الزرع، ثم انتظر ربه المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحق، ويجعل عاقبة أمره إلى خير، كان هذا
الرجاء مستحسناً. كما يقول الحق المتعالي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ}(البقرة/ 218 ). فصل في سبب تعادل الخوف
والرجاء ورد في نهاية هذا الحديث الشريف - الحديث الرابع عشر - أنه لا بد من تعادل
الخوف والرجاء وعدم تفوق أحدهما على الآخر، كما ورد هذا المضمون في مرسلة ابن
أبي عمير عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً. إن الإنسان عندما يدرك منتهى قصوره في
النهوض بالعبودية، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة، يتولد فيه الخوف بأعلى درجة،
وعندما يجد ذنوبه ويفكر في أناس كانت عاقبة أمرهم الموت من دون إيمان وعمل صالح،
رغم حسن أحوالهم في بدء الأمر ولكنهم انتهوا إلى سوء العاقبة، يشتدّ فيه الخوف. ففي
الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: قال:"المُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبِ
قَدْ مَضَى لاَ يَدْرِي مَا صَنَعَ اللَّهُ فِيهِ وَعُمْرٍ قَدْ بَقِيَ لاَ يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ مِنَ المَهَالِكِ
فَهُوَ لاَ يُصْبحُ إلاّ خَائِفاً وَلاَ يُصْلِحُهُ إلاّ الخَوْفُ"(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الخوف والرجاء، ح 12). ونقل الكافي في حديث آخر عن الإمام - عليه
السلام - خطبة عن رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلم - بهذا المضمون. وعلى أي حال
يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحق في منتهى العظمة والجلال،
وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين [266] النظرتين دائماً في حال متوازية بين
الخوف والرجاء. وحيث أن الأسماء الجلالية والجمالية تتجليان في قلب السالك متعادلة لا
يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر. وقال ( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف
والرجاء ص355) بعض أن الخوف في بعض الأحيان أنفع للإنسان مثل أيام الصحة
والعافية، حتى يجهد الإنسان نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح. وفي بعض الأحيان
الرجاء أفضل مثل أيام ظهور علامات الموت، حتى يلاقي الإنسان الحق المتعالي مع حال
مفضلة أكثر عنده سبحانه -. ولكن هذا الكلام لا يتطابق مع الكلمات السابقة
والأحاديث المذكورة، لأن الرجاء المحبوب يدفع الإنسان أيضاً نحو العمل واكتساب الآخرة،
والخوف من الحق سبحانه محبوب لديه - عز وجل - ولا يتنافى مع الرجاء المؤكد. وقال
بعضهم ( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص 355) أن الخوف لا يعتبر من
الفضائل النفسية والكمالات العقلية في عالم الآخرة وإنما يعدّ من الأمور النافعة في دار الدنيا
التي هي دار العمل، حيث يحرص الإنسان على فعل العبادات وترك المعاصي وينتهي دوره
بعد الخروج من هذه الدنيا. في حين أن الرجاء لا ينقطع ويستمر حتى في عالم الآخرة. لأن
العبد كلما نال رحمة الله أكثر، ازداد طعمه نحو فضل الحق المتعالي أكثر، لأن خزائن رحمة
الحق الجليل لا تتناهى. فالخوف ينقطع بالموت ويبقى الرجاء حتى إلى ما بعد الموت. يقول
( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص 355 ) المحدث المحقق المجلسي - رحمه
الله تعالى-"والحق أن العبد ما دام في دار التكليف لا بد له من الخوف والرجاء وبعد
مشاهدة أمور الآخرة يغلب عليه أحدهما لا محالة بحسب ما يشاهده من أحوالها". يقول
الكاتب: إن ما قيل من غلبة الخوف والرجاء في عالم الآخرة، لا يتلاءم مع ما ذكر من
معنى الرجاء. وعلى فرض صحة الكلام المذكور فهو صحيح بالنسبة إلى المتوسطين حيث
يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين إلى الثواب والعقاب. [267] وأما حال الخواصّ
والأولياء فيختلف المر عما ذكروا، لأن الخوف والرجاء الناجمان عن مشاهدة عظمة وجلال
وتجلّي أسماء اللطف والجمال، والحاصلان في القلب لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة. ولا
يترجح أحدهما على الآخر، بل إن آثار الجلال والعظمة وتجليات الجمال واللطف في عالم
الآخرة أكثر، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية، ولا يتنافى هذا
مع الآية الكريمة {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(يونس/62). كما
يتبين ذلك بالتمعن في الآية المباركة. وما نقل - قبل أسطر - من أن الخوف ليس بفضيلة
نفسية، ليس هو الخوف من الجلال والعظمة، لأن مثل هذا الخوف يكون كمالاً ومن
صفات الكاملين والمكملين. كما أن خوف غيرهم يكون أكثر. والحمد لله على جماله
وجلاله والصَلاة على محمّد وآله. [269] الحَديـث الخَامِــس عشَــر
"البــــلاء" [270] بِسَنَدِنَا المُتَّصِلِ إلى سُلْطانِ المُحَدِّثينَ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْنيِّ
- رضوان الله عليه - عَنْ عَليِّ بْنِ إبْراهيمَ، عَنْ أبيهِ، عَنْ ابْنِ مَحْبُوب، عَنْ سَماعَةَ، عَنْ
أبي عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام قالَ: إنَّ في كِتاب عَليٍّ عليه السَّلام:"إِنَّ أَشَدّ النّاسِ بَلاءً
النَّبِيُّونَ ثُمَّ الوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ وَإِنَّما يُبْتَلَى المُؤْمِنُ عَلى قَدرِ أَعْمالِهِ الحَسَنَةِ، فَمَنْ
صَحَّ دِينُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، اشْتَدَّ بَلاؤُه وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيا ثَواباً لِمُؤْمِنٍ وَلا
عُقُوبَةً لِكافِرٍ وَمَنْ سَخُفَ دينُهُ وَضَعُفَ عَقْلُهُ، قَلَّ بَلاؤهُ وَإِنَّ البَلاء أسْرَعُ إِلَى المُؤْمِنِ
التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلى قَرارِ الأْرْضِ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر،
باب شدّة ابتلاء المؤمن، ح29 ) . [271] الشرح: قال بعض بأن المقصود من الناس في
أمثال هذا الحديث الشريف، الكاملون من قبيل الأنبياء والأولياء والأوصياء، فإنهم الناس
حقاً. وأمّا عامة الناس فهم النسناس كما ورد في الأحاديث. ولكن لا مرجح لهذا الكلام،
بل المناسب في المقام إرادة عموم البشر وهو واضح تماماً. ويكون - هذا المعنى - مستفاداً
من الأحاديث الموجودة في هذا الباب من كتاب الكافي. وإذا عثرنا في حديث على
كلمة"الناس"وكان المقصود منها الكاملين، فليس ذلك مبرراً لإرادة هذا المعنى من هذه
اللفظة حيثما وردت. إن"البـَلاءَ"هو الاختبار و الامتحان، في الحسن و القبح. كما
صرح بذلك أهل اللغة. يقول الجوهري في الصحاح ( و البلاء الاختبار يكون بالخير
والشر، يقال أبلاه الله بلاءاً حسناً وابتلاه معروفاً ) ويقول الحق المَتعال {بَلاَءً
حَسَنًا}(الأنفال/ 17) وعلى أي حال إن كل ما يمتحن به الحق جل جلاله عباده يدعى
بلاءً أو ابتلاءً سواءً كان بالأمراض والأسقام والفقر والذل وإدبار الدنيا أو بما يقابل هذه
الأمور، كأن يُختبر بكثرة الجاه والاقتدار و المال والمنال و بالزعامة و العزّة و العظمة.
