أساس التكرار والمداومة في تعليم المسائل الدينيّة
التكرار والاستمرار في عملٍ ما يؤدّيان إلى إتقان ذلك العمل وإلى رسوخه في النفس.
ولا يُماري أحد في أنّ تعلّم أيّ مهارة إذا لم يتزامن مع العمل بها وتكرارها فإنّ تلك المهارة سرعان ما تُنسى. ولذلك يوصي مختصّو التعليم أن يُصار إلى استخدام وسيلة التكرار لدى الأطفال من أجل الوصول إلى إيجاد سلوك ثابت وعادة دائمة لديهم. ويصدق أمر العمل والتكرار حتّى في شأن الإيمان الذي يؤدّي العمل إلى تثبيته:
روى الكليني في الكافي عن الإمام الصادق عليه السّلام في حديث، قال: لا يثبت له ( أي للمؤمن ) الإيمان إلاّ بالعمل، والعمل منه(16) ( أي من الإيمان ).
وروى بإسناده عن الإمام الباقر عليه السّلام، قال: ما مِن شيء أحبّ إلى الله عزّوجلّ من عملٍ يُداوَم عليه وإن قَلّ(17). وروى بإسناده عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: إيّاك أن تفرض على نفسك فريضةً فتفارقها اثنَي عَشَر هِلالاً(18) ( أي: سنةً كاملة ).
وقد ثبت في أمر التربية أنّ المداومة على عمل معيّن يجعل ذلك العمل يتسرّب بالتدريج من ظاهر الفرد إلى باطنه، حتّى أنّ بعض الأعمال التي قد يُخالطها الرياء في بادئ الأمر يمكن أن تتحوّل تدريجاً إلى أعمال صحيحة مقبولة بالمداومة، بشرط أن يُرافق ذلك تصحيح للنيّة.
ويمكن تشجيع الأطفال للقيام ببعض العبادات، أو لحضور المسجد، فيكون فِعلهم لتلك العبادات مقترناً بالخاطرة اللذيذة التي حصلت لهم من قبل، ثمّ إنّ الأمور المعنويّة للعبادات وللمساجد ستجذبهم نحوها تلقائيّاً.
وينبغي السعي إلى توجيه الأطفال نحو التكرار الظاهريّ للعبادات، من أجل تهيئة أرضيّة أُنس لهم بالعبادات، وصولاً إلى تثبيت العمل وإيجاد العادة المستحكمة لديهم للعبادة.
وقد رُويت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وهو المعلّم الأكبر ـ قصّةٌ في أمر تعليم الصلاة والتكرار فيها، ينبغي أن تكون أنموذجاً يُحتذى من قِبل الآباء والمعلّمين، وفيها إشارة مهمّة إلى أهميّة تكرار العمل في صبر وأناة، وصولاً إلى تلقينه للمتعلّمين.
روى الشيخ الطوسيّ في ( التهذيب ) عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين بن عليّ، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم يُحِر الحسين التكبير، ولم يزل رسول الله صلّى الله عليه وآله يكبّر ويعالج الحسينُ التكبيرَ ولم يُحِر، حتّى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسينُ التكبير في السابعة(19).
وعلى الآباء والمعلّمين أن يضعوا نصب أعينهم أمر مراحل نموّ الطفل، وأن يسعوا في صبر إلى الاستجابة لاحتياجات الطفل الفطريّة.
إنّ مهارة المربّين الكبيرة هي أن يُدركوا عالَم الطفل، وأن يعلموا أنّ بعض الأمور التي تبدو للكبار مُتعبة ومُملّة تبدو للأطفال لذيذة ومُبهجة، وأن يعلموا أنّ الأطفال لا يملّون من تكرار المكرّرات. والأمّهات يَعلَمنَ جيّداً أنّ أطفالهنّ لا يملّون أبداً من سماع القصص الجميلة التي يَسردْنها عليهم بصوت حنون ربّما مئات المرّات. ومن هنا يُوصى الآباءُ بأداء الصلاة أمام أطفالهم في هيئة مناسبة، وأن تكون ألفاظهم واضحة من أجل أن يكون انجذاب الأطفال إلى الكلام الإلهيّ أقوى.
