السنة النبوية
حجيتها من الضروريات، الادلة التي ذكروها على الحجية: الكتاب، السنة، الاجماع، العقل،.
تعريف السنة:
لكلمة (السنة) تحديدات تختلف باختلاف المصطلحين، فهي في عرف أهل اللغة «الطريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم سننت الشيء بالمسن اذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنا أي طريقا».
«وقال الكسائي: معناها الدوام، فقولنا: سنة، معناها الأمر بالادامة من قولهم: سننت الماء اذا واليت في صبه».
«وقال الخطابي: أصلها الطريقة المحمودة، فاذا أطلقت انصرفت اليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة، كقوله: من سن سنة سيئة».
«وقيل: هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة، كما في الحديث الصحيح: من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها الى يوم القيمة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيمة
السنة عند الفقهاء والكلاميين:
وتطلق في عرف الفقهاء على ما يقابل البدعة، ويراد بها كل حكم يستند الى أصول الشريعة في مقابل البدعة فانها تطلق على «ماخالف أصول الشريعة ولم يوافق السنةوربما استعملها الكلاميون بهذا الاصطلاح، كما تطلق في اصطلاح آخر لهم على «ما يرجح جانب وجوده
على جانب عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيضوهي بذلك ترادف كلمة المستحب، وربما كان اطلاقها على النافلة في العبادات من باب اطلاق العام على الخاص، وكذلك اطلاقها على خصوص «ماواظب على فعله النبي (ص) مع ترك مابلا عذر كما جاء في بعض التحديدات.
السنة عند الأصوليين:
وقد اختلفوا في مدلولها من حيث السعة والضيق مع اتفاقهم على صدقها على «ما صدر عن النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير» وقيدها الشوكاني بقوله (من غير القرآن) وهو قيد في غير موضعه لأن القرآن لم يصدر عن النبي (ص) وانما صدر عن الله وبلغه النبي، فهو لايصدق عليه أنه قوله الا بضرب من التجوز والتجديد العلمي لايتحمله؛ وهناك قيود أخر أضافها غير واحد كقولهم اذا كان في مقام التشريع وسيتضح ان هذه القيود لاموضع لها أيضا لانه ما من شيء يصدر عن الانسان بإرادته الا وله في الشريعة حكم، فجميع ما يصدر عن النبي (ص) بعد ثبوت عصمته لابد ان يكون صادرا عن تشريع حكم وله دلالته في مقام التشريع العام الا ما اختص به (ص) وسيأتي الحديث فيه.
وموضع الاختلاف في التحديد توسعة الشاطبي لها الى ما تشمل الصحابة حيث اعتبر ما يصدر عنهم سنة ويجري عليه أحكامها الخاصة من حيث الحجية، وربما وافقه بعضهم على ذلك، بينما وسعها الشيعة الى ما يصدر عن أئمتهم (ع) فهي عندهم كل ما يصدر عن المعصوم قولا وفعلا وتقريرا؛ وبالطبع ان الذي يهمنا هو المصطلح الثالث أعني مفهومها عند الأصوليين لأن الحديث عن حجيتها انما يتصل بهذه الناحية دون غيرها؛ وطبيعة
المقارنة تستدعي استعراض آرائهم على اختلافها في هذه المسألة الهامة.
والحديث حول حجية السنة
يقع في مواقع ثلاث:
1 حجية ما صدر عن النبي من قول، أو فعل، أو تقرير.
2 حجية ما صدر عن الصحابة من ذلك بالاضافة الى معناها الأول، وهو الذي اختاره الشاطبي.
3 حجية ما صدر عن الأئمة من أهل البيت بالاضافة الى معناها الأول أيضا، وهو الذي تبناه الشيعة على اختلاف منهم في المراد من أئمة أهل البيت.
