الحمد للهرب العالمين وأفضل الصلاة
وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبينالطاهرين
نعمة سعة الصدر -
من أعظمنعم الله تعالى على الإنسان ، نعمة سعة الصدر والتحمل . .
سعةالصدر على من يخالفك في الرأي والمذهب والمعتقد . . والقدرة على أن تسمع منهوتَفْهَمَ عليه ، وتَفْهَمَهُ . والتحمل منه عندما يصدر عليك أحكامه الخاطئة ، أويؤذيك ويظلمك .
وهي نعمة نادرة في الناس ، حتى في العلماء . . وأكثر ندرة في الحكام وزعماء القوميات والفئات .
والظاهرأن وجودها في الشيعة أكثر من غيرهم ، فالشيعي يتحمل منك أن تخالفه في الرأي والمذهبتحملاً جيداً . . وقد يتحمل أن تضطهده !
ذلك أنه يتربى مع
عقائد مذهبه ومفاهيمه ، على سعة الصدر والإستعداد للإضطهاد .
الشيعي يتعلم أنه موالٍ لأهل بيت النبي(ص) ، الذين جسدوا قيم الإسلام ومُثُلَهُ ، وتحملوا من أجلها الظلم ويتحملونه ، حتى يظهر مهديهم الموعود . . (ع) . وهو يتعلم أن من أحبنا أهل البيت فليتخذ للبلاء جلباباً . . ويتعلم أن أمرنا صعبٌ مستصعب . .
فالمسألة عنده طويلةٌ بطول هذا العالم . . وطول الخطة الإلهية فيه ، والحلم الإلهي عليه . .
والمسألة عنده أن عقائده وأفكاره صعبة التحمل على الآخرين ، ليس لصعوبتها الفكرية فهي من السهل الممتنع . . بل لصعوبتها النفسية
( السيكولوجية ) .
وبسبب هذه التربية ترى الشيعي يبحث عن العذر لمخالفيه وظالميه ، لأنه يريد أن يتعايش معهم ويسحب منهم كل عذر لظلمه .
لقد تأقلم الشيعة مع الأذى والظلم حتى صار لهم جلباباً ، وحتى تعجب ظالموهم من تحمّلهم !
نعمة سعة الصدر عند إخواننا -
يتفاوت حال خصوم الشيعة في سعة الصدر وضيقه ، ولكن الظاهر أن أكثرهم ضيقاً بنا إخواننا الوهابيون، ظالمونا الجدد من داخل البيت الإسلامي ، الذين كانوا يتهموننا بالشرك ، وبأننا عملاء الشيوعية واليهود . .
ثم دارت الأيام ورأوا أن الغرب وإسرائيل يكرهوننا أكثر مما يكرهونهم ، فلم يشفع لنا ذلك عندهم !
ثم دارت الأيام ورأوا أننا تركنا الصراعات مع أحدٍ من فئات الأمة ، وتخصصنا في مقاومة إسرائيل . . فلم يشفع ذلك لنا عندهم !
لقد تعجب العالم من مقاومة أبناء الشيعة وصمودهم في جنوب لبنان ، وافتخر بهم العرب والمسلمون . . ولكن إخواننا الوهابيين لم يعجبهم ذلك ! فإذا ذكروهم لا يعبرون عن قتلاهم بالشهداء ، لأنهم بزعمهم مشركون لا يعملون لله تعالى ، ولا يجاهدون في سبيله !
إنهم يرون شاباً في الثامنة عشرة من عمره ، نشأ على التقوى ، ورفض مغريات الدنيا ، ولم يأنس إلا بالإيمان والمسجد والقرآن ، والشوق إلى لقاء الله تعالى والشهادة في سبيله . . يرونه يقتحم تحصينات بني يهود ، حاملاً روحه على كفه ، تالياً ذكر ربه ، مدوياً صوته بالتكبير ، ثابت الجنان ، قوي الضربة ، ناثراً أشلاءه قرباناً لله تعالى ، محطماً أسطورة الخوف من قلوب المسلمين، تاركاً لهم وصيته بالجهاد في سبيل الله . . فلا يُعْجِبْ ذلك إخواننا ، ولا يهتز لهم حِسّ ! !
