إذا كان بعض الذين عاصروا الإمام واستشعروا عظمته قد أحبوه وناصروه وبذلوا مهجهم دونه لأنهم رأوا فيه المثل الخالد المجسد للإسلام وقيمه، وغالى آخرون في حبه وتقديسه حتى عبدوه، فلا عجب في ذلك، إنما العجب أنه يأتي قوم في عصور تفصلها عن عصر الإمام عشرات القرون، ومنهم من يولد ويشب في بيئات أخرى لا تؤمن بدينه ولا تسير على منهجه، ومع ذلك تبهرهم عظمة شخصيته ويشدهم سمو مواقفه وتسحر أفئدتهم حكمته وبلاغة كلماته، فيعشقونه ويشهرون حبهم له على رؤوس الأشهاد من خلال أقوال منصفة ستظل تردد أصداءها ذاكرة التاريخ، وتهتف بها جنبات الكون، وإليك عزيزي القارئ طائفة من أقوال بعض الذين عشوا إلى ضوئه ونهلوا من معين حكمته وبلاغته:
يقول الفيلسوف الإنكليزي (كارليل) في كتابه (محمد المثل الأعلى) (ص34) تعريب محمد السباعي: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة، ولطف، ورأفة، وحنان) اهـ.
هذه عقيدة الفيلسوف الإنكليزي المسيحي في الإمام علي...
إنه يؤكد أن حب علي أخذ من قلبه كل مأخذ...
ولكن، لماذا؟؟..
لقد أكبره وأحبه لأنه وجد فيه الصفات الرفيعة المتألقة بأقداس الإنسانية...
فعلي قد استوى على قمة العظمة البشرية علماً... ومكارم... وأخلاقاً.. وفضائل.. وعلي يحتل الدرجات العُلى حسباً.. ونسباً..وشرفاً.. فهو هاشمي أباً وأماً..
والهاشميون ذؤابة المحامد في قريش خاصة والعرب عامة..
وعلي ينطوي على روح الإباء التي ترفض الدنايا رفضاً مطلقاً..
وعلي قد نضجت في نفسه المقدسة، وفي قواها الباطنة سنابل الرحمة، وحب الخير للناس أجمعين، وهو فوق هذه الصفات الباسقة شجاع لم تعرف ميادين الحروب بطلاً أثبت منه قلباً.. ولا أكثر جرأة وإقداماً.. ولا أشد منه قوة، فهو ما نازل بطلاً إلا صرعه.. وهو مع هذه الشجاعة الخارقة يمتاز: بالتواضع.. والحياء.. والحنان الرحيم.. بينما يصف لنا التاريخ أبطال العالم بالقسوة.. والأنانية.. والاستعلاء..
وتتجلى لنا رأفته.. وشعلة من حنانه المقرونة بحب إسعاد الناس.. في عهده للأشتر النخعي الذي بعث به والياً على مصر - ذلك العهد الفذ الرائع.. الذي قال له فيه من جملة ما قال: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم.. ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق..
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمقها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية... )، ولكي تستقيم له أمور الرعية على الوجه الذي يأمن معه العثار، يقول له: (وأكثر مدارسة العلماء، والحكماء.. في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك).
ثم يفقهه المسلك الذي فيه سعادته، وصلاح الشعب وهناؤه.. فيقول له: (إن أفضل قُرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم)1هـ.
هذه الكلمات القليلة في عددها.. الواسعة أرحب ما تكون السعة في مضامينها، ومراميها، والكثير غيرها مما عرفه الفيلسوف(كارليل) عن الإمام أثارت إعجابه، وجعلته يقول: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه.. الخ..
ويتحدث الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي في كتابه (علي وبنوه) - وقد ذكر ما شمخ أمام علي من مصاعب - فيقول:
(وجد علي نفسه.. صدق إيمان بالله، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يُدهِن في أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه، لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى الله).
ويقول: (له فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين ويؤمن بها أهل السنة، كما يؤمن له بها شيعته)اهـ (1).
ويقول المؤرخ والمحقق الفرنسي (كاراديفو) في كتابه (مفكرو الإسلام) (ص10):
(وعلي هو ذلك البطل الموجَعُ، المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد، ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سرّ العذاب الإلهي)اهـ.
يرى البحاثة الفرنسي (كاراديفو) في علي فارساً غالباً، ولكنه فارس صوفي، أي إن فروسيته نهلت من معين المعارف الإلهية حتى الارتواء.. فهو لا يرفع سيفه النبيل، ويهوي به إلا ليقتل شيطاناً من طواغيت الاستكبار المشرك، والطبيعة الجاهلية، البطرة، ليعز كلمة الله، ويجعل الناس يعيشون تحت ظلالها جنات الإخاء.. والمحبة، وسلامة الصدور من: الأحقاد، والبغضاء، والمفاسد التي اتخذ منها إبليس جنوداً ليحجب الإنسان عن ربه وإنسانيته...
وعلي إمام رفعه إلى مقام الإمامة الأقدس كفاءاته العلمية.. والدينية.. والأخلاقية.. وسموه الروحاني..
ويرى (كاراديفو) أن علياً يحمل فكراً اجتماعياً ثورياً فاعلاً يرقى في تطوير المجتمع إلى تحقيق ما تحلم به الإنسانية من حياة فاضلة.. كريمة.. وأنه استشهد في سبيل ما كان يريد أن يجعله واقعاً حياً.. لذلك فهو إمام شهيد.. صاحب نفس وضيئة تختزن سراً إلهياً قدوسياً.. هو سر قبول تحمل العذاب حتى الموت لإنقاذ الإنسان من الظلمات إلى النور...
وعن تلك الفروسية التي تحدث عنها (كاراديفو) يقول المفكر الإسلامي الأستاذ عباس محمود العقاد تحت عنوان (مفتاح شخصية الإمام علي): (آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفض منها كل مغلق، ويفسر منها كل ما يحتاج إلى تفسير، وقد بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء...
ولقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضى الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها..
ثم يقول: (والإمام علي فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين، بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه..).
ويتابع قائلاً: (وما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، وكان أبداً عند قوله: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك)اهـ.
ويجعل العقاد الحديث عن علي (البطل، الموجَع، المتألم) فيقول: إن ثقافة الإمام هي: ثقافة العَلَم، المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام...
وإنها هي ثقافة الفارس، المجاهد في سبيل الله،يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه.. لأنه بالبأس زاهد في الدنيا، مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله، فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه..
وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه).
ويقول: (كان علي المسلم حق المسلم في عبادته، وفي علمه، وفي قلبه وعقله، حتى ليصح أن يقال، إنه طبع على الإسلام... وأن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاماً منه، ولا أعمق نفاذاً فيه) (2).
أما جبران خليل جبران أنبه عباقرة الفكر العربي في هذا العصر فإنه يرى العظمة متألقة في ثلاثة من البشر يمثلون الكمال الإنساني، هم عيسى، محمد، علي..
يقول في علي: (في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها، وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية..
ثم يقول: مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته...
مات والصلاة بين شفتيه...
مات وفي قلبه شوق إلى ربه...
ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجوهر والحصى..
مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافيه، غير أنني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض..
مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم، وفي زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأن في ذلك، وهو أعلم)اهـ (3).
لقد رأى جبران الكمال الإنساني بكل معانيه وأبعاده متجلياً في ثلاث من شخصيات العالم هم: عيسى، محمد، علي..
وجبران يعتقد أن علياً هو أول عربي - بعد رسول الله(ص)- عرف الذات الأحدية.. ولم يفارقها في حبه، وإخلاصه، وصدق سريرته، وفي خطبه النورُ الساطع الدليل على ذلك، وفي سلوكه الديني، والاجتماعي.. والإنساني أيضاً..
وجبران يعتقد أن الذين أحبوا علياً قد لبوا دعوة فطرتهم السليمة التي لم تفسدها السياسة، وشهوات الدنيا الآثمة..
ويرى جبران أن علياً مات شهيداً؛ شهيد عظمته الإنسانية.. ورقيه الروحاني.. وعقيدته الإسلامية الصافية..
وأنه أغمض عينيه الكريمتين عن هذا العالم، وأنوار الصلاة الرحمانية تسطع على شفتيه بهاء ملكوتياً وأنه ترك هذا العالم قبل أداء رسالته القرآنية بسبب وجوده بين قوم أعشت قلوبهم الأحقاد الجاهلية.. وشهوة حب التسلط، فلم يقدروه حق قدره.. فحاربوه.. وحرموا البشرية من تحقيق أمانيه في: الحرية.. والمحبة.. والإخاء، والمساواة، والعدل الاجتماعي.. والاقتصادي، تلك الأماني التي كان يريد أن يصبها على الناس أجمعين نعيماً فياضاً بالخير.. والمرحمة.. والبركات.. والعيش البهيج الرغيد...
وعلي في عقيدة جبران (جوهرة بين الحصى)، أي أنه تفرد بمعان جعلت منه الإنسان الكامل...
وحقاً قال نابغة الشرق جبران، فإن قريشاً أولت علياً حقداً أزرق لأنه قتل أعيان أبطالها في بدر، وأحد، والخندق..
وإنه ليعطينا عن ذلك صورة صافية الظلال، مشرقة الألوان الباحث الإسلامي المصري المعروف الاستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه النفيس (علي بن أبي طالب بقية النبوة).
يقول الخطيب في (ص87): (فقد كان علي بطل الإسلام دون منازع.. لا يعرف المسلمون سيفاً كسيف علي في إطاحته رؤوس أئمة الكفر، وطواغيت الضلال من سادة قريش وقادتها.. وكان علي فقيه الإسلام.. وعالم الإسلام.. وحكيم الإسلام.. غير مدفوع عن هذا أو منازع فيه... )اهـ.
