شهدت العاصمة بغداد الحبيبة تفجيرات عشوائية بِعدّة سيارات مفخخة وفي مناطق مختلفة من كرخها ورصافتها، وإنْ كانت الرصافة قد نالت حصّة الأسد من التفجيرات وهو ما اعتادت عليه طيلة السنوات السابقة، وعلى عادة هذه التفجيرات الوحشية الإجرامية فإنها لا تُميّز بين المكان والزمان والإفراد إذ أنَّ كُلاً عندها سواء، الطفل، الشيخ، ألامرأة، الشاب، السني، الشيعي، الكردي، العربي، المسيحي والصابئي، لأنَّ القائمين على هذه التفجيرات والمخططين لها أناس لا تربطهم صِلة لا بدين أو عُرف أو قومية حتى تسمح لهم هذه العقبات الشريفة بالامتناع أو التفكير فيما يعملون حتى يتراجعون.
وهنا لا أريد أنْ أتحدث عن الجرائم ومُرتكبيها وعدد الضحايا والدمار الذي خلّفته تلك الأعمال القذرة والتي تَعوّدَ عليها قسراً أبناء هذا البلد المظلوم الصابر وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إلا إنَّ ما لفت انتباهي وانتباه الجميع هو الموقف الحكومي الهزيل المتراخي بل الميت وعلى مختلف الأصعدة سواء الإدارية أو الإعلامية أو الإنسانية أو الخدمية منها.
ففي الحوادث والجرائم السابقة قبل ما يُسمّونه بالمصالحة الوطنية نرى انَّ الجميع ينتفض ويستنكر ويشجب ويخرج إلى شاشات التلفاز ويُعبّر عن أسفه وسخطه وتبرّعه بالمال وقيام البعض منهم بالزيارات الميدانية سواء لمكان الحادث أو للمستشفيات التي يرقد فيها جرحى التفجيرات والأعمال الإرهابية بالإضافة إلى التغطية المُستمّرة للحدث وعلى مدى اليوم كله عبر وسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية وتحديداً المحلية منها.
وما قَلّبَ المواجع هو انَّ الحدث تزامن مع حصول زلزال في ايطاليا إلا انَّ المواقف في كلتا البلدين اختلفت تماماً، فالرئيس الايطالي (برلسكوني) قطع زيارته لموسكو وعاد على عجلة من أمره لمتابعة ما خَلّفه الزلزال وما يمكنه تقديمه عن قرب وفي أسرع وقت ممكن، بالإضافة إلى انَّ القنوات الايطالية لم تنقطع مُطلقاً عن تغطية آثار الدمار الذي خلّفته آلة الدمار الزلزالية التي عصفت ببلدهم ولقاء مُراسليها بالعوائل المنكوبة ومُتابعة أحوال الفارّين من جَرّاء الكارثة الإنسانية التي لحقت بهم والتفكير في إيجاد الحلول المناسبة لذلك، بالإضافة إلى غيرها من المواقف الرسمية الأخرى التي إنْ دلّت على شيء فهي إنما تدل وتـنمّ على الحرص الكبير من قبل الحكومة الايطالية على أبناءها.
أما في العراق فالوضع مُختلف تماماً ولا يُقاس بتاتاً‘ إذ أنَّ الحكومة وعلى تعدّد عناوينها سواء التنفيذية أو التشريعية انشغلت بزيارة الرئيس الفلسطيني (محمود عباس) والذي قَدِمَ إلى أرض الوطن لأخذ حصّة الحكومة الفلسطينية المتآمرة على المقاومة من الأموال التي وعدهم بها رئيس الوزراء العراقي في قِمّة الدوحة الأخيرة والبالغة قيمتها خمسة ملايين دولار (ما يُعادل أكثر من خمسة مليارات دينار عراقي).
أما الحدث الآخر الذي عاشته بلادي اليوم في ظِلّ نزف الدماء الشريفة الاهتمام الحافل باستقبال وزير التجارة البريطاني (بيتر ماندرسون) والذي ساهمت بلاده مُساهمة فاعلة في شراء أرواح الأبرياء وبأبخس الأثمان وتهديم البُنى التحتية والأخلاقية والـقيمية لهذا الشعب الصابر.
والغريب أكثر انَّ وسائل الإعلام عموماً وشبكة الإعلام الحكومي خصوصاً لأني لا أحبذ تسميتها بشبكة الإعلام العراقي لأنَّ ذلك كذب محض فهي قناة خاصة للحكومة فقط والكل يعلم ذلك، فهذه الشبكة وأطيافها المتنوعة من المرئية والسمعية الكثيرة قد انشغلت بأمور عجيبة وكأنها قناة تبثّ إلى سكان خارج المنظومة الشمسية، فعلى سبيل المثال القناة الفضائية الرئيسية أو ما تُسمّى بـ(العراقية) قامت تارة بعرض تقرير لسيرة الفنان الراحل (قائد النعماني) والذي وافته المنيّة في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخّراً، وتارة أخرى تعرض تقرير عن وزارة النفط والاقتصاد، ومن جهة أخرى تعرض وبكل وقاحة برنامج (أنت والحظ)، أما الهمّ الكبير لكادر هذه الشبكة وما شغلهم لحظة التفجير هو التخوّف من خروج فريق (أربيل) الكروي من منافسات كأس الاتحاد الأسيوي للأندية الأبطال في حالة خسارته أمام بطل الدوري العماني.
