تواجه الحكومات والأنظمة بجميع أنواعها عادة حالات خاصة تضطر فيها إلى إعلان حالة الطوارئ، تلجأ إليها الدولة عندما تمر بأزمة حادة، وخاصة في فترات وقوع الكوارث الطبيعية كالسيول والزلازل، أو غير الطبيعية كالحروب والانقلابات العسكرية والثورات، وتصبح إدارة البلاد غير ممكنة بالطرق الاعتيادية، وبإعلان حالة الطوارئ تتجاوز الدولة الكثير من الحقوق المشروعة للمواطن والحريات التي أقرتها القوانين الموضوعة، لتتصرف وفق ما تقتضيه المصلحة العامة وما ترتئيه الدولة دون الرجوع إلى تلك القوانين.
ولعلّ أهم هذه الظروف الاستثنائية التي تشهدها أغلب البلاد هي ظروف الأزمات السياسية التي تعصف بها، والسبب في ذلك تصاعد الاختلافات والتناحرات السياسية بين الدول من جهة، وبينها وبين المعارضة من جهة أخرى، وتتمثل هذه الاختلافات تارة بالاغتيالات السياسية والانفجارات وممارسة شتى أنواع العنف الأخرى، وتارة أخرى بشن الحروب والهجوم المسلح العسكري من قبل دولة على أخرى، وفي بعض الأحيان تبرز بشكل مظاهرات واضطرابات داخلية أو القيام بانقلابات عسكرية داخل مؤسسات النظام القائم.
تعلن الدول حالة الطوارئ فوراً عندما تواجه مثل هذه الأزمات، وتعطي لنفسها الحق باستخدام شتى الوسائل المناسبة والممكنة لاحتواء الأزمة، بحجة إعادة النظام والاستقرار وتأمين المصالح العامة..
واللجوء إلى الأحكام العرفية وبسط يد العسكر في إدارة البلاد، واحد من الوسائل التي تتخذها السلطات للقضاء على الفوضى والاضطرابات وحينها تخضع البلاد لقوانين ومقررات عسكرية تسمح للعسكر في أن:
1- يفتشوا المنازل دون إذن مسبق.
2- يمنعوا المواطنين من السكن في المحلات التي يقطنونها ويرحلوهم عنها.
3- يمنعوا تجمع أكثر من ثلاثة أشخاص.
4- يقيموا المحاكمات الميدانية وعلى ضوئها يُحكم على المعتقلين وتنفذ فيهم الأحكام الصادرة.
5- يضعوا الحواجز على الطرقات وفي المحلات السكنية ليسيطروا بواسطتها على حركة الناس.
6- يعطلوا إصدار الجرائد والمجلات أو يخضعونها لرقابة مشددة.
7- يحلّوا المجالس الشعبية والنيابية والقوة التشريعية ويمنعوا أي نوع من أنواع الانتخابات.
لا تختلف الأنظمة بوضع هذه الإجراءات موضع التنفيذ، أياً كان نوعها دستورية برلمانية أو شمولية استبدادية، إلا بفارق بسيط هو أن الحكومات الديمقراطية تشرع تلك الإجراءات عن طريق آراء ممثلي الشعب في البرلمان؛ أي القوة التشريعية، بينما يتم اتخاذ مثل هذه الإجراءات في الحكومات الاستبدادية من قبل الملك أو رئيس الجمهورية أو رئيس القوة التنفيذية.
ولذلك احتوت قوانين ودساتير جميع الدول على مواد قانونية تعالج الحالات الطارئة عليها وتعترف بها بصورة رسمية.
الدستور الدائم الألماني
عبّر الدستور الدائم الألماني عن الحالة غير الاعتيادية بـ(الوضع الاضطراري)، فأعطت المادة 81 من هذا الدستور للمستشار الألماني في الأوضاع الاضطرارية صلاحيات واسعة، ففي حالة عدم المصادقة على أطروحاته في المجلس النيابي وعدم حصوله على أكثرية الآراء للاستمرار في الحكومة، فإن القانون يعطيه الحق بحل المجلس، وليس عليه تقديم استقالته أو التفاهم مع بعض ممثلي الشعب لتحقيق الأكثرية اللازمة لديمومة الحكومة، وإذا امتنع المجلس النيابي عن المصادقة على اللوائح والقوانين اللازمة التي يطرحها رئيس الحكومة، فإن القانون يسمح له (إعلان حالة الطوارئ التشريعية) ويرجع في مصادقة القوانين إلى مجلس ممثلي المحافظات والولايات والمقاطعات للمصادقة عليها وتنفيذها.. تستمر هذه الحالة طبقاً للقانون المذكور مدة ستة أشهر قابلة للتمديد لفترة ستة أشهر أخرى.
الدستور الفرنسي:
تعطي المادة 16 من الدستور الدائم الفرنسي رئيس الجمهورية صلاحية الحاكم المطلق في حالة تعرض البلاد إلى الطوارئ، ويتمتع بموجب هذه المادة بصلاحيات القوى الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) فيمكنه أن يقرر ما يشاء، تشمل حالة الطوارئ الاستثنائية هذه الحوادث التي قد تهدد أركان الجمهورية الفرنسية وتعرض استقلال البلاد ووحدة أراضيها للخطر، فلا يمكن للدولة أن تتعهد بالتزاماتها الدولية إلا عن طريق إعلان حالة الطوارئ.
وفي هذه الحالة فإن على رئيس الدولة أن يسلك كافة السبل المؤدية إلى إنقاذ بلده وإخراجه من الأزمة بأمان وفقاً لتشخيصه الخاص، مدة حكومة الطوارئ أيضاً يحددها الرئيس، وله أن يمددها للفترة التي يشاء وإلى أمد غير محدود.
القوانين الأمريكية:
يتمتع رئيس الجمهورية الأمريكي في زمن الحرب بصلاحيات واسعة، وذلك طبقاً للقوانين المعمول بها في أمريكا، فيستطيع أن يصادر الأموال والممتلكات الخاصة من أي شخص كان لصالح العمليات العسكرية، وكذلك إصدار أوامر الاعتقال للمتهمين بصورة مباشرة، وهذا ما مارسه (روزفلت) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أبان الحرب العالمية الثانية، فلم يكتف بإصدار الأوامر باعتقال اليابانيين المقيمين في أمريكا، بل طالت أوامره حتى الأمريكيين الذين ينحدرون من أصل ياباني، وبعد ذلك بفترة قصيرة صادقت المحكمة العليا لصيانة الدستور والحريات على هذه الصلاحيات، وأعطتها الصفة القانونية والرسمية.
تسجل هذه الملاحظات والوقائع في دول ما فتئت ترفع شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، وتؤكد على ذلك منذ ما يناهز مائتي عام، وقد دفعت بعضها ثمناً باهضاً وتعرضت إلى ضربات ماحقة طالت كياناتها السياسية، واتهمت أمام العالم بخرقها لحقوق الإنسان.
النظم الإسلامية:
قبل أن نتطرق إلى طريقة التعامل مع الأوضاع الاضطرارية أو حالة الطوارئ، من قبل حكام الدول الإسلامية، لا بد من الإشارة إلى الفرق الشاسع بين النظم الإسلامية الحاكمة التي كانت سائدة فيها والموجودة حالياً، وبين النظام الذي يصبو الإسلام إليه، والتعرف على حدود وأبعاد كل منهما، ذلك لأنه لا يوجد أي تشابه بين النظام الإسلامي في زمن رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) وما آلت إليه الحكومات التي تدعى إسلامية وقد تختلف جذرياً ومن جميع الأبعاد معه.
فالحكومتان العباسية والأموية كانتا من أسوأ النظم التي شهدتها البشرية وعرفها التاريخ، لأن هدف الحكام في هذه الأنظمة يتلخص في التسلط والاستبداد، ولم يتوان هؤلاء الحكام، من أجل الوصول إلى هذا الهدف، عن ارتكاب شتى صنوف الجرائم ومختلف أشكال التعذيب والسجن والإعدامات التي طالت حتى الأبرياء، وكانت من ممارساتهم العادية.
ولذلك فالمقصود من النظام الإسلامي إنما هو النظام الذي أقامه رسول الله(ص) والإمام علي(ع) وليس المقصود كل نظام أطلق على نفسه مثل هذا العنوان.
ومع أن حدود دولة الرسول(ص) وحكومته كانت تنحصر في منطقة جغرافية صغيرة تدعى المدينة المنورة، فإن الرسول(ص) لم يسلب أو يتغاض قط عن أي حق من حقوق الإنسان، ولم يصادر حق أي شخص بحجة الحفاظ على المصلحة العامة أو المصالح القومية العليا، كما يفعل الكثير من الحكام، فلم يعلن رسول الله(ص) (حالة الطوارئ) طيلة فترة حكمه، حتى عندما كان يتعرض إلى هجوم الأعداء والضغوط من قبل قوى الشرك والضلالة، ولم يعط لنفسه صلاحيات واسعة واستثنائية في أحلك الظروف.
وكذلك كانت حكومة الإمام علي(ع) الذي انتخبه الناس وبايعوه للخلافة ليصبح خليفة على المسلمين بإرادتهم، فلم يلجأ إلى إعلان (حالة الطوارئ) قط رغم كل المشاكل والمتاعب التي واجهها في زمن خلافته، بل على العكس من ذلك كرس احترام الحقوق المدنية للشعب، وأطلق لهم حرية العمل والانتخاب، وحرية ممارسة حياتهم بالطريقة التي يرغبون، فهو لم يستخدم أساليب الأعداء الذين تألبوا عليه في أصعب وأشد الأزمات السياسية التي عصفت بواقع الدولة الإسلامية، ولم يتمثل سلوكهم الشاذ، لكنه أصر على أسلوبه الخاص في سياسة البلاد، والقائم على أساس الحفاظ على مصالح الناس - المؤالف منهم والمخالف - وصيانة حقوقهم.