ثم يزيدنا أيضاً في أسباب عداوة قريش لعلي، تلك العداوة الحمراء التي ورثها الأبناء عن الآباء فيقول: (ما أردنا تقريره، من أن علياً كان أكثر المسلمين شدة على مشركي قريش، وأكثرهم تنكيلاً بهم، وإفجاعاً لهم في الآباء والأبناء، والأعمام والأخوال، والذي نريده من هذا هو أن نذكر تلك التِّرات، وهذه الإحن التي وقعت في القلوب، وغمرت النفوس في المعارك التي وقعت بين المسلمين ومشركي قريش، وما وقع فيها من صرعى، وأن نذكر أن تلك الإحن وهذه التِّرات قد صادفت من قريش قلباً خالياً من الإيمان بالله، فتمكن الحزن منها، واستمرت الحسرة فيها، على حين أن ما أصاب المسلمين في أنفسهم وفي أهليهم لم يكن ليجد له مقاماً في نفوس آمنت بالله، وآثرت الموت على الحياة، وطلبت الشهادة وتعجيلها في سبيل الله، هذه الإحن، وتلك التِّرات، التي وقعت في نفوس قريش المشركة، قد ظلت حية فيها، بعد أن دخلت في الإسلام، هذا الدخول العام الذي كان عن قهر، أكثر منه عن نظر واقتناع، وسنرى آثار ذلك وشواهده، حين يُمتحن المسلمون بتلك الفتن التي أطلت برؤوسها بعد وفاة النبي(ص)، وحين تقف قريش في وجه بني هاشم، وحين تذودهم عن الخلافة، ثم تنالهم بسيوفها..الخ)
ويجيئنا الأستاذ العقاد ليبرز لنا لوحة أخرى ترينا موقف قريش من علي قد تكون أدق وضوحاً وأرسخ وثاقة فيقول: (إن قريشاً كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة).
ثم يكشف لنا عن سبب ذلك الحقد الدفين فيقول: (فقد بطش علي بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم: عتبة بن أبي ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله، وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه يوم بدر.. عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه التِّرات بعد دخولهم في الإسلام، وزادهم حقداً أنهم لا يملكون الثأر منه لقتلاهم من الكفار.. أما وهي تحاربه بعصبيتها، وتحاربه بذحولها، فتلك هي العقبة التي لا يذللها إلا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي(ص) ولم يكن حزب قط أقوى من قريش في أرجاء الدولة الإسلامية بأسرها)اهـ (4).
وعن بلاغة علي التي تكلم عنها جبران يحدثنا علم من أعلام الفكر الإسلامي هو الإمام الشيخ محمد عبده فقيه الديار المصرية سابقاً من خلال مطالعته نهج البلاغة الذي بهرته بلاغته، وحمله إعجابه به على شرحه، يحدثنا فيقول: (فتارة كنت أجدني في عالم يغمرني فيه من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها.
وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدياً، فصل عن المركب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى.. ) (5).
وهذا باحث ومفكر إسلامي هو الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي يقدم إلينا كتابه (علي إمام المتقين)، ويطلب أن نصغي إليه وهو يتحدث إلينا عن الشهيد الإمام علي بن أبي طالب تحت عنوان (جسد علي النبيل) هوذا يقول: (جسد رجل لم تعرف الإنسانية حاكماً ابتلي بمثل ما ابتلى به من فتن، على الرغم من حرصه على إسعاد الآخرين، وحماية العدل، وإقامة الحق، ودفع الباطل).
ثم يقول: (قبض الشهيد، واستقر في وعي الزمن، أنه كلما قيلت كلمة (الإمام)، فهو الإمام علي، على كثرة الأئمة في الإسلام، وذلك، لأن ما أمتلكه من: علم وفقه في الدين، وما أوتي من الحكمة، لم يتوفر قط لفقيه أو عالم، قبض الشهيد الرائع البطولة، الأسطوري، المثالي، واستقر في ضمير الزمن.. ) أنه كلما نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب، فهو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، على الرغم من كثرة الخلفاء في كل عصور الإسلام، ذلك أن علياً اجتمع له من عناصر القدرة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات القيادة، ونبالتها، وشرفها، ما لم يجتمع قط لحاكم..
وهكذا كان، فريداً حقاً.. عالماً، وحاكماً.. فسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته: منارات إشعاع.. ومنابع حكمة.. ومثار عزائم.. وعدّة للمتقين والمساكين بعد كتاب الله، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيظل القلب ينبض بما قال.. وتشرق به النفس.. ويزهو به العقل.. وكم من الكلمات المشرقة.. والمواقف المضيئة.. خلّفها الإمام ميراثاً للإنسانية كلها.. ودليلاً، ونبراساً..).
ويستمر قائلاً:
(عاش يناضل دفاعاً عن: الشريعة.. والعدل.. والحق.. والمودة.. والإخاء.. والمساواة بين الناس، سلام عليه.. سلام عليه يوم قال فيه رسول الله عليه(وآله) الصلاة والسلام: (رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار)اهـ.
ودار الحق معه حيث دار، وما عاداه في حياته وبعد موته إلا البغاة، وفرسان الضلال، وعبيد الشهوات، وأهل البدع والأهواء)اهـ (6).
ويقول الشرقاوي في مقدمة الكتاب: (تجسدت في الإمام علي، أخلاق الإسلام، ومثله، فقد تعهده الرسول: طفلاً.. ورباه صبياً.. وثقفه فتى.. وقال عنه: (أنا مدينة العلم، وعلي بابها) )اهـ(7).
وهذا الأستاذ جورج جرداق الأديب اللبناني المعروف، الرحب الاطلاع على ثقافات العالم القديم والحديث، يدرس الإمام علياً من المهد إلى اللحد، فتنتشي نفسه إعجاباً بعلي، لقد رأى في تراثه: علماً شاملاً.. ساحراً، وبلاغة آسرة، وخلقاً نقياً تصغر عنده إشراقة الصباح، وإنسانية تتدفق بحراً من الجمال والجلال...
رآه وكأنما هو: قرآن بعد القرآن...
وإنه ليراه ( أقرب الخلق إلى المسيح بوداعته، وزهده، وتواضعه، واستقامته، وصلابته مع الحق، وعظمة أخلاقه، وقوة إيمانه، وعمق إنسانيته، وجلال مأساته)اهـ (8).
وفي جلساته المتأملة المتأنية يجري مقارنات بين علي وأنبه عباقرة العالم أمثال: سقراط، أفلاطون، وفولتير.. وغيرهم.. فيراه سباقاً شامخاً في الطليعة، وتلك المقارنة أنبتت في نفسه رغبة جامحة أن يكتب دراسة عن علي، وتحلو له هذه الرغبة.. ويعرض له خاطر سرعان ما لباه، فأمسك بقلمه السيال وشرع يكتب.. ولكن، إلى من؟؟
كتب إلى الأستاذ ميخائيل نعيمة الأديب.. والبحاثة.. والفيلسوف على المستوى العالمي يستطلع رأيه فيما عقد عليه عزيمته..
وجاء الجواب نفحة غبطة.. وبهجة رضى، وروعة تشجيع...
قال له: (نِعم ما أقدمت عليه في وضع كتاب عن الإمام علي، حالفك التوفيق).
ثم يقول له: (تسألني رأيي في الإمام كرم الله وجهه، ورأيي أنه - بعد النبي - سيد العرب على الإطلاق بلاغة، وحكمة، وتفهماً للدين، وتحمساً للحق، وتسامياً عن الدنايا.
فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلاً دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية، وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهية، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين إلى حين، مشحونة بالحكم الزمنية والروحية، متوهجة ببوارق الإيمان الحي، ومدركة من الجمال في البيان حد الإعجاز، فكأنها اللآلئ بلغت بها الطبيعة حد الكمال، وكأنه البحر يقذف بتلك اللآلئ دونما عنت أو عناء.
ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء الإمام علي، ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال..
حتى سجعه، وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وبموسيقاه ولا سطو القوافي التي تبدو كما لو أنها هبطت على الشاعر من السماء، فهي ما اتخذت مكانها في أواخر الأبيات إلا لتقوم بمهمة يستحيل على غيرها القيام بها، إنها هناك لتقول أشياء لا تستطيع كلمات غيرها أن تقولها، فهي كالغلق في القنطرة).
ثم يقول: (إن علياً لمن عمالقة الفكر، والروح، والبيان في كل زمان ومكان)اهـ(9).
ذلكم هو رأي ميخائيل نعيمه في الإمام علي بن أبي طالب...
لقد عرف الكثير من العرب بأنهم جهابذة البلاغة، وأفذاذ الحكمة...
وعرف كثير من المسلمين بفهم الإسلام دين الله، وبالتعصب المر للحق، والترفع عن كل خسيس، ولكن علياً هو الملك المتوج عليهم جميعاً في كل ذلك.. بل هو من السابقين حتى في الحلبة العالمية...
وهو في كل ما نطق به يتدفق سلساً عذباً فراتاً يلقيه بلا ومضة تكلف، ولا إيماءة جهد، وكأنما هو البحر يقذف ما يخبئه في جوفه من لؤلؤ ومرجان... أما ما يقذف به علي من بحر علومه وفصاحته فإنه أكثر نفاسة من اللآلئ والمرجان، ذلك لأنه كلمات محكمات تكسو الإنسان حلل الخير بمعناه الشامل روحياً...ومادياً...