ولكن متى ما ذكر البلاء أو البلية أو الابتلاء بصورة مطلقة انصرف وانسبق إلى الذهن من
اللفظ، البلاء من القسم الأول. [272] و"أَمْـثَلْ"بمعنى أفضل وأشرف يقال: هذا أمثل
من هذا أي أفضل وأدنى إلى الخير. وأماثل الناس، خيارهم. فمعنى"ثـُمَّ الأَمْثَلْ
فَالأَمْثَلُ"هو أن من كان أفضل وأحسن - بعد الأئمة الأوصياء عليهم السلام - فبلاؤه أشدّ
من الآخرين. ومَنْ كان - من غير الفئة المذكورة - أفضل فبلاؤه أكثر من غيره من الناس.
فمراتب الابتلاء على قدر درجات الفضل - عند الله سبحانه -. ولا يوجد مثل هذا التعبير
- الأمثل فالأمثل - في الأدب الفارسي حتى أذكره. والـ"سـُخـْفَ"هو ضعف العقل
وخفته، كما ورد في الصحاح وغيره من الكتب اللغوية. والـ"قَرَارَ"هو المستقر والمكان،
كما يستفاد من معاجم اللغة. وفي - كتاب - قاموس اللغة:"القرار والقرارة ما قُرَّ فيه
والمطمئن من الأرض"ووجه الشبه - بين المؤمن التقي وقرار الأرض - هو أن الأرض محل
الأمطار و مستقرها، حيث تهطل قطرات السماء عليها وتستقر، وكذلك المؤمن حيث
تهجم عليه البلايـا، و تستقر عنده ولا تفارقه. ونحن إن شاء الله سنشرح ما يحتاج إليه
الحديث الشريف في غضون فصول عدّة. فصل في بيان معنى الامتحان وآثاره وكيفية
نسبته إلى الحق المقدس المتعالي اعلم أن النفوس البشرية منذ ظهورها و تعلقها بالأجساد،
وهبوطها إلى عالم المُلُك- عالم المادة - تكون على نحو القوّة - الأهلية والقابلية - تجاه
جميع العلوم والمعارف والملكات - الحالات الراسخة المتمركزة في الإنسان - الحسنة
والسيئة، بل تجاه جميع الإدراكات والفعليّات - الحاضرة التي هي ذات آثار - ثم تتدرج
بعناية الحق - جل جلاله - نحو الفعلية شيئاً فشيئاً، فتبدو أولاً الإدراكات الضعيفة الجزئية
مثل حاسة اللمس والحواس الظاهرية الأخرى الأخسّ فالأخسّ ثم تظهر ثانياً الإدراكات
الباطنية متدرجة أيضاً. ولكن الملكات لا تزال موجودة بالقوة، فإن لم تتأثر بعوامل تفجر
فيها الطاقات الخيرة وتركت لوحدها لانتصرت الخبائث [273] وتحققت الملكات
الفاسدة وانعطفت نحو القبائح والمساوئ، لأن الدواعي الداخلية الباطنية كالشهوة والغضب
وغيرها يسوقان الإنسان إلى الفجور والتعدي والظلم وبعد انقياده لهما يتحوّل في فترة
قصيرة إلى حيوان عجيب وشيطان غريب. ولما كانت عناية الحق تعالى ورحمته قد وسعت
بني الإنسان في الأزل، جعل لهم سبحانه حسب تقدير دقيق نوعين من المربي والمهذب،
بمثابة جناحين يطير بهما من حضيض الجهل والنقص والقباحة والشقاء إلى أوج العلم
والمعرفة والكمال والجمال والسعادة ويحرر نفسه من ضغط ضيق عالم الطبيعة إلى الفضاء
الرحب الملكوتي الأعلى. وهما: المربي الباطني المتجسد في العقل والقدرة على التمييز بين
الحسن والقبح. والمربي الخارجي المتمثل في الأنبياء والأدلاّء لطرق السعادة والشقاء. وكل
منهما لا يؤدي دوره بدون الآخر، إذ أن العقل البشري عاجز عن معرفة طرق السعادة
والشقاء واكتشاف الطريق إلى عالم الغيب، ونشأة الآخرة، كما أن هداية الأنبياء،
وإرشادهم لا تكون مؤثرة بدون إدراك العقل والقدرة على التمييز. فالحق - تبارك وتعالى
- منحنا هذين النوعين من الموجّه لكي نجعل الطاقات المكتنزة والاستعدادات الكامنة في
النفوس تتحرك من القوة إلى الفعلية و الظهور. وقد وهبنا الحق المتعالي هاتين النعمتين
الكبيرتين لنا امتحاناً واختباراً، لأن الإنسان يتميز أفراده بعضهم عن بعض، ويتم الفصل بين
السعيد والشقي والمطيع والعاصي والكامل والناقص كما قال ولي المؤمنين عليه
السلام:"وَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً"( نهج البلاغة. خطبة 16 (
الشيخ صبحي صالح ) ) وفي كتاب الكافي الشريف في باب التمحيص والامتحان عن ابن
أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام:"لاَ بُدَّ للنّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا
وَيُسْتَخْرَج فِي الغِرْبالِ خـَلـْقٌ كَثيرُ"( أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب
التمحيص و الامتحان، ح2، ح3، ح4) وبـِإسْنادِهِ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِاللهِ
عليه السّلام:"يا مَنْصُورُ إِنَّ هذَا{ [274] الأمْر لا يَأْتيكُمْ إلاّ بَعْدَ إياسٍ وَلا وَاللهِ حَتّى
تُمَيَّزُوا وَلا وَاللهِ حَتّى تُمَحَّصُوا وَلا وَاللهِ حَتّى يَشْقَى مَنْ يَشْقَى وَيَسْعَدَ مَنْ يَسْعَدُ"(
أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب التمحيص و الامتحان، ح2، ح 3، ح4.
