شيعي حسني
|
رقم العضوية : 24389
|
الإنتساب : Oct 2008
|
المشاركات : 5,056
|
بمعدل : 0.86 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الفقهي
المحاضرة الأولى لمباني السير و السلوك إلى الله لسماحة العلامة الطهراني
بتاريخ : 13-03-2009 الساعة : 11:14 PM
إنّ الهدفَ من خلقة الإنسان هو بلوغُ مقامِ العبودية, بحيث يرى نفسه عبداً قنّاً لله, ويسير في طريق العبوديّة المطلقة دون قيد أو شرط, فيرى كلّ ما هو في عالم الوجود, من الوجود والاستقلال والحياة والعلم والقدرة المتخِّذة نحواً مستقلا, يراه مسلّماً لله معترفاً به, مقرّاً بأنّ ذلك لله, يرى أنّ الفقر والعدم والجهل إنّما هو من ناحية الإنسان نفسه, وأنّ الإنسانَ عبدٌ متمحّضٌ في عبوديّته لله, سواء في أصل وجوده أم في مقام التكليف والعمل. وهذا هو مقام الإنسان الكامل وهو أكبر درجة قد أنعم بها الله العليّ الأعلى على الإنسان.
مباني السير و السلوك إلى الله
المحاضرة الأولى
سماحة العلامة الراحل اية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين
إنّ الهدفَ من خلقة الإنسان هو بلوغُ مقامِ العبودية, بحيث يرى نفسه عبداً قنّاً لله, ويسير في طريق العبوديّة المطلقة دون قيد أو شرط, فيرى كلّ ما هو في عالم الوجود, من الوجود والاستقلال والحياة والعلم والقدرة المتخِّذة نحواً مستقلا, يراه مسلّماً لله معترفاً به, مقرّاً بأنّ ذلك لله, يرى أنّ الفقر والعدم والجهل إنّما هو من ناحية الإنسان نفسه, وأنّ الإنسانَ عبدٌ متمحّضٌ في عبوديّته لله, سواء في أصل وجوده أم في مقام التكليف والعمل. وهذا هو مقام الإنسان الكامل وهو أكبر درجة قد أنعم بها الله العليّ الأعلى على الإنسان.
فلا بدّ لسائر الأفراد الذين يعيشون في هذه الدنيا, أن يسيروا نحو هذا المقام, ويسعوا لبلوغه, ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنسان من أهل هذه الشريعة أمْ تلك, أو هذا المذهب أو ذاك, أو كسائر الأفراد العاديين.. فالأنبياء أَتَوا ودَعَونا إلى هذا المقام, ونبيّنا يدعونا إلى هذا المقام, والقرآن يدعونا إلى هذا المقام, فإنْ نعمل ونلتزم بالقرآن وبسنّة رسول الله والأئمة, أي نسعى بصدق وإخلاص, ولا نُنقصُ ولا ندخل شيئاً من أنفسنا ولا نضيف, بلْ نتحّرك على أساس صراط العبودية, فسوف ندرك هذا المقام ونصل إليه.
وأمّا ما يُرى من بعضهم ممن قضَوا عمرهم, ستون سنة أو سبعون أو ثمانون سنة.. ثمّ لم يبلغوا ذلك المقام ولم يصلوا إليه, فذاك لأنّهم لم يلتزموا عملاً وفعلاً. فهم مطّلعون على القرآن وقد مرّوا على الأخبار وقرؤوها وتعلّموها, لكنّ علومهم هذه, لم تكن إلا لتحصيل الأمور الدنيوية.. فالمال بقيَ على حاله, وكذلك الجاه, وطلب القدرة والسيطرة والغلبة, وحبّ الرياسة وأمثالها, فقد جعلوا جميع العلوم القرآنية والتفسيريّة, والحديث والحكمة وعلوم الشريعة.. كلّ ذلك فداءً لحطام الدنيا, فمن الطبيعي جداً أن يُزَخرِفَ حطامُ الدنيا للإنسان ويزيّنُ له, لكنّها في الواقع تجارة باخسة, وصفقة خاسرة, وفائدة قليلة جداً جداً, فبذل رأس المال وهدره مقابل هذه النتيجة الضئيلة خسارة لا تُثَمَّن, وقد ورد في القرآن:فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلىَ عَن ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا*ذَالِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ(([1]).
