إنسان يتعالى عن متطلبات ذاته!.. وإذا به في ساعتها يعطى درجة من درجات استشعار حلاوة السيطرة على النفس، فكيف إذا استمرت المجاهدة في دروب مختلفة من دروب الحياة؟!...
إن الذي لا يعيش جو الأنس الربوبي طوال السنة، لا يمكنه بسهولة أن يعيش هذا الجو، بمجرد دخول شهر رمضان -مثلاً- ولهذا نلاحظ أن أغلب الناس صومهم لا يتجاوز صوم العوام، أي الإمساك عن الطعام والشراب.. والحال أن الصوم أرقى من ذلك!.. فهنالك صوم الخواص، وهو الإمساك عن المعصية.. وهنالك صوم خواص الخواص، وهو الانصراف عما سواه، وهي مرحلة راقية جداً.. ولكن الوصول إليه، هي أن ينظر الإنسان في قلبه، فلا يجد محبوباً سواه.. وينظر إلى فكره، فلا يجد مذكوراً سواه.. وينظر إلى جوارحه، فلا يجد مطاعاً سواه.. إذا حقق الإنسان هذه النقاط الثلاث، فإنه يكون قد بلغ ما بلغ!.
من السهل أن يقول الإنسان: أنا أرجو ربي!.. وثقتي بالله!.. عوام الناس يقولون:الثقة بالله، أو الأمل بالله عز وجل، ولكنها لقلقة.. إذا كانت الثقة بالله -عز وجل- فلماذا هذا الاضطراب في أمور المعيشة؟!.. ولماذا هذا التحير في دروب الحياة المتشعبة؟!.. فالقضية تحتاج إلى بلوغ فكري وعقلي، وتحتاج إلى حالة من النمو الباطني
إن الإنسان يحلق في شهر رمضان في أجواء التوحيد، والمناجاة، وكبت النفس عن الشهوات، وتلاوة الكتاب الكريم.. فالغالب على ذلك الشهر، اللون التوحيدي.. وهذا اللون يتجلى بشكل واضح وصريح في ليالي القدر المباركة، حيث يقضي المؤمن ليله من المغرب إلى مطلع الفجر، وهو يذكر ربه ذكراً متميزاً بليغاً.. فالإنسان يحتاج في نشاطه اليومي، وفي حركته اليومية إلى هذه الصلة الوثيقة برب العالمين.. ومن منا يمكن أن يعيش، وهو مبتور الصلة بمنشأ الفيض، والهبة العظمى في هذا الوجود؟..
إن من المعالم الدعائية المتميزة في هذا الشهر هما: دعاء الافتتاح ، ودعاء أبي حمزة الثمالي ، فإنهما ينقلان العبد إلى أجواء متميزة من الأنس برب العالمين (تدرك ولا توصف) .. فهنيئا لمن جعل الأول ورد أول ليلته ، ليعمق في نفسه حالة الارتباط بالقيادة الإلهية المتمثلة في وليه الأعظم (عليه السلام).. وجعل الثاني ورد آخر ليلته ، ليكون نورهما جابراً لكل ظلمة فيما بينهما .
إن من صفات المؤمن أنه كلما مرّت عليه ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، ازداد خوفاً وقلقاً؛ لأنَّ كلَّ يوم وكلَّ ليلة يفقد فرصة من فرص التقرب إلى الله عزَّ وجل، ومن الليلة الأولى في شهر رمضان يبدأ العدّ العكسي.. لذا فإن الإنسان عندما لا يرى ذلك التفاعل الذي كان يرجوه؛ يبحث عن الأسباب.. حيث أن بعض المؤمنين والمؤمنات خططوا لأنفسهم أن يكون هذا الشهر متميزاً ومختلفاً عن باقي شهور السنة؛ ولكن في مقام العمل، لا يرى جديداً في البين.. بمثابة إنسان يجلس على مائدة شهية، ولكن نفسه لا تشتهي الطعام، فهذه حالة مرضية.. وبالتالي، فإنه لا يستفيد من هذه المأدبة.. بعض الناس في شهر رمضان، تنطفئ شهيته المعنوية خلاف المتوقع، فيمني نفسه ويقرأ دعاء الافتتاح، ودعاء أبي حمزة، وغيره؛ ولا يرى ذلك التوجه، والتفاعل المرجو
إن الله -عز وجل- له تجليات متميزة في السنة، ومنها في شهر رمضان.. وأثناء الشهر أيضاً، هنالك تجليات متميزة: كليلة القدر، وليلة الجمعة، والليالي البيض، والليلة الأخيرة من الشهر الكريم..
إن من دواعي الالتزام بالذكر الدائم أموراً ، الأول منها: هو الالتفات التفصيلي إلى ( مراقبة ) الحق لعبده دائما ، فكيف يحق للعبد الإعراض عمن لا يغفل عنه طرفة عين ؟! ..الثاني: وهو الالتفات إلى ( افتقار ) العبد الموجب للولع بذكر الحق تعالى استنـزالاً لرحمته ..الثالث:وهو الالتفات إلى عظمة ( الجزاء ) الذي وعد به الحق نفسه - ولا خُلْف لوعده - وذلك من خلال التدبر في قوله تعالى: { اذكروني أذكركم }..فإن آثار ذكر الحق للعبد مما لايمكن إدراكه ، لاتساع دائرة تلك الآثار لتشمل الدنيا والآخرة بما ليس في الحسبان ، وقد ورد في الحديث القدسي كما ذكره الإمام الصادق (ع) بقوله: { أوحى الله إلى نبي من الأنبياء: إذا أطعت رضيت ، وإذا رضيت باركت ، وليس لبركتي نهاية ، وإذا عصيت غضبت وإذا غضبت لعنت ، ولعنتي تبلغ السابع من الوراء }البحار-ج14ص459..إذ كيف يحيط العبد - علماً - بكيفية ذكر الله تعالى له ، وهو المالك للأسباب جميعا ؟!
إن مما يقلق الإنسان هو قبول العمل!.. فترى المؤمن يفكر بعد كل عمل أنه: هل قبل عمله أم لا؟.. هل خالطه شائب، أم أنه كان خالصاً لوجه الله عز وجل؟.. فمن المعلوم أن الله -عز وجل- كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.. ولكن في شهر رمضان تنقلب الموازين، وتخفف المقاييس؛ نظراً لأننا في الضيافة الإلهية.. إذ ليس من طبع الكريم المدّاقة في الحساب، والمؤاخذة على كل صغيرة وكبيرة.. فهنيئاً لمن اغتنم الفرصة في هذا الشهر الكريم!..