) وفي حديث آخر عن أبي الحسن عليه السلام قال:"يـُخـَلـَّصُونَ كَما يُخَلَّصُ
الذَّهَبُ"( أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب التمحيص و الامتحان، ح2،
ح3، ح4) وفي كتاب الكافي الشريف في باب الابتلاء والاختبار بسنده إلى الإمام الصادق
عليه السلام قال:"مـَا مـِنْ قَبْضٍ وَلا بَسْطٍ إلاَّ وَللهِ مَشِيئَةٌ وَقَضاءٌ وَابْتِلاءٌ"(أصول
الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة باب الابتلاء والاختبار، ح1، ح2) و في حديث آخر
عنه عليه السلام قال:"إنـَّهُ لَيْسَ شَيءٌ فيهِ قَبْضٌ أوْ بَسْطٌ مِمّا أمَرَ اللهُ أوْ نَهى عَنْهُ إلاّ
وَفِيهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ ابْتِلاءٌ وَقَضاءٌ"(أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب الابتلاء
والاختبار،ح 1، ح2) و"القـْبـْضُ"في اللغة الإمساك والمنع والأخذ، و"البَسْطُ"بمعنى
النشر والعطاء: فكل عطاء وتوسعة ومنع امتحان للإنسان، كما أن كل أمر ونهي وتكليف
يكون للامتحان أيضاً. فإن بعث الرسل ونشر الكتب السماوية لغربلة الناس، ولفصل
الأشقياء عن السعداء، والمطيعين من العاصيين. ومعنى امتحان الحق المتعالي للناس واختبارهم
هو الفصل الحقيقي الواقعي على صعيد الخارج - للناس بعضهم عن بعض، لا العلم
بالفصل، لأن علم الحق جل جلاله أزلي ومتعلق ومحيط بكل شيء قبل إيجاده. والحكماء قد
أسهبوا الحديث في معنى الابتلاء والامتحان، ولا يتناسب نقله في هذا الكتاب. فنتيجة
الاختبار بصورة مطلقة - ورغم أن الأمرين المذكورين من أهم نتائجه- هو فصل السعيد
عن الشقي على صعيد الخارج الواقعي. وتتم في هذا الامتحان والتمحيص حجة الله على
خلقه أيضاً، وتكون تعاسة وسعادة وهلاك وحياة كل شخص عن حُجّة وبينة، ولا يبقى
لأحد مجال للاعتراض، فمن سعى في طريق السعادة والحياة الأبدية، كان سعيه توفيقاً من
الله وهدايةً له، لأنه سبحانه قد وفر جميع أسباب هذا السبيل. ومن جدّ في طريق [275]
الشقاء ووجه وجّهه نحو الهلاك ومتابعة الهوى والشيطان مع توفر كل طرق الهداية وأسباب
السعادة، فقد اختار بنفسه الهلاك والتعاسة رغم نهوض الحجَة البالغة للحق تبارك وتعالى
على خلاف ما أرتآه {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }(البقرة/ 286 ). فصل
في بيان فلسفة شدّة ابتلاء الأنبياء والأوصياء والمؤمنين اعلم وقد سبق منا الحديث بأن
كل عمل يصدر من الإنسان، بل كل ما يقع منه في عالم مُلك الجسم، وكان مدرَكاً
للنفس، يترك أثراً لدى النفس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيئة، ومن دون فرق
بين أن يكون العمل من نوع الأفراح أو نوع الأتراح. وقد عُبّر عن هذا الأثر في الأخبار
بنقطة بيضاء ونقطة سوداء فمثلاً: إن كل لذة مما يلتذ الإنسان به من المطعومات أو
المشروبات أو المنكوحات أو غيرها، يترك أثراً في النفس، ويحصل تعلقاً ومحبة في عمق
الروح تجاهه - الشيء الذي تمتع فيه - ويزداد توجه النفس إليه. وكلما توغل في اللذائذ
والمشتهيات أكثر، ازداد تعلق النفس وحبّهاً لهذا العالم أكثر. وغدا ركونه واعتماده على
هذا العالم أكبر، فتتربى النفس وترتاض على التعلق بالدنيا. وكلما كانت المتع في ذائقته
أحلى، كانت جذور محبّة الدنيا في قلبه أكثر. وكلما توفرت وسائل العيش والعشرة
والراحة بشكل أوفى، أصبحت دوحة التعلق بالدنيا أقوى وكلما أقبلت النفس على الدنيا
أكثر، كلما كانت غفلته عن الحق وعالم الآخرة أكثر. فإن نفس الإنسان إذا ركنت إلى
الدنيا كلياً وصار توجهها مادياً ودنيوياً، انصرف عن الحق المتعال ودار الكرامة نهائياً و
{أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ }(الأعراف/176 ). فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات
يصرف الإنسان إلى حب الدنيا من دون اختيار، وحب الدنيا يوجب النفور عن غيرها،
والإقبال على المُلُك - الماديات - يسبب الغفلة عن الملكوت - عالم الغيب -. وكذلك
العكس فلو أن الإنسان استاء من شيء وشعر ببشاعته، استدعت صورة ذلك الشيء
الكراهية والنفور، وكلما كانت تلك الصورة في النفس أقوى كان النفور والانزجار منها
أكثر. [276] فمثلاً: إذا دخل شخص على بلد وابتلى بأسقام وآلام فيه وعانا من ورائه
مشاكل داخلية وخارجية لكرهه وتنفّر منه وكلما كانت معاناته أكثر كان هروبه ونفوره
منه أكثر وإذا وجد مدينة أفضل منه لأقبل عليها وإن لم يستطع التحرك نحوها، لاشتاق
إليها وتوجّه قلبه نحوها. فالإنسان إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها و
عنائها و شعر بأن أمواج الفتن و المحن تزحف نحوه، خفّ تعلقه بها - أي الدنيا - و قل
ركونه إليها و نفر قلبه منها. و إذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب فارغ من جميع
أنواع الشقاء و التعاسة، ارتحل إليه. وإذا لم يتمكن من السفر بجسمه لذهب بروحه و بعث
بقلبه إلى ذلك العالم. وواضح جداً أن المفاسد الروحية و الخلقية والسلوكية بأسرها تنجم
عن حب الدنيا والغفلة عن الله سبحانه و عالم الآخرة، و إن حبّ الدنيا رأس كل خطيئة.
في حين أن الصلاح الروحي والخلقي والسلوكي ينبعث من التوجه نحو الحق، ودار الكرامة
- عالم الآخرة - ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الانبهار بزخارفها. إذاً، علمنا من هذا
التمهيد بأن لطف الحق تبارك و تعالى وعنايته كلما شملت لشخص أكثر، ووسعته رحمة
الذات المقدسة بصورة أوفى، كلما أبعد سبحانه عن هذا العالم وزخرفه أكثر، ودفع عنه
أمواج المحن والفتن أكثر، حتى تنقلع رغبته في الدنيا وزركشتها، ووجه وجَّهه حسب
مستوى إيمانه إلى عالم الآخرة وارتبطت روحه بذلك العالم. وإن لم تكن جدوى من
احتمال شدائد المحن إلاّ هذه الجهة - الانزجار والإعراض عن الدنيا والإقبال نحو الآخرة -
لوحدها، لكفى. وفي الأحاديث الشريفة إشارة إلى هذا المعنى: محمّدُ بْنِ يَعْقُوب بِإسْنادِهِ
عَنْ أبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قالَ:"إنَّ الله تَعالَى لَيَتَعاهَدَ المؤمِنَ بالْبَلاءِ كَما يَتَعاهَدُ الرَّجُلُ
أهْلَهُ بِالهَدِيَّةَ مِنَ الغَيبَةِ وَيحْمِيهِ الدُّنْيا كَما يَحْمِي الطَّبيبُ الْمَريضَ"( أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح17) [277] ونقل هذا المعنى في
حديث آخر. ولا يحسبن أحد إن محبة الحق وشدة عناية ذاته الأقدس، لبعض عباده جزاف
ومن دون جهة - والعياذ بالله - بل كل خطوة يخطوها مؤمن وعبد من عباده، غمرته
رحمة الحق المتعالي وأقبل على عبده قدر ذراع. إن مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ
إنسان قد حمل مصباحاً وسلك طريقاً مظلماً فكلما تقدم خطوة، أضاء أمامه واهتدى
للخطوة اللاحقة. فكلما رفع الإنسان قدماً نحو عالم الآخرة، اتضح السبيل أكثر، وغمرته
عنايات الحق بصورة أكبر، وتوفرت عوامل التوجه إلى عالم القرب - الآخرة - والانزعاج
عن عالم البعد - الدنيا -. والعنايات الأزلية للحق المتعالي إنما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه
- سبحانه - الأزلي بطاعتهم أيام التكليف. كما أنكم لو علمتم أيام طفولة ولديكم بأن
أحدهما سيطيعكم ويسعى في تأمين رضاكم وثانيهما يبعث على سخطكم وامتعاضكم،
فمن المعلوم أن ألطافكم ستشمل المطيع أكثر من الثاني منذ الأيام الأولى. ومن فوائد شدّة
ابتلاء الخواص من العباد، أن هؤلاء من خلال المحن والمعاناة يذكرون الحق ويناجونه.