فهو خطاب للنبي ضمن آيات سورة النّجم, أيّها النبي أعرض عمّن أعرضَ عن ذكرنا ونسي ذِكرانا, فليس لهؤلاء إلا الحياة السفلى الدنيئة, حياة الشهوات والإحساسات والعاطفة, وليس لهم أيّ سبيل للترقّي إلى الأعلى, فهم لا يعتقدون بوجود حياة أفضل من هذه الحياة الدنيئة, ولا يتوجهون إلى غير ذلك ولا يتحركون نحوه.
)ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ(فأعرض عنهم, فهم لا ينفعونك ولا يضرّونك بشيء, فالمهمّ هو تلك الحياة العليا, حياة العلم, حياة القداسة, حياة العبوديّة, حياة الصدق, حياة الورع, حياة الإيثار, والتجاوز عن الذات, حياة الوجدان والعاطفة, حياة العبوديّة والسير في صراط حضرة الأحديّة, حياة سَحقِ رغبات النفس الأمّارة, فتلك هي الحياة.. تلك هي الحياة.. تلك هي الحياة العليا.
فإذاً, يجب علينا في هذا المسير أنْ نسلكَ لنصلَ إلى الدين ونحطّ على شاطئ الشريعة الغرّاء, ونطّلع على حقيقة الدين, ويتحقق فينا هدفُ بعثة الأنبياء والمقصود من الكتب السماوية, فلنعمل إذاً, ولنحقّق الإرادة الإلهية من خلقنا, سواء الإرادة التكوينيّة أمْ التشريعيّة, ونسير في صراط الرشد والرفعة, لا في صراط الضلال والغيّ والسفه, وركوب مشتهيات النفس الأمارة, وإنْ عَملنا, فلا يكونَنّ عملنا مغايراً لما في كتاب الله وسنة نبيّه والأئمة, فما عندنا هو منهم, وبالقدر الذي يتخطّى أحدنا عن ممشى هؤلاء, حتّى لو كان بقدر رأس إبرة فإنّه مشتبه وضالّ. فنحن نعتقد أنّ المربّي الأول والأعلى هو حضرة الرسول وأمير المؤمنين وأولاده, فلا بدّ وأنْ ننهل من تلك المطالب التي وصلتنا من القرآن, ونأخذ من كلماتهم وبياناتهم فيما يتعلّق بالسنّة أو المنهاج الذي نسير عليه, فالطريق الأفضل والمتعيّن هو نفس الطريق الذي ساروا عليه هم أنفسهم دون أيّ شبهة أو تردّد, طريقٌ مملوء بالروح والروحانية.. وهو الأسلم والآمن من سائر الطرق, وهو الطريق المستقيم نحو الهدف, فالطريق المستقيم هو الواقع بين نقطتين, ولا يتحقّق إلا بخطٍّ مستقيم واحد بينهما.)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم(([2]) كذلك قوله تعالى )وَ إِذًا لاََّتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا*وَ لَهَدَيْنَاهُمْ صرَِاطًا مُّسْتَقِيمًا(([3]) فعلينا أن نسيرَ نحو هذه الحقيقة, وحينئذٍ نبلغُها ونصلُ إليها.
فأوّل ما يجب علينا مراعاته أثناء سلوكنا لهذا الطريق ـ بعد التنبُّه واليقظة ـ أن نرجع إلى أنفسنا ونرى ماذا نكون نحن وماذا نمثّل؟ من نحن؟ فنحن إنسان نستيقظ في الصباح, نمارس العمل حتى الليل ثم ننام في الليل, وغداً يتكرّر ذلك, وبعد غدٍ سوف يتكرّر, وكذلك في المستقبل, وكلّ فرد من بني آدم يشغل نفسه بعمل ما, ولا يلتفت إلى سبب هذه الأعمال؟ لماذا أتى؟ لأيّ هدف؟ وما هو هدفه وغايته؟ لماذا انصرم هذا اليوم ومضى؟ فهذا اليوم يمثّلُ رأسَ مالِ عُمْرِ الإنسان الذي أعطاه الله إيّاه, فلماذا انقضى ؟ وماذا أنتجَ الإنسان مقابل هذا اليوم المنصرم؟ فإن حصّل شيئاً وربح, فهنيئاً له, قد مضى من عمره يومٌ واكتسبَ في قباله شيئاً, وإن لم يكتسب شيئاً فهو مغبون, يقول رسول الله: (من استوى يوماه فهو مغبون)([4]) وعليه, كيف انصرم هذا اليوم الذي يمثّل العمر بأكمله, والذي بأجمعه يعدُّ يوماً واحدا؟
ابرو باد ومه وخورشيد وفلك دركارند
تا تو ناني به كف آري وبه غفلت نخوري([5])
همه از بهر تو سرگشته وفرمانبردار
شرط انصاف نباشد كه تو فرمان نبري([6])
فجميع هذا العالم العيني هو يوم نحياه, ونرتبط فيه مع حركة الشمس والقمر والمجرات, أحضروا جميع الذرات, كلّ أشجار العالم, جميع حيوانات العالم, كلّ موجودات العالم, كل ذلك مرتبط ببعضه البعض ويشكّل وجوداً واحداً, وجميع ذلك مؤثر في "يوم الحياة", بحيث لو عُدم هذا اليوم المتكامل من عالم الوجود لانهدمَ عالم الوجود بأسره.