وليس هذا فقط إذ أنَّ هذه الشبكة لم تُكلّف نفسها من أنْ تضع شريطاً أسوداً في ركن الشاشة تعبيراً عن المأساة التي حصلت والنكبة التي حَلّت بأخوتهم كما هي عادتها في السابق.
أما القنوات الأخرى فإحداها مُنشغلة ببرنامج (الحيّة والدرج) والثانية تُزمّر باطِلاً عن دعوة البعض لعودة البعثية وتنتقد الحكومة لمصالح حزبية وليس قربة إلى الله.
وبخصوص القناة الخاصة برئيس الوزراء فبالله أشهد أنها لم تُقصِّر، إذ أنها انبرت إلى عرض تقرير مُفصّل عن (الموبايلات) ومشاكل الخطوط والاتصالات في الوقت الذي تسيل فيه الدماء الطاهرات وتصرخ من اجل ذلك النساء المُثكّلات والأطفال المُيتّمات والدور المهجرات.
وليس هنا فقط وتنتهي الحكاية بل انَّ الأدهى من كلِّ ذلك انَّ الناطق بإسم خطة فرض القانون (قاسم عطيو المكصوصي) طالبَ وسائل الإعلام جميعها بضرورة أخذ التراخيص والموافقات الرسمية لتغطية الحوادث التي تقع، مُبرّراً ذلك بالمحافظة على سلامة الصحفيين حسب قوله!!.
وقد فاتَ السيد الناطق المحترم من انَّ الناطق السابق بإسم حزب البعث والذي ينتمي له سيدنا الناطق الجديد كان يخبر الناس بانَّ الاحتلال لم يدخل العاصمة بغداد مع العلم انه كان على بعد أمتار عِدّة من مكان انعقاد المؤتمر الصحفي الخاص به.
وما يدهش الناس أكثر هو انَّ الجميع غير مُكترث لِما يحصل ويجري وكأنَّ قُمامة من الأرض قُطِّعَتْ أشلائها وَرُميَتْ بالمزابل أو انَّ هؤلاء الضحايا الأبرياء هم من كوكب آخر لا يعني للعراق أيِّ شيء.
أو انَّ للحكومة رأي آخر لا تريد أحداً أنْ يطّلع عليه لسريّة التحقيقات لأنَّ الموضوع مُرتَبط بقضية اعتقال الرئيس السوداني (عمر البشير) وهي من خصوصيات محكمة العدل الدولية في لاهاي؟؟!!.
والسؤال هنا:
ما الذي تريده الحكومة من وراء كل هذا التعتيم المقصود والمفتعل والقسري؟؟
هل ترى انَّ الشعب وصل إلى مرحلة أللامُبالاة واللاإهتمام وفقدان الإنسانية في وجدانهم ونفوسهم؟
أم أنها تريد أنْ تبقى مُتوهّمة من انَّ الملف الأمني أصبح جيداً ولا يوجد أي مخاوف مستقبلية من انهياره؟ وأثبتت ذلك من خلال عملية الفضل الأخيرة والتي دجّجت فيها كل قوتها ومُعدّاتها على مجموعة صغيرة من العصابات والذباحين من الذين عمدت الحكومة حينها إلى زَجّهم في ما يُسمّى (الصحوات) مع علمها المسبق بما فعلوه هؤلاء من جرائم بحق الأبرياء.
ولا تحاول مؤسسات الدولة الأمنية وأجهزتها المختلفة والمتنوّعة أنْ تتغابى وتتظاهر من أنها حقّقت الكثير من الانجازات على الأرض.
نعم قد تكون حققت الكثير في تقطيعها أوصال البلد من خلال القواطع الكونكريتية التي جَزّئت بها العاصمة وبقية المناطق وجعلت منها وكأنّها سجون متعددة وكبيرة امتلأت بها محافظاتي الغالية.
وفي الختام أدعو الإخوة في الحزب الحاكم اليوم أنْ يلتفتوا إلى انّ الذريعة التي يتبجّحون بها في إسقاط الحزب العفلقي الحاكم السابق في قتله الأبرياء فانَّ الذريعة نفسها اليوم تنطبق عليكم لأنكم تغافلتم عن علم وعمد عن هذه الجرائم وغيرها وحاولتم جاهدين تكميم كل شيء من أجل كذبة أطلقتموها أنتم وصدقتموها في ذات الوقت أسميتموها بالأمن.
فاتقوا الله وارجعوا إلى رشدكم وعقلكم ودينكم وآخرتكم قبل فوات الأوان، وأذكّركم إنْ نسيتم ولا أظنكم ناسين اننا مُقبلون على ذكرى شهادة المفكر الإسلامي السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس الله سره الشريف)، وحسب علمي فإنكم تَدّعون الوصلَ به والانتماء له وكلنا يعرف من هو السيد الشهيد الصدر الأول ومدى حرصه على الإنسانية جمعاء وماهي مواقفه وخطاباته المعتدلة المتوازنة والتي أصمَّت أذان الغَفَلَة والظالمين والتي كان منها (انَّ الجماهير أقوى من الطغاة)، فعليكم أنْ تكونوا من صنف الجماهير وإلا فإنكم حسمتم أمركم في المربع الآخر وفي ذلك هلاككم.
فاتعظوا يا أولي الألباب لعلكم ترحمون.
|