ويتضرّعون على أعتابه المقدسة في ساحة ذاته الأقدس ويعيشون مع ذكره وفكره. ومن
الطبيعي أن نوع بني الإنسان يتشبث حين الشدة بكل ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء
والراحة يغفل عنه. ولما كان الخواص من العباد، لا يعرفون ملجأً إلا الحق، توجهوا نحوه،
وانقطعوا إلى مقامه المقدس، وإن الحق المتعال يوفر لهم سبب الانقطاع إليه من خلال عنايته
الخاصة بهم. ولا تستساغ هذه الفائدة - من الابتلاء - وحتى الفائدة السابقة، لدى الأنبياء
والأولياء الكُمَّـلين، لتنزّه مقامهم الشامخ عن ذلك، وعدم انعطاف قلوبهم تجاه الدنيا، ولا
تتبدل في الانقطاع إلى الحق من جراء تغيّر الأحوال. ويمكن أن يكون إيثار الأنبياء والأولياء
للفقر على الغنى، والابتلاء على الراحة، والمعاناة على غيرها نتيجة أنهم وقفوا من خلال
النور الباطني والمكاشفات [278] الروحانية على أن الحق المتعالي لا ينظر بعين اللطف إلى
هذا العالم ولا إلى زخارفه، ولا يكون للدنيا وما فيها موقع أمام ساحته المقدسة إلاّ الذل
والهوان. والأحاديث الشريفة شاهدة على ذلك. ففي الحديث أن جبرائيل قد نزل على
رسول الله صلّى الله عليه وأله وسلم ومعه مفاتيح خزائن الأرض وقال لو اخترتها لما هبط
من درجاتك الأخروية، شيء أبدا. ولكن رسول الله صلّى الله عليه وأله وسلم قد امتنع عن
القبول تواضعا للحق سبحانه، واختار الفقر. وفي الكافي الشريف في حديث بسنده عن
الإمام الصادق عليه السلام:"إنَّ الكَافِرَ لَيَهُونُ عَلَى اللهِ لَوْ سَأَلَهُ الدُّنْيَا بِمَا فيها أَعْطَاهُ
ذلِكَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح
28 ) وذلك من جرّاء هوان الدنيا في عين الحق الكبير المتعالي. وفي حديث أن الحق جل
وعلا منذ أن خلق العالم المادي لم ينظر إليه نظرة لطف وعناية. ومن فوائد شدة ابتلاء
المؤمنين حسب ما أشير إليها في الأخبار، أن لهم درجات لا ينالونها إلاّ من وراء المصائب
والأسقام والآلام. ويحتمل أن تكون هذه الفوائد صورة - غيبية - للإعراض عن الدنيا
والإقبال على الحق المتعالي. ويمكن أن تكون صورة ملكوتية لهذه المحن حيث لا تبلغ إلا بعد
حصولها -البليّات - في عالم المُلك وابتلاء الإنسان بها، كما ورد في الحديث الشريف
المأثور في الكافي بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِنَّهُ لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ مَنْزِلَةُ عِنْدَ
اللهِ فَمَا يَنالُها إِلاّ بِإِحْدَى الخَصْلَتَيْنِ إمّا بِذَهابِ مالِ أوْ بِبَلِيَّةٍ في جَسَدِهِ"( أصول الكافي،
المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمـن،ح23 وح3 ). وفي رواية
شهادة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام أنه رأى جده رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلم في المنام وأخبره بـ {أَنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ لاَ تَنَالُهَا إِلاَّ بِالشَّهَادَةِ}( بحار الأنوار،
المجلد 67، ص250) ومن المعلوم أن الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلا
بعد وقوع الشهادة في عالم الملك - عالمنا الحاضر- كما برهن على ذلك في العلوم
[279] العالية. وورد في الأخبار المذكورة أن لكل عمل في هذا العالم صورة في عالم
آخر. وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِنَّ عَظيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظيمِ البلاءِ
وَما أحَبَّ اللهُ قَوْماً إِلاَّ ابْتَلاهُمْ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
شدة ابتلاء المؤمن، ح23 وح3). فصل الأنبياء مبرؤون من العيوب الجسدية
يقول المحدث الكبير المجلسي - عليه الرحمة - ( في هذه الأحاديث - أحاديث ابتلاء الأنبياء
- الواردة من طرق الخاصة والعامة، دلالة واضحة على أن الأنبياء والأوصياء عليهم السلام
في الأمراض الحسية والبلايا الجسمية كغيرهم بل هم أولى بها من الغير تعظيماً لأجرهم
الذي يوجب التفاضل في الدرجات ولا يقدح ذلك في رتبتهم بل هو تثبيت لأمرهم وأنهم
بشر إذ لو لم يصبهم ما أصاب سائر البشر مع ما يظهر في أيديهم من خرق العادة لقيل
فيهم ما قالت النصارى في نبيهم ) انتهى ( بحار الأنوار، المجلد67، ص250). وقال المحقق
المدقق الطوسي والحكيم العظيم القدوسي - عطّر الله مرقده - في كتاب التجريد في بحث
ما يجب كونه فـي كل نبي (... وكلما ينفر عنه الخلق... )( بحار الأنوار، المجلد67،
ص250). وقال علامة علماء الإسلام - رضوان الله عليـه - في شـرح هذه الجمـلة
وأن يكون منزهاً عن الأمراض المنفّرة نحو الأُنبَة وسلس الريح والجذام والبرص لأن ذلك
كله مما ينفر عنه فيكون منافياً للغرض من البعثة)( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح23 وح3 ). يقول الكاتب: إن درجة النبوة و إن كانت
تابعة للكمالات النفسية و الدرجات الروحانية، و لا علاقة لها بالجسم. و أن النقائص
الجسمانية و أمراضها لا تسيء إلى [280] المقام الروحاني للأنبياء. و أن الأمراض المنفرة
لا تقلل شيئاً من علو شأنهم وعظمة رتبتهم، إن لم تؤكد كمالاتهم و تدعم درجاتهم،
كما أشير إليها. ولكن ما ألمح إليه المحققان لا يخلو عن وجه، لأن عوام الناس لا يفرقون
بين المقامات - الجسمية والروحية - ويحسبون أن النقص الجسماني نتيجة النقص
الروحاني أو ملازم له، ويعتبرون أن من عناية الحق سبحانه أن لا يصيب الأنبياء
أصحاب الشريعة والمبعوثين بالرسالة، بأمراض تسبب نفرة الطباع واستيحاش الناس.
