طالعني ولدي (بدر ) باستنكار ، يبيني أنا أروح معه ، بس رديت قلت له :
-خلاص حبيبي أنت الحين صرت رجـّـال و لازم تساير الرجال !
شكله اقتنع ، و ابتسم ، و قال :
- زين يمـّـه ، بس لا تنسي اللي وعدتيني به ؟
ابتسمت له و قلت :
- حاضر ، يالله روح الحين قبل ما يمشي عنك ...
و راح يركض بكل عفوية و بكل براءة ...
ولدي بدر خلـّـص 11 سنة من عمرة ، و بكرة باسوي له ( حفلة ميلاد ) للمرة الأولى بحياته ..
بصراحة ، كان هدفي من الحفلة هو أنا نعزم أهلنا و أصحابه الجدد ، عشان يتعود عليهم و يتقرب منهم ،
بعد ما قضى عشر سنين و كم شهر برى البلد ...
ما صار لنا غير فترة قصيرة من ردينا للبلد ، و دخل المدرسة المتوسطة ، كل شي بالنسبة له جديد ...
ولدي بدر ، صار يعني لي كل شي بالدنيا ... الدنيا كلها ...
فقدت حبيبي ، و فقدت زوجي ، و رحلت عن بلدي و أهلي و ناسي ... ما ظل لي إلا وليدي ...
و صرت أشوف الحياة بس عن طريقه هو ...
اتصلت بـ سلمى ، و عزمتها و أولادها على الحفلة ، و أكدت لي أنها رح تكون من أول الواصلين ،
و ما كذبت خبر ... !
- ماشاء الله على ولدك يا قمر ! اللي يشوفه ما يصدق أن عمره 11 سنة ! ما اعطيه أقل من 15 سنة ! الله يحفظه لك !
قالت سلمى و هي تناظر ولدي ، وسط بقية الأولاد...
بدر طالع ضخم البنية ، مثل أبوه الله يرحمه ، و كان لابس ثوب و غترة ، و يتصرف تصرفات أكبر من
عمره .. و أحس بفخر لما أشوفه ... الحمد لله ، الله عوضني به خير ...
- بس تصدقي متعلـّـق بي تعلق الأطفال بأمهاتهم للآن ؟
قلت لسلمى ، و طالعتني و هي ترفع واحد من حواجبها و تنزل الثاني ، و تبتسم بمكر :
-هو اللي متعلـّـق بك ؟ و الا أنت اللي مهووسة به ! ها قمر ؟
ضحكنا ، ضحكات صادقة ، مثل الضحكات اللي كنا نضحكها أيام الدراسة ، قبل عشر سنين ...
ما كأن عشر سنين و زود ، فصلت بيننا ... سلمى هي سلمى ، و قمر هي قمر ...
أما شوق ....
-ذكرتيني بالأيام اللي راحت ! لما كنا نجلس بالساعات ، أنا و أنت ِ و شوق ، نسولف و نضحك
بكل سعادة ... أيام الجامعة ! تذكرين ؟
- أكيد ...
- يا ترى وش أخبارها ؟
- الله أعلم ...
بسرعة ، وجهنا أنظارنا للأولاد ، ما نبي نرجع للوراء و نذكر الماضي ... خلنا نطالع قدام ... المستقبل ...
بعد ما خلصت الحفلة ، و ولدي أخذ كفايته و زود من الانبساط ، و ثامر و أبوي و أمي راحوا غرفهم ،
ظلينا أنا و بدر وحدنا ....
- ها بدري ! مبسوط ؟
- كثير ! مشكورة يمـّـه ...
- يالله حبيبي نروح ننام !
سكت شوي ، مع أن عيونه ظلـّـت تتكلم ... ، لين رد قال :
- ما نسيت ِ شي ؟
ابتسمت له ، كنت أعرف أنه ينتظر على نار ... و قمت ، و طلعت العلبة من الخزانة ، و عطيتها له ...
- تفضل يا عين أمك يا أنت ! و هذه الهدية اللي طلبتها ! آمر بعد ؟
أخذ بدر العلبة بسرعة ، و فتحها بسرعة ، و طلع الـ ( هاتف الجوال ) و هو شوي و يطير من الفرح ...
