وبعدَ مَوقِعهِ بدرٍ، كانَت غَزوَةُ « بني القَيْنُقاعِ »، وَهم جماعَةٌ من اليهودِ كانوا حُلَفاءَ الخَزرَجِ، فَتَمَرَّدوا على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتَحصَّنوا في حُصُونهم، فغزاهُم. وكانَ لواءُ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله بيد حَمزَةَ.
فَحاصَرَهُم خَمْسَ عَشَرَةَ ليلةَ، حتّى استَسلَموا صاغِرين..
هَا هُو ذَا حَمزَةُ يَهُزُّ بِيُمنَاهُ لِوَاءَ رسولِ الله، يُطَارِدُ فُلولَ الكُفرِ والظَّلاَمِ أينَما حَلَّت وَكَانَت، ويُحاصِرُ هؤلاءِ المُنافِقين من اليهودِ الَّذين لاَعَهدَ لَهُم، وَلاَ ذِمَّة، وَلاَ مِيثاقَ، حتَّى الاستِسْلامِ.. وهُم أذِلَّةٌ صاغِرون!
وَتَأتي مَعرَكةُ أُحُد وكان ذلكَ في السَّنَةِ الثَالِثَةِ لِلهجرةِ. وَتَجمَعُ قُرَيشٌ أَنصارَهَا وحُلَفَاءهَا من قبائِلِ ثَقِيفٍ وكِنانةَ، ومِن تُهامَةَ، تَستَنْفِرُهُم لِقِتَالِ المُسلمينَ.
وكان أبوسفيانَ يقودُ الناسَ، يَطلبونَ الثارَ لقتلى بدر!
ودعا جُبَيرُ بُن مطعم غُلامَهُ وَحشيَّ بنَ حرب، وكان حَبَشيّاً يَقذِفُ بالحَربةِ قلّما يُخطئ، فقالَ له:
ـ أُخرُجْ معَ الناس، فإن قَتلتَ عمَّ محمّد بعمّي طعيمةَ بنِ عَدي، فأنتَ عَتيق ( أي حُرّ )!
وخَرَجت قريشٌ بجموعها وأنصارِها، والنساءُ يَضربنَ الدُّفوفَ يُحرِّضنَ المشركينَ على القتال.
فلمّا سمعَ بذلكَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم استَطلعَ رأيَ أصحابهِ فاشارَ بعضُهم بالخروجِ لمُلاقاتهم، وراى بعضُهُم البقاءَ في المدينةِ يدافعونَ عنها، وسلّم آخرونَ اليهِ الأمرَ قائلين:
ـ الرأيُ رأيكُ، فاصنَعْ ما شِئت..
فَلِبسَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سلاحَه، وخَرجَ بعدَ صلاةِ الجمعةِ للقتالِ، وتَقدّمَ في ألفِ رجلٍ من المدينة، انسَحبَ منهم ثلاثُمئةٍ على رأسِهم كبيرُ المنافقين: ابنُ أُبَيّ.
واستعدّ الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم للمعركة وقد تَركَ « جبل أُحُد » خلفَ ظهرِه، واضِعاً على ثغرِ الوادي خمسين رجلاً بقيادة « عبدالله بن جبير » وأوصاهُ قائلاً:
ـ « انضَحْ عنّا الخَيلَ بالنَّبل.. واثبُتْ مكانَك، إن كانت لنا أو علَينا » وأعطى اللّواء « مُصعبَ بنَ عُمَير »، وأمّرَ « الزبيرَ » على الخيل، ومعه « المِقداد ».
وخرجَ حمزةُ بالجيش بين يديه.
وأقبلَ « خالدٌ » و « عِكرِمَةُ » فتَصدّى لهما الزبيرُ والمِقداد، فانهزَم المشركون.
وحَملَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على أبي سفيانَ وأصحابِه، فانهزَمَ أبوسفيان.
وبرَزَ الإمامُ عليُّ عليه السّلام لطلحةَ بنِ عُثمان، فضَربَهُ ضربةً أطاحَت بساقِه فسَقط، وانكشَف.
و أمعنَ حمزةُ وعليّ والمقدادُ وأبودُجانةَ ضَرْباً بالمشركين وطَعناً.. حتى زَلزَلوهُم فانهزَموا، ووَلوَلت الظَّعائن ( أي: النِّسوة على الهوَادِج تَحمِلُها الإبل )، فارّاتٍ مُذعورات، وأقبلَ المسلمونَ على الأسلابِ والغنائم، وترَك بعضُهم مَوقِعَهُ حيث وضَعَهُم رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانَ لواءُ المشركينَ لا يزالُ مطروحاً على الأرضِ بعد أن قَتلَ الإمامُ عليٌّ عليه السّلام حَمَلَة هذا اللواء، الواحدَ تِلوَ الآخر.