الإمام علي (ع) والناكثون:
ليس لنكث البيعة في العرف السياسي السائد للحكومات والأنظمة بشتى صورها غير معنى واحد، وهو العصيان والتوسل بالفوضى والاضطرابات من أجل إسقاط الحكومة القائمة، وتتعامل الحكومات عادة مع مثل هؤلاء بأشد أنواع القسوة وبلا رأفة ورحمة، من أجل قمع حركتهم ووأدها في المهد، لكن الإمام علياً(ع) لم يتعامل مع الناكثين لبيعته بهذا الأسلوب، فعندما انتخب الإمام للخلافة بإجماع المسلمين وإرادتهم الحرة، رفض البعض - من أمثال عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن سلمة الأنصاري وغيرهم - مبايعة الإمام ورفعوا لواء المعارضة. كان يمكن للإمام(ع) آنذاك - خاصة والبلاد كانت تجتاز مرحلة عصيبة من الثورة والفوضى السياسية والاضطرابات الداخلية - أن يلجا لقانون الطوارئ، ويقضي عليهم بحجة إعادة الأمن والاستقرار وحفظ الصالح العام ويلغي أي دور لهم في المجتمع، ولكنه لم يفعل ذلك ولم يأخذ منهم البيعة بالإكراه.
يوضع أمثال هؤلاء الأشخاص في حكومات اليوم تحت الإقامة الجبرية والمراقبة التامة لجميع تحركاتهم وسكناتهم؛ بينما الإمام علي(ع) لم يكتف بأن لم يضيق على هؤلاء بل أعطاهم مطلق الحرية في الإقامة والتحرك والتنقل، وهذا يعني الاعتراف بالحرية السياسية للإنسان بأروع صورها، واحترام رأي الآخر وإن كان مخالفاً، وإعطاءه الحق في أن يعارض ويمارس حقه بحرية كاملة.
كيف تعامل الإمام علي(ع) مع طلحة والزبير:
بعد أن يئس طلحة والزبير من تجاوب الإمام(ع) مع مطالبهم المتمثلة بإشراكهم في الأمر كنوع من الرشوة وثمناً لسكوتهم، قررا الرحيل إلى مكة لتحريك الناس وإثارتهم على الإمام، ولذلك جاءا إلى الإمام وطلبا منه السماح لهما بأداء مناسك العمرة، لكن الإمام ببصيرته الثاقبة صارحهما بحقيقة أمرهما: (إنكما لا تريدان العمرة بل الغدرة)، وهذا بالضبط ما كان يدور في خلدهما، ومع ذلك لم يمنعهما من الذهاب إلى مكة ولم يصادر حريتهما في ذلك.
لا ينسجم هذا المنطق مع الموازين السياسية السائدة اليوم، لأن أقل ما يفعله الحكام والمسؤولون عن الحكومات في مثل هذه الحالة، هو فرض الإقامة الجبرية عليهما في المكان الذي تسهل فيه مراقبتهما والسيطرة على تحركاتهما.
ولكن قيمة الحرية في منطق الإمام علي(ع) والتي أعطاها الله للإنسان أسمى وأغلى من التسلط والحكومة، وأساساً فإن فلسفة الحكومة لدى الإمام علي(ع) لا تقوم إلا على صيانة حقوق الإنسان وحفظها من المصادرة والاستهتار، وإذا حصل ذلك فإن الحكومة ستفقد مصداقيتها وفلسفة وجودها.
لم تمض فترة وجيزة إلا وطلحة والزبير وعائشة يجتمعون في مكة لتأليب الناس على الإمام علي(ع)، وعندما وصلت التقارير والأخبار عن نشاطات هؤلاء المعارضين لخلافته لم يكن رد فعله (ع) إلا أن قال: (إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخط أمارتي، وأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا)(1).
وعندما استعد طلحة والزبير ومعهم عائشة وفئات من المعارضين والمخالفين من الأمويين وغيرهم للتحرك إلى البصرة، تحرك الإمام بدوره إلى البصرة ولكن ليس لمنازلتهم بل لإقناعهم بالرجوع عن الفتنة وعن خيار الحرب، ولكنهم كانوا قد وصلوها قبل الإمام علي(ع) وعاثوا فيها الفساد والخراب والدمار، ومع كل ذلك لم يبدأهم الإمام بالقتال إلا بعد أن أشعلوا هم أوارها فاستأصل فتنتهم.
كيف تعامل الإمام مع القاعدين عن حرب الجمل؟
لم يستجب البعض من أهل الكوفة إلى نداء التعبئة الذي أطلقه الإمام لحرب الجمل وبقوا في الكوفة، وبعد انتهاء حرب الجمل وانتصار الإمام فيها وعودته إلى الكوفة اكتفى الإمام(ع) بتوبيخ هؤلاء، وطلب من المسلمين أن يقاطعوهم، ولكنه لم يحاربهم في لقمة العيش فأبقى على رواتبهم جارية من بيت المال، لأنهم في النهاية يجب أن يكونوا ضمن جيش الإمام؛ يأتمرون بأمره عند الضرورة، ولكن بعض قيادات وأمراء جيش الإمام طالبت بالانتقام منهم ومعاقبتهم بأشد العقوبات، وكان من هؤلاء الأمراء مالك بن حبيب اليربوعي الذي جاء إلى الإمام وقال له: بالله عليك مرنا حتى نقتلهم، فأجابه الإمام: (سبحان الله يا مالك، جزت المدى وعدوت الحد وأغرقت في النزع)، فتمثل مالك بهذا البيت في جواب الإمام:
لبعض الغشم أبلغ في أمور تنوبك من مهادنة الأعادي(2)
ويقصد أن استعمال الشدة أفضل من مهادنة الأعداء، فقال له الإمام(ع): (ليس هكذا قضى الله يا مالك، قتل النفس بالنفس، فما بال الغشم؟).
وتلا بعدها هذه الآية (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) (3)، وأضاف: والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه، وذلك هو الغشم(4).
الإمام علي(ع) في صفين:
لقد اتخذ الإمام علي(ع) في صفين كافة التدابير اللازمة وأصدر أوامره الصارمة إلى أمراء جنده أن لا يبدأوا معاوية القتال، إلا أن معاوية اعتبر ذلك ضعفاً فعندما سيطرت قواته على مياه نهر الفرات، صادرها لقواته وحرم جيش الإمام منها، عندها خطب الإمام(ع) في جيشه خطاباً قصيراً أثار فيه حماسهم وطالبهم بالسيطرة على منابع الفرات(5)، ولما سيطر جيشه على الفرات أراد بعض قادته حرمان جيش معاوية من الماء طبقاً لمبدأ المعاملة بالمثل، ولكن الإمام رفض ذلك بشدة، ولم يسمح لجيشه أن يمنع الماء عن الجيش الأموي بحجة حالة الحرب القائمة، وأن ينتصر عليهم بالعطش، ولو كان قد فعل فلن يلومه لائم، لكن الإمام كان يعطي للإنسان الحق في الاستفادة من الموارد الطبيعية التي وهبها الله لعباده وليس لأحد أن يمنعه ذلك، لذلك أعلنها الإمام للجميع: (لا إنا لا نكافيك، هلم إلى الماء، فنحن وأنتم فيه سواء) (6).
لم يشأ الإمام أن يمنع الإنسان - وإن كان من الأعداء - الماء المباح للكلاب والخنازير، ففي مبدأ الإمام علي(ع) يجب الفصل بين حق الإنسان كإنسان وبين ما يعتقده ذلك الإنسان وعدم الخلط والمزج بين الاثنين، وبذلك أثبت الإمام علي(ع) أن للإنسان الحق في الحياة، حتى وإن كان على شاكلة معاوية بن أبي سفيان فإنه ليس لأحد أن يحرمه منها، واختلاف الآراء لا يبرر حرمان الإنسان من حقوقه الأساسية.
الإمام علي(ع) والخوارج:
يشكل سلوك الإمام علي(ع) مع الخوارج نموذجاً آخر لأهمية حرمة الإنسان وحقوقه في الإسلام. لقد مارس الإمام هذا السلوك مع الخوارج في الوقت الذي كانت فيه حكومته تمر بظروف غير اعتيادية، أو ما يصطلح عليه اليوم حالة الطوارئ، فعلم الفتنة والاضطراب كان مرفوعاً في أغلب المناطق، ولكن الطريقة التي تعامل بها أمير المؤمنين(ع) مع الخوارج تبين ما في مبدأ الإمام من مناقبية ومثالية في ظل الظروف الطارئة.
1- الخوارج يكفرون الإمام(ع):
إحدى الحيل العسكرية التي لجأ إليها معاوية في معركة صفين كانت رفع المصاحف على الرماح والدعوة إلى الاحتكام لكتاب الله، هذه الحيلة انطلت على الكثير من عناصر جيش الإمام علي(ع) أجبرت الإمام على القبول بوقف القتال وبالتحكيم في وقت كانت بوادر النصر الساحق تلوح بالأفق.
وعلى أثر ذلك تشكلت لجنتان من الطرفين المتنازعين للحوار والرضوخ إلى نتائج المفاوضات بينهما، رشح الإمام علي(ع) مالك الأشتر لرئاسة اللجنة التي تمثله فلم يرتضوه فرشح عبد الله بن عباس فلم ينل القبول منهم أيضاً، وأصروا على تشريح أبي موسى الأشعري الذي لم يكن الإمام يراه مناسباً لتمثيله في المفاوضات، لعلمه بشخصيته المتزعزعة وعدم حماسته له(7)، لكنه اضطر للرضوخ لرغبتهم تحت الضغوط والإصرار الذي مارسوه عليه، فعين أبا موسى الأشعري رئيساً للجنة المفاوضة مع ممثلي جيش معاوية، وكانت النتيجة معروفة عند أمير المؤمنين(ع) مسبقاً، ولكن عندما آلت النتائج إلى ما آلت إليه كان أول رد فعل للخوارج هو أنهم كفروا الإمام علياً(ع) لقبوله التحكيم وطالبوه بالتوبة!!(8).
لم يأمر الإمام باعتقال ومحاكمة ومعاقبة الخوارج بل أعلن مبادئه العامة في الحياة، القائمة على صيانة الإنسان وحقوقه (لكم عندنا ثلاث خصال لا نمنعكم مساجد الله أن تصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدأونا) (9).
