تأخرت أمي في المستشفى ... كان براسي كلام ودي أقوله لها وكنت أنتظرها من ساعات ...
اتصلت عليها بالجوال بس الظاهر كانت مشغولة كثير او الجوال ما هو بمعها ...
لما جت الساعة 6 المغرب جيت أباطلع أشتغل في عشة الحمام شوي ... و شفت جدتي جاية تسرع صوب الباب ...
-خير وش صاير ؟؟؟
سألتها بقلق ، و ردت بفزع و لهفة :
- أمك تعبت في المستشفى ... باروح لها
لما وصلنا ... كانت أمي على السرير فاقدة الوعي ، و كانوا على وشك أنهم ياخذوها لغرفة الأشعة ...
كلمتها ما ردت علي ...
بسرعة اخذوها و ظليت مع جدتي و جدي و الدكتورة سلمى صديقتها بالغرفة ...
أنا حاولت أسأل الدكتورة إذا تعرف أي شي ، لكنها طلعت بسرعة و ما ادري وين راحت ...
بعد أقل من ساعة ... رجعت الممرضة بأمي على السرير و معها الدكتورة سلمى ... و أمي بعدها فاقدة الوعي ...
سألت جدتي بفزع :
- وش فيها ؟
جاوبت الدكتورة سلمى و هي تهز راسها بمرارة :
- نزيف داخل الراس ....
........................
هذه المرة احتاجت قمر عملية مستعجلة ... في الرأس ...
طبعا أنا شلت يدي من الموضوع كطبيبة و ظليت معها كصديقة و وحدة من الأهل ...
كنت أتابع كل شي ... كل صغيرة و كبيرة ... أول بأول ...
الأشعة وضحت أنه كان عندها نزيف بسيط من أيام تخثر و ما أحد انتبه له
أما النزيف الجديد هذا ... كان ... شديد ...
نفس المكان اللي صابته نفس الحالة قبل 14 سنة ...
كانت بآخر الأيام تشتكي من صداع رهيب ... كيف ما فكرت أنه ممكن يكون شيء خطير ... ؟
انا ألوم نفسي أني ما انتبهت ...
بس كان ذاك من زمن ... و انتهى ... يا ليته كان انتهى ... يا ليت ...
قمر... بعد العملية المستعجلة ظلت بالمستشفى أيام ... فاقدة الوعي تماما ... و أسابيع ... مشلولة عن الحركة ...
كنت أول ما أجي المستشفى أمر عليها ... و آخر الدوام أمر قبل ما أطلع ... و في أوقات الزيارة ... كنت أحاول أتحاشى التواجد ... ما أقدر أشوف أهلها و أسمع أسئلتهم ... ما أقدر ...
في البداية ... كان كل اللي يطلع منها أنات و تأوهات ... بعدين بدت تحرك شفايفها و لسانها بصعوبة ...
و أول كلمة نطقت بها و هي لسة في حالة اللا وعي : ( عسل ) ...
مرة من المرات ... و أنا كنت عندها وعت شوي ... فتحت عينها و حركتهم يمين و شمال ... مسكت بيدها و ناديت بلهفة :
- قمر ... تسمعيني ؟
ما جاوبت علي ... شديت على يدها أبيها تحس فيني ... كلمتها ... بكيت غصبا علي ... و أنا أردد
- تشجعي يا قمر ... ارجعي لنا ... أرجوك ...
كأني سمعتها تقول ( عسل ) ... طالعت بعينها ... أكيد قصدها تسأل عن سلطان ؟
سلطان ... ما أعرف أخباره ... بعد وفاة بنته الوحيدة ... ما أدري وش صار فيه ... يا ليته مات بدالها ...
يا ليته طايح بالفراش بدل قمر ...
يا ليته غرق من سنين بدل بسام ...
رديت ... و أنا بس أبي أشجعها و أشوف تتجاوب معي أو لا :
- سلطان ؟ سلطان بخير و يسأل عنك ...
أهي حقيقة أو تهيؤ ... مو متأكدة ... بس كأني شفت الراحة بعينها ... غمضت ثواني و ردت فتحت تطالع فيني ...
كأنها تقول ( طمنتيني )... بعدها غمضت مرة ثانية ...
.............................
ماتت بنت أخوي .. الوحيدة .... المدللة الدلوعة ... بهجة قلوبنا كلنا ... نشوة البيت و العيلة كلها ...
ماتت ... و ما تركت بعدها الا سواد في سواد
شهرين مروا من يوم وفاتها ... و صورتها الأخيرة ... و هي جثة بلا روح ... بحضن أبوها و هو يصرخ
( ردي علي ) ... صورة للحظة ذي ... و لآخر لحظة بعمري ... ما نسيتها و لا بانساها ....