وعلى الآباء أن يكونوا صبورين أمام تصرّفات أولادهم، وأن يعلموا أن مستقبل أبنائهم مرهون بتعليمهم وإرشادهم. وبتعبير آخر فإنّ الأطفال سرعان ما يصبحون مرآةً جَليّة لوالديهم، فإن هم لاحظوا في آبائهم أنّهم يولون صلاتهم أهميّةً كبيرة، وأنّ أفضل حالاتهم وأوقاتهم هي التي يقفون فيها لأداء الصلاة أمام خالقهم، فإنّ من المسلّم أنّ سيرة الأطفال ستكون على هذا النحو.
أساس المرونة والليونة في تعليم المسائل الدينيّة
أكّد رسول الله صلّى الله عليه وآله في مناسبات مختلفة على أنّ الإسلام دين اليُسر، ونهى عن أن يُضيِّق الرجلُ على نفسه في العبادة.
روى أحمد في مسنده أنّ الناس اجتمعوا حول رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد الصلاة، فجعلوا يسألونه: أعلينا حَرَج في كذا ؟ فقال صلّى الله عليه وآله: لا؛ أيّها الناس، إنّ دين الله عزّوجلّ في يُسر ـ يقولها ثلاثاً(20).
وكان صلّى الله عليه وآله إذا بعث رجلاً لإرشاد الناس وتعليمهم القرآن والصلاة، أوصاه أن يبشّر الناس بالجنّة، وإن يأخذ الناس باليُسر والرفق والمداراة، وأن يجتنب التشديد عليهم.
وقد وردت توصيات عديدة في روايات أهل البيت عليهم السّلام لمن يؤمّ الناس في الصلاة أن يُصلّي بهم صلاةَ أضعَفِهم، وأن يُراعي حال الشيخ المُسنّ والطفل الصغير.
روى أحمد في مسنده عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله من أتمّ الناس صلاةً وأوجزه(21).
وروى الصدوق أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان ذات يوم يَؤمّ أصحابه، فيسمع بكاء الصبيّ، فيُخفّف الصلاة(22).
وروى الصدوق عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: ينبغي للإمام أن تكونَ صَلاتُه على صلاةِ أضعَفِ مَن خَلفَه(23).
وروى الصدوق أنّ مُعاذ بن جَبَل كان يَؤمّ في مسجدٍ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله ويُطيل القراءة، وأنّه مرّ به رجل فافتتح سورةً طويلة، فقرأ الرجلُ لنفسه وصلّى ثمّ ركب راحلته، فبلغ ذلك النبيَّ صلّى الله عليه وآله فبعث إلى معاذ فقال: يا مُعاذ، إيّاكَ أن تكون فَتّاناً، عليك بـ « الشمس وضُحاها »، وذواتها(24).
ومن البديهيّ أنّ اليُسر والرفق في المسائل الدينيّة ـ فيما يتعلّق بالأطفال ـ أشدّ ضرورة. وعلى المربّين أن يحرصوا على تجنيب الأطفال الإحساسَ بالمَلَل والضَّجَر، وأن يعلموا أنّ في مصلحة الأطفال أن تكون القراءة والركوع والسجود في الصلاة قصيرةً غير مُطوَّلة، وأن يُحترز من أداء المستحبّات التي قد تَثقُل على هؤلاء الصبيان.
وروى الحرّ العامليّ في ( وسائل الشيعة ) عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: إنّا نأمر الصبيان أن يجمعوا بين الصَّلاتَين: الأولى ( أي الظهر ) والعصر، وبين المغرب والعشاء الآخرة ما داموا على وضوء، قبل أن يشتغلوا(25).
