|
عضو نشط
|
رقم العضوية : 63187
|
الإنتساب : Nov 2010
|
المشاركات : 244
|
بمعدل : 0.05 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الثقافي
العلامه الحلي
بتاريخ : 15-12-2010 الساعة : 06:00 AM
العلاّمة الحليّ
من هو العلاّمة الحِليّ ؟
جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين عليّ بن مُطهَّر الحلّيّ. عُرف بـ « العلاّمة »، ولم يُطلَق هذا اللقب على أحد قبله. أمّا « الحِلّيّ »، فنسبةً إلى ( الحلّة السيفيّة ) في العراق (1).
منشأه
أرّخ مولدَه والده الشيخ سديد الدين يوسف بليلة الجمعة في الثلث الأخير من ليلة 27 شهر رمضان سنة 648 هجريّة (2). فنشأ في بيئة طيّبة عُرفت بالعَراقة في العلم وسموّ المراتب، وترعرع في أجواء المعرفة والفضيلة. فقرأ على خاله المحقق الحليّ، ومِن قبله على والده، وعلى السيّد جمال الدين أحمد بن طاووس وأخيه السيّد عليّ بن طاووس، وعلى جماعة كثيرة من العامّة والخاصّة، ففرغ من تصنيفاته الحِكَمية والكلاميّة وأخذ في تحرير الفقه قبل أن تكتمل له ستّ وعشرون سنة (3). وبذلك أصبح متقدّماً على أقرانه، معروفاً بالنبوغ الذهنيّ، ثمّ انتقلت إليه الرئاسة الدينيّة والريادة في التدريس والفُتيا بعد وفاة خاله المحقّق، فعمل على تطوير المناهج العلميّة في الفقه والأصول.
أمّا في أخلاقه وتقواه.. فقد قال السيّد محمّد مهدي بحر العلوم: إنّه مع ذلك ( أي مع علمه الوافر ) كان شديدَ التورّع، كثير التواضع، خصوصاً مع الذريّة الطاهرة النبويّة (4). ووصفه الباحث الرجاليّ الميرزا عبدالله الأفندي الإصفهانيّ بقوله: وكان من أزهد الناس وأتقاهم.
مكانته العلميّة
يقتضينا الإنصاف هنا أن نرجع إلى أهل الاختصاص وأصحاب الخبرة.. ممّن تتلمذ على هذا العالم، أو عاصره، أو اطّلع على شؤونه وتفحّص مؤلّفاته. وقد رأينا المكانة العلميّة للعلاّمة الحليّ واضحة في خمسة أوجه، نعرضها على هذا النحو:
أوّلاً: أقوال العلماء فيه ـ فقد استأثر باهتمامهم، ووصفوه بأوصاف عالية سامية، منهم على سبيل المثال:
أ. الحُرّ العامليّ.. قال عنه: فاضل، عالم، محقّق مدقّق، ثقةٌ ثقة، فقيه محدّث متكلّم، ماهر جليل القدر عظيم الشأن رفيع المنزلة (5).
ب. ابن داود.. وهو معاصر له، قال: صاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف، انتهت إليه رئاسة الإماميّة في المعقول والمنقول (6).
ج. الشهيد الأوّل.. عبّر عنه بأنّه: أفضل المجتهدين (7).
د. ابن أبي جُمهور الأحسائي.. وصفه بقوله: رئيس جميع علمائنا، الفارق بفتاواه بين الحلال والحرام، والمسلَّم له الرئاسة في جميع فِرق الإسلام (8).
هـ. الشهيد الثاني.. مدحه فقال: لسان الحكماء والفقهاء والمتكلّمين (9).
و. الشيخ البهائيّ.. أطراه قائلاً: الشيخ العلاّمة... كان حامي بَيضة الدِّين، وماحي آثار المفسدين، مُتمّم القوانين العقليّة، وحاوي الفنون النقليّة، مجدّد آثار الشريعة المصطفويّة، محدّد جهات الطريقة المرتضويّة (10).
ز. الشيخ أسد الله التُّستَريّ الكاظميّ.. أُعجب به فقال: هو بين علمائنا الأصفياء كالبدر بين النجوم، وعلى المعاندين الأشقياء أشدّ من عذاب السَّموم، وأحدُّ من الصارم المسموم. صاحب المقالات الفاخرة، والكرامات الباهرة، والعبارات الزاهرة. لسان الفقهاء والمتكلّمين والمحدّثين والمفسّرين، ترجمان الحكماء والعارفين والسالكين والمتبحّرين الناطقين (11).