فعدم ابتلائهم لا يكون نتيجة أن هذه المصائب والبلايا تحط من مقام النبوة، بل لأجل
فائدة هي إكمال التبليغ والإرشاد. وعليه لا مانع من ابتلاء بعض الأنبياء الذين لم يحظوا
بالشريعة، وابتلاء الأولياء الكبار والمؤمنين بمثل هذه المحن. كما أن النبي أيوب والمؤمن
حبيب النجار مبتليين. وقد وردت أحاديث كثيرة في ابتلاء النبي أيوب عليه السلام:
فمن ذلك ما روي عن تفسير علي بن إبراهيم، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه
السلام في حديث طويل قال:"فَسَلَّطَهُ عَلى بَدَنِهِ ما خَلا عَقْلَهُ وَعَيْنَيْهِ فَنَفَخَ فِيهِ إبْلِيسُ
فَصارَ قُرْحَةً واحِدَةً مِنْ قَرْنِه إِلى قَدَمِهِ فَبَقِيَ في ذلِكَ دَهْرَاً طَويلاً يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ
حَتّى وَقَعَ في بَدَنِهِ الدُّودُ وَكانَتْ تَخْرُجُ مِنْ بَدَنِهِ فَيَرُدُّها وَيَقُولُ لَها ارْجِعي إلى مَوْضِعِكِ
الَّذي خَلَقَكِ اللهُ مِنْهُ وَنَتَنَ حَتّى أخْرَجَهُ أهْلُ القَرْيَةِ مِنَ القَرْيَةِ وَألْقوْهُ في المَزْبَلَةِ خارِجَ
القَرْيَةِ"( بحر الأنوار، ح12، ص 342 ) . وفي الكافي بإسْنَادِهِ عَنْ أبي بَصيرٍ، عَنْ أبـي
عَبْدِ الله عليـه السلام قالَ:"قُلْتُ لَهُ: فَإذا قَرَأْتَ القرآنَ فَاستَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطان
الرَّجيمِ * إنّه ليسَ لَهُ سُلْطانٌ على الّذين آمنوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فَقَال:"يا أَبَا
مُحَمَّدٍ يُسَلَّطُ وَاللهِ مِنَ المُؤْمِنِ عَلى بَدَنِهِ وَلا يُسَلَّطُ عَلى دِينِه، قَدْ سُلِّطَ عَلى أيُّوبَ فَشَوِّهَ
خَلْقَهُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلى دِينِه وَقَدْ يُسَلَّطْ مِنَ المُؤْمِنينَ عَلى أَبْدانِهِمْ وَلا يُسَلَّطُ عَلى دِينِهِم"(
روضة الكافي ص 288 ح 433) وبـِإسـْنادِهِ عَنْ نَاجيَةَ قَالَ:"قُلْتُ لأبي جَعْفَرٍ عليه
السلام: إنَّ المُغيرَةَ يَقُولُ: إنَّ المُؤْمِنَ لا يُبْتَلى بِالْجُذام وَلا باِلبَرَص وَلا بكَذا ولاَ بِكَذا،
فَقالَ: إنْ كانَ لَغافِلاً عَنْ [281] صاحِبِ ياسِينَ إنَّهُ كانَ مُكَنَّعاً - ثُمَّ رَدَّ أصابِعَهُ فَقالَ:
كَأنّي أنْظُرُ إلى تَكْنِيعِه، أتاهُمْ فَأَنْذَرهُمْ ثُمَّ عادَ إِلَيْهمْ مِنَ الغَدِ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ المُؤْمِنَ
يُبْتَلى بِكُلِّ بَلِيَّةٍ وَيَمُوتُ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ إِلا أنَّهُ لا يَقْتُلُ نَفْسَهُ"( أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح12) إن"صاحب ياسين"هو حبيب
النجار و"التكنيع"مع النون كما هو في أكثر النسخ بمعنى التشنج والمُثلة كما في البحار.
قال المجلسي"كأنّه كان الجذام سبباً لتكنيع أصابعه"( بحار الأنوار، المجلد 67 ص 250)
وفي هذا الكلام تأمل. ويستفاد من هذه الأحاديث والروايات الأخرى أن الأنبياء والمؤمنين
قد يصابون بأمراض منفرة لأجل بعض المصالح. وتقابل هذه الأخبار، أحاديث أخرى تنفي
تشويه جسم النبي أيوب عليه السلام بسبب الأمراض، وانبعاث الرائحة الكريهة من جسده
المبارك. ولا جدوى في الجمع بين هذه الروايات وإطالة البحث فيها. وملخص الحديث أن
مثل هذه الأمراض لا تسيء إلى المؤمنين ولا تعدّ نقصاً لهم ولا للأنبياء عليهم السلام بل
تبعث على رفعة درجتهم وعلو شأنهم والله تعالى أعلم بالصوّاب. فصل في بيان أن الدنيا
ليست محلا لثواب الحق المتعالي و عقابه اعلم أن هذا العالم الدنيوي لما فيه من النقص
والقصور والضعف لا يكون دار كرامة ولا محلاً لثواب الحق سبحانه ولا محلاًّ لعذابه
وعقابه، لأن دار كرامة الحق عز وجل عالم تكون نعمه خالصة وغير مشوبة بالنقم، وراحته
غير مخلوطة بالشقاء والتعب، ومثل هذه النعم غير متوفرة في هذا العالم، لأنه دار التزاحم
والصراع. وإن كل نعمة من نعم هذا العالم محفوفة بأنواع من العذاب والآلام والمحن. بل
قال الحكماء أن لذّات هذا العالم هي دفع للآلام ونستطيع أن نقول [282] إن لذّاته
تبعث على الآلام لأن إثر كل لذّة، شقاء ونصب وألم، بل إن مادة هذا العالم تتمرّد على
قبول الرحمة الخالصة والنعمة المحضة غير المشوبة بالمكاره. وهكذا العذاب والشقاء والألم
والتعب في هذا العالم لا يكون خالصاً، بل يكون كل ألم وتعب محفوفاً بنعمة أو نعم، وكل
واحد من الآلام والأسقام والشقاء والمحن في هذا العالم لا يكون محضاً وغير مشوب بنعمة
ورحمة: فإن مادّة هذا العالم تتمرّد على قبول العذاب الخالص المطلق. إن دار عذاب الحق
سبحانه ودار عقابه، دار فيها العذاب المحض والعقاب الخالص، وأن آلامها وأسقامها لا
تضاهى بآلام وأسقام هذا العالم كأن يمس العذاب عضواً دون عضو، أو يكون عضو سالماً
وفي راحة والآخر في تعب وشقاء. وقد أشير إلى بعض ما ذكرنا في الحديث الشريف الذي
شرحناه عندما يقول:"وَذِلكَ - السبب في ابتلاء المؤمن بالبليات - أنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ
الدُّنْيا ثَواباً لِمُؤْمِنٍ وَلا عُقُوبَةً لِكافِرٍ"هنا - عالم الدنيا - دار تكليف، ومزرعة الآخرة،
وعالم الكسب. وهناك - عالم الآخرة - دار جزاء ومكافأة وثواب وعقاب. إن الذين