وقد ذكر أحد العرفاء الأجلاّء قصّة شيّقة تبيّن الأثر الكبير الذي يمكن للمربّي الواعي المتبصّر أن يخلّفه في نفوس الصبيان الذين يقوم بتعليمهم وتربيتهم. فقد سُئل سَهْل التُّسْتَري، وهو أحد العرفاء الكبار: كيف بلغتَ هذا المقام ؟
قال: كنتُ أيّام طفولتي أعيش مع خالي، وكان عمري يومذاك سبع سنين. وحصل في ليلة من الليالي أن استَيقَظتُ في منتصف الليل ونَهَضتُ من فراشي، فذهبت إلى دورة المياه، وحين عُدت إلى فراشي استوقفني صوتٌ شجيّ يتلو القرآن، فتوجّهت إلى مصدر الصوت وشاهدت خالي جالساً على سجّادته متوجّهاً إلى القِبلة وهو منهمك في أداء صلاته. جلستُ إلى جانبه وقد شدّني منظره وهو يصلّي حتّى أنهى صلاته، والتفتَ إليّ وسألني في حُنُوّ: ما بالُكَ يا ولدي ؟ اذهَبْ ونَمْ في فراشك!
قلتُ: أُحبُّ أن أجلس قُربَك وأسمعك تصلّي.
قال: اذهب ونَم يا ولدي!
نَهَضت وعُدت إلى فراشي ونمت. ثمّ تكرّر استيقاظي في الليلة التالية، ولمّا شاهدني خالي جالساً قريباً منه قال لي: اذهب ونَم يا ولدي.
أجبت: أُحِبّ أن أكرّر ما تقوله في صلاتك.
فأجلسني خالي إلى جانبه، ووجّهني إلى القبلة وقال: قُل مرةً واحدة: يا حاضِر، يا ناظِر!
فكرّرتُ ما قال. ثمّ إنّه قال لي: يكفي هذا الليلة، فعُد إلى فراشك يا ولدي!
وتكرّر هذا العمل عدّة مرّات، وكنت أقول كلّ ليلة « يا حاضر، يا ناظِر ».
ثمّ إنّ خالي علّمني كيف أتوضّأ، ثمّ قال لي: قُل سبع مرّات: « يا حاضر يا ناظر »! ثمّ تدرّجت في ذلك حتّى بلغتُ حدّاً صرتُ معه أستيقظ قبل أذان الفجر، فأنهض وأتوضّأ وأمسك بالمسبحة وأكرّر « يا حاضر يا ناظر ». وقد كان حظّي من هذه العبادة المعنويّة بحيث أوصلني إلى ما بلغتُ.
ولنُوردْ في المقابل قصّة شخص اخر كَرَّه إليه والدُه الصلاةَ والعبادة، فأضحى في النتيجة تاركاً للصلاة، محروماً من نعمة العبادة.
ينقل الدكتور أحمد الأحمدي أنّه يعرف شخصاً تدرّج في دراسته حتّى أضحى طبيباً مختصاً في التغذية. وهذا الطبيب يعيش حاليّاً في ألمانيا. ونقل عنه أنّه قال:
وُلدتُ في عائلة متديّنة، وكان أبي رجلاً متديّناً معروفاً، وكان يوقظنا ـ أنا وأخوتي ـ للصلاة فجراً، ثمّ يتركنا ويذهب ليصلّي في الغرفة المجاورة، وكنّا نتثاقل من الوضوء، فقد كانت مدينتنا معروفة بالبرودة الشديدة في الشتاء، فاتّفقتُ مع أخوتي على أن نصلّي في غرفتنا بصوت مرتفع ـ ونحن في الفراش ـ دون أن ننهض للوضوء، ثمّ نعود إلى النوم!
ثمّ عَلِم والدُنا ـ بالصدفة ـ بما كنّا نفعل، فعاقبنا على ذلك، ثمّ إنّه كان يأمرنا بالنهوض للتوضّؤ، ثمّ يتركنا ويذهب إلى غرفته، فكنّا لا نتوضّأ ثمّ نقف ونصلّي بصوتٍ عالٍ لنُسمع أبانا أنّنا نصلّي.