2- الخوارج في النهروان:
اجتمع الخوارج في منطقة المدائن خارج الكوفة، وقرروا الخروج مع أنصارهم من البصريين إلى النهروان، في الوقت الذي كان الإمام(ع) يستعد للخروج إلى الشام، فاقترح بعض أمراء وقادة الجيش العلوي، من أجل الحؤول دون هجوم الخوارج على الكوفة والاعتداء على الأطفال والنساء، أن يقمعوا حركة الخوارج أولاً ومن ثم يتوجهوا مطمئنين إلى الشام لقتال معاوية، لكن أمير المؤمنين(ع) رفض الانصياع لمثل هذا الاقتراح، معتبراً إياه نوعاً من القصاص قبل ارتكاب الجريمة؛ ففي مبدأ الإمام علي(ع) أنه لا يستحق أحد العقاب بمجرد التهمة أو نية الفتنة، وما دام لم يرتكب جريمة؛ قتل أو فساد في الأرض، بل يرفض الإمام حتى توبيخه.
بيد أنّ الخوارج قاموا بقتل عبد الله بن الخباب وزوجته الحامل بلا ذنب، وبذلك تحقق فيهم ارتكاب القتل والفساد في الأرض، وشكلت هذه الحادثة السبب الذي أجاز للإمام قتالهم، إلا أنه(ع) لم يفقد الأمل بالإصلاح وتجنب الحرب والقتال وسعى كثيراً في سبيل ذلك، فطلب إليهم تسليمه قتلة عبد الله بن الخباب لينالوا القصاص العادل، لكنهم رفضوا ذلك وأعلنوا أنهم جميعاً قتلته، حينئذٍ أكد الإمام لهم بأنه في هذه الحالة سيقتص منهم جميعاً، لكنهم أصروا على مقولتهم ورفضوا تسليم القتلة، فلم يبق هنا من سبيل أمام الإمام علي(ع) سوى مقاتلتهم، ومع ذلك وطبقاً لمبدئه في عدم البدء بالقتال، صبر الإمام حتى بدأوه الحرب فصار الدفاع واجباً عليه.
3- الخوارج.. مؤامرات متواصلة..!
لم يمنع الخوارج اندحارهم وكسر شوكتهم في النهروان من متابعة أهدافهم الخبيثة، فراحوا بما بقي عندهم يحوكون المؤامرات ضد الإمام(ع)، ومن تلك المؤامرات أن جاءه يوماً خريت بن راشد وقال: (يا أمير المؤمنين بين أصحابك من يريد أن يتركك ويلتحق بالأعداء فماذا أعددت لذلك؟! فقال الإمام علي(ع): إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن.
فقال خريت مصراً: إني أظن أن عبد الله بن وهب وزيد بن الحصين الطائي يتآمران عليك، إنهما يقولان قولاً فيك لو ارتقى إلى مسامعك فإني على يقين بأنك إما أن تقتلهما أو تودعهما السجن المؤبد، فأجابه الإمام: إني مستشيرك فيهما، فبماذا تشير؟. فقال خريت: أشير عليك أن تستدعيهما وتضرب أعناقهما.. رفض الإمام هذه المشورة وقال: لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوة، كان ينبغي لك لو أنني أردت قتلهم أن تقول لي: اتق الله بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحداً ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك؟!).
وذات يوم جاء هذا الشخص إلى الإمام وقال بعصبية وغضب: سوف لن أطيعك بعد اليوم ولا أصلي معك أبداً وسوف أهجرك غداً، فحذره الإمام من مغبة أقواله وأفعاله وقال: ويحك، فهلمّ إليّ أدارسك وأناظرك السنن، وأفاتحك أموراً من الحق أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له منكر وتبصر ما أنت الآن عنه عَمٍ وبه جاهل، فقال خريت: سآتيك غداً، ومرة أخرى نصحه الإمام أن لا يقع في حبائل الشيطان(10)، لكنه خرج ولم يعد وأشعل تلك الفتنة المعروفة في التاريخ.
وصية الإمام إلى جارية بن قدامة:
كان معاوية قد أرسل بسر بن أرطاة على رأس قوة ضاربة إلى الحجاز واليمن، لتهديد أهالي تلك الأمصار وأخذ البيعة بالقوة منهم لمعاوية، فدفع الإمام علي(ع) بـ(جارية بن قدامة) على رأس قوة لصد بسر بن أرطاة وإفشال مهمته الخبيثة، وأوصاه بما يلي: (لا تسـتأثرن على أهل المياه بمياههم إلا بطيب أنفسهم... ولا تسخرن بعيراً ولا حماراً وإن ترجلت وحبست) (11).
علي(ع)على فراش الشهادة:
عندما اغتيل الإمام علي(ع) فجر التاسع عشر من رمضان بسيف ابن ملجم وكان ما زال به رمق، نادى: (لا يفوتنكم الرجل) (12)، وعندما استطاعوا الإمساك به أوصاهم أن يحسنوا إليه وقال: (إن أَبقَ فأنا وليُّ دمي وإن أُفن فالفناء ميعادي، وإن أعفُ فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله ما فجأني من الموت واردٌ كرهته ولا طائع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد وطالب وجد، وما عند الله خيرٌ للأبرار) (13).
ويؤكد أمير المؤمنين(ع) نفس هذا المعنى في وصيته إلى الحسن والحسين(ع) حيث يقول: (يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور) (14).
فهل توجد مثل هذه المناقبية والمبادئ عند غير الإمام علي(ع)؟ وفي أية دولة في العالم تقع مثل هذه الحوادث ولا تعلن فيها حالة الطوارئ والأحكام العرفية؟! ولا يتعرض فيها الناس الأبرياء إلى الاعتقال العشوائي والأخذ بالظنة والتعذيب؟!.
فمن غير علي(ع) يقول لابنه: إن قاتلي أسيرك الآن فعامل أسيرك بالإحسان؟!.
مبادئ الإمام علي(ع):
مما تقدم يتضح لنا أن حالة الطوارئ وإعلان الأحكام العرفية ليس لها معنى في مبادئ الإمام علي(ع)، وليس في قاموسه السياسي قانونان: قانون للحالة العادية وقانون للظروف الاستثنائية، وبناءً على ذلك يمكننا أن ندعي وبقوة بأن الإمام علياً هو الحاكم الوحيد في العالم الذي واجه في حكومته الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية الداخلية والفتن المتنوعة الأشكال والضروب، فلم يلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ، ولم يتوسل بالأحكام العرفية، وذلك هو الإعجاز بعينه.
وبهذا الأسلوب أغلق الإمام علي(ع) الباب على جميع الحكام والرؤساء في التوسل بالأحكام العرفية وإعلان حالة الطوارئ لمصادرة حقوق الإنسان والحريات العامة، ولم يبق لهم عذراً في ذلك، وبإعلانه لهذه المبادئ الإنسانية أثبت أن للإنسان في الإسلام حقاً وكرامةً لا يمكن بأي شكل من الأشكال مصادرتهما وليس لأحد تحت أشد الظروف العذر بإلغائهما والقفز عليهما، والمتشيع للإمام علي(ع) يجب أن يَقْفو آثار إمامه، والفرق كبير اليوم بيننا نحن الشيعة وبين الإمام، ففي فكر الإمام(ع) ومبادئه أن الإنسان لا يعدو كونه واحداً من اثنين (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
الهـــوامــش:
(1) وقعة صفين: ابن مزاحم المنقري، ص4.
(2) ن.م: ص193.
(3) المصدر السابق.
(4) نهج البلاغة: خطبة 51.
(5) وقعة صفين: مصدر سابق، ص193.
(6) وقد ورد حديث للإمام أمير المؤمنين (ع) في هذا الشأن، هذا بعضه: (وقد كنت أمرتكم فيه هذه الحكومة بأمري، ونخلت لكم مخزون رأيي.. فأبيتم إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة)..
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالرغم من الأمر الذي تمّ على صعيد إقصاءهم عن مجال الحكم، كانوا يتحمّلون باستمرار مسئوليتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية المحمدية، وتحصينها ضد التردي إلى هاوية الانحراف والانسلاخ من مبادئها وقيمها، فكلما كان الانحراف يطغى ويشتد وينذر بخطر التردي إلى الهاوية، كان الأئمة يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك، وكلما وقعت التجربة الإسلامية أو العقيدة في محنة أو مشكلة وعجزت الزعامات عن علاجها بحكم عدم كفاءتها بادر الأئمة إلى تقديم الحل ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددها.
وبكلمة مختصرة كان الأئمة يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي ، ويحرصون على أن لا يهبط إلى درجة تشكل خطراً ماحقاً، وهذا يعني ممارستهم جميعاً دوراً إيجابياً فعالاً في حماية العقيدة وتبني مصالح الرسالة والأمة، وفي هذا فعل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) حين تولى مسؤولية الخلافة الإسلامية وتسلّم رسمياً مهمة قيادة الدولة والأمة الإسلامية في فترة سنوات 35-40 هجرية.
لقد تمثّل الدور الإيجابي الذي جسّده الإمام(ع) في تجربته العظيمة وسياسته الحكيمة في صور عدة أبرزها:
1- إيقاف الحاكم عن المزيد من اللامسئولية والانحراف، وهو ما تجسد كما عبر عنه(ع) حين صعد عمر بن الخطاب على المنبر وتساءل عن ردّ الفعل لو صرف الناس عما يعرفون إلى ما ينكرون، فرد الإمام(ع) عليه بكل وضوح وصراحة «إذن لقومناك بسيوفنا».
2- تعريفة الزعامة المنحرفة إذ أصبحت تشكل خطراً ماحقاً ولو عن طريق الاصطدام المسلّح والشهادة.
3- مجابهة المشاكل التي تهدّد كرامة الدولة الإسلامية، وعجز الزعامات القائمة عن حلها.
4- إنقاذ الدولة الإسلامية من تحد يهدد أمنها وسيادتها.
5- اتخاذ مظهر السلبية والمقاطعة في أكثر الأحايين، بدلاً عن مظهر الاصطدام المباشر والمقابلة المسلحة صيانة لدماء المسلمين، إذ أن المعارضة حتى بصيغتها السلبية كانت بمثابة عملاً إيجابياً عظيماً في حماية الإسلام والحفاظ على مثله وقيمه السامية.
6- تموين الأمة العقائدية بشخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية، ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة وضربها في بدايات تكوينها من ناحية أخرى.