وهذا ثابتٌ تاريخيّاً، وبالأسماء..
يُحدّثنا التاريخ بقوله:
فلمّا قتَلَهم أبصَرَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعةً من المشركين، فقال لعليّ:
ـ احمِلْ علَيهم. ففرَّقَهم، وقَتلَ فيهم.
ثم أبصَرَ جماعةً اخرى، فقال له: احمِلْ عليهم
فحمَلَ عليهم، وفَرّقَهُم، وقَتلَ فيهم.
فقال جبرائيل: « يا رسولَ الله هذه المُؤاساة! ».
فقالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّه منّي، وأنا منه.
فقال جبرائيلُ: وأنا مِنكُما
« وسمعُ الناسُ صوتا من السماء يِهتفُ: لا سيفَ إلا ذوالفَقار، ولافتى إلا علي! ».
وحَذارَ أن يَظُنَّ أحدٌ أنّ هذا الكلامَ اختلاق خيال، إنّهُ حَرفيّة تاريخية عن ( ابنِ الأثير ) في تاريخه وعن غيرِه من المؤرِّخين والمُحدِّثين،وهم كثيرون.
ويُجرَجُ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه المعركة.. ويَسيل دمُه الشريفُ على وجههِ الكريم، وتَحوطُه فئةٌ ثابتة من المهاجرين والأنصار، وقد فَرّ المسلمونَ أمامَ المشركينَ الذين التفّوا عليِهم من خَلفِهم بقيادةِ خالد بن الوليد.
ويُقاتِلُ مُصعبُ بن عُمَير، ومَعه لواءُ رسولِ الله، فيُقَتل..
ويَستلمُ الإمامُ عليّ عليه السّلام اللواء..
ويُقاتلُ حمزةُ قتالَ الصَّناديد، ويَمرُّ به سباعُ بنُ عبدِ العُزّى، فيَضربُه حمزةُ بالسيفِ ضربةً يَخِرُّ لها صريعاً!.
وكان وحشيُّ بنُ حرب الحَبَشيّ يُراقِبُ مِن طرفِ عينيهِ حمزةَ في قلبِ المعركة. فيَعجَبُ من هذا البطل الذي يُقاتل بسيفين، وليس له مِن نظير!..
ويمَتلئ قلبُه بالرُّعب منه، وهو يُشاهدُ الصفوفَ تنَهارُ تَحتَهُ صفّاً، صّفاً!
قال:
«فهَزَزتُ حَربَتي ودَفَعتُها عليه فَوقَعتْ في أسفلِ بَطنهِ حتّى خَرَجت مِن بينِ رِجلَيه، وأقبلَ نحوي، فغُلب، فوقع!
لقد سقط الفارس، أسدُ الله وأسدُ رسوله.. بعد أن زَلزلَ الأرضَ باعداءِ الإسلام، وأذاقَ الكافرينَ طعمَ المَنون ( أي: الموت ).
وتجول « هندٌ » زوجةُ أبي سفيان، وأمُّ معاوية، مع بعضِ صُوَيحباتها على قتلى المسلمين، تُمثِّلُ بالجُثثُ وتشوِّه، فاتّخذت مِن آذانِ بعضِ قتلى المسلمين وأُنوفهم خَلاخلَ وقَلائد! ووصَلت أمام جسدِ حمزَة في الوادي، فبَقرَت بطنَه، ولاكت ( أي: مَضَغت ) كبده. فلم تَستَسغ طعمَها، فلَفَظتها فلُقِّبت بـ « آكلةِ الأكباد ».
ولما سمعَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بِمَصرَعِ حمزهَ شَهِق.
ولمّا رأى جُثمانَه وقد مُثِّل به، حَزِنَ حُزناً شديداً.
وصبَر، ونهى عن المُثلة، وأمرَ بدفنِه حيث استُشهد، فدُفن مع ابنِ أُختهِ عبدِالله في قبرٍ واحد، بعد أن صلّى عليه الرسولُ مكبّرًا عليه في صلاته سبعينَ تكبيرة.
* * *
وفي المدينة.. يمَرُّ النبيُّ بدارٍ من دورِ الأنصار، فيَسمَعُ بكاءً ونُواحا، فذَرَفتْ عيناهُ الكريمتان، وبكى، وقال:
ـ لكنّ حمزةَ لابَواكيَ له!..
فرجَعَ سعدُ بن مَعاذ، وأمرَ النساءَ بالذَّهابِ والبكاءِ على حمزة..
فَفَعلنَ، وقد سَبَقتهنّ في البكاءِ وفاقَتْهنّ في اللَّوعةِ على حمزةَ سيدِ شهداءِ زمانه: فاطمةُ الزهراء عليها السلام.