وهكذا انقضت أيّام الصِّبا، وآلَ أمُرنا ـ أنا وأخوتي ـ أن صرنا جميعاً من تاركي الصلاة(26).
ونُلفت نظر أولياء الأمور والمربّين إلى ضرورة الرجوع إلى سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسيرة أئمّة أهل البيت عليهم السّلام في هذا الخصوص.
16 ـ الكافي للكليني 38:2 / ح 6.
17 ـ الكافي 82:1 / ح 3.
18 ـ الكافي 83:1 / ح 6.
19 ـ التهذيب ـ وعنه: بحار الأنوار المجلسيّ 307:43 / ح 69.
20 ـ مسند أحمد 69:5.
21 ـ مسند أحمد 100:3.
22 ـ من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق 255:1 / ح 64.
23 ـ من لا يحضره الفقيه 255:1 / ح 62.
24 ـ من لا يحضره الفقيه 255:1 / ح 63.
25 ـ وسائل الشيعة 183:15 / ح 7.
26 ـ مجموعة مقالات للدكتور الأحمدي، المؤتمر العام لمراكز أولياء أمور الطلبة ومربّيهم، ص 194.
أساس التعاون والانسجام بين البيت والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام في تعليم المسائل الدينيّة
من الأمور المؤثّرة في تكوين الشخصيّة العلميّة والمعنويّة للطفل أمر التعاون البنّاء والانسجام بين البيت والمدرسة والمجتمع ( المسجد ووسائل الإعلام و... )؛ لأنّ كلّ واحد من هذه المراكز يكمل عمل الآخر في إنجاح العمليّة التربويّة.
ويلزم المدارس في عصرنا الحاضر أن تسعى لإيجاد علاقة واقعيّة وباطنيّة لحضور الطلاّب المستمرّ في المساجد وإيجاد علائق وثيقة بينهم، ويجب ألاّ يُكتفى بتشييد قاعة في المدرسة يصلّي فيها الطلاّب ـ على الرغم من أهميّة هذه الخطوة وإيجابيّتها ـ لأنّ التأثيرات الايجابيّة للمساجد تفوق هذا المقدار بكثير.
ويلزم المتصدّين في أمور التربية والتعليم بذل الجهود الدائبة من أجل إيجاد رابطة حقيقيّة ـ لا ظاهريّة فقط ـ بين البيت والمدرسة والمجتمع، لتبديل جوّ البيت إلى جوّ إسلاميّ تحكم فيه القِيَم المعنويّة، ولإعطاء المدرسة دوراً بنّاءً في مجال القيم الدينيّة. وإنّ التجانس والمماثلة بين الجوّ الحاكم في البيت مع نظيره الحاكم في المدرسة كفيل بحلّ كثير من المشكلات ورفع كثير من التناقضات التي تواجه الطلاّب.
وينبغي أن تكون ثقافة الأُنس بالمسجد والصلاة حركةً إراديّة واعية ومستمرّة، تبدأ منذ بداية مراحل الطفولة، لتوجيه ورفد الفطرة الإلهيّة السليمة الكامنة لدى الطفل، من أجل تحصينه في مقابل جميع الانحرافات.
لقد كان النظام التربوي القديم يُلقي بجميع المسؤوليّات على عاتق المدرسة، أمّا في النظام التربويّ الحديث فقد بدا واضحاً للعيان أن تعليم الطفل وتربيته إذا اقتصرت على المدرسة دون البيت، فإنّها لن تعطي ثمارها الحقيقيّة، وتبيّن بجلاء مدى ضرورة تعاون البيت مع المدرسة في إكمال العملية التربويّة للطفل وإنجاحها.
وفي الحقيقة أنّ البيت والمدرسة والمجتمع ( المسجد و.... ) إذا لم تُوجِّه الجيلَ الجديد نحو هدف واحد وُفق أساليب واحدة، فإنّ تقدّم وانتشار الثقافة الدينيّة سيكون أمراً متعذَّراً.