يتوقعون من الحق سبحانه أن ينتقم في هذا العالم من كل مرتكب معصية أو فاحشة أو جور
أو اعتداء، بأن يضع - عز وجل - حدّاً له، فيقطع يده ويقلع العاصي من الوجود إنهم
غافلون بأن مثل هذا العقاب خلاف النظم والسُّنَّة الإِلهية التي أقرّها الله سبحانه. إن هذه
الدار، دار امتحان وتفريق بين الشقي والسعيد والمطيع والعاصي، وعالم ظهور الفعاليات
وليس بدار تبيّن نتائج الأعمال والملكات. وإذا انتقم الحق المتعالي من ظالم نادراً، لأمكننا
القول بأن عناية الحق عز وجل شملته. وإذا ترك أهل الموبقات والظلم في ضلالهم وغيّهم،
كان ذلك استدراجاً. كما يقول الله سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ،وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(القلم/ 44-45 ). [283] ويقول: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(آل
عمران/178). وفي مجمع البيان عن الصادق عليه السلام أنه قال:"إِذا أحْدَثَ الْعَبْدُ ذَنْباً
جُدِّدَ لَهُ نِعْمَةٌ فَيَدَعُ الاستغفارَ فَهُوَ الاستدراجُ"( مجمع البيان، المجلد الخامس، ص 340 )
. فصل أن شدة المعاناة الروحية توازي شدة الإدراك يظهر من نهاية الحديث الشريف
- المذكور في بداية الموضوع -"وَمَنْ سَخُفَ دينُه وَضَعُفَ عَقْلَهُ، قَلَّ بَلاؤُهُ"إن البليـّة
تعمّ الجسمانية والروحانية، فإن الأشخاص الضعاف في عقولهم وإدراكهم في أمان من
المعاناة الروحية والانزعاجات العقلية، على خلاف من يتمتع بالعقل الكامل والإدراك[A1]
الحذق، حيث تزداد معاناته ومصائبه. ومن المحتمل أن يعود إلى هذا المعنى كلام الرسول
صلّى الله عليه وأله وسلم القائل:"مـَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أوذيتُ"( الجامع الصغير، المجلد
الثاني، ص 144 ) لأن كل من يدرك جلال الربّ وعظمته أكثر، ويقف على المقام
المقدس للحق جل وعلا بشكل أعمق، يتألم ويتعذّب من جراء عصيان العباد وهتكهم
للحرمة أكثر. وأيضاً كل من كانت رحمته وعنايته وشفقته على عباد الله أكثر، تأذَّى من
اعوجاج العباد وشقائهم أكثر. وقطعاً كان خاتم النبيين صلّى الله عليه وأله وسلم في كل
هذه المقامات والمنازل الكمالية، أكمل من جميع النبيين والأولياء وبني الإنسان فتكون محنه
وآلامه أعمق. وأيضاً هناك توجيه آخر - لكلام الرسول صلّى الله عليه وأله وسلم - لا
يتناسب مع هذا المقام. والله العالم ولـَهُ الحمد. [285] الحَديث السَـادسِ عشـَر
"الصَّـبر" [286] بِأسَانِيدِنَا المُتَّصِلَةِ إِلى ثِقَةِ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ، فَخْرِ الطَائِفَةِ الحَقَّةِ
وَمُقَدَّمِهِمْ مُحَمَّد بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيّ _ رضي الله عنه _ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعمانِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْكانَ، عَنْ أَبِي
بَصِير قَالَ:"سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ عليه السّلام يَقُولُ: إنَّ الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، إِنْ
نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وَإِنْ تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ المَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْهُ، وَإِنْ أُسِرَ وَقُهِرَ، وَاسْتُبْدِلَ
بِاليُسْر عُسْراً، كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدّيقُ الأمينُ لَمْ يُضْرِرْ حُرِيَّتَهُ أَنِ استُعْبِدَ وَقَهُرَ، وَأُسِرَ
وَلَمْ تُضْرِرْهُ ظُلْمَةُ الجُبِّ وَوَحْشَتُهُ وَمَا نَالَهُ أنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ الجَبَّارَ العَاتِيَ لَهَ عَبْداً
بَعْدَ إِذْ كَانِ [ لَهُ ] مَالِكاً، فَأَرْسَلَهُ وَرَحِمَ بِهِ أُمَّةً وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً فَاصْبِرُوا
وَوَطِّنُوا أنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر،
باب الصبر، ح 6 ). [287] الشرح: إن الـ"نَائِبَةُ"مفرد وجمعها نوائب وهي الحوادث
والكوارث النازلة. وفي الصحاح أنها المصيبة. و"دَكَّ"بمعنى دقّ. وفي الصحاح: ( وقد
دككت الشيء أدكَّه دكاً إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض. انتهى ). وتداكّت عليه
أي تداقت واستعملت أيضاً بمعنى الاجتماع والازدحام. كما نقل عن
كتاب"النهاية"حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام "ثـُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكُكُ
الإِبِلِ الهيم عَلَى حِيَاضِهَا"(نهاية ابن الأثير، المجلد الثاني، ص 128 ) أي ازدحمتم. ونقل
عن النهاية أيضاً أن أصل دكَّ بمعنى الكسر وأن استعماله في هذا الحديـث بالمعنـى الأول
- الاجتماع - أنسب لمكان"لم تكسره"وان كان المعنى الثاني - الكسر - أيضاً مناسباً.
وكلمة ( إن ) في"وَإِنْ أُسِرَ"وصلية وقوله"وَقَهَرَ وَاسْتَبْدَلَ"معطوفان على"أُسر". وقال
المجلسي رحمه الله أن في بعض النسخ"واستبدل بالعسر يسراً"- بتقديم العسر على اليسر -
وعليه تكون جملة (واستبدل ) معطوفة على"لـَمْ تَكْسِرْهُ"فيتبين بذلك منتهى الصبر.