فإذاً, جميع ذلك إنّما هو لأجل أن نحيا هذا اليوم الذي يمثّل دائرة الحياة بأكملها, وكلّ ذلك لأجل أن نخطوَ إلى الأمام قُدماً, ونرفعَ ـ يوماً مّا ـ ستارَ الغفلة عن عيوننا, ليُكشفَ الغطاء, ونعرف خالقنا, ونبصرَ مسيرنا, ونبلغَ هدفنا, وندرك مبدأنا ومعادنا, وإِنْ يحصلْ ذلك لنا فسوف يلفنا السكون والهدوء والسرور, وسوف ندرك الحظّ الوفير والنورانية لنحيى مع كامل النشاط, مثل الطالب المحصّل يوم الامتحان الذي أصبحَ الشخصَ المبرّز والتلميذَ الأوّل, فيأخذ ورقته بيده ولا يخاف من شيء.. فهو مقبول.. قد قُبِل. وأمّا لو غرق في الغفلة ـ لا سمح الله ـ فتدركه ليلة الامتحان وهو مقصر, عليه أن يقوم بدراسة سنة كاملة في تلك الليلة, وغداً يلتمسُ من هذا.. ويقول لذاك التلميذ: فلان!! ساعدنا.. لا تنسانا في الامتحان... فهذا موجبٌ لعدم الموفقيّة ومستوجب للخجل والتأسّف.
فأوّلُ ما يجبُ علينا في هذا المسير هو السير والحركة, ولا بدّ لنا من الالتفات إلى أنّنا مسافرون في طريق الله, ولدينا مقصد وهدف, والمسافر هو نفسنا, والمقصد هو الله, والطريق الذي سوف نسيرُ فيه لا نهايةله فليس هو كبلوغ رأس جبل ما, وإنّما هو عبورٌ عن النفس وصفاتها. يعني يجب أن نغيّر هذه الصفات ونستبدلها بغيرها, فنبدّل الصفات المنفيّة بالمثبتة.. ونستبدل الصفات السيّئة بالحسنة.. ونرفع الحجب.. فيزدادَ إدراكنا.. وتشتدّ نورانيّتنا يوماً بعد يوم, ونخرج من التقيّد والحدود, ونهجر محدوديّة عالم المادّة ونودّعها, ونقطع تعلقاتنا بها.. ونرحل إلى عالم المجرّدات وعالم النّور, ونقترب من هذه العوالم, وهو عبارة عن الحركة في النفس, فمقصدنا وهدفنا هو الله, والمسافر يحتاج إلى زادٍ ومطيّة, فزادنا هو التوكّل على الله, والراحلة هي الاستعانة بالله والعمل بالقرآن وسنّة النبيّ ومنهاج الأئمة عليهم السلام, هؤلاء هم زاد الطريق كذلك, ويجب أنْ نأخذَ بذلك ونتزوّد به ونسلك ونتحرك ونبلغ الهدف, فهذا الطريق معدّ للسير والحركة, وهو الطريق الذي سارَ عليه من سبقنا, ولا ينبغي أن يقول الإنسان: أنا هكذا.. لا أستطيع.. أنا بعيد... ليس لديّ أيّ قابلية.. ولا استعداد.. كلُّ ذلك كلام فارغ وهراء لا معنى له, ولا طائل منه, فهذه القابليّة التي حصلَ عليها الإنسان, هل كانت من منزل أبيه؟! كلّ ذلك كان بيد الله, وبعناية من الله, فهو الذي أعطى.. وكذلك يعطي, فليس لله عداوة معنا, وليس لله سابقة سوءٍ معنا, فقد أوجدنا برحمته, لنتكامل ونسير ونبلغَ رحمته, ونسلك إليها ونقصدها, فالله قد خلقنا من نطفة, ووضعنا في هذه السلسلة الطويلة, فتجاوزنا مسافاتٍ هائلة وحالات مختلفة, وبعد ذلك أَوصَلَنا إلى الدنيا, ثمّ يشرعُ هذا الإنسان بالتسويف والتضييع, ويلهي نفسه في أمورٍ جزئيّة تافهة جدّاً, ويقول: أريد أن ألهو وأهزأ! لا أريد أن أعتني بشيء! ولن أهتمّ بشيء, أريد أن أسخر بكلّ ذلك!! أيّها الإنسان ـ أستغفرُ الله ـ لو أراد شخصٌ أن يقابل إنساناً آخر بهذا التصرّف لاستحيى منه.. ولعيّبوه.. والحال أنّنا قد دُعينا إلى الخير المحض والرحمة المطلقة, لكنّنا نواجه ذلك بأنْ نعارضُ ونعترض ونقترح ونتوقّف.. ففائدة هذا السلوك ليست لله! بل هي لنا ولأجلنا, وعليه فكلّ ما نتوهّمه أنّه مخالفٌ للمصلحة ومغايرٌ للواقع فتقفُ أنفسنا بوجهه وتعانده ولا ترضخ له.. فإنّ علينا أنْ نلجمَ أنفسنا ونُصلحَها ونطبّق منطقنا وذاتنا على هذا المنهج الإلهي, فالله خير محض.
ونحن إنشاء الله ـ وبإرادة الله ـ ما إنْ نتحرّك نصل, وحينئذ سوف ينكشف أنّ ما قالوه هو صحيح, فوا عجباً.. كلّه صحيح, كلّ ما كانوا يذكرونه من الجنّة هو كذلك.. حور العين هي هكذا.. وجنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار.. حقاً كذلك.. يا للعجب!! كلّه حقيقة وواقع.. فقد ورد في القرآن المجيد أنّ أهل الجنة يقولون لأهل النار )قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا(([7]) ها قد وجدنا كلّ ما وَعَدنا الله به من الجنة والرضوان والأماكن الواسعة الفسيحة أمامنا, وكذلك ما وعدهم به ربّهم من:)وَ نَزَعْنَا مَا فىِ صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلىَ سُرُرٍ مُّتَقَبِلِين(([8]) ذاك الغلّ, فالغلّ هو القذارة, يقولون مثلاً: حينما يريدون أن يمزجوا السكّر بالماءً ويصنعون منه حلواً, يطفوا على سطحه مادة غير نظيفة, ثمّ بعد ذلك يضيفون إليه مادّة ثانية تأخذ كلّ ذلك وتجعله نقياً صافياً وطيباً, والله يفعلُ كذلك في قلوب المؤمنين, فيخرجُ من قلوبهم كلّ غلٍّ وكدورة ومعصية, وبعد ذلك يُوصلُ الإنسانَ إلى حالة يصبحُ من خلالها ينظرُ إلى جميع أهل العالم بنظر المحبّة والعطف, حتى إلى الكفّار, حتى إلى الأشقياء, ويُشفق على حالهم ويرفق بهم.. ويعطف على الكفار.. يا ربّ اهْدِهم.. نعم هو كافر لكن اهْدِه.. يتحمّل المشقّة لأجل هدايتهم, يتحمل المشقّة كي يسلموا, فالنّبي كانَ يحارب, وكانَ يقتلُ منهم ويقاتلهم كي يُسلموا, وليفتحَ لهم طريق الهداية, وما إنْ يُسلموا ويتحقّق الارتباط بينهم وبين النّبي ويسلِّموا له, حتّى يدخلوا في بحر واسع من الرحمة والنظرة الرحمانيّة الشاملة لجميع الخلائق, فإنّه يطلب الخير للجميع, كلٌّ حسبَ درجته ورتبته, ويحبُّ الجميع, ويرغب في أن يطوي الجميع الصراط المستقيم وصراط الإسلام, صراط الإنسانية.. ليصل الجميع إلى الله.. ويخطو الجميع نحوَ الهدف الصحيح والممشى السديد, فلا غلّ أبداً ولا حسد.. ولا تكبّر ولا تشويش.. لا غشّ في النفس.. ولا اضطراب فيها.