وفي الواقع فإن تلك الآثار الإيجابية وغيرها مثّلت العطاء والدور الإيجابي الذي مارسه الإمام(ع) في الأمة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم لسنوات طويلة، وهذا كان سبباً واضحاً وملموساً في إفراز الواقع المرير والصور السلبية التي رافقت حياة الأمة المسلمة على مختلف الأصعدة (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل وحتى معنوياً)، ولدرجة ما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف، وبما أدت إلى ثورة الأمة وقتل الخليفة (الثالث) عثمان بن عفان، وبالتالي قيام دولة الحكم الإسلامي بإمامة وقيادة علي(ع)، والتي كانت بحق فترة انتقالية وعودة إلى التجربة المحمدية الأصيلة.
صورة الوضع القائم في عهد الخليفة عثمان
انعكست مسيرة الحكم لعثمان بن عفان، وما آلت إليه من ممارسات خاطئة وتطورات سلبية طالت مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب مباشر من عدد كبير من الولاة والصحابة والعمال، أمثال سعيد بن العاص وعبد الله بن عوف الزهري، وقادة بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وغيرهم ممن قربهم عثمان إليه ومكّنهم في الوصول إلى دائرة الحكم.
ويمكن إجمال مظاهر ومساوئ الحالة العامة التي سادت مجتمع الأمة المسلمة وقتذاك بالآتي:
1- سوء الإدارة وفساد جهاز الحكم.
2- سوء السياسة المالية، وشيوع السرقة في بيت مال المسلمين والرشوة.
3- نشوء التعددية الطبقية، وبروز طبقة (الأرستقراطية) التي ضمت المقربين من الخليفة والحاشية الحاكمة.
4- معاداة واضطهاد كبار صحابة الرسول محمد(ص) والإمام علي(ع)، أمثال عمار بن ياسر ومالك الأشتر النخعي وأبو ذر الغفاري ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وسلمان الفارسي (المحمدي).
5- سياسة القسوة والبطش، المتبعة في إسكات وقمع حركات الاحتجاج الشعبي لدى مختلف أوساط الأمة.
كل تلك المظاهر أدت إلى تفاقم حدّة النقمة والمعارضة الشعبية الواسعة، وفقدان الأمة الثقة بحكامها، وبالتالي بروز حركات التمرد والثورة ضد الخليفة عثمان وسلطته، فيما كانت الكوفة (العراق) ساحة لأقوى تلك الحركات المعارضة والثائرة طلباً للإصلاح ومحاسبة ومعاقبة المقصرين والمتآمرين على الإسلام والأمة، ولما لم يكن هناك من يصغي للمطاليب المشروعة للأمة، فإنها آلت في نهاية المطاف إلى مقتل الخليفة عثمان وسقوط نظام سلطته الحاكمة.
علي (ع) يتصدّى لتغيير هذا الواقع
لقد كان صوت علي بن أبي طالب(ع) في مقدمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الإسلامي في العهود التي سبقت خلافته، ومن ثم فإن حركة المعارضة والنقد، ثم الثورة، ضد هذه الأوضاع الشاذّة المستجدة قد اتخذت من علي(ع) رمزاً لها وقيادة تلتفّ من حولها، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع الطارئة على المجتمع. حدث ذلك حتى قبل مقتل عثمان ومبايعة علي بالخلافة.
ومن هنا كانت الوقائع والأحداث التي سجّلتها مصادر التاريخ تحكي علاقة الإمام بحركة التغيير، وموقفه (ع) من التطبيقات الخاطئة ففي لقاء من بين لقاءات عدة بين علي وعثمان، ينتقد فيه علي عثمان لميله لبني أمية، وإطلاقه العنان لهم كي يستأثروا بخيرات الناس ويحتازوا حقوقهم، وينبهه إلى خروجه عن نهج الأمة الذي سار عليه من سبقه، وينكر أن يكون عثمان في نهجه مساوياً لأبي بكر وعمر بن الخطاب على أقل تقدير.
والاعتقاد الراسخ هو أن موقف علي(ع) ضد الفرع الأموي من قريش، إنما هو جزء في موقفه العام ضد قادة قريش وأغنيائها، أولئك الذين ناصبوا الفرع الهاشمي المحمدي، العداء منذ ظهر الإسلام، وخاضوا ضده الحروب، ثم تربصوا به -حينما هُزموا- حتى انقضوا على دولة الدين الجديد تحت راياته وأعلامه.
ولو كانت القيادة الإسلامية قد آلت إلى الإمام(ع) قبل حادثة السقيفة أو بعدها لما حدث هذا الاختلال الملحوظ وكان مصداق ذلك ما تحقق عندما بايعه الناس بالخلافة حيث أعلن الثورة الشاملة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت محل نقده ومعارضته.
الإمام علي(ع) بعد تولي الخلافة
أصبح علي(ع) الخليفة الفعلي للمسلمين، واجتمعت بيديه مقاليد الأمور، فثاب إلى المجتمع هدوء مشفوع بالأمل وارتقاب فجر جديد، وبدأ علي(ع) أول ما بدأ بإعطاء الحق إلى الشعب، فقد وجد أن مشاكلهم المعلقة أضحت مزمنة، لم يبت فيها بشيء، فعطف على آلام هذا الجمهور وواساه بنفسه وقلبه ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وذهب مع تقريره بأن المجتمع الذي يقوم النظام فيه على برنامج غير مكتوب، يظلّ عرضة للعبث والتلاعب والتصرفات التي من شأنها أن تضيره، إذا لم يقصد أولاً وقبل كل شيء إلى الاختيار وانتقاء الشخصيات التي تضم إلى الكفاءة، الإخلاص والضمير. بل من رأي علي(ع) الإصلاح حتى في المجتمعات التي يستوي النظام فيها على برامج مكتوبة، لا يتم على وجه مضمون إلاّ بالشخصية المنتقاة، ولمس إلى ذلك إن أكبر عناصر الشكوى وأهم أجزائها هو الجزء الخاص بالأمراء والولاة، فبادر قدماً إلى تغيير التعيينات، متوخياً في ذلك مجاراة الحق والعدل والمصلحة العليا للإسلام والأمة، دون أن تأخذه لومة لائم، أو يمنعه سطوة جاه أحد أو تأثير حزب أو فئة ما أو أية ضغوطات أو مؤثرات.
صور وإنجازات الحركة الإصلاحية في دولة الإمام(ع)
1- في السياسة: أعلن عن عزل العمال والولاة السابقين على الأقاليم، ولم يتراجع عن ذلك عندما حاول البعض الحؤول دون ذلك، وهذا موقف شهير في كل كتب التاريخ.
2- في ميدان القطائع: كانت هناك الأرض التي جعلها الخليفة عمر ملكا خاصاً لبيت المال، ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته، وبصددها كان موقف علي(ع) حازماً وحاسماً.. فلقد ألغى هذه العقود، وقرر ردّ هذه الأرض إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال، ورفض أن يعترف أو يقر التغييرات «التصرفات العقارية» التي حدثت في هذه الأرض.
3- في ميدان العطاء: أحدث علي(ع) تغييراً ثورياً لعله كان أخطر التغييرات الثورية التي قررها، والتي أراد بها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثورية الإسلامية الأولى على عهد الرسول الكريم(ص) ذلك أن النظام الذي كان معمولاً به من عهد النبي(ص) فيما يتعلق بالعطاء -والعطاء هو نظام قسمة الأموال العامة بين الناس- بالمساواة، وهذا كان قد ألغاه الخليفة الثاني واستبد له بنظام التفضيل.
وبشكل عام يمكن إجمال صور الحركة الإصلاحية الشاملة التي قادها الإمام بالآتي:
أولاً- الإصلاح الإداري: حيث قام بعزل معظم الولاة عن الأمصار ومسئولي الجهاز التنفيذي الإداري من الدولة، وإقصاء أولئك النفعيين الذين لم يكن لهم هم في الحياة سوى السلب والنهب وكنز الذهب والفضة والتسلّط المرير على رقاب المسلمين، وقال(ع) في ذلك: «والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ من أمري»(1).
ثانياً- الإصلاح الاقتصادي: وتمثل بإرجاع قطائع العهد السابق وأقطاب الحاشية الحاكمة لأصحابها الشرعيين، وتوزيع الثروة بشكل عادل، وإلغاء التصنيف الطبقي للناس، ومصادرة الأموال التي نهبها المدللون من خزانة (صندوق) الدولة، ليتمتعوا بها على حساب الجماهير الجائعة المحرومة، وإعادة تنظيم بيت المال (الميزانية) على أسلوب جديد سليم ومستقيم.
ثالثاً- الإصلاح الاجتماعي: وهذا تجلى في أولى خطواته (ع) بإلغاء القيم العشائرية والقضاء على النزعة القبلية السائدة في المجتمع، والعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة القائمة على أساس المساواة العامة الشاملة، فلا تفاضل بين قوم وقوم وجنس وجنس، ولا شأن أبداً للعرق أو اللون أو العمر أو أي امتياز آخر من الامتيازات العرقية التي كان يتمايز بها الناس، ولا تصنيف للطبقات والفئات الاجتماعية، ولا تنابز بالألقاب، ولا تفاخر بالزينة والأموال والأولاد.
أسس السياسة عند الإمام علي(ع)
تتمثل أسس السياسة الشرعية التي انتهجها الإمام علي(ع) وطريقة الحكم التي جسدها خلال فترة السنوات الخمس (35-40هجرية) التي تولى فيها مسؤولية الخلافة وقيادة الدولة الإسلامية، تتمثل بمجموعة مبادئ وجوانب؛ أبرزها يتحدد بـ:
أخلاق الحاكم أو القائد السياسي وواجباته:
1- العمل الصالح أعظم ذخيرة.
2- امتلاك الهوى، والشح بالنفس عما لا يحل له، والشح يعني «الإنصاف فيما أحببت وكرهت».
3- العدل بين الناس جميعاً، فإنهم صنفان:«إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».
4- التحذير من سفك الدماء بغير حق، وهو مما أكّد عليه الدين الإسلامي.
5- النهي عن الإعجاب بالنفس، وحب الإطراء.
6- النهي عن المن على الرعية بالإحسان، أو التزيد في إظهار ما وقع منه بالفعل.
7- النهي عن الإخلاف في الوعد، بعد الوعد.
8- النهي عن الاستئثار بما فيه الناس متساوون.
9- الحلم وتأخير السطوة حتى سكون الغضب ليمتلك الحاكم عندها الاختيار، وقوام ذلك «ذكر المعاد إلى ربك».