حجية السنة النبوية:
والحديث حول حجية ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، أوضح من ان يطال فيها الحديث، اذ لولاها لما اتضحت معالم الاسلام، ولتعطل العمل بالقرآن، ولما أمكن ان يستنبط منه حكم واحد بكل ما له من شرائط وموانع، لأن أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات مايتصل بالحكم، وانما هي واردة في بيان أصل التشريع، وربما لانجد في حكما واحدا قد استكمل جميع خصوصياته قيودا وشرائط وموانع؛ خذوا على ذلك مثلا هذه الآيات المباركة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. كتب عليكم الصايم كما كتب على الذين من قبلكم(ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا، ثم حاولوا التجرد عن تحديدات السنة لمفاهيمها وأجزائها وشرائطها وموانعها؛ فهل تستطيعون ان تخرجوا منها بمدلول محدد؛ وما يقال عن هذه الآيات يقال عن غيرها، فالقول بالاكتفاء بالكتاب عن الرجوع إلى السنة تعبير آخر عن التنكر لأصل الاسلام وهدم لأهم معالمه وركائزه العملية.
وقد قامت محاولات على عهد رسول الله (ص) وبعده للتشكيك بقيمة السنة، أمثال ما حدث به عبد الله بن عمرو، قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (ص) أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: انك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (ص) وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول؛
فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ماخرج مني إلا حق، وربما كان من ردود الفعل لموقف قريش هذا من السنة قول النبي (ص) وهو يحذر من مغبة تركها: «لا ألفينّ أحدكم على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به او نهيت عنه فيقول: لاندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناهوقد حاولوا بعد ذلك ان تصبغ هذه الدعوة الهادمة بصبغة علمية على يد أتباعهم بعد حين، فاستدلوا لها بأن القرآن نزل تبيانا لكل شيء، وأمثالها من الادلة التي ذكرها الشافعي في كتابه الأم وردّ عليها بأبلغ ردّ، وخلاصة ما جاء في رده: «ان القرآن لم يأت بكل شيء من ناحية، وفيه الكثير مما يحتاج الى بيان من ناحية أخرى ، وسواء في ذلك العبادات والمعاملات، ولا يقوم بذلك الا الرسول(ص) بحكم رسالته التي عليه ان يقوم بها، وفي هذا يقول الله تعالى : (وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس مانزل اليهمثم يقول «لو رددنا السنة كلها لصرنا الى أمر عظيم لايمكن قبوله، وهو أن من يأتي بأقل مايسمى صلاة او زكاة، فقد أدى ما عليه، ولو صلى ركعتين في كل يوم او أيام اذ له ان يقول ما لم يكن فيه كتاب الله، فليس على أحد فيه فرض، ولكن السنة بينت لنا عدد الصلوات في اليوم وكيفياتها، والزكاة وأنواعها ومقاديرها، والأموال التي تجب فيها
والحقيقة، ان المناقشة في حجية السنة أو انكارها مناقشة في الضروريات الدينية وانكار لها، وليس لنا مع منكر الضروري من الدين حساب، لانه خارج عن طبيعة رسالتنا بحكم خروجه عن الاسلام؛ يقول الشوكاني: «والحاصل ان ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الاحكام ضرورة دينية، ولايخالف في ذلك الا من لاحظ له في دين الاسلام ويقول الخضري من المتأخرين: «وعلى الجملة فان حجية السنة من ضروريات الدين، أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن وكذلك غيرهما من الأصوليين، والحقيقة اني لا أكاد أفهم معنى للاسلام بدون السنة، ومتى كانت حجيتها بهذه الدرجة من الوضوح، فان اقامة البرهان عليها لامعنى له، لأن أقصى ما يأتي به البرهان هو العلم بالحجية، وهو حاصل فعلا بدون الرجوع اليه؛ ولكن الأعلام من الأصوليين درجوا على ذكر أدلة على ذلك من الكتاب والسنة والاجماع والعقل، ولابد لنا من مجاراتهم في هذا المجال مادمنا نريد أن نؤرخ لمبانيهم وحججها من جهة، ونقيمها بعد ذلك من الجهة الأخرى .
حجيتها من القرآن:
استدلوا بآيات من القرآن الكريم على اعتبار الحجية لها أمثال قوله تعالى : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، (وماينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى
ودلالة هذه الآيات في الجملة من أوضح الدلالات على حجيتها، الا أنها فيما تبدو أضيق من المدعى لأنها لاتشمل غير القول الا بضرب من التجوز، والمراد اثباته عموم حجيتها لمطلق السنة قولا وفعلا وتقريرا.