أما اللغة فإنها تأتيه طيعة، تتبين ذلك بما يبدهك به من حذاقة عجيبة في تشقيق المعاني وإلباسها الصور النابضة بأنفاس الحياة، فإذا بك أمام عبقرية باهرة تجعلك تلمس القدرة الفائقة على التعبير الدقيق للمعنى الأبهج دقة..
وينتهي الأستاذ جرداق - الذي وصف قلمه بأنه ساحر دافئ - من كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) فيعصب جبينه الأستاذ نعيمة بمقدمة يتحدث فيها عن الكتاب ومؤلفه، فيقول عن الكتاب:
(إنه مكرس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به، وفجر ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام، وإلا فكيف لحياته الفذة أن تلهب روح كاتب مسيحي في لبنان.. فيتصدى لها بالدرس، والتحليل، والتمحيص... )
ثم يتحدث عن الإمام علي فيقول: (وبطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحروب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق، وهذه البطولات مهما تقادم بها العهد، لا تزال معلماً غنياً نعود إليه اليوم، وفي كل يوم، كلما أشتد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة).
ثم يتحدث عن الأستاذ جرداق فيقول: (إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، أن يأتيك، حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي، ولحقبة حافلة بالأحداث الجسام، كالحقبة التي عاشها.
فالذي فكَّره وتأمله، وقاله، وعمله، ذلك العملاق العربي، بينه وبين نفسه وربه، لمما لم تسمعه أذن، ولم تبصره عين، وهو أكثر بكثير مما عمله بيده، أو أذاعه بلسانه وقلمه، وإذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة، وقصارى ما نرجوه منها أن تنبض بالحياة).
ثم يقول: (ويقيني أن مؤلف هذا السّفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها إلا أن تشهد بأنها الصورة الحية لأعظم رجل عربي بعد النبي) (10).
وهذا شبلي الشميل المشهود له بعمق التفكير، وسعة الاطلاع أدباً.. وفلسفة.. يتصدى لنا ليقول: (الإمام علي بن أبي طالب، عظيم، نسخة مفردة، لم ير لها الشرق صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً)اهـ(11).
ويواكب الفيلسوف شبلي الكاتب الإسلامي المصري الأستاذ أحمد عباس صالح فيقول: (لو لم يسر علي سيرته المثالية، أكانت تبقى الجذوة - أي جذوة الحق - مشتعلة كامنة في النفوس، وكأن دور علي الوحيد أن يكون مثالاً في التاريخ، كأنه علامة فارقة من علامات الطريق) اهـ(12).
تلكم لمحات مضيئات مما قاله نفر من أنبه مفكري العالم في الغرب والشرق.
يبقى أن نلم بما قال فيه رسول الله(ص) الذي وصفه ربه جل وعلا بقوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(13).
لقد قال فيه أقوالاً كثيرة تزهو بها كتب الحديث كما تزهو الأرض برياحين الربيع وخضرته ونضارته..
نأخذ منها حديثاً واحداً متفقاً عليه، هو قوله (ص):
(يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)اهـ.
بهذا الحديث النبوي المتواتر المعجون بأنفاس الوحي أخذ أحمد بن حنبل بأعناق جلسائه بأن علياً قسيم الجنة والنار...
فهذا محمد بن يوسف الكنجي، الشافعي المذهب، يبسط لنا بأسانيده من ثقات المحدثين الحوار الهادئ الخاطف الذي جرى بينه وبينهم.
قال: (أخبرنا القاضي العلامة أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد الشيرازي بدمشق، أخبرنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الدمشقي، أخبرنا أبو القاسم الواسطي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا محمد بن أبي نصر النرسي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن معروف القاضي، حدثنا سهل بن يحيى، حدثنا حسين بن هرون الصايغ، حدثنا ابن فضيل عن الأعمش، عن موسى بن طريف عن عباية، عن علي بن أبي طالب، قال: (أنا قسيم النار يوم القيامة، أقول:خذي ذا، وذري ذا) (14).
يعلق الكنجي على الحديث فيقول: (هكذا رواه أبو القاسم الدمشقي (ابن عساكر الشافعي المذهب) في تاريخه، ورواه غيره مرفوعاً إلى النبي(ص) ) (15).
أقول: ويبدو أن معترضاً وقف من الحديث موقفاً سلبياً مع وثاقته، فرد عليه الكنجي رداً قاطعاً، قال: (فإن قيل: هذا سند ضعيف، قلت: قال محمد بن منصور الطوسي: كنا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما تقول في هذا الحديث الذي يروي أن علياً قال: (أنا قسيم النار).
فقال أحمد: وما تنكرون من هذا الحديث؟!.
أليس روينا أن النبي (ص)قال لعلي: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)؟.
قلنا: بلى.
قال: فأين المؤمن؟؟.
قلنا: في الجنة.
قال: فأين المنافق؟؟.
قلنا: في النار.
قال: فعلي قسيم النار)اهـ.
يوثق الكنجي الحديث فيقول: (هكذا ذكره في طبقات أصحاب أحمد رحمه الله)اهـ(16).
الإمام علي(ع) في مواكب الشعر والشعراء
أيها المتعب..
كل الدروب تقود خطاك إليه.. أو أن خطاك تقودك إلى دروبه.. لا فرق.. فالوصول حتى اعتابه ثمرة المسير والتطواف المتواصل..
أيها المتعب..
أينما تلفّت في كل عمرك.. في الماضي أو الحاضر.. أو المستقبل لا تطالع إلا وجهه، لفحته الشمس، وحفرت الأيام والأصحاب ندوبها فوقه..
وأينما تلفت تقرأ سيرته، وحياة لا تكتنفها السطور.. تمتد منذ أول حرف في ميثاق ربك، إذ أخذها من ظهورنا إلى آخر حرف من قيامته الموعودة..
أيها المتعب..
تتساءل، ومثلك الملايين عن روضات الفضائل والقيم، صبوت ونصبو إليها..
عن الشهامة، عزة النفس وسموها، حين كان يتعالى فوق الصغائر ويرفض المساومة في المبادئ الإنسانية التي التزم بها..
عن المروءة، كرم الأخلاق والتعالي فوق الانتقاص، والتعاطف مع الضعيف..
عن النزاهة، أمانة وصدقاً وعفة ضمير معاً..
عن الكرم، سخاءاً وجوداً في العطاء..
عن التهذيب، حرصاً على أدبيات الحياة الإسلامية في المجتمع أقوالاً وممارسات.
عن الشجاعة، بسالة وجرأة واقداماً وجسارة في مواجهة المخاطر..
عن الصدق، خلوص النية والتعبير عن حقيقة الذات بصراحة واستقامة..
عن الاستقلالية، اخذاً بمصيره بيده، وتحديد ما يرتبط به مع غيره وبمحيطه..
عن المسؤولية، تأكيداً على المشاركة في أخذ القرار في كل ما يعنيه بالنسبة لنفسه ولمحيطه، والالتزام بهذا القرارِ وتحمل اعباء هذا الالتزام..
عن الصبر، طول بال وهوادة وقدرة على التحمل والسيطرة على الذات..
عن التضحية، فداءاً وجوداً بالنفس..
عن الايثار، انفتاحاً انسانياً على الآخر المغاير من منطلق المساواة بالذات والنضال من اجل هذه المساواة كحق انساني مطلق..
عن الود، لطفاً ومودة في العلاقة مع الأخير من منطلق الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..
عن الاعتدال، رفقاً وانصافاً..
عن الشفقة: تحنناً وتعاطفاً مع المعذبين والمتألمين.. عن الرحمة، رأفة وقدرة على العفو..
أيها المتعب..
وكان أن سكن وجهه وصوته في نبضك ونبضنا.. وامتدت يداك وأيدينا نحوه.. متلفعاً ببرديه الباليين، نلمح فيهما ثقوب الحاجة والعوز لأنه آثر غيره من اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين على نفسه وأهل بيته.. واكتفى من هذه الدنيا، طلقها ثلاثاً وغرت غيره، بهذين الطمرين، وبرغيف خبزه المتكسر على ركبته وهو يجلس جلسة العبد تواضعاً وتذللاً للسيد الماجد القاهر الأوحد...
في هذه السطور، سنحاول أن نواكب الشعراء في مسيرتهم إلى الاعتاب العلوية، في ابتهالاتهم وصلواتهم وفي ما جاشت به صدورهم حباً وشغفاً لصاحب تلك الاعتاب..
وستكون هذه السطور مقتصرة على الشعراء المعاصرين أو الذين عاشوا قبلهم بفترة قصيرة.. ولن نعود إلى شعراء القرون السابقة، لأن الكثير من المقالات والبحوث والدراسات قد أحاطت بهم وبابتهالاتهم..
وأبدأ بأحدث نص بين يدي، وهو للشاعر اللبناني جودت فخر الدين يحمل عنوان (ثلاثة وجوه لعلي)
نقرأ الوجه الأول..
خانته الأرض،
فلم تجلس هانئة بين يديه،
ولم تسبح في سرّ خطاه،
خانته الأرض،
وكان يعاتبها كأب،
يبدد فيها أشجار يديه،
فتذهب عنه،
خانته الأرض،
فسار وحيداً في الأرض،
وكان الناس يرون إلى وحدته،
فيثوبون إلى شُحّ بصائرهم،
كان عليٌ يجترح الخطو على ارض الناس،
ليرفع أيام الناس،
فيجحده الناس،
وكان يضيء، فيطفئه الناسُ،
سار عليٌّ في ارض جاحدة،
هل كان له أن ييأس أو يترددْ؟
ما كان ليطفئه الناس، توهج فيهم، ومضى برقاً
يتوقدْ
ينأى محتجباً، لكن لا يلبث أن يتجددْ
خانته الأرض،
فسار وحيداً في الأرض،
يقود سماء خرجت من ثوب محمدْ..(1)
اختار الشاعر وجه الحاكم الإسلامي المثالي، فيما سبق، وكيف أن الجميع، ممن توحدت مصالحهم، قد اتحدوا ضده، وخانوا تعاليم ابن عمه(ص)..