كنّا ذاتَ مرّة في المستشفى وقد بِتنا فيه, فكانوا حينما يحضرون وجبة الغذاء, وذلك بعد أن أجازوا لنا بتناول الطّعام, حيث بقيت لمدّة أسبوع ممنوعاً من ذلك, وكنتُ أضع قطعة من المنديل أمامي, وكان هو سفرتنا.. وبعد أن رخّصوا بالطّعام, فحينما يحينُ وقت الغذاء ويحضرون الطعام كنت آكل منه لقمة واحدة, وكنت أقول: سيد محمّد محسن! ناولني هذه السّفرة! لَعمرُكَ.. لا يمتلكُ مثلها رئيس جمهورية أمريكا, فهذه السفرة التي كنّا نفترشها ولم تكن مساحتها تتجاوز المنديل الصغير, وكنتَ أنتَ تجلسُ بقربي هنا, مع خالص المحبّة والوفاء, وهذه العذوبة, والبهجة, دون أيّ غصّة ولا غمّ, أقسمُ بالله أنّ رؤساء الدنيا لا يمتلكون مثلها, يعني لا يستطيعون أن يقيموا مثل هذه المأدبة التي لا همّ فيها ولا غمّ, وعليه فإنْ يطلب العقلاء الدنيا ويعملوا لأجلها فسوف يكونوا مخطئين. لأنّهم من خلال ركونهم إلى الدنيا سيستجلبون العذاب لأنفسهم, ويتجهون نحو جهنّم, أي يتحرّكون نحو الشقاء. فأيُّ طريق يريد الإنسان أن يطويه في الدنيا لأجل الراحة فهو خيال, لأنّه حينما يبلغ ذلك سوف يدركُ أنّه خيال ووهم وسراب, وسوف يُهزَم ويتقهقر..ويُواجه الخسارة ويدركها, فينامُ متعباً, ويستيقظ متعباً, وألف خطّة من المكر والحيلة.. ويأخذُ بالاعتراض ويقول: ما هي هذه الحياة؟ ما هذه الدنيا؟ حسناً, تفضّل خذْ هذا القصر, ومن الذهب كذلك.. وارتفاعه يبلغُ السماء وينطَحها.. فأيّهما أفضل؟ أن يمتلك الإنسان كوباً خشبياً ويشربُ بواسطته ماءً بارداً, أم يكون عنده إناء ذهبي ولكن يشرب فيه الدم؟! هؤلاء رؤساء الجمهورية, هؤلاء السلاطين الذين يتقيّئون الدم ويموتون, ألا يتقيئون في الإناء الذهبي! بينما ذاك الفقير الذي لا يملك حيلة, ويعيش في قريته وهو مؤمن.. مسلم.. وعنده وعاء خشبي يأكل منه, هو وعائلته وأطفاله, ويشرب به الماء البارد السلس, ويقول الحمد لله.. هذا أفضل أم ذاك؟ فإذاً, أقسم بالله أنّ كلَّ عبيد الدنيا مشتبهون,
اهل دنيا از كهين واز مهين
لعنة اللهعليهمأجمعين([9])
هذا من أشعار مولانا, يعني أنّ أهلَ الدنيا من الذين لا يحيون حياة الأولياء, يعني غير أهل الله, فهم من الحقارة والمهانة, واللعنة هنا بمعنى الإبعاد, فالله قَسَمَ لهم البُعد, وهم مأسورون للدنيا غارقون فيها, وهذه اللعنة التي وضعت عليهم لا بد وأن يدفعوها عن أنفسهم بواسطة مجاهدة ذاتهم وأنفسهم, بواسطة التوفيقات الإلهية, فيسيرون وينالون التوفيق ) وَ قَالُواْ الحَْمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الحَْزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ*الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب(([10]) فالحمد مختص بالله, الذي جعلنا في دار المقامة, في هذا المقام المكين والمقام الأمين, وهذا من فضل الله, أنْ قد أعطانا محلاًّ هنا, ماذا يعني هنا؟ هنا حيث لا ابتلاء.. ولا مشقة.. ولا تشويش.. ولا اضطراب في البال, هنا محلّ الأمن.. محلّ الأمان, ومحل السلام.. هنا محلّ أسماء الله الحسنى, أسماء الله, هنا اسم السّلام .) لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب(([11]) يعني لا يوجد هنا أيّ شيءٍ من تلك الابتلاءات, وهذا هو المقام الذي يذهب إليه الإنسان ويدركه, ولكن كلّ ذلك مختصّ بالإنسان الذي طَوَى هذا الطريق وسلكه في الدنيا.