الاجماع:
وقد حكاه غير واحد من الباحثين، يقول خلاف: «أجمع المسلمون على ان ما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والاقتداء، ونقل الينا بسند صحيح يفيد القطع أن الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين وفي سلم الوصول: «الاجماع العملي من عهد الرسول الى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلا تستمد منه الأحكام، فان المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول(ص) ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة
ولا يعلم مخالف في ذلك من المسلمين على الاطلاق، الا ما يبدو من اولئك الذين رد عليهم الشافعي وهم على طوائف ثلاث، وجل أقوالهم تنصب على السنة المروية لا على أصل السنة، فراجعها في تاريخ الفقه الاسلامي لمحمد يوسف موسى
ونقلة الاجماع على الحجية كثيرون، الا أن الاشكال في حجية أصل الاجماع لدى البعض وفي مصدر حجيته لدى البعض الآخر، فان انكرنا حجية الاجماع أو قلنا: ان مصدره من السنة نفسها لم يعد يصلح للدليلية هنا، أما مع انكار الحجية فواضح، واما مع انحصار مصدره بالسنة فللزوم الدور لوضوح ان حجية الاجماع تكون موقوفة على حجية السنة، فاذا كانت حجية السنة موقوفة على حجية الاجماع، كانت المسألة دائرة.
دلالة السنة على حجية نفسها:
وقد استدل بها غير واحد من الأصوليين؛ يقول الاستاذ سلام: كما
دل على حجيتهاومنزلتها من الكتاب قوله(ص) في حجة الوداع: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما أبدا: كتاب الله وسنة نبيه؛ واقراره لمعاذ بن جبل لما قال: أقضي بكتاب الله فان لم أجد فبسنة رسوله(1)» ويقول الاستاذ عمر عبد الله، وهو يعدد أدلته على حجة السنة: «ثانيا ان النبي (ص) اعتبر السنة دليلا من الادلة الشرعية ومصدرا من مصادر التشريع، كما دل على ذلك حديث معاذ بن جبل حينما بعثه الرسول الى اليمن(2)».
وهذا النوع من الاستدلال لايخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه، لأن حجية هذه الادلة موقوفة على كونها من السنة، وكون السنة حجة؛ فلو توقف ثبوت حجية السنة عليها لزم الدور.
دليل العقل:
ويراد من دليل العقل هنا، خصوص ما دل على عصمة النبي (ص) وامتناع صدور الذنب والغفلة والخطأ والسهو منه، ليمكن القطع بكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات هي من قبيل التشريع، اذ مع العصمة لابد أن تكون جملة تصرفاته القولية والفعلية وما يتصل بها من اقرار موافقة للشريعة وهو معنى حجيتها.
وهذا الدليل من امتن ما يمكن أن يذكر من الادلة على حجية السنة وانكاره مساوق لانكار النبوة من وجهة عقلية، اذ مع امكان صدور المعصية منه أو الخطأ في التبليغ أو السهو أو الغفلة لايمكن الوثوق أو القطع بما يدعي تاديته عن الله عز وجل لاحتمال العصيان أو السهو أو الغفلة أو الخطأ منه، ولامدفع لهذا الاحتمال.
ومع وجود هذا الاحتمال لايمكن تمامية الاحتجاج له أو عليه حتى في مجال دعواه النبوة، لما سبق أن قلنا من أن كل حجة لاتنتهي الى القطع فهي ليست بحجة، لأن العلم مقوم للحجية.
فاذا ثبتت نبوته بالأدلة العقلية، فقد ثبتت عصمته حتما للتلازم بينهما، وبخاصة اذا آمنا باستحالة اصدار المعجزة من قبل الله تعالى على يد من يمكن أن يدعي النبوة كذبا لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين أو لغيرها على اختلاف في المبنى .
اشكال ودفع:
وقد يقال بعدم التلازم عقلا بين اثبات العصمة له وتحصيل الحجة على اعتبار ما يصدر منه من قول او فعل او تقرير من قبيل التشريع لأن الدليل العقلي غاية مايثبت امتناع كذبه في ادعاء النبوة لاستحالة صدور المعجزة على يد مدعي النبوة كذبا لامطلق صدور الذنب منه فضلا عن الخطأ والسهو والنسيان.