كان يتمنى واحد من زمان ، و انا ما بغيت أجيب له ، و ادري أنه ما يحتاج له ...
بس ، وش يسوى ( جوّال ) مقابل لحظة يعيشها في حضن أبوه ؟
أبوه اللي مات قبل ما ينولد ... لا عمره شافه و لا عمره عرف معنى كلمة أب
لو أملك الدنيا كلها ، و يطلبها وليدي مني ما أتأخر عليه ...
ناظرته و هو فرحان ، فرحة تسوى الدنيا و اللي فيها ، و طالع فيني ، يبي يعبر عن شكره ،
و جا صوبي و ارتمى بحضني و ضميته بقوة ...
صرت أقبل جبينه و راسه و أنا فرحانه لفرحه ، فرحانه أكثر أن الناس كلهم مدحوا فيه و باركوا لي عليه ...
و أنا أقبـّـل راسه ، فجأة ... داهمني شعور غريب ....
تسللت لأنفي ريحة ... ريحة عطر ... من الغترة اللي كانت على راس بدر ...
حسيت كأن جسمي تكهرب و سرت به رعشه ... معقول ؟ ... معقول ...؟؟؟
جا وليدي يبي يبتعد عني ، ضميته لي أكثر ... و صرت أتشمم غترته ... أتأكد ... من الريحة ...
الله يا زمن ... !
بعـّـد وليدي عني شوي ، و طالعني باستغراب ، و رديت قربت راسه من أنفي و أخذت أنفاس طويلة ،
واحد ورى الثاني ... مو مصدقة ... هذا حلم ... ؟؟
- يمـّـه ؟؟ خير ؟
سألني بدر و هو مستغرب ...
- بدر ... من وين لك هذا العطر ؟
- عجبك يمـّـه ؟ اشتريته مع خالي !
شلت الغترة من على راسه ، و قربتها من أنفي و شميتها مرة بعد مرة ... و ما دريت بدموعي تسيل على خدي ... ، و على شفايفي ... تعبير حائر ... ما هو عارف ... هل هي لحظة سعادة و الا حزن ؟
هل أبتسم و الا أبكي ... ؟؟؟
- يـمـّـه وش فيك ؟
طالعني بقلق ... و طالعت به و أنا ما ادري وش الشعور اللي غلبني ساعتها ...
- هذا العطر ... شمـّـيته من قبل ... قبل سنيــن ... قبل ما تنولد أنت يا بدر ...
تعجّب بدر ، و سألني :
- عطر من ؟ ... أبوي ؟
طلعت مني آهه غصباً علي ، الكلمة تهز قلبي و ترج جسمي كله ، لا طلعت من لسان ولدي اللي
ما عمره عرف وش معناها أصلا ...
- يمـّـه أنت ِ بخير ؟
هزيت راسي ، نعم بخير ... و الغترة بعدها عند وجهي ...
- ما هو أبوك الله يرحمه ... شخص ثاني ... كان يستخدم نفس العطر ... من قبل 13 سنة ...
- صحيح ، البيـّـاع قال أنه عطر أصلي و قديم ! بس ريحته اعجبتني ...
يمـّـه من هو ؟
سالت آخر دمعة على خدي ، و مد بدر يدّه و مسحها ، و هو بين المستغرب و بين القلـِـق و الحيران ...
-خلاص بدر ، يالله نروح ننام تأخـّـر الوقت ...
اعترض بدر ، و قال بالحاح ...
- يمـّـه قولي لي ؟
- خلاص حبيبي ، خذ الجوال و رح غرفتك ...
ما أبي أذكر شي ...
ما أبي أفتح الجروح ....
ما أبي أحيي الذكرى الميتة ...
سلطان انتهى ...
سلطان اندفن ...
سلطان غرق ... وسط البحر ... ذاك اليوم ...
رحت لغرفتي ، و الغترة معي ، و معها ريحة عطر سلطان ... للحين ما نسيته ، بعد كل هذه السنين ... !
وش جيبك يا ذكرى الحين ؟
تاه قلبي في ذكرى الماضي ... ذكرى العذاب ... ذكرى الألم ...
آه يا سلطان ...
يا ترى وين أراضيك ...؟
يا ترى عايش و الا ...