أتذكرها كأنها صارت البارح ... قبل شوي ... قاعدة تصير قدامي الحين ...
و أتذكر ... قبل سنة ... لما كنت أشاهد أروع صورة ... لأخوي و بنته ... و احنا بمكتبه بالشركة ...
و هو شايلنها على ذراعه و حاضننها ...و هي تضحك بمرح و حيوية ... و النافذة مفتوحة من وراهم ...
و البدر مكتمل ... و النسيم يلعب في شعر البنت الحريري ...
يومها أتذكر أني تمنيت لو كانت عندي كاميرا أصور بها هذه الروعة ...
ما كنت أدري ... أنها بتظل ببالي كآخر و أروع صورة لهم ... محفورة و محفوظة دون الحاجة لأي كاميرا ....
معلقة بالضبط .. جنب صورتها و هي ميتة بحضن أبوها ... في المشهد الأخير ...
ياليت ربي ... أعماني قبل ذاك اليوم ...
شهرين ... و أحنا كلنا نموت كل يوم و كل لحظة .... بعد هبة ... حلت علينا الغيمة السوداء المظلمة ...
اللي ما قدرت أي رياح و أعاصير .... تبعدها عنا لوقت طويل ....
بعد هالشهرين ... توني بس ... قررت أطلع من البيت ... و كان أول مشوار بغيته ... هو المستشفى ...
قمر ...
...........................
أمي تحسنت تحسن بسيط ... الحين صارت واعية بس ما تتكلم و لا تتحرك ... لا جيت عندها تبتسم لي ...
أنا أدعو ربي كل ساعة أنها تقوم بالسلامة و تتعافى و ترجع لي ... أنا ما لي بالدنيا غيرها ...
حتى لو بتتزوج مو مهم ... بس خلها ترد زي أول و أي شي ثاني مو مهم ...
اليوم شكلها أحسن ... كنت جالس جنبها على السرير و حاط راسي بحضنها و إيدي بإيدها ... كأني أحس بإيدها تحاول تشد على إيدي ... بس ما تقدر ...
الطبيب يقول أنها رح تتحسن بس ببطء ...
سمعت طرقات على الباب و بعدها انفتح و دخلت وحدة ... الظاهر أنها من صديقات أمي جاية تزورها ...
أمي طالعت بالزايرة و كأنها تفاجأت ...
- السلام عليكم
قالت الزايرة ، رديت السلام و أنا أعدل من جلستي على سرير أمي ...
طالعت المرة فيني و قالت :
- أنت بدر ... ؟
- نعم
و بعدين جت قربت من أمي و مدت يدها لها ... طبعا أمي ما حركت يدها ... و جت الزايرة و مسكت يد أمي تصافحها و قبلت جبينها ...
-كيف حالك يا قمر ؟ إن شاء الله أفضل الحين ؟
أنا رديت :
- الحمد لله . هي أحسن .
أمي كانت تطالع بالزايرة بنظرة غريبة ... ما فهمتها ... كأنها تبي تقول لها شي ؟
-حمد الله على السلامة يا قمر ... جيت متأخرة لكن ... تعرفي الظروف ...
تعابير وجه أمي تغيرت ... ما أدري وش بغت تقول ؟
سألتني الزايرة كم سؤال ... تطمن فيه على أحوال أمي و أهلي ...
و بعدها قالت كم كلمة تشجيع و دعاء بالشفاء لأمي ... و صافحتها مرة ثانية ... و راحت تطلع ...
أمي ظلت تشيعها بنظراتها كأنها تبيها ترجع ... ناديت أمي أبي أسألها تبي شي ؟
أمي فجأة نطقت :
- سلطان
الزايرة وقفت و التفتت صوب أمي على طول ...
طالعت بأمي ... و شفت بريق الدموع بعينها ... و قالت :
- بخير ... الحمد لله ...
و هزت راسها تأكد كلامها ... و بعدها طلعت من الغرفة ...
أنا بقيت أناظر في أمي ... مندهش ... و ما عندي تعليق مناسب ...
عين أمي ملأتها الدموع ... رحت أمسح فيها و أنا أكرر
- يمه أرجوك لا تبكي ...
أكررها و أنا اللي كنت أبكي على أمي ...
و أحس أنني أنا ... نعم أنا السبب ... في أن أمي مرضت لذي الدرجة ...
أخوي جالس بغرفة مكتبه ... على الكنبة ... سرحان ... يفكر و يفكر...
لا يكلم أحد ... و لا يحس بوجود أحد ... و لا يطلع من الغرفة من دخلها بعد فقد هبة ... يرحمها الله ...