إنهم لا يعجبهم منا العجب ، ولا الصيام في رجب !
لكن تعجبهم أحكامهم على خالفهم بالكفر والشرك !
ويعجبهم أنهم لا يتحملون البحث العلمي الهادئ !
لقد نشروا في هذه السنوات أكثر من 500 كتاباً وكتيباً ضد الشيعة ، وفيها الكثير من الأحكام القاسية ، والألفاظ السوقية ، والقليل من العلم . .
فهل يتحملون كتيباً علمياً ينقد أفكارهم في الإيمان والتوحيد ؟
آمل أن يكون لعلمائهم من سعة الصدر ما لعلماء الجامعات الغربية الذين يأنس بعضهم بالنقد الفكري .. بل آمل أن يكون عندهم سعة صدر علماء السلف الصالح ، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب .
هدف هذا البحث -
لم يكن هذا البحث من قصدي ، فقد كنت مستغرقاً في بحث آخر ، ووجدت في أثنائه أن عقيدة الوهابيين في آيات الصفات وأحاديثها تحتاج إلى معرفة جذورها . . ولما راجعت ما تيسر لي من مصادر ، هالني الأمر . . وقلت في نفسي : لو عرف إخواننا الوهابيون حقيقة التوحيد الذي يقدمه لهم علماؤهم ويطلبون منهم أن يسوقوا المسلمين بعصاه . . لأعادوا النظر في بناء عقيدتهم بالله تعالى ، وخففوا من غلوائهم علينا .
لو عرف المثقف الوهابي أن إمامه المفتي الأكبر عبد العزيز بن باز يقول إن الله تعالى جسم موجود في مكان معين من الكون ، وله وجه ويد ورجل وأعضاء وجوارح . . وأنه على صورة إنسان . .
وأن الحيوانات تحمل عرشه . . !
لو عرف أن علماءه يقولون إن هذا ( الإله ) يفنى ويهلك كله ما عدا وجهه ، بدليل قوله تعالى ( كل شئ هالك إلا وجهه ) ! !
وأنهم يقولون يجب على علماء الوهابية أن يكتموا مادية الله تعالى عن جمهور المسلمين ويستعملوا معهم التقية ) لأن عقائد الإسلام منها ما هو خاص برجال الدين من الدرجة الأولى . . فمادية الله تعالى بزعمهم خاصة بهذه الطبقة فقط ! !
لو اطلع هذا المثقف على هذا الضعف العلمي والتناقضات في نظريات علمائه عن التوحيد لهاله الأمر ! ولأعاد النظر في تصوره الذي علموه إياه عن الله تعالى . . ثم لعذر الجمهور الأعظم من المسلمين في نفرتهم من الوهابية .
من أجل هذا الهدف كتبت هذا البحث . . لعل إخواننا الوهابيين يلتفتون إلى أن مشكلتهم في التوحيد أعظم من جميع مشكلات المسلمين ، فينشغلوا بحلها ويخففوا عنا شدتهم ، خاصةً في موسم الحج الذي صار المسلم يحسب له قبل مشقاته البدنية والمالية ، مشقته المعنوية على كرامته ، بسبب فتاوى الكفر والشرك التي يتأبطها المتطوعون الوهابيون في موسم الحج ويصفعون بها وجوه حجاج بيت الله تعالى وزوار قبر نبيه وآله(ص)! !
لقد كثر هؤلاء المتبرعون لخدمة ضيوف الرحمن في السنوات الأخيرة وعدلوا في توزيع جوائزهم على الجميع ، حتى لا تكاد تجد حاجاً يرجع إلى بلاده من أي بلد أو قومية إلا ويتحدث عن معاملتهم الحسنة وفتاواهم ونبراتهم التي صفعوه بها ! لمجرد أنه تقرب إلى الله تعالى بزيارة قبر نبيه أو وليه !
ينبغي أن يعرف إخواننا الوهابيون أن مسائل الشرك العملي كلها متأخرة رتبةً عن مسألة الإعتقاد النظري ، وأنه لا بد للمسلم أولاً أن يصحح عقيدته بربه عز وجل وتصوره عنه ، حتى يملك الأساس الذي يقيس به توحيد الآخرين النظري والعملي ، ويعرف ما هو الشرك الأكبر والأصغر والمتوسط..