يا ترى تذكرني ... ؟
إيه يا زمن ....
ما تصورت أني بعد كل هذه السنين و العمر ، بـ أرد أذكره ... و من ريحة عطره ...
... الله ... ... ... يا سلطان ...
تمددت على سريري ، و الغترة بحضني ، عند قلبي ، و على وجهي ...
اسحب منها ريحتها ، و تسحب مني دموعي ...
تقلـّـبت كل المواجع و كل الآهات ...
و أنا أحاول ابعثر الذكرى اللي سيطرت علي ، بعدت الغترة عن وجهي و شحت به ناحية اليسار ...
و طاحت عيني ... على واحد من الأدراج ...
الدرج اللي احتفظ فيه بعلبة خاصة ما فتحتها من سنين ...
تملكتني الرغبة العارمة ، و قمت ، و فتحت الدرج ، و طلعت العلبة ...
( هبه ) ، هي بنت أخوي سلطان الوحيدة ، و اللي جابها بعد تسع سنين ، من ولادة ( نواف ) ، و البنت الوحيدة
و أصغر طفلة في عيلتنا حاليا . الحين هبه في الثالثة من عمرها و أخوي و منال متعلقين بها و يدللوها دلال ما شافه أخوها الأول و الوحيد ، نواف ...
و لمـّـا يكون عنده عمل طويل ، كثير ما كنت آخذها و نروح نمر عليه هو و ياسر بالشركة .
اليوم ، اثنينهم رح يتأخروا الى الليل ، و انا بأجازة في الوقت الحالي ، و أخذت هبه ، و رحت بها لمكتبهم ...
-هذه شكلها رح تصير إدارية مثلك يا سلطان ! وش رايك تكتب الشركة باسمها أو تورثها لها بعد عمر طويل؟
قال ياسر يمزح ، و ضحكنا كلنا ...
- متى راجعين ؟ جت الساعة سبع و نص ! و بعدين أنا مسوية طبخة حلوة و لازم تتعشى معنا يا سلطان !
رد أخوي :
- خلال ساعة نكون خالصين إن شاء الله ، اذا بغيت ِ تروحي روحي بس خلي هبه عندي ...
ابتسمت ، و قلت :
- تراك مدللها بزيادة يا أخوي ! الله يعينك عليها إذا كبرت !
شالها بحضنه و صار يقبلها بسعادة كبيرة ، كانت من أروع الصور اللي شفت فيها أخوي ، أب يحضن طفلته الصغيرة الحبوبة ، و هو واقف قدام النافذة المفتوحة ، و بعض الأنسام تداعب شعرها الأملس .... و البدر المكتمل يرسل نوره حوالينا بكل غرور ....
الله ...
و لا أجمل من ذي صورة !
- اصبر سلطان ! باجيب كاميرا و أصورك ترى المنظر حلو بالمرة !
قلت بمرح ، و جلسنا نضحك بسعادة ...
بعد شوي ، جا أخوي يلم أغراضه عشان نروح . و على وحده من الطاولات كان فيه أرواق و طرود ،
أظنهااشياء البريد اللي وصله اليوم .
راح أخوي و القى عليها نظرة تفحص ، و توقف و دقق نظرة استغراب في وحدة من العلب ...
- يالله سلطان خل البريد لبكرة !
قال ياسر و هو يفتح الباب يبي يطلع و أنا جايه صوبه ، لكن سلطان ، و هو شايل هبه على كتفه ، ترك شنطته العملية من إيده ، و أخذ ذيك العلبة و بعض الرسايل ، مصر يفتحها لآخر لحظة ....
فتح أخوي العلبة ، و احنا جالسين ننتظره بطوله بال ...
و لو تشوفوا تعابير الذهول اللي طلعت على وجهه فجأة ... تقولوا هذا شايف جني...!
فجأة التفت للورا ، صوب النافذة ، كأنه سامع أحد يناديه ، و طالع في القمر ...
.. أنا استغربت ، و اندهشت ، اش ممكن يكون شاف داخل العلبة ؟؟
العلبة كانت صغيرة ، بحجم (شريط كاسيت ) تقريبا ، وش ممكن يكون داخلها ...؟؟؟
- وش بلاك يا سلطان يالله باموت جوع ؟
قال ياسر ، و التفت لنا سلطان ، و طالع بي بذهول ... ، ما فهمت معنى نظرته ، و سكـّـر العلبة و دخلها بشنطته و طلع معنا ...