ح. المولى نظام الدين القرشيّ.. قال في ( نظام الأقوال ): علاّمة وقته، صاحب التحقيق والتدقيق، وكلُّ مَن تأخّر عنه استفاد منه (12).
ط. الميرزا عبدالله الأفندي الإصفهانيّ.. ترجم له فكتب: كان جامعاً لأنواع العلوم، مصنِّفاً في أقسامها، حكيماً متكلماً فقيهاً محدِّثاً، أُصوليّاً، أديباً شاعراً ماهراً.. وكان وافر التصنيف، متكاثر التآليف (13).
ي. الشيخ عبّاس القمّي.. ذكَرَه بخير، وأورد نصوص العلماء في مدحه، وأثنى عليه في كتابَيه: سفينة البحار، والكُنى والألقاب.
وللعلاّمة الحلّيّ ذِكر جميل في غير واحد من كتب التراجم القديمة والحديثة مثل: منتهى المقال، ورجال الاستراباديّ، وجامع الرواة للأردبيليّ، والمستدرك للميرزا النوريّ، ونقد الرجال للتفريشيّ، وتأسيس الشيعة لفنون الإسلام للسيّد حسن الصدر، وتنقيح المقال للمامقانيّ، وأعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين، وروضات الجنّات للخوانساريّ.. وغيرها.
ثانياً: لم يتّفق لأحدٍ من العلماء قبل الشيخ جمال الدين الحسن الحلّيّ أن لُقّب بالعلاّمة، فهو أوّل من أحرز هذا اللقب، وقد انتزعه من إعجاب العلماء بمعارفه.. حيث تألّق ذكره في الآفاق، وسطع نجمه في سماء العلم، وسمت مكانته بين العلماء.
من هنا يكون لقبه ذاك بمثابة وسام علميّ يشير ـ بوضوح ـ إلى منزلته العلميّة الرفيعة. وممّا يُذكر أنّه قد نال هذا اللقب الفاخر بعد مناظرة مشهورة له في مجلس السلطان الجايتو خُدابَنْدَه، إذ كشفت تلك المناظرة عن ذهن وقّاد وعلم زاخر وفهم وافر، ودقّة مدهشة واستحضار غريب. وعلى أثر ذلك مُنح هذا اللقب ارتجالاً، ثمّ ما لبث أن لازمه واختصّ به.
ثالثاً: ممّا امتاز به العلاّمة الحلّيّ أنه درس عند بعض علماء المذاهب الأُخرى.. خالطهم وحاجَجَهُم احتجاجاً علميّاً هادئاً، فاطّلع على ما عندهم، من جهة، ومن جهة أُخرى عرّفهم بما عنده. فاستمرّ في مناظراته معهم على إدراك وتثبّت ودقّة وبصيرة، حتّى فرَضَت مكانته العلميّة نفسَها على مُخالفيه، فلم يتعدَّوه إلاّ بعد الثناء عليه والإقرار بفضله وفضيلته. كان منهم:
أ. ابن حَحَر العَسقلانيّ.. حيث ترجم له فقال فيما قاله فيه: لازمَ نصيرَ الدين الطوسيّ مدّة، واشتغل في العلوم العقليّة، وصنّف في الأصول والحكمة. كان رأسَ الشيعة بالحلّة، وقد اشتهرت تصانيفه، وتحرّج به جماعة. وشرحُه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحُسن في حَلّ ألفاظه وتقريب معانيه، وصنّف في فقه الإماميّة (14).
وفي موضع آخر قال ابن حجر يعرّف بالعلاّمة الحليّ: عالِم الشيعة وإمامُهم ومصنّفهم، وكان آيةً في الذكاء. شرَحَ مختصر ابن الحاجب شرحاً جيّداً سهل المأخذ غايةً في الإيضاح. اشتهرت تصانيفه في حياته.. وكان ابن المطهَّر مشتهر الذِّكر حَسَن الأخلاق (15).
ب. أبو المحاسن يوسف بن تَغري بَرَدي الأتابُكيّ.. عرّفه بأنّه: شيخ الرافضة، ثمّ قال: كان عالماً بالمعقولات، وكان رَضيَّ الخلُق حليماً، وله وجاهة عند خُدابَنده ملك التتار، له عدّة مصنّفات (16).
ج. خير الدين الزِّرَكْليّ.. قال: يُعرَف بـ « العلاّمة »، مِن أئمّة الشيعة وأحد كبار العلماء، ثمّ عدّد كتبه (17).
