بالتفصيل حول واقع الانتظار بذكر مقدَّمة مختصرة فنقول :
ان التقييم في القاموس الإلهي ، يختلف تماماً عن التقييم في القاموس المادِّي ، و من الخطأ جداً محاولة ، تقييم القضايا المعنوية الراقية و المفاهيم الروحانية السامية بالمعايير الماديَّة ، حيث أن هناك بونٌ بعيد بينهما ، بل هما في طرفي النقيض ، و قد وصل التضادّ بينهما إلى مستوى بحيث لايمكن أن ينقطع الإنسان إلى المعنويات إلا بالابتعاد الكامل عن المادِّيات ، و أعنى بالابتعاد عنها هو عدم التوجُّه إليها ، و عدم انشغال الذهن بها.
هذا و مفهوم الانتظار ، أعني انتظار فرجِ الله ، هو في الواقع يندرج تحت اسم من أسماء الله تعالى أعنى " الكاشف " كما في الدعاء : ( يا صريخ المكروبين و يا مجيب المضطرين و يا كاشف الكرب العظيم ) ، (بحار الأنوار ، ج 86 ، ص 323 ، رواية 69 ، باب 45).
( يا كاشف الغم ) ، ( بحار الأنوار ، ج 36 ، ص 205 ، رواية 8 ، باب 40 ؛ ( يا كاشف الكرب العظام ) ، ( بحار الأنوار ، ج 86 ، ص 235 ، رواية 59 ، باب 44).
و على ضوئه صار مفهوم الانتظار مفهوما معنويا إلهياً ، حيثُ أنَّه لا يمكن لشيءٍ أن يكتسب جانباً معنوياً ، و يشتمل على بعدٍ مُقدَّس إلاّ بارتباطه بالله سبحانه ، و بمقدار ظهور اسم الله فيه ، فلنترك إذاً الساحةَ المادية ، و لنبحث عن الأفضلية في الساحة الإلهية المعنوية.
فنقول : القرب إلى الله ميزان الأفضلية ، ثم لايخفى على كلِّ من آمن بالله سبحانه ، أنه ليس في القاموس الإلهي إلاّ ميزان واحد ، يقاس به الأفضلية ، و هو الميزان الحقيقي ( و هو الحق ) ، و غيره ليست بموازين ، بل يُترائى أنها موازين ، فلاحقيقة لها ، و لاثِقل فيها قال تعالي : ( و الوزنُ يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه ، فأولئك هم المفلحون ) ، ( سورة الأعراف 8 ) ، (و من خفت موازينه ، فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، بما كانوا بآياتنا يظلمون ) ، ( سورة الأعراف 9) ، ( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) ، (سورة يونس 23).
و هذا الميزان هو "التقرب إلى الله سبحانه و تعالى " ، فيجب أن نبحثَ عن مستوى التقرُّب إليه تعالى في الانتظار ، و على ضوءه نقيِّم مستوى قدسيِّة الانتظار ، حتَّى نعرف السرَّ في أفضليَّته على سائر الأعمال ، بل حتَّى العبادات بحيث صار المنتظر كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله.
- الرجـاء بالله
إنَّ من أهم نتائج انتظار الفرج تنميةَ روحيةِ الرجاء بالله في الإنسان المؤمن ، حيث يُشاهد أمامَه مجالاً وسيعاً من الفضل و الكرم و الخير الإلهي ، الذي سوف تظهر مصداقيَّتُها في تلك الدولة العظيمة المباركة ، و هي دولة المهدي المنتظر صلوات الله و سلامه عليه ، تلك الدولة الكريمة ، التِّي يعزُّ الله بها الإسلام ، و أهلَه ، و يذلُّ بها النفاق و أهلَه ، و من الطبيعي لمن يمتلك هذه الرؤية ، أن يحتقر العالم الذي يعيشه بما فيه من المُغريات الخلاّبة الدنيوية و التسويلات الشيطانية ، و هذا الأمر ( أعني تحقير المظاهر الدنيويَّة ) ، هو أوَّل خطوة يخطوها السالك إلى الله ، و هي ( التخلية ) ، التِّي تستتبعها (التحلية) ، و مثل هذا الإنسان المؤمن قد وصل بالفعل إلى مُستوى من العرفان و العبودية ، بحيث يكون لسان مقالِه حالِه و عملِه هو ( صلِّ على محمدٍ و آل محمد ، و أثبتْ رجائك في قلبي ، و اقطعْ رجائي عمَّن سواك حتى لاأرجو إلا إيّاك ..) ، ( بحار الأنوار، ج 86 ، ص 216 ، رواية 30 ، باب 44).