أما إذا كان عنده مشكلة في أصل اعتقاده بالله تعالى ، فإن عليه أن يعالج مشكلته ويبني بيته أولاً . .
ثم إذا جاز له أن يطرح اجتهاده على المسلمين . . فبالحسنى ، والمنطق العلمي ، والكلمة الجميلة .
في الرابع عشر من شهر صفر المظفر سنة 1419
علي الكوراني العاملي
الفصل الأول:
خلاصة مسألة الرؤية -
معنى مسألة الرؤية : هل يمكن أن نرى الله تعالى بأعيننا في الدنيا أو في الآخرة ؟
وقد نفى ذلك نفياً مطلقاً أهل البيت وعائشة وجمهور من الصحابة ، وبه قال الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم ، مستدلين بقوله تعالى : ليس كمثله شئ ، لن تراني ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار . وبحكم العقل بأن ما يمكن رؤيته بالعين يلزم أن يكون وجوداً مادياً داخل المكان والزمان .
وقال الحنابلة وأتباع المذهب الأشعري من الحنفية والمالكية والشافعية : إن الله تعالى يرى بالعين في الدنيا أو في الآخرة . واستدلوا بآيات يبدو منها ذلك بالنظرة الأولى كقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة . وبروايات رووها عن رؤية الله تعالى في الآخرة . كما حاولوا أن يؤولوا الآيات والأحاديث النافية لإمكان الرؤية بالعين .
متى ظهرت أحاديث الرؤية والتشبيه ؟ -
تدل نصوص الحديث والتاريخ على أن الجو الذي كان سائداً في صحابة النبي في عهده(ص) وعهد الخليفة أبي بكر ، أن الله تعالى ليس من نوع ما يرى بالعين أو يحس بالحواس الخمس . .
لأنه وجود أعلى من الأشياء المادية فلا تناله الأبصار، بل ولاتدركه الأوهام وإنما يدرك بالعقل ويرى بالبصيرة.. ورؤيتها أرقى وأعمق من رؤية البصر .
ثم ظهرت أفكار الرؤية والتشبيه وشاعت في المسلمين في عهد الخليفة عمر وما بعده ، فنهض أهل البيت وبعض الصحابة لردها وتكذيبها . وقد فوجئت أم المؤمنين عائشة كغيرها بهذه المقولات الغريبة عن عقائد الإسلام، المناقضة لما بلغه النبي(ص) عن ربه تعالى ! فأعلنت أن هذه الأحاديث مكذوبة على رسول الله، بل هي فِرْيَةٌ عظيمة علىالله تعالى وعلى رسوله(ص) ، ومن واجب المسلمين ردها وتكذيبها .
* روى البخاري في صحيحه : 6/50 :
( عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أُمَّتَاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : لقد قَفَّ شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب ، ثم قرأت : وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية ، ولكنه رأى جبرئيل(ع) في صورته مرتين ) .
* وروى البخاري : 8/166 :
( عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، وهو يقول : لا تدركه الأبصار ، ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب ، وهو يقول : لا يعلم الغيب إلا الله ) .
وروى نحوه في مجلد 2 جزء 4 ص 83 و مجلد 3 جزء 6 ص 50 وج 4 ص 83 .
* وفي صحيح مسلم : 1/110 :
( عن عائشة : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ) .
* وروى نحوه النسائي في تفسيره : 2/339 وفي ص 245 : ( عن أبي ذر أن النبي رأى ربه بقلبه لا ببصره ) . وذكره في إرشاد الساري : 5/276 و 7/359 و 10/356 ، والرازي في المطالب العالية ، مجلد 1 / جزء 1 / 87 .
* وروى الترمذي في سننه : 4/328 :
( عن مسروق قال كنت متكئاً عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم الفرية على الله : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله والله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب . وكنت متكئاً فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني أليس الله تعالى يقول: ولقد رآه نزلة أخرى . ولقد رآه بالأفق المبين ؟ قالت : أنا والله أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، قال : إنما ذلك جبريل ، ما رأيته في الصورة التي خلق فيها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض ، ومن زعم أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد أعظم الفرية على الله ، يقول الله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . ومن زعم أنه يعلم ما في غدٍ فقد أعظم الفرية على الله ، والله يقول : لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله . هذا حديث حسن صحيح ، ومسروق بن الأجدع يكنى أبا عائشة ). انتهى .