وذكر العلاّمةَ الحليّ جمعٌ كبير من علماء العامّة، كما في فهرس دار الكتب 567:1، والفهرس التمهيديّ ص 170 و 268 و 331، و ابن الورديّ 279:2، والمنهل الصافي.. وغيرها.
وقد قال المرحوم السيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ: رأيت بخطّ بعض العلماء الشوافع في مجموعة، وقد أطرَوا في الثناء على العلاّمة الحليّ، وأنّه فاق علماء الإسلام في عصره في بابَي: القضاء، والفرائض. لم يُرَ له مثيل، ونُقلت عنه مسائلُ عويصة ومعاضل مشكلة في هذين البابَين.
وهكذا فاق علماء زمانه، وكان قويّ الاحتجاج قاطع البرهان في دحض المبطلين، فأُثيرت بسبب ذلك حفيظة الحاسدين والمتعصّبين.. فجابهوه بالتُّهم والسِّباب، ومنهم ابن تيميّة الذي قال ابن حجر في موقفه: إلاّ أنّ ( ابن تيميّة ) تحامَلَ عليه في مواضع عديدة (18). حتّى كان يُكنّيه بـ « ابن المنجَّس » عِوضاً عن كُنيته « ابن المُطهَّر ».. وهذا النبز بالألقاب ـ كما نرى ـ ليس من أخلاق العلماء.
رابعاً: مؤلّفاته، وهي وجه آخر من وجوه منزلته العلميّة، ودليل واضح على مكانته السامقة وآفاقه الرحبة وبراعته النادرة. وكانت محطّ اهتمام العلماء من عصره إلى يومنا هذا: تدريساً وشرحاً وتعليقاً، واستفادة في موارد كثيرة.
فألّف ـ من المطوَّلات ـ ثلاثة كتب لا يُشبه واحدٌ منها الآخر:
1 ـ المختلف، ذكر فيه أقوال علماء الشيعة وحججهم.
2 ـ التذكرة، ذكر فيه خلاف علماء العامّة وأقوالهم.
3 ـ منتهى المطلب، ذكر فيه آراء جميع مذاهب المسلمين في الفقه، وهو يُعدّ من كتب الفقه المقارن.
ومن المتوسِّطات من تآليفه كتابان هما:
1. القواعد، كان ولا يزال شغل العلماء في تدريسه وشرحه.
2. التحرير، جمع فيه أربعين ألف مسألة.
ومن المختصرات ألّف ثلاثة كتب هي:
1 ـ إرشاد الأذهان، وقد تداولته الشروح والحواشي.
2 ـ إيضاح الأحكام، وهو مختصر.
3 ـ التبصرة، لتعليم المبتدئين.
وفي أُصول الفقه ألّف العلاّمة الحليّ مطوّلات ومتوسّطات ومختصرات، كانت محلَّ اعتناء العلماء.. ففي المطوّلات له كتاب ( النهاية )، والمتوسّطات ( تهذيب الأحكام ) و ( شرح مختصر ابن الحاجب )، والمختصرات ( مبادئ الوصول إلى علم الأصول ).
وبرع في الحكمة العقليّة، حتّى باحَثَ الحكماء السابقين في مؤلّفاتهم وأشكَلَ عليهم، وحاكَمَ بين شُرّاح (الإشارات ) لابن سينا، وناقش نصير الدين الطوسيّ، وباحث ابن سينا وخطّأه. وألّف في أصول الدين وفنّ المناظرة وعلم الكلام والمنطق، والطبيعيّات والإلهيّات والحكمة العقليّة. كما ألّف في الردّ على المنحرفين، وله في الاحتجاج مؤلّفات كثيرة. وتقدّم في علم الرجال وألّف فيه المطوّلات والمختصرات، إلاّ أنّ بعض مؤلّفاته فيه قد فُقد ولم يُعثر إلاّ على الخلاصة. وتميّز في علم الحديث وتفنّن في التأليف فيه وفي شرح الأحاديث، إلاّ أنّ ما ألّفه في ذلك فُقد. ومَهَر في علم التفسير وألّف فيه وفي الأدعية المأثورة وعلم الأخلاق (19).