وأمّا لو نامَ الإنسان في الدنيا, وقال: سوف أَسيرُ وأَصِلُ في الآخرة, فأبلغ هناك المقامات "وكذا وكذا".. لأنّه إنّما يتمّ بواسطة كذا وكذا.. كلّ ذلك اشتباه. فالدنيا هي عالم العمل, افرضوا مثلاً: أنّ الطبيب الجامعي كحضرتكم, فالمحصِّل الذي يذهب إلى الجامعة عليه أن يعمل ويجتهد ويدرس هناك, ولو قال: أنا آخذ "ديبلوم" ثمّ بعد ذلك أشرع بالدّراسة والتحصيل... فهذا غلط واشتباه, بل يجب عليه أنْ يعمل هنا, وحينئذ إن يدرس ثمّ لا يعطوه "ديبلوم", فلا ضير, لأنّه قد حصل على العلم فعلاً, وإنْ يذهب إلى أيّ مكان في الدنيا فهو يمتلك رأسَ مالٍ علمي, وأمّا لو لمْ يجتهد ولم يعمل, فلو أَخَذَ ألفَ شهادة "ديبلوم", فعليه أن يرمي هذه الخُرَق "أوراق الشهادة" في دكانٍ لبيع المثلّجات, فلا قيمة لها, والمسألة كذلك. الدنيا محلٌ للعمل, والله أوجدنا كي نستيقظ ونتنبّه, ونمتلك البصيرة, ونسير نحوه بشكل مستقيم, فجميع المقامات التي شُرِّعت في القرآن المجيد, وأُفيضتْ علينا, وبُيّنت لنا, كلّها للأشخاص الذين يعملون في الدنيا (اليوم عملٌ ولا حساب, وغداً حسابٌ ولا عمل)([12]) فاليوم عمل, وغداً امتحان وحساب ولا عمل, وكلُّ عملٍ نقومُ به فإنّ نتيجته وربحه مختزَنٌ فيه. كلّ كلمة "الله" نقولها بإخلاص, فإنّها تختزنُ في طيّاتها "لبيك" تصدُرُ من الله إلينا, يجيبنا بها في نفس تلك اللحظة التي تصدرُ منّا كلمة "الله", وكلّ قدم نخطوها نحو الله, فإن النتيجة منطوية في نفس هذا العمل ومستترة فيه.
حسناً, نحن نريد الآن السير نحو الله, وذلك بعد أن نبَّهنا هو بنفسه, ومنحنا التفكّر والتأمّل, فما إن نفتح أعيننا.. حتى نرى العجبَ العجاب!! فها هي الشّمس قد طلعت.. والقافلة قد سارت وغادرت المكان.. ونحن بقينا بمفردنا هنا.. وتجمّدنا وانشغلنا.. ونِمنا من الليل حتى الصباح.. واهٍ واه.. كانت القافلة معنا.. وها همْ قد راحوا.. راحوا وابتعدوا.. ولعلّهم وصلوا! نعم, لعلّهم بلغوا الهدف وطووا الطريق.. فحينئذ يسأل الإنسان: لماذا أشرقت الشمس الآن؟! إلهي! إلهي! ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ فالشمس قد أشرقتْ الآن, وأنا في وسط الصحراء.. غريب.. لا عون لي.. وحيد.. لا أعرف مكانا هنا.. إلهي!! حلّ مشكلتي.. إلهي! أزل ألمي.. إلهي! إنّي توكلت عليك.. ألقيتُ حملي عليك.. فوّضتُ أمري إليك.. فأنا الذي تأخّرت وتخلّفت, خذ بيدي.. هذا هو عالم اليقظة والتنبه.
