ما هي التوبة النصوح
ذكر المجلسي - رحمه الله - في شرحه للكافي عدة وجوه في معتى التوبة التصوح ذكرها المفسرون
1- إن النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم : عسل نصوح ، إذا كان خالصا ً من الشمع ، بأن يندم على الذنوب لقبحها أو كونها خلاف رضا الله سبحانه لا لخوف النار مثلاً ، وقد حكم المحقق الطوسي - طاب ثراه - في التجريد بأن الندم على الذنوب خوفاً من النار ليس توبة
2- إن المراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها ، أو تنصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبداً
3- إن النصوح من النصاحة وهي الخياطة ، لأنها تنصح من الدّين ما مزقته الذنوب ، أو يجمع بين التائب وبين أولياء الله وأحبّائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب
4- إن النصوح وصف للتائب وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي ، أي توبة ينصحون بها أنفسهم بأن يأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه حتّى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكليّة ، وذلك بإذابة النفس بالحسرات ، ومحو ظلمة السيئات بنور الحسنات
إلى أن يقول : وفي كلام بعض الأكابر أنه لا يكفى في جلاء المرآة قطع الأنفاس والأبخرة المسوّدة لوجهها ، بل لا بد من تصقيلها وإزالة ما حصل في جرمها من السواد ، كذلك لا يكفي في جلاء القلب ظلمات المعاصي وكدورتها مجرّد تركها وعدم العود إليها ، بل يجب محو آثار تلك الظلمات بأنوار الطاعات فإنّه كما يرتفع إلى القلب من كل معصية ظلمة وكدورة كذلك يرتفع إليه من كل طاعة نور وضياء ، فالأولى محو ظلمة كل معصية بنور طاعة تضادها بأن ينظر التائب إلى سيئاته مفصّلة ويطلب لكل سيئة منها حسنة تقابلها ، فيأتي بتلك الحسنة على ما قدر ما أتى بتلك السيئة.
فيكفّر استماع الملاهي مثلاً باستماع القرآن والحديث والمسائل الدينية ، ويكفّر مسّ خط المصحف محدثاً بإكرامه وكثرة تقبيله وتلاوته ، ويكفّر المكث في المسجد جنباً بالاعتكاف فيه وكثرة التعبد في زواياه وأمثال ذلك .
وأما في حقوق الناس فيخرج من مظالمهم أولاً بردّها عليهم ، والاستحلال منهم ، ثم يقابل إيذاءه لهم بالإحسان إليهم ، وغضب أموالهم بالتصدق بماله الحلال ، وغيبتهم بالثناء على أصل الدين وإشاعة أوصافهم الحميدة ، وعلى هذا القياس يمحو كل سيئة من حقوق الله أو حقوق الناس بحسنة تقابلها من جنسها ، كما يعالج الطبيب الأمراض بأضدادها
مرآة العقول 11 :295
فضل التوبة
1- المحبوبية لدى الله عز وجل ، قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ) سورة البقرة الآية : 222
وقال الصادق عليه السلام : ( إن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالّته إذ وجدها)) الكافي 2:317 الحديث رقم 13
2- إبدال السيئة حسنة ، فإن التوبة لا تزيل الظلمة الناشئة من الذنب فحسب بل تجعل مكانها نور الطاعة ، كما ورد قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) سورة الفرقان الآية 67-69
3- يكون التائب مورد ثناء ودعاء الملائكة ، كما ورد في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) سورة غافر (المؤمن ) الآية 6-8
4- التائب من أهل الجنة ، قال تعالى في قرآنه المجيد : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) آل عمران : 134
5 التوبة تسبب طول العمر وسعه العيش والرفاهية ، قال تعالى : ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) هود : 2
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : (( من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال)) سفينة البحار 1: 488
وخلاصة القول كما أن الذنوب تقصّر الأعمار فكذلك التوبة تؤدي إلى طولها ، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) نوح : 9-11
6 التوبة سبب لأستجابة الدعاء ، كما سيرد في الحكاية الأولى
7- التوبة سبب لرضا الله عز وجل وبشارته ، كما جاء في كلامه المجيد حيث يقول (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) الشورى 25
وقال الإمام الصادق عليه السلام : قال الله عز وجل لدواد عليه السلام (( يا داود بّشر المذنبين وأنذر الصديقين ، قال : كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصديقين ؟ قال : يا داود بشر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب وأنذر الصدقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك )) الكافي 2: 237 الحديث 8