واختُلف في عدد مؤلّفاته، وقد أُحصي له مئة وعشرون كتاباً، وذكر الطريحيّ في مادّة ( علم ) من كتابه ( مجمع البحرين ) أنّه رأى 500 مجلّد بخطّه، فيما يذكر أقا بزرگ الطهرانيّ في ( طبقات أعلام الشيعة ) في الجزء الموسوم بـ « الحقائق الراهنة في المئة الثامنة » عن بعض شرّاح التجريد أنّه بلغ أسماء تصانيف العلاّمة الحليّ نحواً من ألف عنوان. وربّما يُقصد من ذلك الفصول والأبواب.
وعلى سبيل المثال نذكر بعض العناوين لمؤلّفاته ممّا لم نُشِرْ إليه:
1 ـ آداب البحث.
2 ـ الأبحاث المفيدة في تحصيل العقيدة.
3 ـ إثبات الرجعة.
4 ـ الأدعية الفاخرة المنقولة عن الأئمّة الطاهرة.
5 ـ استقصاء الاعتبار في معرفة معاني الأخبار.
6 ـ الأسرار الخفيّة في العلوم العقليّة.
7 ـ الألفين في إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.
8 ـ إيضاح التلبيس من كلام الرئيس.
9 ـ الباب الحادي عشر.
10 ـ تسبيل الأذهان إلى أحكام الإيمان.
11 ـ تلخيص المرام في معرفة الأحكام.
12 ـ تنقيح قواعد الدين المأخوذة عن آل ياسين.
13 ـ تهذيب النفس.
14 ـ الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد.
15 ـ لبّ الحكمة.
16 ـ خلاصة الأخبار.
17 ـ خلاصة الأقوال في معرفة أحوال الرجال.
18 ـ كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام.
19 ـ المعتمَد.
20 ـ مرثية الحسين عليه السّلام.
21 ـ المقاومات، قال عنه: باحَثْنا فيه الحكماء السابقين، ويتمّ مع تمام عمرنا.
22 ـ منهاج الكرامة.
23 ـ نهج الحق.
24 ـ منهاج اليقين في أصول الدين.
25 ـ نهج الإيمان في تفسير القرآن.
26 ـ الهادي.
27 ـ نهاية الفقهاء.. إلى غير ذلك من عشرات التصانيف والشروح والأجوبة والرسائل والإجازات، هدى بها أجيالاً إلى طريق المعرفة.
خامساً: مناظراته، ولابدّ مِن مِثل العلاّمة الحليّ أن يُناظِر ويناظَر، ويُناقِشَ ويُناقَش. ولابدّ إلى مِثله تُوجّه الأسئلة، ومن مثلِه تُنتظر الأجوبة.. ومن هنا نُقل أنّ للعلاّمة الحليّ جَرَت احتجاجات كثيرة، بعضها رُويت وبعضها كتبها هو بنفسه.
وله ردود وأجوبة، ومناظرات تحريريّة وشفهيّة.
وكان من رائعات مناظراته ما ذكره الشيخ محمّد تقيّ المجلسيّ في شرح من لا يَحضُره الفقيه ( روضة المتّقين ) في قصّةٍ خلاصتها أنّ السلطان الجايتو المغولي غضب على إحدى زوجاته فطلّقها ثلاثاً، ثمّ ندم فسأل العلماء فقالوا: لابدّ من المُحلِّل، فقال: لكم في كلّ مسألة أقوال، فهل يوجد هنا اختلاف ؟ قالوا: لا، فقال أحد وزرائه: في الحلّة عالِم يُفتي ببطلان هذا الطلاق. فاعترض علماء العامّة، إلاّ أنّ الملك قال: أمهِلوا حتّى يَحضُر ونرى كلامه. فأحضره، فكان من العلاّمة الحلّي أن دخل وقد أخذ نعلَيه بيده وجلس، فسئل عن ذلك فقال: خِفتُ أن يسرقه بعض أهل المذاهب كما سرقوا نعلَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقالوا معترضين: إنّ أهل المذاهب لم يكونوا في عهد رسول الله، بل وُلدوا بعد المئة من وفاته فما فوق. فقال العلاّمة الحليّ للملك: قد سمعتَ اعترافهم هذا، فمِن أين حَصَروا الاجتهاد فيهم ولم يجوّزوا الأخذ من غيرهم ولو فُرض أنّه أعلم ؟! سأل الملك: ألم يكن واحدٌ من أصحاب المذاهب في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله ولا في زمن الصحابة ؟ قالوا: لا، فقال العلاّمة: ونحن نأخذ مذهبنا عن عليّ بن أبي طالب وهو نَفْس رسول الله صلّى الله عليه وآله وأخوه وابن عمّه ووصيّه، ونأخذ عن أولاده من بعده.
