إن من أعظم أبواب الصبر، بعد الصبر على الطاعة، والصبر على البلاء؛ الصبر عن المعصية.. فإنه لا يمكننا إنكار أن للشهوات جاذبية عظمى في نفس الإنسان، تصل -في بعض الحالات- إلى درجة لا تقاوم إلا بشق الأنفس.. وخاصة في هذا الزمان، الذي نعتقد أنه لم تمر فترة على الأرض منذ أن خلقها الله -تعالى- كهذه الفترة من جهة: تنوع سبل المنكر وتيسرها، حتى أن من هم دون سن المراهقة اليوم، يرتكبون ما لم يعرفه المراهقون في سنوات سبقت، بفعل تكامل آليات عرض الفساد!.. ولا ندري ما الذي يخفيه المستقبل من صور المنكر والفتنة، التي تدع الحليم حيرانا!..
إن الفرح المادي يحتاج إلى مقدمات معقدة ومكلفة ومرهقة، بينما المؤمن همومه الكبرى في متناول اليد.. فهمّه الأعظم هو رضا رب العالمين، وتحقيق هدف الخلقة والوجود. .
مهم جداً أن يعيش الإنسان ألم الفراغ الباطني، بعض الناس همه أن يكثر النسل، والآخر أن يبني عمارة رائعة، أو أن يركب سيارة فارهة، أو أن يكثر رصيده في البنوك؛ هذا همه في الحياة!.. وكل هذه أشياء فانية!.. ثمانين سنة من الحياة، يساوي: بيت، وعدد من الأولاد، ورصيد في البنك.. وهذا كله يأتي مع الإنسان إلى باب القبر، ثم يودعه ليخلو بعمله!.. كما في دعاء أبي حمزة: (ما لي لا أبكي؟.. أبكي لخروج نفسي)، (وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي)، هذا هو البيت الأبدي، وإلا فبيوتنا الدنيا نعيش فيها أربعين أو خمسين سنة، ثم نتركها قهرا ً.
شتان بين استسلام الميت بين يدي الغسّال، يقلبه حيثما شاء من دون صراخ وأنين.. وبين الحمَامي عندما يقلب الإنسان أثناء التحميم والتدليك!.. فمادام هناك رفق وعمل موافق للمزاج، فترى الإنسان المُدلََّك بين يدي المدَلِّك في تمام الاسترخاء والتسليم.. أما إذا وصل إلى موضع جرح، وأخذ يدلك جرحه، بما يثير الألم، عندئذ يبدأ بالصراخ والاعتراض.. فالإنسان بين يدي الله عز وجل، عليه أن يكون كالميت بين يدَي الغسَّال، لا كالمدَلَّك بين يدي المُدلِّك.
إن التحديد في العمل أمرٌ مطلوب، ولهذا الشريعة وضعت فترات من التركيز العبادي، منها: شهر رمضان المبارك ثلاثون يوماً، وموسم الحج من يوم التاسع من عرفة إلى اليوم الثاني عشر، فالعبادات لها فترة زمنية مؤقتة، حتى يستجمع الإنسان كل طاقاتهِ وقواه..
إن المؤمن شخصية محبوبة، ومن هنا يستغل هذا المدد الإلهي في هذا المجال، بالإضافة إلى أرضية الفطرة السليمة، وبذلك يمكن أن يفتح القلوب المنغلقة، فلا ينبغي اليأس في هذا المجال.. وعليه، فإن هذه الغربة التي نعيشها هذه الأيام جميعاً رجالاً ونساءً، طريق معالجتها هو التغلغل في النفوس، ومحاولة تبديل طريقة الأمر والنهي، والتحكم، وإصدار الأوامر والقرارات، إلى طريقة النفوذ في لب العباد.. وعندئذٍ نرى كيف أن جوارح الخلق تنساق إلينا، بعد إن ملكنا جوانحها
إن الحالات الروحية العالية، لا تعطى للعبد كي تبقى معه، هي من الأصل تُعطى لتؤخذ.. أشبه ما يكون بالجوهرة، التي يقدمها التاجر كعينة، ليراها المشتري فقط، لا ليأخذها.. ورب العالمين له هذه الحالة مع البشر، يقول: يا عبدي، أنت تعال إلينا، ونحن نعطيك بعض الامتيازات، وبعض اللذائذ المعنوية.. والعينة في ليلة القدر، وفي يوم عرفة، وعند الحطيم.. رب العالمين يريد أن يقول: يا بني آدم، كفاك شهوات دنيا: فشهوة البطن محدودة، وليست دائماً متوفرة.. والشهوات الجنسية أيضاً محدودة، وليست دائماً متيسرة.. فإذن، لمَ لا يبحث الإنسان عن أنس يكون معه دائماً ومتى يريد؟!.. العلماء والصالحون والأولياء، عندما يشعرون بأي ضيق أو شدة أو حزن، فإن الأمر عندهم لا يحتاج أكثر من سجدة فقط، وإذا بهم يعيشون عالماً آخر!..
نلاحظ أن استعمال القرآن الكريم لكلمة (الرحيم)، أكثر من كلمة (الرحمن).. الأولى يقال: أنها دالة على الرحمة الخاصة بالمؤمنين، في مقابل الرحمة العامة لكل البشر.. مما يستفاد منه اشتداد الرحمة لمن اتخذ إلى ربه سبيلا!..
يستحبّ في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان صلاة ركعتين: تقرأ في كلّ ركعة الحمد، والتّوحيد ثلاث مرّات.. فإذا سلّمت تقول: سُبْحانَ مَنْ هُوَ حَفيظٌ لا يَغْفُل، سُبحانَ مَنْ هُوَ رَحيمٌ لا يَعْجَلُ، سُبْحانَ مَنْ هُوَ قا ئِمٌ لا يَسْهُو، سُبْحانَ مَنْ هُوَ دائِمٌ لا يَلْهُو!.. ثمّ تسبّح بالتّسبيحات الأربع سبع مرّات ثمّ تقول: سُبْحانَكَ سُبْحانَكَ سُبْحانَكَ، يا عَظيمُ اغْفِرْ لِيَ الذَّنْبَ الْعَظيمَ!.. ثمّ تصلّي على النّبي وآله عشر مرّات.
إن أمير المؤمنين (ع) يريد أن يجعل هذه النفس محور اهتمام الفرد أولاً، والقرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.. هذه التشريعات الإسلامية الثلاثة: الصوم، والحج، والاعتكاف؛ وكلها بأوامر الشريعة فرص ذهبية، لأن يُعمِل الإنسان قدراته في نفسه، ويخرج من هذه البرامج الثلاثة: حجاً، واعتكافاً، وصوماً؛ بعملية تغيير لذاته.. وكما هو معلوم: فإن الحجر يبقى على مكانه، إلا أن يأتيه محرك، فالأجساد الساكنة تميل إلى سكونها، إلا إذا وجد محرك.. والنفوس لا تخرج من هذه القاعدة، فالذي لا يعمل في حقل نفسه، سوف يبقى على ما هو عليه.. إن البعض يموت في سن الستين والسبعين والثمانين، وهو لا زال في سن المراهقة، لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره.. فالسن سن الكبار، والبلوغ النفسي بلوغ الصغار، لم يتقدم إلى ربه خطوة واحدة.