10- أَمرُ الحرس والشرطة والأعوان بعدم التعرّض لذوي الحاجات، حتى يعرض واحدهم حاجته للحاكم، دون تردد.
11- ألا يطيل احتجابه عن رعيته.
12- تنحية الضيق والاستكبار عن الرعية.
13- إجابة من يستعملهم (السلطة التنفيذية بعده) عما يعجز عنه الإداريون وتعقيداتهم.
14- منع خاصته (ع) من التدخّل في شؤون الحكم.
15- إلزام الحق من لزمه، قريباً كان أو بعيداً.
16- إظهار العذر للرعية، حال ظنها وقوع الظلم عليها من قبل الحاكم.
خصائص المستشارون وصفاتهم
لا غنى للحاكم عن المستشارين، وأهم صفات المستشار هي:
1- ألا يكون بخيلاً يعدل بالحاكم عن الفضل، ويعده الفقر.
2- ألا يكون جباناً يضعفه عن الأمور.
3- ألا يكون حريصاً يزين الشره بالجور.
4- تعويد المقربين والإعلاميين على عدم المدح، أو كسب رضا الحاكم وفرحه بباطل لم يفعله.
5- عدم المساواة بين المحسن والمسيء، فإن ذلك تشجيعاً لأهل الإساءة على إساءتهم، وتزهيداً لأهل الإحسان في إحسانهم، وإلزام كل منهم ما ألزم به نفسه، من شكر أو عقاب.
6- حسن الظن بالرعية، دليله إحسانه إليهم، وعدم استكراههم على ما ليس عندهم، وتخفيف الأثقال (المؤونات) عنهم.
سياسته (ع) في مجال القضاء ومواصفات القضاة
حدد(ع) صفات القاضي بما يلي:
1- أن يكون ممن لا تضيق به الأمور، ولا تغضبه الخصوم.
2- أن لا يتمادى في الزلّة.
3- أن لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا أخطأ.
4- أن لا تشرف نفسه على طمع.
5- أن يكون عميق النظر، لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه.
6- أن يكون حازماً عند اتضاح الحكم.
7- أن يكون طويل الأناة، لا يضيق بمراجعة الخصم، وصبوراً حتى تتكشف الأمور له.
8- أن لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، ولا يستميله إغراء.
العلاقة الاجتماعية - السياسية بين الحاكم والرعية
وهذه تقوم على المبادئ التالية:
1- إطلاق عقدة كل حقدٍ بين الناس، وتعهد قطع دابر أية عداوة بينهم.
2- التغابي عن كل ما لا يصح له.
3- عدم تصديق الساعي بالوقيعة والنميمة، فهو غاشٌّ وإن بدا متشبهاً بالناصحين.
الطبقة السفلى من المجتمع
وتضم المساكين والمحتاجون وشديدو الفقر، وذوي العاهات أو الأمراض التي تمنعهم من الكسب، ويوصي الإمام(ع) بهذه الطبقة، ففيهم السائل، والمتعرض للعطاء بلا سؤال، وطريقة التعامل العملية معهم هي:
1- تخصيصهم بنصيب مقسوم لهم من بيت المال، كما أن لهم نصيب من ثمرات أرض الغنيمة.
2- المساواة فيما بينهم من هذا التخصيص، فللقاصي منهم كالداني.
3- تعهدهم بشكل دائم من قبل الحاكم، فلا يصرفنّ همة عنهم، ولا يتكبرنَّ عليهم.
4- تفقد أمور من لا يطالب بحقه منهم، وذلك بتخصيص رجال ثقاة للبحث عنهم، والتعرّف على أحوالهم عن كثب، ممن هم من أهل خشية الله والتواضع لعباده.
علي(ع) والنظام الإداري
أقام الإمام(ع) نظاماً إدارياً محكماً، حدّد فيه الوظائف وأوضح طرق تعيين الموظفين، وبيَّن واجباتهم وحقوقهم، وأقام عليهم تفتيشاً دقيقاً، ووضع أسس الثواب والعقاب، والمسؤولية الإدارية بشكل عام.
إن العامل يقوم مقام الخليفة إذا كان معيناً من قبله، أو يقوم مقام أعلى إذا كان هذا العامل هو الذي عينه. ويشترط الإمام في العامل شروطاً مشددة، لخطورة مركزه والسلطة التي يتمتع بها، يقول الإمام(ع) في عهده لمالك الأشتر:«ثم أنظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختياراً، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ فيهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة».
- الإمام (ع) حدد سياسة التعامل مع الولاة بالشروط الآتية:
1- تولية الواحد منهم بالامتحان، وليس اختصاصاً، وميلاً لمعاونتهم، ولا استبداداً بلا مشورة.
2- أن يكون من أهل التجربة والإحياء من أهل البيوتات الصالحة، والخطوة السابقة في الإسلام.
3- التحفّظ من الأعوان، وعقوبة من اجتمعت عليه أخبار المراقبين بما فعل.
4- تفقد أمر الخراج (الضرائب) مما يصلح أهله، لأنه مهم لحياة الناس.
5- تفضيل عمارة الأرض على جباية الضرائب وفرض المكوس.
- أما ما يتعلق بالكتّاب، وهم في عصر الإمام(ع) أفراد الجهاز الإداري للدولة، فالطريقة التي اعتمدها تمثّلت بالشروط الآتية:
1- عدم اجتماع سلطات إدارية واسعة في يد واحدة.
2- اختبارهم بما وُلوا للصالحين قبل.
3- أن يكون واحدهم حسن الأثر في العامة.
4- أن يكون أعرف الناس بالأمانة والقيام بها.
5- سوء إدارة الكتّاب، مسؤول عنه من وضعهم في مناصبهم تلك.
الناحية الدستورية:
جعل الإمام (ع) في عهده رضا الأغلبية واحترامها أساساً في الحكم مادام هذا الرضا ينسجم مع العدل في منظوره الإسلامي، «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة (أي يذهب به)، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة.
وإنما عماد الدين وجماع (جمع المسلمين)، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم».
سياسته المالية:
لقد كان الإمام علي(ع) ثورة في هذا المجال، قد لا تكون البشرية حققتها حتى اليوم، إذ أنه لم يخلط قط بين مال أحد ومال الدولة أو مال الله، ولم يتعامل مع الأشياء العامة على أنها أشياؤه الخاصة.
كانت الدولة في نظره مختلفة عنه شخصياً، على أساس أنها سلطة من الله تعالى، وشعب من البشر الذين هم إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، وأن أموالها هي أموال الله وأموال المسلمين، وليست أموال الخاصة.
يقول (ع) عندما اقترحوا عليه أن يعطي الكبار بشكل مميّز:«لو كان المال مالي لسويت بينهم فكيف والمال مال الله»(2)، ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب المساعدة، وكان موقفه عندما أبلغ أهل الكوفة إنه لن يأخذ حصته من العطاء، حيث قال:«يا أهل الكوفة، إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي، فأنا خائن»(3)، وكذلك عندما أتاه عبد الله بن زمعة يطلب مالاً، إذ قال له:«إن هذا المال ليس لي ولا لك، إنما هو فيء المسلمين»(4).
ولما كان المال كذلك، فهو أمانة للأمة عند متسلّمه وهو مؤتمن عليه، ولهذا فإن العامل أو (الولاة) ليسوا أحراراً في التصرف بالأموال، وهم مقيدون بالشرع فيما يخص الحقوق والحريات، فتكون حريته في التصرّف على الصعيد الشخصي، غير قائمة فيما يخصّ وظيفته تجاه المواطنين، وفي ذلك تمييز أساسي.
يمكن، أن نقسم ما ورد في الشورى عن لسان أمير المؤمنين(ع) إلى ثمانية أبعاد هي:
أولاً: أهمية الشورى:
جاء في كلام أمير المؤمنين(ع) في أهمية الشورى
1) نعم المظاهرة المشاورة(1).
2) الاستشارة عين الهداية(2).
3) أفضل الناس راياً من لا يستغني عن رأي مشير(3).
4) ولا ظهير كالمشاورة(4).
5) ولا مظاهرة أوثق من المشاورة(5).
6) ما ضلّ من استشار(6).
7) لا يستغني العاقل عن المشاورة(7).
فالشورى هي من ابرز علامات الهداية والقوة والحكمة والعقل. فالإنسان الذي يعتمد المشورة في حياته هو المتميز بين الناس بالنجاح والأفضلية، فهو يتخذ من الشورى سبيلاً إلى الهداية، وهو بالتالي محصّن ضد الضلال والانحراف. هذه هي ابعاد الشورى كما يتضح من أقوال أمير المؤمنين(ع).
ثانياً: فوائد الشورى:
للشورى فوائد واضحة وإلا لما دعى إليها الإسلام، ومن فوائدها على لسان أمير المؤمنين(ع):
1) من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول(8).
2) من شاور الرجال شاركها في عقولها(9).
3) باكروا فالبركة في المباكرة، وشاوروا فالنجح في المشاورة(10).
4) من استشار العاقل ملك(11).
5) المشورة تجلب لك صواب غيرك(12).
6) المشاورة راحة لك وتعبٌ لغيرك(13).
7) من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحاً(14).
8) ما استنبط الصواب بمثل المشاورة(15).
9) خوافي الآراء تكشفها المشاورة(16).
نستطيع أن نستخلص من النصوص المتقدمة هذه الفوائد:
1) الاستفادة من آراء وتجارب الآخرين.
2) تحقيق النجاح في العمل.
3) الوصول إلى الرأي الأصوب.
4) زيادة البركة في العمل القائم على المشورة.
5) الاطمئنان والراحة إلى نتائج العمل القائم على المشورة.
6) عدم تكرار تجارب الآخرين والاكتفاء بآرائهم.
ثالثاً: مستلزمات المستشير:
ماذا يحتاج من يريد الاستشارة؟ ما هي مستلزمات المستشير؟
يجيب أمير المؤمنين(ع) قائلاً؟
1) شاور قبل أن تعزم وفكّر قبل أن تقدم(17).
2) إذا عزمت فاستشر(18).
3) عليك بالمشاورة فإنها نتيجة الحزم(19).
4) طول التفكير يعدل رأي المشير(20).