فسأله الملك عن الطلاق بالثلاث، فأجابه العلاّمة: باطل، لعدم وجود الشهود العُدول. وجرى البحث بينه وبين العلماء حتّى ألزمهم الحجّة جميعاً، فتشيّع الملك ألجايتو وخطب بأسماء الأئمّة الاثنَي عشر في جميع بلاده، وأمر فضُربت السكّة بأسمائهم عليهم السّلام، وأمر بكتابتها على جدران المساجد والمشاهد.
وفي رواية أخرى.. أنّ الملك أحضر علماء الشيعة، فأهدى العلاّمة الحليّ له كتاب (نهج الحقّ وكشف الصدق) و ( منهاج الكرامة )، فأمر قاضي قضاته نظامَ الدين أن يناظر العلاّمة الحليّ، وهيّأ لذلك مجلساً عظيماً مشحوناً بالعلماء، فأثبت العلاّمة بالبراهين القاطعة والدلائل الساطعة خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، بحيث لم يبقَ للقاضي مجال للمدافعة والإنكار، بل شرع في مدح العلاّمة مستحسناً أدلّته قائلاً: قوّة هذه الأدلّة في غاية الظهور، أمّا حيث إنّ السلف سلكوا طريقاً فاللازم على الخلف أن يسلكوا سبيلهم؛ لإلجام العوامّ ودفع تفرقة الإسلام، أسبلوا السكوت عن زلل أولئك، ومن المناسب عدمُ هتك ذلك الستر.
فدخل السلطان وأكثر أُمرائه الحاضرين في المجلس ذلك في مذهب الإماميّة، ثمّ أمر في تمام ممالكه بتغيير الخطبة وإسقاط أسامي غير الأئمّة عليهم السّلام وبذكر اسم أمير المؤمنين وسائر الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين على المنابر، وبإعادة « حيَّ على خير العمل » إلى الأذان.
فلمّا انقضى مجلس المناظرة خطب العلاّمة الحليّ خطبة بليغة شافية، حمِدَ الله تعالى فيها وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ وآله صلوات الله عليه وعليهم. فقام ركن الدين الموصليّ ـ وكان ينتظر عثرة من العلاّمة ـ فقال: ما الدليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء ؟ فقرأ العلاّمة قوله تعالى: الذين إذا أصابَتْهُم مُصيبةٌ قالوا: إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون * أُولئكَ علَيهم صَلَواتٌ مِن ربِّهم ورحمة، وأولئك هُمُ المهتدون (20).
وجعل السلطان الجايتو ( خدابنده ) بعد ذلك السيّد تاجَ الدين محمّد الآوريّ الإماميّ نقيب الممالك (21).
قال الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ:
وفي عصر العلاّمة الحلّيّ استبصر السلطان ( خدابنده ) وتشيّع، وضرب النقود باسم الأئمّة عام 708 هجريّة.. وأُعطيت بعض الحريّات الدينيّة التي كان العبّاسيّون يمنعونها. وفي عصره أيضاً عادت الحلّةُ إلى مكانتها العلميّة القديمة، فازدهرت فيها المدارس بعدما عانت من الاضطهاد مُدداً طويلة، ومنها كانت تستقي (المدرسة السيّارة) التي أُسّست في معسكر السلطان، لتجوبَ البلاد الإسلاميّة لنشر العلم والفلسفة، وقد تخرّج من هذه المدرسة رجال أمثال الآمليّ محمّد بن محمود (22).
وقد كتب المؤرّخ معين الدين النَّطَنزيّ في كتابه ( منتخب التواريخ ) يصف خدابنده بعد تأثره بالعلاّمة الحليّ: كان ذا صفات جليلة.. وكان أكثر معاشرته ومؤانسته مع الفقهاء والزهّاد والسادة والأشراف.. وقد وفّقه الله لتأسيس صدقات جارية، منها: أنّه بنى ألف دار في بقاع الخير، والمستشفيات، ودُور الحديث ودور الضيافة والمدارس والمساجد والخانقاهات، بحيث أراح الحاضر والمسافر، وكان زمانه من خير الأزمنة لأهل الفضل والتُّقى..