بيت أخوي هو المكان الوحيد اللي كنت أزوره خلال الشهرين اللي مروا ... و قليل الي كنت أجي ...
كيف أقدر أتحمل أشوف أخوي يموت قدام عيوني ... ؟
ما يكفي هبة ؟
اليوم مريت عليه بعد ما زرت قمر بالمستشفى أخبارها كانت توصلني من بعض زميلاتي بين فترة و فترة ...
أنا ما كنت حسيت بوجودها ذاك اليوم ... كان بالي مشغول مع هبة و هبة و بس ... انتبهت لها بس بعد ما طاحت مغشية على الأرض ... و لا أدري وش صار لها قبل و لا بعد ...
دخلت غرفة مكتب أخوي ... سلمت ... و رد السلام بملل ...
- كيفك اليوم ؟
ما رد علي ... ليش أسأل و أنا شايفة بنفسي ... ؟
ما فيه أي شي ... بالدنيا يمكن يثير اهتمامه أو انتباهه ...
حتى نواف لا جا يكلمه يبعده عنه ... ما يبي يشوف أي أحد أو يكلم أي أحد أو يسوي أي شي ...
- سلطان ...
بغيته يلتفت لي بس كالعاده ظل ساهي عني مو هام لي خبر ... و لا معبر وجودي أصلا ...
-سلطان أخوي ... بغيت أقول لك شي ...
ما تحرك ...
واصلت ...
- (لمجرد إني أقوله لك ...
و أنا ببالي ... يمكن ... يمكن هالجملة تغير شي ؟؟ خلني أجرب ... )
- قمر تسأل عنك ...
قلتها و دققت النظر ... أبي أشوف إذا فيه أي تأثير ... أي استجابة ... ؟
أخوي ظل مثل التمثال ... ما اهتز ...
- قلت لها أنك بخير ...
واضح ... أن الموضوع و لا أثر و لا على عصب حسي واحد منه ...
استسلمت ... و تراجعت ... أباطلع ... ما فيه فايدة ... أخوي انتهى ... ما أبي أشوفه كذا ... لازم أطلع ...
قبل ما أمشي ... قلت له :
- إذا بغيت ... تزورها معي بالمستشفى ... تقول لها حمد الله على السلامة ... أظنها بتفرح كثير ...
طلعت عن غرفة أخوي و هو واقف مثل أي عمود أو أي كنبة بالغرفة ...
و الساعة أربع الفجر ... صحيت من النوم علة رنة جوالي اللي كنت ناسيته مشغل ...
كان أخوي سلطان متصل و مصر ما يقطع ... خفت و تلخبطت دقات قلبي ..
عطيت الهاتف لياسر و قلت له بخوف :
- رد ! أخوي ما أدري وش فيه ؟؟؟
أخذ ياسر الجوال و رد ...
...............................
نايم بعز النوم ... و باقي على أذان الفجر ساعة و شوي ... صحتني شوق بقلق و فزع خوفتني ...
- ياسر ... رد على الهاتف بسرعة ....
طالعت فيها أبي أتأكد ما هو بحلم ؟
بس صوت الجوال كان يرن بالغرفة و بآذاني ...
- خير ؟
- أقول لك رد بسرعة ؟
أخذت الجوال منها و أنا بين الصاحي و النايم ...
-ألو ؟ نعم ؟
ما جاني جواب بالأول ، و بعدها جاني صوت سلطان مبحوح :
-وين شوق ؟
- سلطان ؟ خير ؟ فيه شي ؟
- شوق صاحية ؟ أبي أكلمها
رديت الجوال لشوق و هي رافضة تاخذه ... حاسة أن فيه مصيبة ما تبي تسمعها ...
أنا يمكن كنت نايم ... مو متأكد ... بعد ما خلصت المكالمة الطارئة سألت شوق :
-خير ؟
شوق انفجرت تبكي ... قلت أكيد صار لهم شي جديد ؟
- سلطان وش به ؟ نواف بخير ؟ أم نواف بخير ؟؟
انهارت شوق على الوسادة ... و بكت بحرارة و هي تقول :
- يسأل عن قمر ! توه مستوعب أنها بالمستشفى !
طالعت بالساعة أتأكد من الوقت ....
أربع الفجر ... !
سلطان ... عليه العوض .... و منه العوض ...
............................
" سلامـــات "
من شهور و سلطان ما عاد يجي الشركة و العمل كله فوق راسي ...
لأني ظليت صاحي من قبل صلاة الفجر – على غير عادتي – و جيت العمل ... حسيت بعد كم ساعة بتعب و صداع اللي خلاني أفكر أرد البيت بدري اليوم ، و استسلم للنوم !