فمن مستلزمات المستشير: أولاً وقبل كل شيء أن يفكر في أمره وأن لا يغلق على نفسه أبواب التفكير اعتماداً على المشورة فقط. لأن التفكير المستقيم قد ينفعه عند المشورة، وبعد المشورة عليه أن يتحلّى بالحزم فبدونه لا فائدة من الشورى، والحزم هو الإصرار على العمل وترك التردد والتذبذب في الرأي.
إذن قبل أن يستشير الفرد عليه أن يضع الأمور أمامه ويفكّر فيها عسى أن يصل إلى الرأي الصائب، وبعد التفكير يطرح الأمر على الآخرين، وبعد المشورة عليه أن يعمل بالرأي الذي خلص إليه بعزم وقوة.
فالتفكير =====> فالمشورة =====> فالحزم.
وهذه هي المعادلة المهمة التي يضعها أمير المؤمنين(ع) بين أيدينا.
رابعاً: شروط المشير (المشاور):
وضع الإسلام للمشير شروطاً، فليس من الصحيح أن تشاور كل إنسان وجدته في قارعة الطريق.
فشروط المشير هي:
1) من شاور ذوي النهى والألباب فاز بالنجح والصواب(21).
2) افضل من شاورت ذوي التجارب(22).
3) خير من شاورت ذوي النهى والعلم وأولوا التجارب والحزم(23).
4) لا تشاور في أمرك من يجهل(24).
5) شاور ذوي العقول تأمن الزلل والندم(25).
6) شاور في أمورك الذين يخشون الله ترشد(26).
7) من استشار ذوي النهى والألباب فاز بالحزم والسداد(27).
8) استشر عدوك العاقل واحذر رأي صديقك الجاهل(28).
9) مشاورة الجاهل المشفق خطر(29).
10) مشاورة الحازم المشفق ظفر(30).
نستخلص من النصوص المتقدمة هذه الشروط التي يجب توفرها في المشاور.
1) أن يكون متقياً يخشى الله.
2) أن يكون عاقلاً من ذوي النهى والألباب.
3) أن يكون من ذوي التجارب في الحياة.
4) أن يكون عالماً وليس جاهلاً حتى لو كان صديقاً أو قريباً.
5) أن يكون موصوفاً بالحزم.
خامساً: من لا نشاوره:
ليس كل إنسان قابل للمشورة، فهناك صفات فيمن نشاوره ذكرناها في البند(4) وهناك أفراد يحرم علينا مشورتهم لحالات خاصة فيهم تؤدي بالمشورة إلى عكس المطلوب، وهؤلاء هم.
1) لا تشاور عدوك واستره خبرك(31).
2) لا تستشير الكذّاب(32).
3) ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً(33).
4) لا تشركن في رأيك جباناً(34).
5) وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن(35).
فهؤلاء لا ينبغي مشاورتهم لأسباب لا مجال للتفصيل فيها وهم: العدو الذي يخفي عداوته، والكذاب، والبخيل، والحريص على الدنيا، والجبان والنساء وهناك تفصيل في مشورة النساء لا مجال لذكره.
سادساً: العلاقة بين المشير والمستشير(المشاور):
هناك علاقة عضوية بين هذين الركنين المشير والمستشير يجب أن نحافظ عليها. وهذه العلاقة هي:
1) جهل المشير هلاك المستشير(36).
2) على المشير الاجتهاد في الرأي وليس عليه ضمان النجح(37).
3) لا تردنّ على النصيح ولا تستغشنّ المشير(38).
4) من ضلّ مشيره بطل تدبيره(39).
5) من غش مستشيره سلب تدبيره(40).
6) من نصح مستشيره صلح تدبيره(41).
إذن تقوم العلاقة بين المشير والمستشير على قاعدة المحبة والود، وعندما تكون هذه العلاقة متينة ومبنية على قاعدة الحب تكون المشورة نابعة عن اخلاص ورغبة في المساعدة، ويحاول المشير أن يكون ناصحاً صادقاً في الرأي، جاهداً نفسه لمساعدة المستشير فمعادلة المشير والمستشير تستند على هذه الركائز.
1) يستفرغ المشير جهده،ويعطي رأيه عن علم وتجربة.
2) يكون ناصحاً للمستشير، وليس غاشاً ولا سبباً لضلاله وتيهه.
3) لا يرد المستشير على نصيحة المشير، بل يكون متواضعاً له، عاملاً بالاستشارة.
4) حصيلة هذه العلاقة التدبير عندما يكون المشاور ناصحاً، وبالعكس يسلب منه التدبير عندما يغشه.
سابعاً: عواقب ترك الشورى أو مخالفتها:
الأمة التي تترك الشورى يستبد فيها الطغاة. والإنسان الذي لا يعوّد نفسه على المشورة هو الإنسان الفاشل في الحياة.
لنستمع إلى كلام أمير المؤمنين(ع) في عواقب ترك المشورة والشورى.
1) من خالف المشورة ارتبك(42).
2) من قنع برأيه زلّ(43).
3) قد خاطر من استغنى برأيه(44).
4) من أعجب برأيه ذلّ(45).
5) من أعجب برأيه ملكه العجز(46).
6) من استبدّ برأيه خفّت وطأته على أعدائه(47).
7) من استبد برأيه خاطر وغرّر(48).
8) ما أعجب برأيه إلا جاهل(49).
9) لا تستبد برأيك فمن استبد برأيه هلك(50).
10) الاستبداد برأيك يزلك ويهوّرك في المهاوي(51).
فهذه النصوص تبين لنا خطورة اعتماد الفرد على رأيه واستغنائه عن المشورة فهو عرضة للزلل، وهو يخاطر بنفسه عندما يعتمد على رأيه وبالتالي فنتيجة الاستبداد بالرأي هو الهلاك، وعندما يكون مورد المشورة في مجال الحرب يصبح الهلاك بين العدو، أما من شاور ثمّ خالف المشورة فهو عرضة للارتباك والاضطراب.
ثامناً: ما يعترض الشورى من نواحي الضعف:
ليس كل شورى صحيحة، فهناك اقسام من الشورى مضرّة ولها تبعات ونتائج وخيمة على المستشير، فما هي الموارد التي لا تحبذ فيها الشورى؟
يجيب أمير المؤمنين(ع):
1) شر الآراء ما خالف الشريعة(52).
2) آفة المشاورة انتقاض الآراء(53).
3) خيرُ الآراء أبعدها من الهوى(54).
ثلاث قضايا تحبط الشورى وتمنع وصول الفرد أو الجماعة إلى الرأي الصائب، هذه الأمور هي: 1- مخالفة الشريعة.
2- نقض الشورى برأي مخالف والعمل خلاف ذلك.
3- اتباع الهوى، لأن الهوى والشهوات تدفع بالإنسان إلى اختيار الرأي المنسجم ورغباته.
مجالات الشورى في السيرة العملية للإمام أميرالمؤمنين(ع)
اتصف عهد الإمام أمير المؤمنين(ع) بكثرة القلاقل والاضطرابات الداخلية، فقد عاش الإمام فترة استثنائية لم يستطع فيها من تحقيق كل ما كان يطمح إليه بسبب القلاقل والاضطرابات التي نشأت في عهده.
والشورى هي إحدى الأسس لحكم البلاد التي لا تجد طريقها إلى التطبيق إلا في ظروف طبيعية، أما في الظروف الاستثنائية فإن البلاد بحاجة إلى مركزية في القرار وحزم كبيرين، وقد لاحظ بعض الكتّاب هذا الأمر، وحاولوا أن يعطوه تفاسير واهية قائلين بانصراف الإمام علي(ع) عن الشورى.
شبهة اهمال الإمام أمير المؤمنين للشورى
هناك شبهة ترى أن الإمام أمير المؤمنين(ع) أهمل الشورى في عهده بسبب وجود الاضطرابات. من الداعين إلى هذا الرأي اسماعيل البدوي في كتابه معالم الشورى في الإسلام.
وذهب فريقٌ من الباحثين إلى أن علياً كان يعوزه حزم الحاكم دهاؤه وتنقصه الحنكة السياسية مع أنه كان يمتاز بفضائل كثيرة، فقد كان ذكياً فقيهاً، فصيحاً شجاعاً نشيطاً، فلم يعتمد علي في مشورته على أولي الأمر، وأهل الحل والعقد، وذوي الآراء الراجحة وإنما اعتمد على الشيعة، وجماهير المسلمين ورؤساء القبائل والعشائر في العراق(55) وبعد التدقيق والتحقيق وجدنا أن مصدر هذه الشبهة التي كتب عنها العديد من الكتّاب هو أحد المستشرقين الذين كتبوا بحقد عن أمير المؤمنين(ع) وهو (نيكلسون) وقد تأثر به بعض الكتّاب والسياسيين الذين رددوا عبارته بأساليب مختلفة إلا أنها تحمل المعنى نفسه.
وأصل عبارة نيكلسون هي (ولم يكن له موهبة (أي أمير المؤمنين) للحقائق الصارمة لفن السياسة(56).
وعلى النقيض من هذا الرأي هناك رأيٌ معاكس يقول به جمعٌ من الكتاب منهم الاستاذ يعقوب المليجي..
يقول في هذا المضمار (وقد شهد عثمان عصر هذا النظام (نظام الشورى) وابتداء التحول إلى حكم العامة بدلاً من حكم الخاصة... ثم يستنتج قائلاً: ولذلك لم يكن غريباً أن ينهج علي في الحكم نهجاً آخر، تمثّل في طريقة الشورى على وجه الخصوص فبينما اعتمد أبو بكر وعمر على خاصة أهل الرأي في المدينة، وبينما ارتكز عثمان على حزب بني أمية من ذوي قرباه، إذا بعلي ينصرف عن هذا وذاك ويعتمد على جمهور الأمة الإسلامية كما لم يفعل خليفة ممن سبقه، وإذا به يجعل أهل المشورة في أخطر أمور الدولة هم آلاف الأفراد لا آحادهم وجنود الجيش لا قواده)(57).
وعلى رغم هذا الرأي الايجابي إلا انه ظلّ يردد عبارة ينكلسون التي قالها عن أمير المؤمنين (تنقصه الحنكة السياسية)(58) ويظهر أن هذه المقولة قد ترسخت في أذهان الكثير من المؤلفين منهم حسن إبراهيم حسن في كتاب تاريخ الإسلام السياسي، فكان لابدّ من مناقشتها بشيء من التفصيل.