وحينئذ سوف يمدّ الله يدَ العون إليه, ويقول: الآن تفتّحت عينيك, والآن استيقظتَ وصرتَ متنبّها, فانظر كمْ بقيتَ متأخراً, قد انشغلت بالنوم من الليل إلى الصباح, ويجب عليك الآن أن تتدارك كلّ ما فاتك من تقصير, فمن الآن لا تَعُدْ إلى النوم, فهذه صحراء! وفيها أنواع البلاء والمخاطر, فيها الأسد والنّمر.. فيها السارق وقطّاع الطريق.. وعليك أنْ تتحرك وتسير.. فيتحرك بواسطة المدد الإلهي, ويبدأ يبكي وينيب.. ويرجع إلى الله ويسير نحوه بذاك المقدار الذي كان قد غفل فيه, ويتأمّل في تلك السيّئات والأخطاء التي اقترفها.. التي اطلع عليها الآن وشاهدها, فيعود ويقول: إلهي! اعترفت من الآن باشتباهي, وأنت إلهي وربّي, وأنت مولاي, وأنت سيّدي, وإن أعتمد على نفسي فسوف أُخطئ ثانية, فها أنا أعتمد عليك.. فالاعتماد لا يكون إلا على الله, فلا يوجد في كتاب الله مورداً واحداً يكون الاعتماد فيه على النفس, ولا أدري من أينَ أتى لفظ "الاعتماد على النفس", فالقرآن يقول: اعتمد على الله, اترك النفس ودسها تحت أقدامك, قدّم النفس فداء لله, فالاعتماد على النفس مقابل الاعتماد على الله, هو اعتماد على الصنم قبال الحقيقة, بل ينبغي للنفس أن تعتمد على الله.. هذه النفس التي تمثل آية لله ووجوداً نورانياً, وحينئذٍ يكون الاعتماد على الله من خلال النفس التي لم تتنزّل من مراتب الإخلاص والخلوص لله, فلا يعود الاعتماد على النفس, بل هو اعتماد على الله مباشرة.. اعتمادٌ على ذاك المحتجِبِ خلفَ ألف حصن!!
حسناً, قد اعتمدتَ على ألف جهنّم! فأي فائدة جنيتَ من ذلك؟ فالاعتماد على الله, ولذلك ليس لدينا اعتماد على النفس في القرآن.
)وَ تَوَكلَْ عَلىَ الله(
)وَ تَوَكَّلْ عَلىَ الْحَىِّ الَّذِى لَا يَمُوتُ(([13])
)وَ قُلِ الحَْمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَ لَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فىِ الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُن لَّهُ وَلىٌِّ مِّنَ الذُّلِّ وَ كَبرِّْهُ تَكْبِيرَا(([14])
)وَ تَوَكَّلْ عَلىَ الْحَىِّ الَّذِى لَا يَمُوتُ(
)فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت( ([15])
فجميع هذه الآيات تقول للنبي: أيها النبي أوكل قلبك لله وأعطه إياه)وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا( ([16]) أترك كلّ العالم وصِلْ نفسك بالله, وانقطع إليه, واجعل عملك مع الله على الدوام, هذا هو الذي يوجب لك الحركة والسير والتقدّم, وحينما يسير فلا يبقى قيمة لأيّ شيء آخر, فما نفعني أفراد البشر كلّهم, وماذا أفعل بجميع جواهرهم؟! وما معنى أن نفكّر ونهدر أوقاتنا بالكلام عن فلان وفلان, جاري حمل فأساً وراح... الضرائب صارت كذا وكذا.. فلان قال لي سوأً.. وأخت زوجتي قالت لي كذا وكذا.. وشريكي قال كذا.. وأنا سوف أبقى هنا ولا أذهبُ لزيارته.. سوف أعامله بالمثل, فهو لم يسلّم عليّ... فالكلام بهذه الأمور يطول ويطول إلى آخر العمر ولا ينتهي أبداً, ومن يعِش مع هذا الكلام فسوف يُحبس مع هذه الأفكار إلى آخر عمره, ويموت على هذه الأفكار كذلك, لأنّ قبر الإنسان هو أفكاره, فهذا القبر الذي نؤخذ إليه ونوضع فيه ليس قبرنا, وإنما هو قبر البدن, فبدننا كان من التراب ويذهب إلى التراب, إن تكن النفس قد ترقّت وبلَغَتْ عالماً مّا, فهي في ذاك العالم, وما دامت نفسنا ملوّثة فسوف لا تستطيع تحصيلَ المقامات المعنويّة والروحيّة, قبرُنا أفكارنا.. قبرُنا هو هذه الخيالات.. قبرُنا هو الـ"أنا" والـ"أنت", يجب أن نمضي ونفدي هذه الأنت والأنا ونضحّي بها لله, وحينئذ فإنّ الله يعطي الإنسان مقاماً في ذاك العالم يتناسب مع الحقيقة التي انطوى عليها وجوده حين الموت.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام جملة قصيرة يذكر فيها قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنُه([17]) هذه الجملة عجيبة جداً, تعني أنّ قدرَ كلّ شخصٍ وقيمته هو ذاك الشيء الذي ثبّتَ نفسه على أساسه, وامتاز به وظفر به. فإن كانت الدنيا هي قيمة الشخص, بحيث أنّه صرف تمام عمره للدنيا فهي قيمته, وأمّا لو التزمَ بما كان يأمره الله به, وقال: إلهي مُرني وأنا أطيع.. سمعاً وطاعة, ثمّ يعمل حينئذ ويسعى ويكدّ, فهذا له مقام عال جداً جداً, مقام عال جداً جداً, مقام لا يقبل القياس بشيء أبداً, ولا يمكن إجراء المعاوضة به, فالإنسان لا يعاوض دنياه بآخرته, لأنّه غير مستعد كي يتنازل عن تلك الحالات, ولو بجميع لذات أهل الدنيا.