وجملة"أَن اسْتُعْبِدَ"مبني على المفعول وفاعل لقوله"لم يضرر". وفي نسخة مرآة
العقول"استبعد"بتقديم الباء على العين المهملة. وفي كتاب وسائل
الشيعة"استعبد"بتقديم العين على الباء، ولكن المظنون أن نسخة مرآة العقول من سهو
الكاتب وان كان معناه - استبعد - لا يخلو عن الصحة. ولكن المناسب مع المقام ومع
الحديث الشريف هو ما ورد في نسخة وسائل الشيعة. [288] وقوله"وَمَا نَالَهُ"معطوف
على ظلمة الجـُبّ أي لم يضرره ما ناله من إخوته ومن ظلمة الجُبّ والوحشة
والبليّات. وقوله"أن مـَنَّ الله"الأظهر أنه بتقدير إلى - حرف الجر - ومتعلق بـ"لم
تضرر"( فالظرف متعلق بلم يُضرر في الموضعين - ما ناله وأن استعبد - على سبيل
التنازع )( بحار الأنوار، المجلد 71، ص70 ). وأورد المرحوم المجلسي احتمالات كثيرة
في ذلك - أن منّ الله ولم تُضرر - لا يخلو ذكرها عن التطويل ( بحار الأنوار، المجلد
71، ص70 ). والمقصود من قوله"عبداً بعد إذ كان مالكاً"أنه أطاعه. فصل في بيان
أن أسر الشهوة مصدرٌ لكل أسر اعلم أن الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة
والميول النفسية، كان رقُّه وعبوديته وذلته بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه،
ومعنى العبودية لشخص هو الخضوع التام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات
المقهور للنفس الأمارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلما توحي هذه السلطات بشيء أطاعها
الإنسان في منتهى الخضوع، ويغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة،
ويبلغ الأمر إلى مستوىً يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها
على عبودية مالك الملوك الحقيقي، وفي هذا الحال تزول عن نفسه العزة والكرامة
والحرية ويحل محلّها الذل والهوان والعبودية، ويخضع لأهل الدنيا، وينحني قلبه أمامهما
وأمام ذوي الجاه والحشمة، ويتحمل لأجل البلوغ إلى شهواته النفسية الذل والمنّة،
ويستسيغ لأجل الترفيه عن البطن والفرج الهوان، ولا يتضايق من اقتراف ما فيه خلاف
الشرف والفتوة والحرية عندما يكون أسيراً لهوى النفس والشهوة. وينقلب إلى أداة
طيّعة أمام كل صالح وطالح، ويقبل امتنان كل وضيع عنده لمجرد احتمال نيل ما يبتغيه
حتى إذا كان ذلك الشخص أحط وأتفه إنسان، وذلك الاحتمال موهوماً، حيث
يزعمون أن الوهم في دائرة الأطماع حجة. [289] إن عبيد الدنيا وعبيد الرغبات
الذاتية، والذين رسن عبودية الميول النفسية في رقابهم، يعبدون كل من يعلمون أن لديه
الدنيا أو يحتملون أنه من ذوي الدنيا، ويخضعون له، وإذا تحدثوا عن التعفف وكبر
النفس كان حديثهم تدليساً محضاً، وأن أعمالهم أقوالهم تكذّب حديثهم عن عفة النفس
ومناعتها. وهذا الأسر والرق من الأمور التي تجعل الإنسان دائماً في المذلّة والعذاب
والنَصَب. ويجب على الإنسان ذي النبل والكرامة أن يلتجأ إلى كل وسيلة لتطهير نفسه
منها. ويتم التطهير من هذه القذارات، والتحرير من كل خفّة وهوان، بمعالجة النفس،
وهي لا تكون إلا بواسطة العلم والعمل الناجع. أما العمل فيكون بالرياضة الشرعية
وبمخالفة النفس فترة يتم فيها الوازع للنفس تجاه حبها المفرط للدنيا والشهوات والأهواء
حتى تتعوّد النفس على الخيرات والكمالات. وأما العلم فيتم بتلقين النفس وإبلاغ
القلب: بأن الناس الآخرين يضاهونه في الفقر والضعف والحاجة والعجز، وأنهم يشبهونه
أيضاً في الاحتياج إلى الغنيّ المطلق القادر على جميع الأمور الجزئية والكلية، وأنهم غير
قادرين على إنجاز حاجة أحد أبداً، وأنهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم، ويخشع
القلب أمامهم، وان القادر الذي منحهم العزة والشرف والمال والوجاهة، قادر على
المنح لكل أحد. ومن العار حقيقة على الإنسان أن يتذلّل وينحطّ في سبيل بطنه وشهوته،
ويتحمل الامتنان من مخلوق فقير ذليل لا حول له ولا علم ولا وعي. إذا أردت - أيها
الإنسان - أن تقبل المنّة فلتكن من الغني المطلق وخالق السماوات والأرض، فإنك إذا
وجهت وجهك إلى الذات المقدسة، وخشع في محضره قلبك تحرّرت من العالَمين - ما
سوى الله - وخلعت من رقبتك طوق العبودية."العـُبُوديَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُبُوبِيَّةُ "(
مصباح الشريعة، الباب المائة، في حقيقة العبودية). ونتيجةً لعبودية الحق والانتباه إلى
نقطة واحدة مركزية، وإفناء كل القوى [290] والسلطات - النفس وأهوائها - في
السلطة الإلهية المطلقة، تنجم حالة في القلب تقهر العوالم الأخرى ويستولي عليها، وتظهر
للروح حالة من الشموخ والعظمة تأبى الطاعة إلا أمام الرب سبحانه وأمام من تكون
طاعتهم طاعة ذات الحق المقدس، وإذا كان من جراء الظروف الطارئة محكوماً لأحد،
لما تزلزل قلبه منه ولحافظ على حرية نفسه واستقلالها، كما كان الشأن في النبي يوسف
ولقمان حيث لم تنعكس سلباً عبوديتهما الظاهرية على حرية وانطلاقة نفسيهما. كم من
أصحاب القدرة والسلطة الظاهرية لم يستنشقوا نسمة حرية النفس الشخصية والاعتداد
بها ويكونون أذلاء وعبيداً للنفس وأهوائها، ويتزلفون نحو المخلوق التافه؟. نقل عن
الإمام علي بن الحسين عليه السّلام أنه قال في حديث"إنّي لآنّفُ أنْ أطْـلُبَ الدُّنْيَا مِنْ
خَالِقِهَا فَكَيْفَ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِي"( علل الشرائع، المجلد الأول، باب 165، العلة التي من
أجلها سمي علي بن الحسين زين العابدين ). أيها العزيز إن لم تشعر بالنقص في طلب
الدنيا، فعلى الأقل لا تطلبها من إنسان ضعيف مثلك. وافهم بأنه لا حول للمخلوق في
أعمال دنياك. فلو فرضنا بأنك استطعت مع الذل والامتنان المتكرر أن تكسب رأي
الإنسان الذي تطلب منه إعمار دنياك فان رأيه وإرادته لا تكون فاعلة في مُلك الحق
سبحانه. إذ لا يوجد أحد يتصرف في مملكة مالك الملوك. فلا تتملق لتأمين حياتك
الدنيوية المعدودة، وشهواتك المحدودة، تجاه مخلوق معدم. ولا تغفل عن إلهك، وحافظ
على حريتك، وارفع أغلال العبودية والأسر عن رقبتك، وكن حراً في جميع حالاتك كما
ورد في الحديث الشريف"إن الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَميعِ أَحْوَالِهِ". واعلم أن الغِنى - غنى
النفس - وأن عدم الحاجة من حالات الروح، وغير مرتبطة بأمور خارجة عن الإنسان.