وجه الحاكم المثالي، حين يعطي ويمنح لرعاياه وفقاً لمرضاة الرب ويقابله الآخرون بالخيانة والجحود والنكران..
ولكنه لا ييأس ولا يتردد.. لأنه لا يعرف غير عدالة الحكم، مطلق العدالة التي تعلمها من الرسول الأكرم(ص)..
في الوجه الثاني، نطالع بصيرته النافذة للغيب، مستشرفاً أفاق المستقبل، يحدث المحيطين بما تنفذ إليه بصيرته، هذا الوجه هو وجه الرائي والباصر، كاشفاً مدلهمات الفتن التي يحذّر منها، ولكن لا حياة لمن تنادي..
يسكن في كلمات تسكنه
يحيا في لغة بكر
تحتضن الأشياء كأم،
تسمو بالاشياء، فترفعها نحو سماء دانيةٍ..
كان عليٌّ يحيا في أسرار اللغة البكر
انفاسُ عليٍّ كلماتٌ،
كان عليٌّ يحيا متقداً بالكلمات،
يجتذبُ الموت بها، ويلاطفه
يجعل للقول مضاء السيف
ويجعله ينضح بالاسرار،
ويخفق بالحسرات..
كان علي يحيا متقداً بالكلماتْ
يجتذب الموت، يلاطفه بالكلماتْ
وبما يرسم للناس دروباً
يطلق فيهم آياتٍ وعلامات
وجه الأيام متاهاتْ
وكلام عليٍّ أبوابٌ وحقولٌ، وجهاتْ(2)..
الوجه الثالث، وجه الشهيد في محراب عبادته، يبث مرارات الأيام والأحزان لربه المعبود..
هو يستشعر دنو خطوات الموت منه في آخر فجر كوفي تبصره عيناه، لكنه لا يبالي، فالرحيل عن هذه الدنيا، سجن المؤمن، هو ما يبحث عنه ويسرع بالوصول إليه.. ليلقي برأسه المتعب فوق صدر ابن عمه كي يستريح..
يبكي قتلاه،
ويمشي في ليل الكوفة،
جفناه نخيل محترقٌ،
ويداه نهران حبيسان،
وحيداً يمشي في ليل الكوفة،
والأرض خوارج أو أمويون،
علي في ليل الكوفة وهج مراراتٍ
علي يبكي قتلاه
ويمشي غابة آمال مكسورة
غابة آمال مهجورة
كان عليٌّ يبكي قتلاه،
وحين هوى في المحراب،
تعالت أشجار يديه،
وغابت في أفق لا يظهر للناس،
ولكن ظلالاً منها سارت في الأرض،
لتخرج آفاقاً تسنح للملأ المفتونْ
يتلقفها الملهوفون، التوابون، المنتظرونْ(3)..
في قصيدة (سيد الكلمات والملاحم) للشاعر محمد شمس الدين، نرى الشاعر قد وظف سيرة الإمام علي(ع) في سبعة مقاطع وكان المقطع الثامن صوت الشاعر المعبر عن لسان حال الجميع لظهور المنتظر(ع) من أبناء علي(ع)...
لتكون مملكة الوجود،
ليكون صوتٌ ما،
يسبّح باسمه
وإلى الأبدْ..
ليكون من اخشاب هذا الفُلكِ
والطوفان
نوحُ
ليكون دون محمدٍ باب
وشرفته حجاب
ليكون آدمُ أول الاسماء
مبتدأً
وجملته الكتاب
خلق الالهْ
سراً
واغلقه طويلاً(4)..
في هذا المقطع استفاد الشاعر من المأثور الإسلامي حول بداية الخلق، وكيف أن الله اودع نور محمد وعلي سراً رافق آدم في أول خلقه، ونوحاً في فلكه في قصة الطوفان الشهيرة،. وكان السر مغلقاً حتى شاء الله وأظهره..
قالوا بأن سحابةً
هطلت على أرض الجزيرة
في ليلةٍ ذُعِرتْ ملائكها قليلاً
قالوا بأن دماً ثقيلاً
من جرح مكة ايقظ الأوثان فارتجفتْ
وارّقها المُقام..
ولد الإمامُ(5)..
وذكر الملائكة اشارة لانشقاق جدار الكعبة حين دخلت فاطمة بنت اسد لتلد الإمام علياً(ع) داخلها..
قالوا إن (احمد) هجّرتْهُ يدُ الفتنْ
من (عبد شمسٍ)
فاستبدّ به المقامْ
وطوى صحيفته ونامْ
ولكن من نام العشية في فراش محمدٍ
لبس الكفنْ
لينام اجمل ما ينام فتى
على جفن الردى
لبس الكفنْ..(6)
أشار الشاعر إلى هجرة الرسول الكريم(ص) في ليلة اتفق المشركون على قتله وأخبره ربه، رب العزة بذلك، فنام الفتى علي(ع) على فراشه مفتدياً رسول المحبة والسلام بروحه، مستعداً لطقوس الموت، تهجم عليه في ساعة ما من تلك الليلة.. ولكن الله نصر رسوله وفتاه..
في المقطع الرابع نطالع لوحة الوصول إلى يثرب، المدينة التي تنورت بوجه محمد(ص)، وبعدها بأيام يتبعه الإمام علياً(ع) مع قافلة الفاطميات، نساء البيت الهاشمي
قمرين في فلك الجزيرة
يطلعان من الوداعْ
وسجدتُ ما سجد الرعاة الخاشعون
وما دعا لله داعْ(7)
المقطع الخامس يشير إلى حروب الإمام علي(ع) في صفين والنهروان، دفاعاً عن راية الإسلام التي ما انفك حاملاً إياها، ودفاعاً عن الإنسان الذي أراد دعاة القتل والتدمير أن يكون وقوداً لحروبهم التي توقد نيرانها مصالحهم الدنيوية البائسة..
ليكون سيفك داخل الصلوات،
خلّ السيف يلمع في ظلام نحورهم ويسيل منه دم الطغاة
وسيفك يقطع الامواج:
هذا حدّ من خرجوا
وماتوا دون وجه الماء/ منْ خرجوا
فكن لتكون ثأر الله
منشوراً على ميراثهم
وكن ليكون سيفك
طائراً كالسهم
من (كوفان)
حتى اخر الازمانْ
وكُن
لتكون آخر قلعة الانسانْ(8)..
في المقطع السابع، نرى الإمام عليا(ع) هو الملاذ الآمن، وهو الطمأنينة التي ينشدها الجميع، جميع المتعبين والمنهكين والمنكوبين، وهو من يتمتع الجميع بعدله، ومن تكون كلماته بلسماً لآلامهم وعذاباتهم وجراحات ارواحهم..
وجمال وجهك آيةٌ
في الصمت واقفةٌ
وفي الكلمات
وجهك آية الكلماتْ
يا كلمات كوني جنة الفقراء
في بيداء من رحلوا
ومن نزلوا على الرمضاء
يا كلماتُ
يا كلماتُ
يا كلماتْ(9)
في المقطع السابع يوظف الشاعر حدث الشهادة في محراب مسجد الكوفة، ويتتبع خطى الإمام(ع) وهو يسير إلى ساعة حتفه الموعودة..
ورايت خطوتك الأخيرة
وهي تدنو في الطريقِ
وصوت نعلك
وهو يفترع المدينة
مسجدٌ في الصمت يطفو
أو يغيبُ
كأنه القمر الغريبُ
كأنه قمر السفينة في الظلامِ
وفي الظلامْ
يا سيدي..
خُتِمَ الكلامْ
فعليك من دمِكَ السلامْ
وعليك من دمك السلامْ(10)..
في المقطع الثامن والذي حمل عنواناً جانبياً هو (صوت2) نرى الشاعر يتكئ على الموروث الإسلامي الذي بشر بظهور المهدي المنتظر(عج)، وكيف سيدخل محراب الكوفة الذي استشهد فيه علي(ع)، وكيف سيعيد فجرهم الذي اغتالوه في حالكات الخيانة والغدر..
لعليٍّ جنةٌ أخرى
ومحراب المدينةْ
لم يزل ينتظر الآتي
من الأرض إليها
وعليٌُّ أجمل الموتى
إذا ما ذكروا في غدٍ اسماءه
واستذكروا سيد الناس
وربان السفينةْ
وعليٌّ مات مطعوناً على محرابه
ومضى
لكنهم لم يعلموا
أنه يعبر في هذا السحابْ
وجهه:
يصعد من هذي القبابْ
صوتُه...
حتى إذا ما نظروا في مراياهم غداً
وانتظروا
ارجع الفجر مع الفجر
عيونه(11)...
وللشاعر خليل فرحات، وهو شاعر لبناني مسيحي ينتمي إلى الطائفة المارونية، قصيدة حملت عنوان (في محراب علي) وقد نظم الشاعر هذه القصيدة بعد أن أصيب في رجله بداء استعصي شفاؤه فتوسل بالامام علي(ع) حتى شافاه الله تعالى ببركته..
يقول خليل فرحات..