وحينئذ يتضّح للإنسان كالشمس في وسط النّهار, أنّ الأخبار التي أفصحَ الأئمة عنها, هي حقّ وواقع وحقيقة, فقد ذكرها الأئمة عليهم السلام.. حضرة الإمام الصادق, حضرة الإمام الرضا عليهم السلام.. حيث وردتنا في علل الشرائع.. في عيون أخبار الرضا.. وغيرها... فهي عجيبة ومذهلة, إلا أنّنا ما زلنا إلى الآن نتوهم أنّها مجرّد كلام وصِرفُ افتراضات لا واقع لها, أو نتعاملُ معها على أنّها أساطير وإيحاءات, أو أنّها تشويق وتشجيع نحو أمر لا واقعية له, فنراها مجرّد تشويق نحو أمر خرافيّ مخالف للواقع, أو أنّها نوعٌ من الترغيب والحث على المعارف والعقائد والأمور الروحيّة.. نعم! فنتوجه إليها بعين الخوف والوجل, احذر! لا تفعل!... لا يا عزيزي! هي عين الواقع, وهي عين الحقيقة, بل إنّ كلّ ما بيّنه العظماء وكشفوا عنه النقاب كان بمثابة المثال والإشارة, والواقع أكثر من ذلك وأشدّ وضوحاً وأجلى, وجميع ما يراه الإنسان مما هو مخالف لذلك فهو مجرّد كلام, فالرؤية غير الحكاية والسماع, فأنت تحاول أن توضّح لطفل ذي أربع سنوات كم للنّكاح من لذة: النكاح ممتع.. فماذا يفهم؟ وإن أصرَرْت عليه وألحَحتَ في إفهامه, فسوف يتصوّر أنه كقطعة سكاكر, ولن يفهم شيئاً غير ذلك, نعم؟! ولكن حينما يصلُ إلى سن البلوغ, ويتولّد ذاك الشعور عند الإنسان, فحتى لو لمْ نصرّح له بأنّه حلو ولذيذ, فسوف يلمسه من تلقاء نفسه ويدركه بوجدانه ويحس به بنفسه.
كذلك الآخرة, فما لم نطوِ تلك الدرجات ونبلغِ المقامات ونعاينها, فسيظلُّ يخالُ لنا أنّ هؤلاء الأنبياء إنّما يخبرون عن هذه الحقائق من مكان ناءٍ وبعيد, ولكن بعد أن نذهب ونرى, ونطّلع على أنّ المسألة هي كذلك حقاً دون شبهة ولا ريب, نقول: عجباً.. شَكَرَ الله مساعيهم, فقد أخذوا بيد البشر إلى هناك, وجعلوهم يلامسوا الحقيقة بيدهم, أيّ إنّهم جعلوا الجنّة والنّار للإنسان ملموسة ومحسوسة , وأخرجوها من دائرة التصوّر والتفكيروالافتراض, وأوردوا الإنسان إلى تلك الحقائق, وحينها نقول:) الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَن( ([18]) فحينئذ نصلّي عليهم "اللهمّ صلّ على محمّد وآلِ محمّد".
فكمْ هم عظماء.. وإلى أيّ حدّ تحمّلوا المشقّاتلأجلنا.. فذاك الكسر في منزل حضرة الزهراء!! وإسقاط جنينها!! والذي لا شبهة فيه ولا ترديد.. كان ذلك لأجلنا, فقد تحمّلوا المشقّات إلى هذا الحدّ لأجلنا, نعم, إلى هذا الحدّ قدمّوا حضرة عليّ الأكبر, ولكم بذلوا من الدماء والأنصار! واقعاً عجيب!!
|