1) إن مقولة (ينكلسون) وغيره من المستشرقين سببها هو تجاهل الإمام أمير المؤمنين(ع) لرأي المغيرة بن شعبة عندما أشار عليه بالابقاء على معاوية وابن عامر وغيرهما من الولاة حتى تستقيم له الأمور، وبعده يكون له الخيار إما الإبقاء عليهم أو اعفاؤهم، فلم يبال الإمام برأيه.. وكان له دواعي واسباب في اتخاذه قرار الرفض ذكرها المؤرخون بالتفصيل.
2) صحيح إن الإمام كان قليل المشورة، لا لأنه لا يعطي اعتباراً للشورى، بل لأنه يرى النص مقدماً على الشورى. وهذا ما يقول به جميع العلماء بلا اختلاف في مذاهبهم الفقهية. فلا وجود للشورى في مقابل النص.
وكان الإمام يأخذ بالنص في الكثير من المواقف ويستشير فيما لا نصّ فيه، واستشارته كاستشارة النبي(ص) هي من باب ترطيب لنفوس أصحابه.
لنستمع إلى الإمام في إحدى خطبه كيف يحتج بالكتاب أمام طلحة والزبير عندما جاءا إليه وعاتباه لأنه لم يستشرهما، فقال لهما الإمام:
(نظرتُ إلى كتاب الله، وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فأتبعته ونظرتُ إلى ما استنّ النبي(ص) فأقتديته، فلم احتج في ذلك إلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكمٌ جهلته فاستشيركما وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما)(59).
يؤكد الإمام من خلال هذا النص انه مع الشورى بشرط عدم وجود نص من القرآن الكريم، فإذا ورد النص فلا معنى للمشورة لأنه يجب أن يعمل بما يمليه عليه النص وكذلك كان يفعل رسول الله(ص) فكان يستغني عن المشورة في الأمور التي نزل فيها الوحي، أما اكثاره(ص) للمشورة فيعود إلى أسباب أخرى لا دخل لها بالمشورة من قبل تعويد المسلمين على المشورة، واشعارهم بأهميتهم وأهمية آرائهم.
ومن جواب أمير المؤمنين(ع) نفهم أنه لم يكن مستغنياً تماماً عن المشورة بل كان يلجأ إليها كما يقول صلاح عبد الفتاح الخالدي: (كان يلجأ إلى الشورى كلما أعضل عليه أمر)(60).
1) هناك تعليل (للماوردي) ذكره عن قلة مشاورة أمير المؤمنين(ع) لاصحابه يقول فيه: (لأنه لم يبق في عصره عديلٌ يشاوره، وقيل لأنه كان شاهد استشارة قريبة فاكتفى بها)(61).
2) أما ما يقال انه كان ينتهج نهجاً آخر في الشورى، وهو طرح الأمور على الناس بصورة عامة، فهذا صحيح، إذ أن من ابرز أهداف الشورى هو معرفة رأي العامة وجمع كلمتهم والحفاظ على الألفة، وهو ما كان يقوم به رسول الله(ص) وقد كانت الظروف السياسية في عهد الإمام تستدعي هذا النوع من الشورى حيث كانت القلاقل والاضطرابات تسود المجتمع الإسلامي فكان أحد أساليب جمع الكلمة هو طرح الأمور على عامة الناس لابداء رأيهم فيها، كما وأن نهج الإمام أمير المؤمنين(ع) هو الرجوع إلى رأي الأمة، وليس إلى رأي النخبة، وهذا هو الفارق الكبير بين شورى أمير المؤمنين(ع) وغيره.
موارد شاور فيها أمير المؤمنين(ع)
أورد المؤرخون صوراً عديدة عن مشاورات أمير المؤمنين(ع) فيما يأتي بعضها:
1) الإبقاء على ولاية أبي موسى الاشعري:
فكان ابقائه لأنه شاور مالك الاشتر حوله فكان رأي الاشتر الإبقاء عليه فأبقاه ولربما كان رأي الإمام هو عزله لما عرف عن ضعفه وتذبذبه .
جاء في تاريخ اليعقوبي (عزل عـــمال عثمان عن الـــبلدان خلا أبي موسى الاشعري، كلـــّمه فيـــه الاشتر، فأقـــرّه)(62).
2) عزل قيس بن سعد عن ولاية مصر:
بعد أن انتشر خبر قيس بن سعد وانه يكاتب معاوية، وأن معاوية يبعث إليه بالهدايا كادت تقع الفتنة في صفوف أصحاب أمير المؤمنين(ع) مطالبين إياه بعزله فجاءه عهد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب فطالبوا بعزله، فدعى أمير المؤمنين(ع) الحسنين، وتشاوروا حول هذا الأمر فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، إعزل قيساً عن مصر فقال أمير المؤمنين(ع) إني والله ما أصدق بهذا عنه فقال عبد الله: أعزله فإن كان هذا حقاً لا يعزلك)(63) أي لا يتركك فعزله تجاوباً مع رأي الأكثرية بينما كان رأيه عدم عزله كما يظهر من النص المذكور.:
3) المسير إلى الشام لحرب معاوية:
ذكر نصر بن مزاحم: (لما أراد علي السير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والانصار، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فانكم ميامين الرأي مراجيح الحكم مقاويلٌ بالحق، مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم)(64).
فقال الأصحاب واحداً بعد آخر وأبدوا رأيهم موافقين للمسير فاتخذ الإمام قرار الحرب ضد معاوية.
4) قتاله للخوارج:
لم يكن أمير المؤمنين(ع) يريد قتال الخوارج، بل كان يعدّ العدّة لمقابلة معاوية الذي كشف عن زيفه ومكره في قضية التحكيم، والذي كان يبعث بالجيوش للإغارة على المدن القريبة من الشام كالانبار، إلا أن تصاعد ارهاب الخوارج وقتلهم لعبد الله بن خباب أثار أصحاب أمير المؤمنين(ع) فجاؤوا إلى الإمام وقالوا له: علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سِرْ بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدوّنا في أهل الشام. وقام إليه الاشعث بن قيس وكلمه بمثل ذلك، فأجمع علي على ذلك وخرج(65).
فكانت - معركة - النهروان التي قضى فيها على الخوارج عن بكرة أبيهم.
نلاحظ في هذه القضية كيف اختار أمير المؤمنين رأي الأكثرية من أصحابه الذين كانوا يريدون مقاتلة الخوارج ولو لم يفعل ذلك لكان قد ازداد الشقاق في جيشه.
5) مقاتلة الخريت بن راشد:
(الخريت بن راشد) من الذين خرجوا علىالامام أمير المؤمنين(ع) وتحصنوا في مدينة الأهواز فاجتمع حوله علوج من أهل الاهواز - كما يقول ابن الأثير في الكامل - (66).
فارسل إليه الإمام معقل بن قيس ووصاه: إتق الله ما استطعت ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبّر فإن الله لا يحب المتكبرين(67).
فانهزم الخريت أمام معقل ثم انه هرب إلى ادغال البحر، فكتب معقل إلى أمير المؤمنين يخبره بنصر الله له ويطلب منه ماذا يصنع بالخريت؟ (فقرأ علي الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرىان تأمر معقلاً أن يـــتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه، فكتب إلى معقل يثنـــي عليه وعلـــى من معه ويأمر باتباعه وقتله أو نفيه)(68).
فأخذ الإمام رأي الشورى وأمر معقل بتعقيبه حتى تم قتله على يد النعمان بن صهبان الراسبي.
6) نصب زياد بن ابيه والياً على فارس:
يذكر ابن الأثير: لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس على علي طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج، فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم، وأخرج أهل فارس سهل بن حنيف، فاستشار علي الناس فقال له جارية بن قدامة: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عام بالسياسة كافٍ لما ولي؟ قال: من هو: قال: زياد، فأمر علي بن عباس أن يولي زياداً(69).
وهذه مشورة من قبل الإمام تمت إنسان خبير مطلّع على الأمور، ومطلع على أحوال الأمراء والقادة العسكريين، فسارع الإمام إلى الأخذ برايه لأنه نابع عن خبرة وتجربة.
النتيجة
في النماذج التي تقدمت كان الإمام أمير المؤمنين(ع) يأخذ برأي الشورى حتى لو كانت مخالفة لرأيه، وفي بعض المرات كانت المشورة مطابقة لرأيه، لكنه عندما يجد النص لا يأخذ بالشورى كما ورد في حديثه مع طلحة والزبير.
إذن لابد عند الأخذ بالشورى ملاحظة الجو السياسي العام فلربما كان للشورى فوائد غير مسألة الاستفادة من الرأي. لأن الإمام(ع) هو غني عن آراء الآخرين، لكنه لا يستغني عن الشورى عندما تكون وسيلة لجمع الصف وتربية الأصحاب ونزع فتيل الفتنة.