دريت، وكلُّ الناس قبلك لـــم تدر فقد صُبّتْ الأعصارُ عندك في عصر
وكنت أمير الحدس تدرك غورها وتسبُر اخفاهـا العصـيّ على السبـر
وتنشرُ مطواها وتفجر خيــرهـــا كما يفجر الحفار نجنــاجـــة البئـــر
وحاشاه أن يعيا حصائك طـــافراً على قمم المجهول أو مــارج الغمـر
ويقول في موضع آخر..
يزجي إليك الناس أغلى نذورهم وما همّك المنذور بل صاحب النذر
ترفع من تابوا فتبـــت عــــليهـم وتهلـــك إذ تشجـــي عمالقة الفُجـر
ويقول عن شجاعته:
وقالوك في الهيجاء اوزن فارس تُداري الألى فرواً وتألف من فرِ
وعندك كان القتل خلوا من الأنـا فسيفــك قوّامٌ على الخير والشر
ويقول واصفاً الإمام(ع) ونهجه:
سواك، سوى رب الدروب جميعها عسيرٌ عليه السيرُ في الأدرب العُسر
ويشير الشاعر إلى عودة الشمس للإمام(ع) ليؤدي صلاة العصر:
خذ الشمس إذ كفاك قالا بعــــودة: فشمس غروب تلك عادت إلى العصر
وعن كون الإمام علي(ع) هو عدل القرآن، وهو باب مدينة العلم، وهو الإمام المبين الذي ذكره القرآن، يقول الشاعر:
ولمـــا كتــــاب الله اعجــز قومه واغلق لم يفتـــح علـــى الجلة الكبر
فتحت عليه الباب فالضوء مبهر ولكن فتى الأضواء ما ضـــجّ للبهــر
كأنكما من قبل قــد كنتـمـا معـــاً ومـــــر زمـــان بعـــــد آذن بالهجـــر
وعاد لقـــاء النيريـــن بــأحمــــد وعزّ بك الإسلام كالشمس في الظهر
فمصحف رب الناس قوله وفعله إمــأم ومـــــن لم يـــدر ذلك فليـــــدر
وعن علمه الذي أودعه الله في قلبه، وعن كونه يحاسب الخلق بعد النشر يوم القيامة، وأنه قسيم الجنة والنار، يقول الشاعر:
عيال على سلسال نبعك علمهــم وليس يخف النبع من نقرة القمري
وإن قامت الاموات للبعث مثلما يقال فقد جاءت مقامــــك تستقـــري
وتستغفر الاعمار عندك جهلهــا وتبقى كمــا يا أنت في الحلم والغفر
وأخيراً يختتم الشاعر قصيدته محاولاً تفسير هذا الحب لعلي(ع):
حببت علياً، بل عبــدتُ صفاتــــه بلى، تعبُد العطار قارورة العطر(12)..
وشاعر نصراني آخر هو بولس سلامة في رائعته الملحمة (عيد الغدير)...
تبرز هذه الملحمة، اعجاب الشاعر وافتتنانه بشخصية الإمام علي(ع) وانحيازه إلى جانب الخط العلوي وما يمثله، فاستحق لذلك أن يكون من شعراء الغدير..
والشاعر واحد من أبناء الرسالة العيسوية التي بشرت بالخير والمحبة والسلام.. فلا عجب أن نجده اميناً مندفعاً وراء الاشعاعات المتجسدة في كل رجل عظيم تعبق في روحه روحانية العقيدة السماوية وتتملكه عقلاً وروحاً وممارسة..
التزم الشاعر جانب المظلومية في ملحمته دفاعاً عن المظلوم ضد الظالم، وبهذا الالتزام لا تعد المظلومية نقيصة، فمثل هؤلاء الرجال يظلمون في كل زمان ومكان.. ولكن تبقى سير جهادهم منارات شامخة وشاهدة على المبادئ العظيمة التي ظلموا من اجلها، فيهواهم كل من نبذ العصبية وطيّب شعاع المحبة قلبه وعرف الألم..
وحب الشاعر لهذا التيار حر جريء، يقع في زمن تنهض فيه الجاهلية من جديد، وتجتاح العصبية النفوس، وتنهار القيم وتتراجع التعاليم السماوية، فكأنما وجد الشاعر في أهل البيت رموزاً مسيحية فضلاً على كونها رموزاً اسلامية..
لا يخفي الشاعر اعجابه بالامام علي(ع)، ويعلن ذلك في المقدمة (أما إذا كان التشيع حباً لعلي واهل البيت الطيبين الأكرمين، وثورة على الظلم وتوجعاً لما حل بالحسين وما نزل بأولاده من النكبات في مطاوي التاريخ فإنني شيعي)(13) وهو يحب علياً(ع) لأنه الرجل الرسالي الذي تعالى عن موبقات الدنيا والتزم هدفاً ساميا وأخلاقاً عليا:
هو فخر التاريخ لا فخر شعب يدّعيـــه ويصــطفـــيـــه وليّــــا
لا تقـــل شيعــــة هـــواة علـي إن في كل منصف شيعيا(14)
ولا شك في أن المرض الذي ألم بالشاعر واقعده طريح الفراش والألم الممض الذي عاناه، زاد دفعه الى التأسي بكل العظماء المعذبين:
كدت أقضي لو لا النُهى والتأسي ونعيـــــم أصـــوغـــه وهمــيــــا
أتأسى بــــالأكـــرميـــن خصـــالاً لم يسيغوا في العمر شُرباً مريـاً
جلجل الحــق في المسيحي حتى عـــدّ مــــن فـــرط حبــــه علـويّا
أنا من يعشــق البطولـة والإلهام والعدل والخلاق الرضيّـــا(15)
تقع ملحمة الغدير في سبعة واربعين نشيداً استأثر الإمام علي(ع) منها بأربعة وعشرين نشيداً وهي:
1) موقع علي(ع) في البعثة ومآثره البطولية الأناشيد من 9 إلى 21.
2) عيد الغدير، النشيدان 22و23.
3) علي والخلافة، الأناشيد من 24 إلى 32.
وتشتمل الملحة إضافة إلى تلك الاناشيد على قصيدتين وجدانيتين تشكلان المطلع والخاتمة..
الأولى بعنوان (صلاة) يدعو فيها الشاعر، الله مده بالقوة والعزيمة والإلهام الشعري من أجل علي(ع) (زين العصور ـ رب الكلام ـ ليث الحجاز)..
والثانية هي الخاتمة، يكمل فيها الشكوى من الداء المرير فيتأسى بما حاق بعلي(ع) (فخر التاريخ) وبآل بيته من الظلم... ويتابع مدح علي وبنيه وهجاء بني أمية ويفتخر بحبه لعلي وبشاعريته ومزاياه وينسب هذه الشاعرية إلى عبير الامام..
يصف الشاعر بيعة الغدير التي اكمل الله فيها الدين:
كان وهج الشروق يوم حراء وجلال المغيب يوم الغدير(16)
وقبلها يسجل الشاعر حادثة الهجرة الشريفة، ومبيت علي(ع) في فراش النبي(ص) قائلاً:
رقد الليـــــل ناعمـــاً بـفـــراش حشــوه الموت فالوساد مخاطر
بات فوق الخناجـر الزرق ليث دون اظفــــاره رهيــف الخناجر
يستطيب الردى فداء ابــن عـم فهو يسعى إلى المنيــــة حاسر
إن ينم في مضاجع الموت حباً بالنبي العظيم فالله ساهر(17)
ويختتم الشاعر ملحمته قائلاً:
يا سماء اشهدي ويا ارض قري واخشعــي، إنني ذكرت عليّا(18)
ولا يضيرنا أن نعود إلى العام 1772، وإلى ألمانيا تحديداً، حيث نظم شاعرها الشهير (يوهان جوته) قصيدة المديح الشهيرة باسم (نشيد محمد)..
تقوم هذه القصيدة على فكرة مفادها أن العبقري الرباني يرى الآخرين اخوة له يأخذ بأيديهم ويشدهم معه، منطلقاً بهم كالسيل العارم الذي يجرف كل ما يصادفه في طريقه من جداول وانهار إلى البحر المحيط.. والقصيدة تفصح عن الولاء الذي كان الشاعر يكنه لشخصية النبي محمد(ص) حيث تصوره القصيدة بصفته هادياً للبشر، في صورة نهر يبدأ بالتدفق رفيقاً هادئاً، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد ويتحول في عنفوانه إلى سيل عارم.. وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصب أخيراً في البحر المحيط، رمز الالوهية..
وسوف نستشهد هنا بالصيغة الأولى من قصيدة المديح هذه، اعني صيغتها التي جاءت على شكل حوار يدور بين فاطمة(ع) ابنة النبي الحبيبة وزوجها علي(ع) (19)..
علي: انظروا إلى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلي، ابلج متألقاً كأنه الكوكب الدري..
فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب ملائكة الخير في مهده بين الصخور والادغال.
علي: وانه لينهمر من السحاب، مندفعاً في عنفوان الشباب، ولا يزال في انحداره على جلاميد الصخر، يتنزى فائراً، متوثباً نحو السماء، مهللاً تهليل الفرح..
فاطمة: جارفاً في طريقه الحصى المجزع، والغثاء الأحوى..
فاطمة: ويبلغ الوادي فتتفتح الأزهار تحت اقدامه، وتحيا المروج من انفاسه.
علي: لا شيء يستوقفه، لا الوادي الوارف الضليل، ولا الازهار تلتف حول قدميه وتطوق رجليه، وترمقه بلحاظها الوامقة.. بل هو مندفع عجلان صاعد إلى الوهاد..
فاطمة: وهذه انهار الوهاد تسعى إليه في سماح ومحبة، ومستسلمة له مندمجة فيه. وهذا هو يجري في الوهاد، فخوراً بعبابه السلسال الفضي..
علي: الوهاد والنجاد كلها فخورة به.