التوبة تطهر الإنسان من الذنوب مهما عظمت أو كثرت ، قال تعالى في قرآنه الكريم ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) الزمر 53-54
لقد أكدت الآيات بشدة على التوبة
وسمع الإمام الرضا عليه السلام بعض أصحابه يقول : لعن الله من حارب علياً عليه السلام ، (( قل ، إلا من تاب واصلح )) ثم قال : (( ذنب من تخلّف عنه ولم يتب أعظم من ذنب من قاتله ثم تاب )) الوسائل 11 : 265 الحديث 10
ويُعلم من هذا الحديث أن أعظم الذنوب وهو محاربة الإمام والوصي يُمكن أن يغفر بالتوبة الكافي 2: 314 باب التوبة
لا تبطل التوبة بمخالفتها ، فلو عاد التائب إلى ذنبه فلا تبطل توبته السابقة بل يجب عليه أن يتوب من ذنبه الجديد ، فكلما غلبه الشيطان وغلبه هواه ووقع في ذنب عليه أن يتوب منه
قال الإمام الباقر عليه السلام لمحمد بن مسلم : (( يا محمد بن ملسم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة ، اما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان )) قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة ؟ قال : ( يا محمد بن مسلم ،أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته ؟؟
قلت : فإن فعل ذلك مراراً ، يذنب ثم يتوب ويستغفر
قال : ( كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة ،وإن الله غفور رحيم ، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ، فإيّاك أن تقنّط المؤمنين من رحمة الله )) الكافي 2 : 315 الحديث 6
قال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : (( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ))
قال : (( هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً ))
قلت وأيّنا لم يعد ؟!
قال : (( يا محمد إن الله يحب عباده المفتّن التوّاب )) الكافي 2 : 314 الحديث 4
وفي حديث اخر قال : (( ومن لم يكن ذلك من كان أفضل )) الكافي 2 : 316 الحديث 9
10- باب التوبة مفتوح حتى آخر لحظة ، قال الإمام الباقر عليه السلام : ( إن آدم قال : يارب سلّطت عليّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم فاجعل لي شيئاً
فقال عز وجل : يا آدم جعلت لك أن من همّ من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه ، فأن علنها كتبت له عشراً
قال : يا رب زدني
قال : جلعت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفر غفرتُ له
قال : يا رب زدني
قال جلعت لهم التوبة - أو قال : بسطت لهم التوبة - حتى تبلغ النفس هذه
قال ربي حسبي الكافي 2 : 319 الحديث 1
وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من تاب قبل موته بسنةٍ قبل الله توبته
ثم قال : إن السنة لكثيرة ، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته
ثم قال : إن الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته
ثم قال : إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته
ثم قال إن يوماً لكثير ، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته )) الكافي 2 : 319 الحديث 2
واحتمل العلامة المجلسي - رحمه الله - أن يكون هذا التدرج لبيان اختلاف مراتب التوبة في القبول والكمال ، فإن التوبة الكاملة المشتملة على تدارك ما فات وتطهير النفس عن كدورات السيئات وتحليتها بأنوار االتضررعات والحسنات لا يتأتى غالباً في أقل من سنة فإن لم يتيّسر ذلك فلا أقل من شهر لتحصيل بعض تلك الأمور وهكذا مرآة العقول 11: 314
أما المراد من وقت المعاينة الذي ذكر في الأخبار وأن التوبة عندها لا تنفع قال عنه الشيخ البهائي في أربعينه : من تاب قبل أن يعاين ، أي يرى ملك الموت ، كما روي عن ابن عباس ، ويمكن أن يراد بالمعاينة علمه بحلول الموت وقطعه الطمع من الحياة وتيقّنه ذلك كأنه يعاينه ، ويمكن أن يراد بالمعاينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام كما روي في الأخبار
وإجمالاً أجمع العلماء على بطلان التوبة حال التيقن من الموت وأنها غير ذات فائدة كما وهو صريح الآية (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * ) النساء : 17
( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) 16