ودعوى عدم حصول العلم بكون ما يصدر عنه تشريعا، لاحتمال الخطأ، أو النسيان، أو الكذب في التبليغ، أو السهو، يدفعها الرجوع الى اصالة عدم الخطأ، او السهو، او الغفلة ونظائرها، وهي من الأصول العقلائية التي يجري عليها الناس في اقعهم، ويكون حسابه حساب أئمة المذاهب، من حيث وجود هذه الاحتمالات فيهم، ومع ذلك فان الناس يثقون بأقوالهم ويدفعون الخطأ فيها او السهو او الغفلة، او تعمد الكذب بأمثال هذه الأصول.
وهذا الاشكال من أعقد مايمكن ان يذكر في هذا الباب، ولكن
دفعه انما يتم اذا تذكرنا ما سبق ان قلناه من أن كل حجة لاتنتهي الى العلم فهي ليست بحجة، لأن القطع هو الحجة الوحيدة التي لاتحتاج الى جعل، وبها ينقطع التسلسل ويرتفع الدور.
وهذه الأصول العقلائية التي يفزع اليها الناس في سلوكهم مع بعضهم، لاتحدث علما بمدلولها ولاتكشف عنه أصلا لاكشفا واقعيا ولاتعبديا.
أما نفي الكشف الواقعي عنها فواضح لعدم التلازم بين اجراء اصالة عدم الخطأ في سلوك شخص ما وبين اصابة الواقع والعلم به، ولو كان بينهما تلازم عقلي لأمكن اجراء هذا الأصل مثلا في حق أي شخص واعتبار مايصدر عنه من السنة ولا خصوصية للنبي في ذلك.
وأما نفي الكشف التعبدي عنها فلأنه مما يحتاج الى جعل من قبل الشارع، ومجرد بناء العقلاء لا يعطيه هذه الصفة مالم يتم امضاؤه من قبله.
وشأنه في ذلك شأن جميع مايصدرون عنه من عادات وتقاليد واعراف، والسر في ذلك ان القطع بصحة الاحتجاج به على الشارع لايتم الا اذا تم تبنيه من قبله وعلم ذلك منه، وكل حجة لاتنتهي الى القطع بصحة الاحتجاج بها، فهي ليست بحجة كما سبق بيان ذلك مفصلا.
هذا اذا أعطينا هذه الأصول صفة الامارية، اما اذا جردناها منها واعتبرناها وظائف عقلائية جعلوها عند الشك لينتظم سلوكهم في الحياة، فأمرها أوضح لعدم حكايتها عن أي واقع ليعتبر ما تحكى عنه من قبيل التشريع.
والاعتماد عليها كوظائف لا يتم الا اذا تم تبني الشارع لها بالامضاء أيضا لنفس السبب السابق.
وعلى هذا فحجية هذه الأصول وأمثالها موقوفة على امضاء الشارع لها بقوله أو تقريره، وكون هذا الامضاء حجة أي موقوفة على
حجية السنة، فلو كانت حجية السنة موقوفة عليها كما هو الفرض لزوم الدور.
لبداهة ان حجية الاقرار من قبله(ص) مثلا موقوفة على حجية اصالة عدم الخطا أو اصالة الصحة أو اصالة عدم الغفلة أو السهو، وحجية هذه الاصول موقوفة على حجية اقراره لها لو كان هناك اقرار، ومع اسقاط المتكرر ينتج ان حجية اقراره موقوفة على حجية اقراره.
والحقيقة ان القول بحجية السنة بشكلها الواسع، لايلتئم مع أنكار العصمة أو بعض شؤونها بحال.
وليس المهم بعد ذلك ان ندخل في شؤون العصمة وأدلتها فان ذلك من بحوث علم الكلام.
والكلمات بعد ذلك مختلفة ومشتتة، والتأمل فيما عرضناه يكشف فيما نعتقد وجه الحق فيها.
ومهما قيل أو يقال في العصمة على صعيد علم الكلام فانهم في الفقه مجمعون على اعتبار حجية السنة قولا وفعلا وتقريرا، وهو حسبنا في مجال المقارنة.
على ان حجيتها كما سبق ان قلنا ضرورة دينية لايمكن لمسلم ان ينكرها وهو باق على الاسلام، والاعتراف بها ينطوي على الاعتراف بالعصمة حتما وعدم جواز الخطأ عليه خلافا للقاضي أبي بكر