الصدفة اللي فاجأتني بالأحرى فاجئتنا كلنا هي أني شفت سلطان ببيتنا جاي وقت الظهر
( و طبعا الأمر مو على العادة ) و الظاهر أنه ما كان متوقع يشوفني ... و لو قلتها بصراحة ، ما كان يبي يشوفني ...
-حيا الله بو نواف ... يا حظك ... جيت و السفرة جاهزة تفضل بالهناء ...
الرجال رد بكلمة مقتضبة مطلعنها غصب من حلقه ...
- بالعافية
يعني ما وده يتغذى معنا ... صحيح ما هوبغريب ... بس مو بعدله نخليه بالصالة و نروح نتغذى بغرفة ثانية ...
أنا و شوق طالعنا بعض ... قالت :
- خلاص ياسر ، تغدى أنت و الأولاد أنا ودي أكلم أخوي شوي ...
خليتهم و رحت ... أعرف أنه فيه شي ما لي دخل فيه ...
بعد شوي ... جت شوق و قالت أنها طالعة مع أخوها مشوار صغير ....
ما علقت ... قلت خلني أنتظر لين تقول لي هي وش اللي صاير ؟
في فترة غيابها اتصلت أم نواف تسأل عنها و عن بو نواف ... انشغل بالي ... وين ممكن يكونون ؟؟
........................
الوقت ما كان وقت زيارة و ممنوع دخول غير موظفي المستشفى داخل المستشفى ، بس كوني دكتورة و لي معارف و علاقات هنا و هناك ... سمحوا لنا أنا و أخوي سلطان نجي لعند غرفة قمر...
كانت هذه رغبة سلطان المفاجئة أنه يمر يسلم عليها و يتطمن على صحتها ...
و الظاهر أنه مثلي و مثل ياسر ما نام بعد مكالمة الليل ... إذا كان نام قبلها أصلا ..
طرقت الباب ، فتحته بهدوء و طليت أبي أشوف كيف هي ؟
كانت قمر شبه جالسة مستندة على السرير ... و طبعا ما كانت متوقعة إني أنا اللي عند الباب عشان كذا شفت الدهشة بعينها ، و بعدها حلت ابتسامة جميلة مكان الدهشة
فرحت ... و أنا أشوف ابتسامتها ... يعني صحتها تحسنت ... الحمد لله ...
جيت لعندها و مسكت إيدها أسلم عليها بفرح و أنا أشد على إيدها... لما سألتها
- ( أنت طيبة ؟ بخير ؟ )
هزت راسها بنعم ، ما تكلمت ... إلى الآن قدرتها على الكلام ما استعادتها ... لكن ... الحمد لله ...
- قمره .... معي شخص وده يقول لك سلامات و ما تشوفين شر !
قلت الجملة و ركزت نظراتي على نظراتها أدقق ... أستشف الإجابة ... أتفحص ردة الفعل ؟
طالعت فيني قمر بنظرة لا تدعو لأي شك ... بأنها عرفت بالضبط أقصد من ....
الحين ... إيدها هي اللي شدت على إيدي ... رغم ضعفها ...
أخوي كان واقف ورا الباب ينتظر ...
سألت قمر :
- تسمحي له يجي .... ؟
لو كانت تبي تقول ( نعم ) كان هزت راسها بنفس الطريقة اللي هزتها بها قبل شوي لما سألتها
( أنت طيبة ؟ بخير ؟ )
الطريقة اللي وقفت فيها نظراتها معلقة مع راسها ... لا فوق و لا تحت ... لا يمين و لا شمال ... خلتني أرتعد ...
ما بغيت أكرر السؤال ....
و بعد ، ما بغيت أخوي يظل واقف عند الباب ... تركت إيدها ... و ابتعدت ... و جيت لعند الباب ...
طالعت بها مرة ثانية ... يمكن تقول أو تسوي شي ... بس ظل كل شي فيها معلق مثل ما كان ....
طلعت لأخوي و أنا مو عارفة إش أقول له ؟ أقوله أنها ما تسمح يسلم عليها ... أو أنها نايمة ... أو إش أقول .... ؟
أخوي العرق كان يتصبب على جبينه كأنه تلميذ عنده امتحان عملي ! و بس شافني سألني :
- صاحية ؟
لا شعوريا ... لقيتني أهز راسي بنفس طريقة قمر !
- أقدر أكلمها ؟
مديت ذراعي أسد فتحة الباب تلقائيا ، مثل اللي يبي يمنع دخول واحد عند الباب لداخل الغرفة ، أخوي بس شافني كذا قال :
- ما بغيت أدخل بس ودي أسلم عليها
و خطا خطوة أقرب للباب و مد راسه عند الفتحة و قال :
-السلام عليكم قمرة .... حمد الله على السلامة ... ما تشوفي شر ....