* ورواه الطبري في تفسيره : 27/30 وروى نحوه في ص 200 وقال في ص 20 :
( عن الشعبي قال قالت عائشة : من قال إن أحداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار . فقال قائلو هذه المقالة : معنى الإدراك في هذا الموضع الرؤية ، وأنكروا أن يكون الله يرى بالأبصار في الدنيا والآخرة ، تأولوا قوله : وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة بمعنى انتظارها رحمة الله ) . انتهى .
* وروى نحوه أحمد في مسنده : 6/49 وفيه : ( قالت سبحان الله لقد قَفَّ شعري لما قلت ). وروى نحوه البغوي في مصابيحه : 4/30. ورواه السهيلي في الروض الآنف : 2/156 . والنويري في نهاية الإرب مجلد 8 جزء 16 ص 295 وفيه : ( فقالت : لقد وقف شعري . . ) . وروى نحوه الثعالبي في الجواهر الحسان : 3/252 وقال : ( ذهب البيهقي إلى ترجيح ما روي عن عائشة وابن مسعود وأبي هريرة ، ومن حملهم هذه الآيات : ثم دنى فتدلى . . . عن رؤية جبرئيل ، ورواية شريك تنقضها رواية أبي ذر الصحيحة قال يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال : نور ، أني أراه ! . . . قوله سبحانه : ما كذب الفؤاد ما رأى ، قال ابن عباس فيما روي : إن محمداً ( ص ) رأى ربه بعيني رأسه ، وأنكرت ذلك عائشة وقالت : أنا سألت رسول الله ( ص ) عن هذه الآيات فقال لي : هو جبرئيل فيها كلها ! )
* وقال ابن جزي في التسهيل : 2/381 :
( وقيل الذي رآه هو الله تعالى ، وقد أنكرت ذلك عائشة ) .
* وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : 2/166
( عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله تعالى ، ولكنه رأى جبريل مرتين في صورته وخلقه ساداً ما بين الأفق . ولم يأتنا نص جلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله تعالى بعينيه وهذه المسألة مما يسع المرء المسلم في دينه السكوت عنها ، فأمّا رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة ، وأما رؤية الله عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص . جمع أحاديثها الدار قطني والبيهقي وغيرهما ) . انتهى .
وقال في هامشه : ( وأخرجه أحمد 6/241 من طريق ابن أبي عدي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة قال قلت : أليس الله يقول: ولقد رآه بالأفق المبين ، ولقد رآه نزلة أخرى ، قالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض . وأخرجه مسلم ( 177) في الإيمان باب معنى قوله عز وجل : ولقد رآه نزلة أخرى ، من طريق الشعبي به . وأخرجه البخاري 8/466 من طريق الشعبي عن مسروق . . وأخرجه الترمذي ( 3278 ) في التفسير من طريق سفيان عن مجالد عن الشعبي . هذا حديث صحيح الإسناد ) . انتهى .
ولكن نفي عائشة يشمل الرؤية في الآخرة أيضاً كما أشار إليه الطبري ، ولذلك اضطر الذهبي وغيره إلى ارتكاب التأويل في حديث عائشة ، وفي آيات نفي الرؤية وأحاديثها ، مع أنهم حرموا التأويل في أحاديث إثبات الرؤية وصفات الله تعالى ، واستنكروه واعتبروه ضلالاً وإلحاداً ، كما سيأتي !
* وقال الدميري في حياة الحيوان : 2/71 : ( نفت عائشة دلالة سورة النجم على رؤية النبي ( ص ) لربه وجواز الرؤية مطلقاً . . . وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات ، أو يحد بالصفات ، أو تحصيه الأوقات أو تحويه الأماكن والأقطار ،ولما كان جل وعلا كذلك استحال أن توصف ذاته بأنها مختصة بجهة ، أو منتقلة من مكان إلى مكان ، أو حَالَّةً في مكان . روي أن موسى(ع) لما كلمه الله تعالى سمع الكلام من سائر الجهات . . . وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف تعالى بأنه يحل موضعاً أو ينزل مكاناً ، ولا يوصف كلامه بحرف ولا صوت ، خلافاً للحنابلة الحشوية . . . )
معنى الفرية على الله تعالى ومصدرها -
الفرية : البدعة العظيمة والكذب المتعمد في دين الله تعالى .