الوصيّة
في خاتمة ( القواعد ) كانت للعلاّمة الحليّ وصيّة لولده، هي عصارة التجارب وإشارات الحِكم، ينتفع منها المربّون، ويستفيد منها الشبّان الناشئون.. جاء فيها:
• اعلم يا بُنيّ ـ أعانك الله تعالى على طاعته، ووفّقك لفعل الخير وملازمته، وأرشدك إلى ما يُحبّه ويرضاه، وبلّغك ما تأملُه من الخير وتتمنّاه، وأسعدك الله في الدارَين، وحباك بكلّ ما تقرّ به العين، ومَدَّ لك في العمر السعيد، والعيش الرغيد، وختم أعمالك بالصالحات، ورزقك أسباب السعادات، وأفاض عليك من عظائم البركات، ووقاك الله كلّ محذور، ودفع عنك الشرور ـ أنّي قد لخّصتُ لك في هذا الكتاب ( أي القواعد ) لبَّ فتاوى الأحكام، وبنيتُ لك فيه قواعد شرائع الإسلام، بألفاظٍ مختصرة، وعبارات محرَّرة، وأوضحت لك فيه نهج الرشاد، وطريق السَّداد..
إلى أن يقول له:
فإنّي أُوصيك كما افترضه اللهُ تعالى علَيّ من الوصيّة، وأمرني به حين إدراك المنيّة، بملازمة التقوى لله تعالى، فإنّها السُّنّة القائمة، والفريضة اللاّزمة، والجُنّة الواقية، والعُدّة الباقية، وأنفَعُ ما أعدَّه الإنسان ليوم تَشخص فيه الأبصار.
وعليك باتّباع أوامر الله تعالى، وفعل ما يُرضيه، واجتنابِ ما يكرهه والانزجار عن نواهيه، وقطع زمانك في تحصيل الكمالات النفسيّة، وصرف أوقاتك في اقتناء الفضائل العلميّة والإرتقاء عن حضيض النقصان إلى ذروة الكمال، والارتفاع إلى أوج العرفان عن مهبط الجهّال، وبذل المعروف ومساعدة الإخوان، ومقابلة المسيء بالإحسان، والمحسن بالامتنان.
وإيّاك ومصاحبةَ الأرذال، ومعاشرةَ الجهّال؛ فإنّها تفيد خلُقاً ذميماً، وملكة رديّة. بل عليك بملازمة العلماء، ومجالسة الفضلاء؛ فإنّها تفيد استعداداً تامّاً لتحصيل الكمالات، وتُثمر لك ملَكةً راسخة لاستنباط المجهولات.
ولْيكُن يومك خيراً من أمس، وعليك بالصبر والتوكّل والرضى، وحاسِبْ نفسك في كلّ يومٍ وليلة، وأكثِرْ من الاستغفار لرِّبك، واتَّقِ دعاء المظلوم خصوصاً اليتامى والعجائز؛ فإنّ الله تعالى لا يُسامح بكسرِ كسير.
وعليك بصلاة الليل.. وعليك بصلةِ الرحم؛ فإنّها تَزيدُ في العمر، وعليك بحسن الخُلُق، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: إنّكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم، فسَعُوهم بأخلاقكم. وعليك بصِلة الذريّة العلويّة (23) ...
وبذلك، يجمع العلاّمة الحليّ بين العلم والعمل، والمعرفة والتربية، والتنظير والتطبيق.. فرغم مشاغله الكثيرة الطويلة لم يهمل ابنه، بل بلغت عنايته به أن يؤلّف له كتاباً مرشداً في العقائد والأحكام، ثمّ يردفه بوصيّة عقائديّة أخلاقيّة.
وفاته
ذكر نظام الدين القرشيّ في ( نظام الأقوال ) أنّ العلاّمة الحليّ تُوفيّ يوم عاشوراء ليلاً، أي ليلة الحادي عشر من المحرّم سنة 726 هجريّة. وقد دُفن رحمه الله في المشهد الغروي المقدّس بالنجف الأشرف، بعد أن نُقل جثمانه من مدينة الحلّة إلى جوار الضريح المنوّر للإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه.
وبالاعتماد على الميرزا النوريّ يحدّد الشيخ المامقانيّ مكان القبر قائلاً: دُفن في الحجرة إلى جنب المنارة الشماليّة من حرم أمير المؤمنين عليه السّلام، تغمّده الله تعالى برحمته ورضوانه. وعمره الشريف سبع وسبعون سنة وثمانية أشهر ونصف وثلاثة أيّام (24).
رحمه الله، وبارك في مسعاه، ونفع المسلمين بعلومه، وجعلها صدقة جارية إلى يوم قيامه.
منقول
|
|
|
|
|