فاطمة: وانهار الوهاد، وجداول النجاد تهلل جميعاً من الفرح متصايحة:
علي: وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك..
فاطمة: خذنا معك إلى البحر المحيط الأزلي، الذي ينتظرنا باسطاً ذراعيه.. لقد طالما بسطهما ليضم ابناءه المشتاقين إليه.
علي: وما كان هذا الفيض كله ليبقى مقصوراً على الصحراء الجرداء.. ما كان هذا الفيض ليفيض في رمال الرمضاء، وتمتصه الشمس العالية في كبد السماء، ويصده الكثيب من الكثبان، فيلبث عنده غديراً راكداً من الغدران.. ايها السيل، خذ معك انهار الوهاد..
فاطمة: وجداول النجاد.
علي وفاطمة: (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك.
علي: هلمَّ جميعاً، هوذا العباب يطمّ ويزخر، ويزداد عظمة على عظمة. هو ذا شعب بأسره، وعلى راسه زعيمه الاكبر، مرتفعاً إلى اوج العلا، وهو في زحفه الظافر، يجوب الآفاق ويخلع أسماء على الاقطار، وتنشأ عند قدميه المدائن والأمصار..
فاطمة: ولكنه ماض قدماً لا يلوي على شيء، لا على المدائن الزاهرة، ولا على الابراج المشيدة، أو القباب المتوهجة الذرى، ولا على صروح المرمر، وكلها من آثار فضله.
علي: وعلى متن عبابه الجبار تجري منشآت السفن كالأعلام، شارعة اشرعتها الخافقة إلى السماء، شاهدة على قوته وعظمته.. وهكذا يمضي السيل العظيم إلى الأمام بأبنائه.
فاطمة: ويمضي إلى الأمام ببناته.
علي وفاطمة (في صوت واحد): إلى أبيهم، ذلك البحر العظيم، الذي ينتظرهم ليضمهم إلى صدره، وهو يهلل ويكبر زاخراً بالفرح العميم.(20)
ونبقى في أوربا، وتحديداً في ألبانيا حيث عاش الشاعر الألباني الشيخ سليمان تيماني، وكان شيخ الطريقة الخلوتية في مدينة بيرات، من قصيدة له يمدح فيها الإمام علي(ع) ويشيد بشجاعته في القتال يقول:
حين يمتطي علي الدُلدل
تهلع قلوب الكفار من الرعب
أنت صاحب (ذو الفقار)
الذي يحتقر كل منكر
ويقطع رأس كل كافر(21)..
وإذا يمننا وجهنا إلى باكستان وجدنا الشاعر محمد اقبال لا ينفك يذكر علياً(ع) في الكثير من اشعاره، لأن علياً عند اقبال صورة الإنسان القرآني الكامل الذي يرنو إليه محاولاً اقتداءه والتأسي به.. والشاعر يغترف الكثير من المأثورات الصوفية في اشعاره..
يقول اقبال:
اجعل القلوب مركز الحب والاخلاص
لتعرف الحرم الإلهي
هذا الذي اعطيته رغيف الشعير
اعطه أيضا قوة حيدر(22)..
وحيدر من أسماء الإمام(ع)..
وله أيضا..
عليٌّ قلب يقظان
القلب اليقظان مثل حجر الفلاسفة يحول هذا النحاس إلى إنسان
ابدع لك قلباً يقظان،
فما دام القلب غافيا
فستبقى ضربة عصاك دون جدوى
وستبقى ضربة عصاي دون جدوى(23)..
وله أيضا..
هذا النزاع بين الدين والدولة أشد قسوة من نزاع خيبر
هل فينا الآن مثل علي ذي الكرّات التي تتجدد كل حين؟(24)
وله من قصيدة في بيان أن سيدة النساء فاطمة الزهراء(ع) اسوة كاملة للنساء المسلمات يذكر فيها علياً(ع)
وهي زوج المرتضى ذا البطل أســـد الله الحكيـــم الفيــصــل
ملكٌ في الكوفة زهداً قد أقــامْ كلّ ما يملك درعٌ وحسام(25)
ونعود إلى الشعراء الناطقين بالضاد، ونقرأ للشاعرة العراقية آمال الزهاوي من قصيدة لها حملت عنوان (جدران الزنبق) في ديوانها الطارقون بحار الموت.. تقول الشاعرة..
لكن الأرض برائحة الاثم تفوح
تهتز على ظلامتها، فتنوح
حيدر.. حيدر.. حيدر
نحن الماشين على الاحزان صباحاً
نجتر نيوب الدنيا
تتوهج مثل كرات الدمع
تبحث عن ألم الوقع
عن رؤيا تهتز جراحاً
كي نبكي موت الصدفة
ونهيل الليل بأرض الشهداء
حيدر.. حيدر.. حيدر
في القصيدة اسقاط للرمز العلوي، وما يعنيه من دلالات حول الشهادة،
وعلاقته بالإنسان المعاصر والواقع المعاش..
وللشاعر محمد علي حسن من قصيدة حملت عنوان (الدم الفرقان) واصفاً فيه واقعة الطف، يذكر علياً(ع) بقوله:
يُعرف من الإنسان أنه سرعان ما يمل مما عنده وبين يديه من أي شيء حصّله أو امتلكه، فلا يلبث أن يبحث عن جديد وجديد أبداً. وما ذلك إلا لإشباع نفسه من توق ولهف إلى الأفضل أو رغبة في الأكمل وعندما لا يجد ما يروي ظمأه يبحث عن غيره لعله يجد ما يبل فؤاده به وهكذا حتى يصل إلى مطلوبه ومقصوده من الكمال كل بحسب طاقته وعقله وتفكيره ووعيه، أما الباحثون عن الكمال المطلق والذين لا يوقفهم المواقف الجيدة بل يتطلعون إلى الأرقى والأسمى ولا يرضون دون القمة العالية هم القلة القليلة من الناس ويستحقون إطلاق العظماء عليهم.
والإسلام يعطينا نماذج عن الإنسان الكامل الذي يعشق الكمال المطلق ولا يروق له إلا كل كامل ويجاهد ويكدح ويكد ويتعب ويتحمل ويبذل نفسه وماله وولده في سبيله، فتراه هادئاً مطمئناً بذكر حبيبه يتلذذ بمناجاته ويستعذب خلوته ويجتهد في التخلق بأخلاقه ومراعاة أحكامه وتطبيق شريعته.
وهو نموذج اعترف به أصحاب جميع الديانات والمذاهب وجميع العقلاء والمفكرين من أي ملة كان لما فيه من مزايا إنسانية وأخلاقية وروحية وشمائل جسمية عالية بل هو رحمة للعالمين وهو النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) وأولاده الأئمة الطاهرون. وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين (عليها السلام).
والحديث عن شخصية الإمام علي (عليه السلام) كالحديث عن نور الشمس.
فبأي لفظ يعبر عنه؟ فإن كلمة علي وحدها تكفي لترسيم كل الفضائل الإنسانية أمام أعيننا. فهو سواء كان أمير المؤمنين وإمام المتقين أو الخليفة الراشدي الرابع أو إيليا أو طابا أو غيره من أسمائه وصفاته عند أصحاب الملل والمذاهب فهو إنسان كامل وعظيم لا أحد يستطيع إنكار فضله.
وهو الذي رفد الإنسانية بتركة علم غزير وثقافة إنسانية عالية وأخلاق رفيعة فهو القائل (عليه السلام) الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وهو القائل: (سلوني قبل أن تفقدوني).
وهو القائل: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا...
وله المواقف العظيمة والآثار الحميدة في حماية حقوق الإنسان من أي ملة أو دين كان وحرية الرأي وحقوق المرأة والطفل وتطور الحضارة الإنسانية، فما نقول في شخص أخفى أعداؤه فضائله حسداً، وأخفى أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً، وظهر فيما بين هذين ما طبقت الشرق والغرب.
وعن الخليل الفراهيدي (احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل).
وعن الجاحظ قال: سمعت النظام يقول: (علي بن أبي طالب (عليه السلام) محنة للمتكلم، إن وفى حقه غلى، وإن بخسه حقّه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حادة اللسان صعبة الترقي إلا على الحاذق الزكي).
وعن ميخائيل نعيمة: بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم، وتعبّده للحق إينما تجلى له الحق، هذه البطولات لا تزال غنياً نعود إليه اليوم وفي كل يوم..).
وعن شبلي شميل (الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب، صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً).
وعن عامر الشعبي قال تكلم أمير المؤمنين (عليه السلام) بتسع كلمات أرتجلهن ارتجالاً فقأن عيون البلاغة وأيتمن جواهر الحكمة وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن. ثلاث منها في المناجاة وثلاث منها في الحكمة وثلاث منها في الأدب. فأما اللاتي في المناجاة فقال: إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً أنت كما أحب فأجعلني كما تحب، وأما اللاتي في الحكمة فقال: قيمة كل أمرء ما يحسنه وما هلك امرء عرف قدره والمرء مخبوء تحت لسانه، واللاتي في الأدب فقال: امنن علي من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره..)
وعن جبران خليل (مات الإمام علي (عليه السلام) شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس بلدهم، والى قوم ليس بقومهم، في زمن ليس بزمنهم).
وهو لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان..
وعن جورج جرداق: في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها، مات علي شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه الشوق إلى ربه، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى).
فموت مثل هذا الرجل تعتبر خسارة فادحة للإنسانية كلها، إذ تفقد الإنسانية من يرعى حقوقها ويسعى إلى كمالها ويتجه بها إلى العلى ويسرع خطاها نحو التكامل فمولده ببيت الله تعالى واستشهاده في بيت الله ومكان عبادته.