ثمَّ يترقَّى في العبوديَّة فيقول : ( بسم الله الذي لاأرجو إلاّ فَضله ) ، ( بحار الأنوار ، ج 90 ، ص 164 ، رواية 15 ، باب 9) ، ( يا من أرجوه لكل خير ) ، (بحار الأنوار، ج 47 ، ص 36 ، رواية 35 ، باب 4).
هذه الروحية ، إن تركَّزت في الإنسان المؤمن فسوف تُعمِّق جذورَها ، فتقمع جميعَ الأشواك و الموانع الصادَّة ، لتنشرَ فروعَها الطيِّبة و ثمارَها الجنيَّة في السماء ، حتَّى تؤتى أكلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها . فكيف لايكون الانتظار أفضلَ الأعمال بل أفضل العبادات ؟! ، و هو الذي يُخيِّم على جميع الأعمال ، و يُلقى الضوء عليها.
أفضل الجهاد
ما هو الأمر المتوقع من المجاهد في سبيل الله حين الجهاد ؟ ، و ما قيمة المجاهد لولا النيّةُ الصادقة ، التي تنصبُّ في سبيل الله؟
هذا الأمر بنفسه بل أعلى مستوى منه متوفِّر في المنتظر الحقيقي ، الذي يتمنَّى في كلِّ صباحٍ و مساءٍ ، أن يعيش في ظلِّ ذلك المعشوق روحي لتراب مقدمه الفداء و لسان حاله ( ..فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرداً قناتي ملبياً دعوةَ الداعي في الحاضرِ و البادي .. ) ، و هو بقربه إلى الله ، و شهوده مقام ربِّه صار كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله شهيداً في سبيل الله ، و ليس للشهيد خصوصيةٌ كمصداق بل الخصوصية و القيمة لمفهوم الشهادة ، التي تعني الوصول إلى الله و شهود وجه المحبوب ، و المنتظِر يؤدِّي نفس الدور ، حيث يشاهد وجهَ ربه و هو في نفس الوقت ، يعايش الناس ، و هذه الحالة هي التي تحقِّق فيه الصفاتِ الحسنة ، التي ذكرت في الأحاديث الشريفة على ما سيأتي عند بيان أخلاق المُنتظِر. و الحديث التالي قد بيَّن السر الذي رفع مستوى الانتظار إلى هذه الدرجة:
( عن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي عن على بن الحسين عليه السلام ، قال تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلَّم ، و الأئمة بعده يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره افضل أهل كل زمان ، لان الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول و الإفهام و المعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزله المشاهدة ، و جعلهم في ذلك الزمان بمنزله المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلَّم بالسيف أولئك المخلصون حقا ، و شيعتنا صدقا ، و الدعاة إلى دين الله سرا و جهرا ، و قال : انتظار الفرج من اعظم الفرج) ، (بحار الأنوار ، ج 52 ، ص 122 ، رواية 4 ، باب 22).
و ماذا بعد الفرج ؟ ، إلا كشف الكربة عن وجه المؤمن برؤية الواقع و الأمر ، حينما تتحقق تلك الدولة العظيمة ، التي تملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما مُلِئت ظلماً و جَوراً؟
فالانتظار إذاً له نتيجتان :
1-إنَّه بالفعل يُحقِّق ( كشف الكربة ) ، بنحو مجمل.
2-إنَّه عاملٌ جذري أساسي للفرج بظهوره سلام الله عليه ، حيث يسود الحكمُ الإلهي الأرضَ كلّها.
و وِزانُ الانتظار وزانُ النية ، التي هي خير من العمل حيث جاء في الحديث " نية المؤمن خير من عمله" ، لأن هذه النية من ناحية هي التِّي ترفع مستوى الإنسان ، و من ناحية أخرى تلازم العمل بل توجده ( قل كلٌ يعملُ على شاكلته) ، (سورة الإسراء 84).
و ليعلمْ أنَّ تعجيل الفرج يتناسب مع الانتظار شدَّةً و ضعفاً . و من هذا المنطلق نشاهد أن الآية الكريمة تصرح بقولها : (
.. و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) ، (سورة البقرة 214). فقربُ نصر الله متناسبٌ مع طلب النصر ( متى نصر الله ) ، و هذا الطلب الأكيد لا يحصل إلاّ بعد اليأس (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) ، (سورة يوسف 110).