وإنني رأيت أناساً من أهل الثراء والمال والجاه يتفوهون بكلمات يندي لها الجبين ولا
يقولها المستجدي المتهتك. انه المسكين الذي ضُربت على روحه الذلة والمسكنة. [291]
إن شعب اليهود بالنسبة إلى عددهم يعدّون من أغنى الشعوب القاطنين على ظهر
الأرض كافة ولكنهم يعيشون طيلة حياتهم في الشقاء والتعاسة والشدة والهوان، وتبدو
على ملامحهم الحاجة والفقر والذل المسكنة، ولا يكون ذلك الأمن وراء الفقر النفسي
والذل الروحي. ورأينا في أصحاب الزهد وذوي الحياة البسيطة - الدراوشة - أشخاصاً
قلوبهم مفعمة بالغنى والكفاف، ويلقون نظرة اللامبالاة على الدنيا وكل ما فيها، ولا
يجدون أحداً أهلاً الاستنجاد به إلا الحق المقدس المتعالي . وأنت أيضاً تمعّن وابحث في
أحوال أهل الدنيا وذوي الرغبة في الرئاسة، كي ترى ذلهم وتزلفهم وخضوعهم أمام
الناس أكثر من الآخرين . إن أدعياء الإِرشاد والتوجيه، يتحملون الذل بعد الذل
ويبدون الخضوع اثر الخضوع في سبيل ترفيه بطونهم وفروجهم. إن خضوع الحالة
القلبية للمراد - المربِّي - الطالب للدنيا، تجاه المُريد - المُربَّى- أكثر من خضوع قلب
المُريد تجاه المُراد، رغم البون الشاسع بين نوعية الإرادتين. فإن إرادة المريد روحانية
وآلهية حتى إذا كان على خطأ واشتباه - من جهة متعلق الإرادة - في حين أن إرادة
المراد دنيوية وشيطانية. إن ما ذكرناه بأسره، هو الذل الدنيوي والمفاسد الدنيوية. فإذا
ارتفعت الحجب تتجلى الصورة الملكوتية للأسر في أغلال الشهـوات، وسلاسل
الرغبات النفسانية وأنها كيف تكون؟. ولعل هذه السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً والتي
أخبر عنها الله تعالى والتي تكون أصفادَاً وأغلالاً لنا في يوم الآخرة هي الصورة الملكوتية لهذا
الأسر والرق في ظل أوامر القوة الشهويّة والغضبية. يقول الله تعالى {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِرًا }(الكهف/ 49 ). ويقول {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } (البقرة/ 286
). فما يصل إلينا في ذلك العالم هو صور أعمالنا. فلذلك مزّق سلاسل الشهوة والأهواء
المتعرجة بعضها على بعض، وحطم أصفاد القلب، وأُخْرج من قيود الأسر، وكن حراً في
هذا العالم، حتى تكون حراً في ذلك العالم. ولولا ذلك [292] لوجدت الصورة الملكوتية
لهذا الأسر حاضرة في ذلك العالم، واعلم بأنها مؤلمة جداً. إن أولياء الله رغم تحررهم التام
من الأسر والرق، وبلوغهم الحرية المطلقة فإن قلوبهم كانت مضطربة وكانوا يجزعون
وينحبون بدرجة تثير دهشة العقول. فصل ( أسر الشهوة أساس البلاء ) إن أبحاث هذه
الأوراق وان كانت من الأمور الرائجة الشائعة ومن المكـررات، ولكن لا بأس في ذلك
فإن تذكير النفس وتكرار قول الحق، أمر مطلوب. ولهذا يستحب تكرار الأذكار
والأوراد والعبادات والمناسك. والسبب الرئيسي هو تعويد النفس وترويضها. فلا
تضجر عزيزي من التكرار. واعلم أنه ما دام الإنسان يرزح في قيود النفس والشهوات،
وما دامت سلاسل الشهوة والغضب الطويلة على رقبته لا يستطيع أن يبلغ المقامات
المعنوية والروحانية، ولا تظهر فيه السلطة الباطنية للنفس وإرادتها الثاقبة، ولا يحصل له
مقام استقلال النفس وعزّتها، الذي هو أرقى مقام لكمال الروح، بل إن هذا الأسر
والرق يقيّده ولا يسمح له بالتمرّد على النفس في جميع الأحوال. ولما قويت هيمنة
النفس الأمارة والشيطان في الباطن، وانقادت القوى جميعها لهما في العبودية والطاعة
وأبدت لهما الخضوع والتسليم التامّين، لما اقتصرتا على المعاصي بل دفعتا بالإنسان من
المعاصي الصغيرة رويداً رويداً إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى ضعف في العقائد ثم إلى
الأفكار المظلمة ثم إلى الطريق المغلق للجحود ثم إلى بغض وعداوة الأنبياء والأولياء.
وحيث إن النفس مضطهدة وتعيش حالة الرق، لا تستطيع أن تخرج على رغباتها. وعليه
تكون عاقبة أمر الطاعة والتقيّد - للنفس الأمارة - وخيمة جداً، وستدفع بالإنسان إلى
أماكن خطيرة ومخيفة. إن الإنسان العاقل الروؤف بنفسه لا بد له من السعي واللجوء
إلى كل سبيل لإنقاذ نفسه من الأسر، والنهوض أمام النفس الأمارة والشيطان الباطني،
ما دامت الفرصة سانحة، وقواه الجسدية سالمة وما دام أنه على قيد الحياة وفي صحة
موفورة [293] وفتوّة موجودة، وأن قواه لم تتسخر كلياً، ثم يراقب حياته فترة من
الوقت، ويتأمل في أحوال نفسه وأحوال الماضين، ويتمعن في سوء عاقبة بعضهم. ويُفهم
نفسه أن هذه الأيام القليلة، تبلى، ويوقظ قلبه ويفهمه الحقيقة التالية المنقولة عن الرسول
الأكرم - صلّى الله عليه وسلم - حيث خاطبنا قائلاً:"الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ"( إحياء
العلوم للغزالي، المجلد الرابع، ص14. كنوز الحقائق ( المطبوع على هامش كتاب الجامع
الصغير ) ج1 ص133 ). فلو إننا لم نزرع في هذه الأيام المعدودة، ولم نعمل عملاً صالحاً،
لفاتتنا الفرصة، وإذا غشينا الموت، وحلّ العالم الأخر، لانقطعت أعمالنا جميعاً وذهبت آمالنا
نهائياً. وإذا جاء ملك الموت ونحن لا نزال عبيد الشهوات وأسارى قيود أهواء النفس
المتشعبة - والعياذ بالله - لكان من الممكن للشيطان أن يسرق إيماننا الذي هو غايته
القصوى وأن يحتال ويتراءى أمام قلبنا بصورة نخرج من الدنيا ونحن أعداء الحق المتعالي
والأنبياء والأولياء. والله سبحانه يعرف ماذا وراء هذا الحجاب من الشقاوات والظلمات
والوحشة؟. فيا أيتها النفس الدنيئة ويا أيها القلب الساهي استيقظا وأنهضا أمام هذا
العدو الذي ألجمكما منذ سنين وربطكما بأغلال الأسر وقادكما إلى كل جهة حيث
يريد، ودفع بكما إلى كل عمل قبيح وسلوك بشع وأجبركما عليه. وحطّما هذه القيود،
وكسَّرا هذه السلاسل، وكن أيها الإنسان حراً، وادفع عن نفسك الذل والهوان، وضع
في رقبتك طوق العبودية للحق - جلّ وجلاله - حتى تتحرر من كل عبودية وترقى إلى
السلطة الإلهية في العالمين. أيها العزيز على الرغم من أن هذا العالم ليس بدار الجزاء
والمكافأة وليس بمحل لظهور سلطة الحق المتعالي، وإنما هو سجن المؤمن، فلو تحررت من
أسر النفس، وأصبحت عبداً للحق المتعالي، وجعلت القلب موحداً، وأجليت مرآة
روحك من غبار النفاق والأثنينيّة، وأرسلت قلبك إلى النقطة المركزية للكمال المطلق،
لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالم، ولتوسع قلبك بقدر يغدو محلاً لظهور السلطنة
التامة الإلهية حيث تصير مساحتها أوسع من جميع العوالم"لاَ يَسعُني [294] أَرْضِي وَلاَ
سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِن"( غوالي اللئاليء، المجلد الرابع، ص7) ولشعرت
غنى واضحاً في النفس، حيث لم تعبأ بكل العوالم الغيبية والمادية، ولأصبحت إرادتك