لأول مرة في الأمم المتحدة الإمام علي مثال في حقوق الإنسان والعدالة يجب اتباعه
دعت الأمم المتحدة الدول العربية إلى اتخاذ القائد الإسلامي الإمام علي مثالاً لتشجيع المعرفة وتأسيس الدولة على مبادئ العدالة واحترام الإنسان، جاء ذلك في تقرير باللغة الإنجليزية اشتمل على أكثر من 160صفحة صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم.
واشتمل التقرير على مقتطفات من الوصايا التي أوصى بها الإمام علي بن أبي طالب بن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال التقرير أن هذه التعاليم التي جاء بها الإمام علي كانت قبل أكثر من 1000سنة، لنشر العدالة المعرفة حقوق الإنسان.
وجاء في التقرير أن الدول العربية: لا تزال بعيدة عن عالم الديمقراطية ومنح تمثيل السكان، وعدم مشاركة المرأة قي شؤون الحياة، وبعيدة عن التطور وأساليب المعرفة...
وقال في التقرير السنوي لعام 2002م الخاص بتطوير الدول العربية والذي وزع على جميع دول العالم، وقد احتوى على (6) نقاط رئيسية أوصى بها الإمام علي بن أبي طالب حول كيفية الحكم المثالي.
واشتملت تلك التعاليم على ضرورة المشورة بين الحاكم والمحكوم، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، والقضايا السيئة الأخرى وأن تمنح العدالة لجميع الناس، وتحقيق الإصلاحات الداخلية.
وأخذ التقرير الدولي مقتطفات من وصايا الإمام علي التي جاءت في الجزء الأول من نهج البلاغة الخاص برئيس الدولة، حينما أكد على:
أما عن التعليم فقد ورد في التقرير نصيحة الإمام إلى ممثله: وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ…ص605. وجاء في التقرير أيضا عن ضرورة الإفصاح عن قول الحق وعدم السكوت عن الباطل:
لا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ،كَمَا أَنَّهُ لا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ … ص699.
وأما عن الصالحين وتواضع الحكام والنهي عن الإسراف في صرف الموارد، وضرورة تبيان الحقائق للشعب:
عليٌّ علا عند الله وعند رسوله، ومَنْ في العُلى كعليٍّ ؟.
والحديثُ عنه حديثٌ عن أمَّة قائمةٍ لله وبالله، فلا والله ما أفلحت الأمةُ إن عدَلت عن الوصيِّ الرضيِّ، ولا سعدت البريَّة إن تولَّت بعد النبيِّ(ص) غير علي أولاً، ولا علَتْ قيادةٌ إنسانيةٌ إن اتخذت سوى (ذو الفقار) راية.
وما الكلام هنا، يا سيِّدي الإمام، من محض عاطفة، بل العقل في غاية التفاعل والنشاط والقلب معهما في اطمئنان جم.
1) فاتحة:
- سؤالي الذي أردده هنا:
ما طبيعة الموقف الذي يجب تبنيه حيال الإمام المرتضى؟
وهو نفس السؤال الذي حوَّرتُه في داخلي عن الزَّهراء سيدة نساء العالمين، وكانت الإجابة يومها(ثناء) و(ولاء) وهي ذاتها - بلا ريب - هنا فلن يكون موقفنا مع زوج البتول إلا الثناء والولاء أيضاً.
والثناء: ذكر المحامد والمحاسن والتغني بها وتعبئة الوجدان والعاطفة بها.
- وها أنا هنا أستعرض ما ورد من(ثناء) على المرتضى(ع) على لسان سيِّد الناس وأفضلهم محمَّد(ص) ومن ثم سأحكي حكاية (الولاء) ضرورةً دينية إيمانية، لا مناص منها ولا محيد عنها.
2) شعاعٌ من ضياء الثناء:
لست في ذي الفقرة جامعاً لكل ما ورد عن النبي(ص) ثناءً في حق علي، لكنني اكتفيت بلُمَع وسردت بعضاً مما ورد، إقامةً للحجة على من قصَّر، ودعماً لمن ابتغى الرفعة في مقام الإيمان أكثر.
1- عن سهل بن سعد، أن النبي(ص) قال في غزوة خيبر: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فتطاول الصحابة لها فقال النبي(ص) (أدعوا علياً) فأتي به أرمداً فبصق في عينيه ودفع الراية إليه(1).
2- عن سعد بن أبي وقاص أن النبي(ص) لما نزلت: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الأحزاب: 33).
دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) (2).
3- عن زيد بن أرقم أن النبي(ص) قال لأصحابه يوماً: (إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن). وفي رواية (ألست أولى بكل مؤمن من نفسه) قالوا: صدقت يا رسول الله، ثم أخذ بيد علي فرفعها وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (3).
4- عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي(ص) قال لعلي: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي) (4).
5- عن البراء بن عازب، أن النبي(ص) قال لعلي: (أنت مني، وأنا منك) (5).
6- عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله(ص) قال لعلي(ع): (أنت أخي في الدنيا والآخرة) (6).
7- عن عائشة، أن محمداً رسول الله(ص) قال: (أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب) (7).
8- وقال رجل لسلمان الفارسي: ما أشدّ حبك لعلي؟ فقال سلمان: إن رسول الله(ص) قال: (من أحب علياً فقد أحبني ومن أبغض علياً فقد أبغضني) (8).
9- عن حبشيّ بن جُنادة، أن رسول الله(ص) قال: (علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي) (9).
10- وعن علي(ع) أن النبي(ص)قال: (يا علي أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي) (10).
3) الولاء لعلي(ع) المضمون والمؤيد:
هذا الولاء مضموناً ذو مستويين:
المستوى الأول: عاطفي إيماني يعني حباً وارتباطاً وتعلقاً ووداً، فلا والله ما تحقق إيمان بغير حب علي، ولا حسن إسلام من دون ارتباط بعلي، ولا جَمُل إحسان إن لم يود القلب علياً، ولا اتسمت عاطفتنا بالقرب من الله إن لم يكن في صفحة موضوعاتها علي.
من أجل هذا فلنعلن عهد الحب والارتباط والوداد لعلي، ولنقل إثر ذلك:
ليتنا في(صفين) لنقف في صفك يا أبا الحسن، وليتنا كنا في (الجمل) لنتجمل بالانتساب إلى ركن أبي تراب، وليتنا كنا في خلافتك يا والد السبطين، لنبايعك أميراً وخليفة وهادياً وإماماً، ليتنا كنا في عهدك وعصرك لنقول بملء أفواهنا: سلامٌ عليك يا عبد الله، ويا أخا رسول الله، ويا أيها الصدّيق الأكبر.
نعم، ليتنا كنا معك، لنفديك بأرواحنا يا وليَّ أولياء المسلمين.
المستوى الثاني: عمليٌ سلوكيٌ حركيٌ، يعني اعتماد قوله، وقبول رأيه، وطاعة أمره، والتزام فقهه، وكيف لا؟ وهو من قال عن نفسه: (بعثني رسول الله(ص) إلى اليمن وأنا شاب فقلت: يا رسول الله إنك تبعثني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء، فقال الرسول(ص): (انطلق فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك) (11).
- وعلي(ع) أيضاً من قضى أمام رسول الله(ص) بأمر رسول الله(ص) فقد ورد أنه(ص) كان جالساً مع ثلة من أصحابه، فجاءه خصمان فقال أحدهما: يا رسول الله إن لي حماراً وإن لهذا بقرة، وإن بقرته قتلت حماري، فبدأ رجل من الحاضرين وقال: لا ضمان على البهائم، فقال النبي(ص): (اقضِ بينهما يا علي) فقال علي لهما: (أكانا مرسلين أم مشدودين، أم أحدهما مشدوداً والآخر مرسلاً؟) فقال: كان الحمار مشدوداً والبقرة مرسلة، وصاحبها معها، فقال علي(ع): (صاحب البقرة ضامن) فأمضى رسول الله(ص) قضاءه(12).
- وعلي(ع) كذلك من قال فيه المصطفى(ص): (أقضاكم علي) وفي رواية: (أقضى أمتي عليٌ) (13).
- وعلي(ع) هو المشهود له بالأعلمية بالسنة، فقد قالت عنه عائشة: (أما إنه لأعلم الناس بالسنة) (14).
وقال عمر بن الخطاب: (لا أبقاني الله في أرض ليس فيها أبو الحسن) و(أعوذ بالله من معضلة ولا أبو الحسن لها) و(علي أقضانا) (15).
- وعلي(ع) قال عنه النبي(ص) يوم عرضه على البتول(ع): (يا فاطمة أو ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي إسلاماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً) (16).
- ولما سئل التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح: أكان أحد من أصحاب النبي أعلم من علي؟ أجاب قائلاً: لا والله ما أعلمه(17).
أفبعد هذه المؤيدات يماري عاقل في ضرورة الولاء العملي السلوكي لعلي(ع).
فيا علماء الأمة ويا فقهاءها: هيا معاً، أجمعوا أمركم على جمع فقه علي ومنهاجه وطريقته، وسنته، جمعاً موثقاً محققاً، واعتبروه، واتبعوه، وخذوا به مدعوين من قبل سيد الناس محمد(ص).
لا نفرق في ندائنا هذا بين أحد من فقهائنا، سنِّيهم وشيعيِّهم (فعليٌّ) يجمعنا، وهديه يوحدنا، وفقهه يمّتن أواصر الأخوة فيما بيننا.
(علي) يريد من الأمة اجتماع كلمة ووحدة صفّ.