* قال الخليل في العين : 8 /280 : ( الفري : الشق . . . وفريت الشيء بالسيف وبالشفرة قطعته وشققته . وفرى يفري فلان الكذب ، إذا اختلقه . . . الفَرِيُّ : الأمر العظيم ، في قوله عز وجل : لقد جئت شيئاً فرياً ) .
* وقال الجوهري في الصحاح : 6/24 : ( وفرى فلان كذباً إذا خلقه . وافتراه : اختلقه ، والإسم الفرية . وفلان يفري الفرى : إذا كان يأتي بالعجب في عمل . قوله تعالى : لقد جئت شيئاً فرياً ، أي مصنوعاً مختلقاً ، وقيل عظيماً ) .
* وقال الراغب في المفردات ص 379 : ( وقوله : لقد جئت شيئاً فرياً ، قيل معناه عظيماً وقيل عجيباً وقيل مصنوعاً . وكل ذلك إشارة إلى معنى واحد) .
ولا يبعد أن يكون أصل تعبير ( الفرية على الله ) نبوياً ، وأن تكون عائشة وأهل البيت أخذوه منه(ص) .
* وقد روى أحمد شبيهاً له في مسنده 3/491 عن واثلة بن الأسقع قال :
( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أعظم الفرية ثلاث ... إلخ ) .
كما لا يبعد أن يكون في أصله وصفاً لليهود .
* وقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد : 4/122 أن عبدالله بن رواحة قاله ليهود خيبر : ( فلما طاف في نخلهم فنظر إليه قال : والله ما أعلم من خلق الله أحداً أعظم فرية عند الله وعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم منكم ) . انتهى .
وأوضح من ذلك الرواية التالية التي تدل على أن اليهود منبع ( الفِرَى ) على الله تعالى .
* وروى المجلسي في بحار الأنوار 36/194 :
( عن ابن عباس أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر .
إذ قال ( عمر ) : يا كعب أحافظ أنت للتوراة ؟
قال كعب : إني لأحفظ منها كثيراً .
فقال رجل من جنبة المجلس : يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه ، ومِمَّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه ؟
فقال عمر : يا كعب هل عندك من هذا علم ؟
فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين ، نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة ، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخر ما بقي منها لمسجد قدسه !
قال ابن عباس : وكان علي بن أبي طالب(ع) حاضراً ، فَعَظَّمَ عَلِيٌّ ربه ، وقام على قدميه ، ونفض ثيابه ! فأقسم عليه عمر لمَاَ عاد إلى مجلسه ، ففعله.
قال عمر : غص عليها يا غواص ، ما تقول يا أبا الحسن ، فما علمتك إلا مفرجاً للغم .
فالتفت علي(ع) إلى كعب فقال :
غلط أصحابك ، وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه ! !
يا كعب ويحك! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قدمته ، وعزّ الله وجل أن يقال له مكان يومي إليه ، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان ، بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي ( كان ) عجز عن كونه وهو مما عَلَّمَ من البيان يقول الله عز وجل ( خلق الإنسان علمه البيان ) فقولي له ( كان ) ما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته ، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء ، ثم كَوَّنَ ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شئ ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شئ كما خلق النور من غير شئ ، ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الأخرى ، وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب ، وذلك قوله: وكان عرشه على الماء ليبلوكم .
يا كعب ويحك ، إن من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه !
فضحك عمر بن الخطاب وقال : هذا هو الأمر ، وهكذا يكون العلم ، لا كعلمك يا كعب . لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن ) . انتهى .
فهذه النصوص القوية وغيرها تجعل الباحث يطمئن إلى أن وجود إصبع الثقافة اليهودية في المسألة هو الذي أوجب كل هذا الإستنفار والموقف الحاسم!