فيه شي تغير ، ما حسيته على بعضه ، حتى و احنا على العشاء ما أخذ بنته يأ ّكلها بنفسه كالعادة ، عطاني اياها و صار ياكل شوي شوي ، و بشرود ...
أنا طبعا فضولي وصل حده ، و انتهزت أول فرصة لقيتها ، و رحت ، و فتحت شنطة سلطان خلسة ....
شفت العلبة و طلعتها ، و انا التفت يمين و شمال خايفة أحد يشوفني ، فتحت العلبة شوي شوي ... و اندهشت ...
ما كان داخلها غير ( فص فضي ) ، و ورقة مكتوب عليها :
(( القمر يبلغك السلام ))
.....................................
بعد ثلاثة أشهر ، في مرة من المرات ، و بشكل غير متوقع ، سألني أخوي فجأة :
- قمرة رجعت البلد ؟
طالعت في أخوي ، و أنا كلي اندهاش ، يمكن ما سمعته زين ؟
- إيش قلت أخوي ؟؟
و رد علي بنفس النبرة :
- قمرة رجعت البلد ؟؟؟
ظليت أناظر به ، نظرة بلهاء ، كأني وحدة غبية أو ما تفهم اللغة ... من كثر ما أنا متفاجأة من السؤال ...
-أي ... قمرة ... ؟؟
سألت ، و أنا أبي أقنع نفسي أني ما سمعته زين ، أو أنه يقصد شي ثاني ...
- قمر صديقتك ... ردت البلد و إلا ما عندك خبر ؟
أكيد كان يقصد قمر نفسها ، ما غيرها .... !
-قمر ... صديقتي زمان ؟
طالع بي بنفاذ صبر من ( استهبالي ) ، لكن ...
- ... وش جابها على بالك الحين ؟؟؟
أخوي ، مد إيده بجيبه ، و طلـّـع علبة صغيرة ، و فتحها قدّامي ....
داخل العلبة ، كان فيه أربعة فصوص فضية ، مثل الفص اللي شفته قبل ثلاث شهور ... و جنبها سلسلة
فضية ....
أخوي ، أخذ السلسلة و صار يدخل بها الفصوص واحد ورا الثاني ...
الحين بس ، لما شفت الفصوص في السلسلة ، تذكرتها ....
طالعت بكل معاني الدهشة و الذهول و الاسغراب الشديد ... هذه ... سبحة أخوي سلطان ، اللي كانت عنده قبل 13سنة ، و اللي أذكر ... أن قمر أخذتها منه يوم رحت أنا معها له في مكتبه ذاك يوم .... ! ! !
قمر ... سافرت قبل أكثر من عشر سنين .... و أخبارها عني انقطعت ....
و أنا ... بعد كل اللي صار في الماضي ، ما تجرأت اتقصى عنها و عن أخبارها...
و الحين ... ما اقدر اتجرأ.......
.................. ...
شي تغير في سلطان ... الرجـّـال ما هو بطبيعته الأوله ...
الشرود صار يرافقه أغلب الوقت ... و البهجه تهل عليه بشكل ملحوظ و غريب ، كلما وصلته علبة جديدة ، من العلب اللي صارت تجيه نصف كل شهر ... !
يفتحها ، و يبتسم ، و تشوفه يرتخي فجأة و تنبسط كل عضلاته ، و يسبح في بحر من الشروذ ... تقول
( مخدرات ) و العياذ بالله !
اليوم ، جالس على أعصابه ، ينتظر البريد ، ينتظر ( الفص المخدر )
- وش فيك يا سلطان ما انت على بعضك ؟
- ولا شي ياسر ... خليك بحالك .
- يا رجـّـال ! اللي يشوفك يقول عاشق غرقان في الحب !
- ياسر ما لي مزاج لتعليقاتك الساعة ، أجلها شوي ...
وش رايك تنقشع عني الحين ؟
وشوي ، و وصل البريد ، و وصل معه الفص الفضي ، و تهلل وجه الرجّال و صار غير اللي كلمني قبل
شوي ... !