فتعالوا يا قوم إلى (علي) لنعلو، وإلى (علي) لنسمو، وإلى(علي) لنصفو، وإلى (علي) لنختم سجل التفرقة ونغلقه، ونفتح صفحات اللقاء والتعاون والتباذل والتناصر، غير ناسين قول الحق جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (آل عمران: 103).
فجزاك الله يا إمام الأئمة عن المسلمين كل خير، أديت الأمانة، ونصحت الناس، وها أنت ذا تقول واثقاً: (ركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي).
ونحن نقول: اللهم نعم، اللهم نعم، قولك صدق، وفعلك عدل، وجهادك إرضاء للديّان، فسلام الله عليك في الأولين، وفي الآخرين، وفي الدنيا، ويوم الدين.
4) نفحة من سيدي الإمام علي(ع):
يا صهرَ سيدِ ولدِ آدمَ، يا زوجَ سيِّدةِ نساء العالمين..
يا والد سَيدَيّ شباب أهل الجنة، يا إمامَ الأئمة..
في رحابكَ تلتحمُ الفضائل صفّاً يخدم شخصَك..
وتحت راياتك تتزاحم القيمُ، لتَشْرُفَ بالانتساب إلى جنابك..
وحولك تهفو الرجولةُ، راجيةً أن تنفخَ فيها بعضاً من روحك..
قراءة في كتاب: الإمام علي (ع) من المهد الى اللحد (إن الله تعالى الذي هو على كل شي قدير، ولا يعجزه شيء شاء أن يظهر لعباده الفرد الكامل من خلقه ليريهم قدرته على الإبداع في الصنع ويبرهن لهم على أن من الممكن أن يقرب الله البشر الى أعلى درجة من الشرف يمكن للوجود أن يبلغها، فخلق الله محمداً (ص) وعلي بن أبي طالب (ع) ليكون كل واحد مثالاً كاملاً للقدرة الإلهية، وشاهداً حياً لأرقى موجود في مراتب الصعود).
نقرأ في (المقدمة) هذه السطور:
لا أعرف في قاموس اللغة العربية ألفاظاً كافية في التعريف والتعبير عن شخصية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أكتب هذا بقلم الواقع والحقيقة ويتجلى الحق الواضح لكل من يقرأ هذا الكتاب مجردّاً عن الاتجاهات.
كلمة (العظيم) لا تكفي لبيان عظمة الرجل، وخاصة بعد أن استعملت هذه الكلمة في الكثير ممن يستحق ذلك أو لا يستحق، مع العلم أن العظمة تتفاوت من حيث القلة والكثرة والضعف والشدة وكذلك سائر الصفات الحميدة التي يعبر عنها بالفضائل وينعت بها الرجال.
فكيف أستطيع أن أصف الإمام حق الوصف وأودي واجب المقام حق الأداء وأرفع في البيان درجة في الأداء، مع ذلك كله فالعجز عن التعبير لا يفارقني والأفضل أن نذكر حياة الإمام بكل بساطة، وتخيل إدراك الموقف وأهمية الحال الى فكرة القارئ وذهنه وفهمه الفطري.
ونقرأ تحت عنوان (الليلة الأولى) ضمن فقرة (علي وليد الكعبة) هذا التفصيل لما حدث من معجزة إلهية:
أحست السيدة فاطمة بنت أسد بوجع الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل وأقبلت الى المسجد الحرام وطافت حول الكعبة ثم وقفت للدعاء والتضرع الى الله تعالى ليسهل عليها أمر الولادة، قائلة: يا رب أني مؤمنة بك وبكل كتاب أنزلته وبكل رسول أرسلته.. ومصدقة بكلامك وكلام جدي إبراهيم الخليل (ع) وقد بنى بيتك العتيق وأسألك بحق أنبيائك المرسلين، وملائكتك المقربين وبحق هذا الجنين الذي في أحشائي إلا يسرت عليّ ولادتي.
انتهى دعاء السيدة، وانشق جدار الكعبة من الجانب المسمى (بالمستجار) ودخلت السيدة فاطمة بنت أسد الى جوف الكعبة، وارتأب الصدع، وعادت الفتحة والتزقت وولدت السيدة ابنها علياً هناك.
من المعلوم أن للكعبة باباً يمكن منه الدخول والخروج ولكن الباب لم يفتح بل انشق الجدار ليكون ابلغ وأوضح وأدل على خرق العادة، وحتى لا يمكن إسناد الأمر الى الصدفة.
والغريب: أن الأثر لا يزال موجوداً على جدار الكعبة حتى اليوم بالرغم من تجدد بناء الكعبة في خلال هذه القرون، وقد ملأوا أثر الانشقاق بالفضة والاثر يرى بكل وضوح على الجدار المسمى بالمستجار والعدد الكثير من الحجاج يلتصقون بهذا الجدار ويتضرعون الى الله تعالى في حوائجهم.
وتطرق السيد الحميري في نظمه الى هذه المفخرة وهو من شعراء القرن الثاني وهو قوله:
وَلَدَتْهُ في حَرَمِ الإلهِ وأمْنِهِ والبيت حيث فناؤه والمسجدُ
بيضاءُ طاهرةُ الثياب كريمةٌ طابتْ وطابَ وليدُها والمولدَ
ما لُفَّ في خِرَقِ القوابل مثْلُه إلاّ ابن آمنة النبي محمدُ
ثم نقرأ تحت عنوان (الليلة السادسة) تحت عنوان (علي (ع) والجهاد) ضمن فقرة (علي (ع) يوم الخندق) هذا الموقف الجهادي الاسلامي الشهير:
تحزبت الأحزاب ضد رسول الله (ص) في مكة ضواحيها وقصدت المدينة لمحاربة رسول الله، ونزل جبرائيل على النبي وأخبره فاستشار النبي أصحابه فأشار عليه سلمان بحفر الخندق حول المدينة، فأقبل رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار، وحفروا الخندق، فلما فرغوا من حفر الخندق، وصل المشركون ونزلوا بالقرب من الخندق.
وخرج فوارس من قريش منهم: عمر بن عبد ودّ... وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق: المداد، وكان أول من طفره عمره وأصحابه..
وركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض وأقبل يجول حول، ويرتجز.
وذكر ابن اسحاق أن عمرو بن عبد بن ود كان ينادي من يبارز؟ فقال رسول الله (ص): من لهذا..؟ فلم يجبه أحد فقام علي (ع) فقال: أنا له يا نبي الله، فقال إنه عمرو، أجلس ونادى عمره: ألا رجل؟ وجعل يؤنبهم ويسبهم، ويقول أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ فقام علي (ع) فقال: أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس رعاية لابنته فاطمة التي كانت تبكي على جراحات علي (ع) يوم أحد، ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بححتُ من النداء بجمعكم هل من مبارز؟
إن السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز
فقام علي (ع) فقال: يا رسول الله أنا فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمراص وأنا علي بن أبي طالب!! فاستأذن رسول الله (ص) فأذن له، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذو الفقار وعممه عمامة السحاب على رأسه تسعة أكوار (أدوار) ثم قال له: تقدّم فقال لما ولى: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه).
ثم قال: برز الإيمان كله الى الشر كله.
فقال عمرو: من أنت؟ وكان عمرو شيخاً كبيراً قد جاوز الثمانين، وكان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي له.
فقال عمرو: أجل، لقد كان أبوك نديماً لي وصديقاً، فأرجع فإني لا أحب قتلك! فقال علي (ع): لكني أحب أن أقتلك! فقال عمرو: أرجع وراءك خير لك، ما آمن ابن عمك حين بعثك إلي..
فقال له علي (ع): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة.
فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي؟
فقال علي (ع) إن قريشاً تتحدث عنك أنك قلت: لا يدعوني أحد الى ثلاث إلا أجيب، ولو إلى واحدة منها؟ قال: أجل
قال: فإني أدعوك الى الإسلام..
قال: دع هذه!!
قال: فإني أدعوك الى أن ترجع بمن يتبعك من قريش الى مكة..
قال: إذن تتحدث نساء قريش عني: أن غلاماً خدعني وأني جبنت، ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأسوني عليهم. قال فإني أدعوك الى البراز راجلاً، فجمى عمرو وقال: ما كنت أظن أحداً من العرب يرومها مني.
ثم نزل فعفر فرسه. وقيل ضرب وجه فرسه ففر ثم قصد نحو علي (ع) وضربه بالسيف على رأسه فأصاب السيف الدرقة فقطعها، ووصل السيف الى رأس علي (ع) فضربه علي (ع) على عاتقه فسقط، وثار العجاج والغبار، وأقبل علي ليقطع رأسه فجلس على صدره.. فقتله.
وجاء علي برأس عمرو الى رسول الله (ص) فتهلل وجه الرسول (ص) فقام أبو بكر وعمر بن الخطاب وقبلا رأسه، وكان علي (ع) يقول:
أنا علي وابن عبد المطلب الموت خير للفتى من الهرب
ولما قتل علي (ع) عمراً انهزم المشركون وانكسرت شوكتهم وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (ع).
المؤلف: السيد محمد كاظم القزويني (قدس سره)
التوثيقات: الطبعة الخامسة عشر 1420هـ - 2000م
(289) صفحة من القطع الكبير
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع (بيروت – لبنان)
اللهم صل على فاطمه وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك.......
هذا كم هائل من ابداعات امير المؤمنين ولكنه لايساوي قطرة في بحر من ابداعات هذا العملاق
لقد وجدت في الموضوع الكثير ولقد استفدت منه الكثير وعرفت الكثير
لذلك احببت ان انقله واطرحه هنا لتعم الفائده على الجميع