إن الوقوف على أرضية لفهم ابعاد حكومة الإمام علي(ع) ورصد ستراتيجيته وايديولوجيته وفق المعطيات التاريخية يوقفنا على حقيقة أن الحكومة في عهده كانت حكومة دينية متكاملة تعتمد على الرؤية الإلهية الشمولية لابعاد الكون والإنسان والحياة وانه لا مجال لحكم العقل النظري والعملي بدون الرجوع إلى النص القرآني والنص النبوي وهذا لا يعني بالضرورة عدم إعمال الاستشارة والخبروية البشرية من قبل المتخصصين في تلك الدولة وخصوصاً في المجال العسكري والاداري حـــيث تضمنت الوثيقة التي بعث بها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر (رض) والي مصر) أهم الأفكار والمفاهيم السياسية والاقتصادية وشؤون الحكم والإدارة بل من أهم الركائز الفكرية والسياسية والادارية التي بعث بها رئيس دولة إلى أحد ولاته(1) وقد تضمن هذا العهد رسم الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يجب أن ينتهجها الحكام في كل عصر على أساس المنطلقات الإنسانية الإسلامية التي تهدف إلى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظيماً دقيقاً وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي على أساس العدل والحرية والمساواة سواءاً كان تعامل الحاكم مع الشعب أو مع رجال السلطة وفق سياسة تكفل للجميع الاستقرار والتقدم، وكما يوضح أسس العلاقات الخارجية مع العدو والصديق بشكل يحفظ للأمة كرامتها وعزتها واستقلالها التام. والذي يمكن ملاحظته في الدولة التي تشكلت في عهد الإمام علي(ع) هي دولة قائمة على النظام المركزي وهو خضوع المرؤوس للرئيس وتلقي تعليماته وتنفيذها من جهة أخرى (2) لكن طبيعة الدولة في ذلك الوقت لم يكن يشبه الدولة كما هي عليه الآن نظراً لأن الإقليم الممتد عبر مئات أو آلاف الكيلومترات لم يكن من السهل إيجاد وحدة متماسكة في الدولة الكبيرة ولأن النظام الجديد والاتصالات وانعدام الوسائل المطلوبة كان أحد الأسباب الرئيسية مما لم يمكّن الحكومة من إعطاء تعليماتها في كل لحظة للمرؤوسين والولاة والموظفين الحكوميين، لذا فقد كانت الدولة الإسلامية تعتمد (نظام اللاحصرية) أو (عدم التمركز) بحيث يتمتعون العمال الموظفون بصلاحيات واسعة جداً تخولهم اتخاذ القرار السياسي ولكن الخليفة يستطيع أن يتدخل في كل وقت في هذه الصلاحيات ومن هنا فهي - الدولة - تختلف عن (نظام اللا حصرية الحديثة) (deconcentation) تكون صلاحيات السلطة المحلية أوسع بكثير مما هي عليه اليوم ثم هي غير ثابتة لأن الخليفة يستطيع التدخل فيها عندما يشاء(3) فالدولة كانت أشبه بالكونفدرالية لكنها وحدوية تخضع لنظام تشريعي مركزي من قبل الحكومة الموجودة في العاصمة التي يقيم فيها الإمام علي وهي الكوفة آنذاك وكذلك يوجد تراتب هرمي تسلسلي فالسلطة تتمثل في خليفة المسلمين وهو الإمام علي(ع) الذي يصدر القرارات التشريعية ثم تنزل إلى السلطة التنفيذية والقضائية ثم إلى بقية المؤسسات والأدنى فالأدنى.
وإن من أهم الصعوبات التي تواجه الحاكم بعد توليه زمام الأمور هي مسألة تشكيل الوزارة وتوزيع الحقائب الوزارية في الدولة وتطعيم مؤسسات الدولة بالعناصر الكفوءة المختلفة والقادرة على تصريف الأمور(4) لذلك كان على الإمام علي(ع) أن يغير البناء السياسي والتشكيلة الوزارية التي كانت من قبله. فاعتمد على عزل العناصر الفاسدة واستبدل مكانها العناصر المؤمنة واصحاب السمعة الجيدة في الوسط الاجتماعي والسياسي والذين كان لهم بعد ذلك دور كبير في دولته وحكومته أمثال مالك الاشتر وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الوجوه المعروفة بالورع والإيمان. ثم انه من الركائز الأخرى التي انتهجها هو عدم انحجابه عن الناس والمؤمنين والجلوس لسماع مشاكلهم مع السلطة والموظفين مما يكون ذلك سبباً للمتابعة فضلاً عن وضع شرطه سرية ترصد حركات الموظفين والعمال الحكوميين مما يساعد الإمام على سياسة العزل والتنصيب وأيضا التأمين الاجتماعي للعاطلين والعاجزين عن العمل بحيث يصرف لهم من بيت المال راتباً شهرياً وانعاش الاقتصاد عبر نظام اقتصادي يتيح للفرد التملك ضمن سياسة إحياء الأراضي فكان الإمام علي(ع) يشجع على التنمية الاقتصادية والزراعية فضلاً عن إلغاء المحسوبية والرشوة والطرق الملتوية في نظام الحكم الجديد واعتماده على المساواة وإلغاء الحواجز العنصرية في سبيل مجتمع متكامل.
الشريعة ونظام الحكم
إن جدل الدين والدولة كان قديماً قدم الإنسان بحيث لم تكن هناك فترة من الزمن خلت من هذا الصراع والجدل حول طبيعة الحكم في الدول هل الدين منفصل عن الدولة أو أن الدين والدولة مندمجان معاً يقول أحد الباحثين: فالاتجاهان الاساسيان هما الاتجاه البشري والاتجاه الإلهي، الأول يرى أن التشريع يضعه البشر بينما الثاني يرى أن التشريع يجب أن ينزل من عند الله عز وجل(5) ومن المعروف أن حكومة علي(ع) كان شكلها هو دمج الدين والدولة وعدم فصلهما فالدين هو المحرك للدولة وهو الذي يحدد سياستها الداخلية والخارجية، وكذلك النظام الاقتصادي والقضائي والعسكري والاجتماعي لأن طبيعة الدين الإسلامي هو دين ودولة وليس مجرد دين منعزل عن الممارسة السياسية لأن ذلك يبدو واضحاً من حاكمية الرسول(ص) على الناس وبناء الدولة الإسلامية التي كانت تنطلق من رؤية سياسية عالمية ويدلنا على ذلــك أن الصراع العسكري والحروب والغزوات والاسر، والعهود، والمواثيق، وجبي الاموال، وغير ذلك ما يدل على أن الفكر الديني هو فكر سياسي ديناميكي وليس مجرد طقوس ومراسيم فردية، وهذا يدل على أن الدين لا ينفصل عن الدولة والدولة لا تنفصل عن الدين وكل منهما يتحرك نحو الآخر كذلك في حكومة الإمام(ع) حيث أن كل أمر أو نهي صادر عن الخليفة (الشرعي) يمثل امراً أو نهياً مولوياً لانه يدور مدار الحكم الشرعي ويرى الإمام(ع) أن المشرّع الوحيد هو الله عز وجل وقد انزل دينه كاملاً إلى رسوله(ص) فجاء القرآن شاملاً لكل ما يلزم البشرية التي لم يتركها الله مهملة وقد بلغ الرسول(ص) عن ربه كل ما كلفه بتبليغه فلم يقصر(6) وقد جاء عنه(ع) في نهج البلاغة (إن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى ولم يدعكم في جهالة ولا عمى وانزل عليكم الكتاب تبياناً لكل شيء وعمر فيكم نبيه أزماناً حتى أكمل له ولكم فيما انزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه وأنهى إليكم على لسانه محابه من الأعمال ومكارهه ونواهيه وأوامره وألقى اليكم المعذرة واتخذ عليكم الحجة وقدم إليكم بالوعيد وأنذركم بين يدي عذاب شديد)(7) فمن هذا النص نستطيع أن نستنتج أن الحكم ينطلق من رؤية قرآنية إلهية معتمدٌ على النص القرآني والسنة النبوية التي وفرت للإنسان كل ما يحتاجه بعلاقته مع الله والإنســان والطبيعة فكانت رؤية الإمام هو أن الدولة الإسلامية تحقق للإنسان سعادته الدنيوية والأخروية لأنها منسجمة مع نظام الكون الكلي الذي ينساب من الأفق الأعلى لسد حاجة الإنسان فالشريعة توفر القواعد العامة والخطوط الرئيسية عن أصول الحكم مع القابلية على انسجامها مع الزمان والمكان. فقد جاء الإسلام كما يقولون بشريعة، أي بعدة أحكام قانونية تنظم شؤون الحياة الدنيا (من أحكام مدنية وجنائية وأحوال شخصية... الخ) لذلك كان طبيعياً أن يعنى باقامة دولة وحكومة تعنى بتنفيذ تلك الأحكام القانونية ولقد قال تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)(8) (9).
فالحكومة الإسلامية في عهد الإمام علي(ع) هي انعكاس عن الشريعة وهي (أي الشريعة) انعكاس عن الله فالله متمثل في حكم الدولة والدولة تمثل الله هكذا كانت رؤية الإمام في الحكم وانه لا يتخذ قراراً أو حكماً إلا ويقدم أمر الدين على كل حساب ولذلك ربما يوصف بأنه غير سياسي كما جاء قبل عن بعض الكتاب بقوله: كان الإمام علي بطلاً شجاعاً مظفراً في جميع المعارك التي قادها أو خاضها قبل خلافته أما في خلافته فقد فارقه الحظ في الحرب وكذلك لم يكن الإمام علي(ع) موفقاً في السياسة. إن السياسة أمر دنيوي مبني على الدهاء والمكر بعيداً عن المرؤة والصدق وكان من سوء حظ الإمام علي(ع) أن كان خصومه وخصوصاً معاوية وعمرو بن العاص رجالاً دنيويين لا يبالون امراً ولا نهياً من أوامر الدين ونواهيه ولقد كان الإمام علي يعرف ذلك من نفسه ومن خصومه ويعد ذلك سبباً لقلة نجاحه في السياسة والحكم(10). إذن فالسياسة التي تتعارض مع مفهوم من مفاهيم الدين لا يكون لها أي اعتبار في نظر الإمام لانه كان يريد أن يحقق ظل الله في الأرض واقامة العدل والحرية وهي تتنافى مع قيم الفساد والرذيلة والخبث والدهاء والمكر والوصولية على حساب الدين والإنسان، فمعاوية كان يصل إلى اهدافه وغاياته عبر منظومة سياسية جوهرها مفهوم الغاية تبرر الوسيلة مع عدم عنايته بقيم الدين لأنه رجل دنيوي بخلاف الإمام علي(ع) فانه كان يرى أن الحكومة الإسلامية لابد أن تصل إلى غايتها بوسيلة شرعية شريفة معتمدة على الأخلاق والقيم العليا وانه لا يعتمد في سياسته على المنطق البراغماتي (الذرائعي) الذي يبرر الوسائل من اجل الوصول إلى الغاية مثلما اعتمده خصمه معاوية بن أبي سفيان في حكومته ولذلك نرى أن الإمام ينتقد هذا المبدأ بشدة ويقول: (ليس معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر)(11). أي أن معاوية يتبع سياسة تبرير الوسائل وهو ما يتنافى ورؤية الإمام لأنها تختلف مع المفاهيم الإسلامية إذ يعتقد أن الدين هو غاية الغايات وأن السعادة الحقيقية للمجتمع البشري تكمن في التمسك بمبادئ الدين الحنيف.
علاقة الحاكم بالشعب
إن علاقة الحاكم بالشعب في حكومة الإمام علي(ع) كانت تنطلق من رؤية أن الحاكم هو أحد أفراد المجتمع واحد منتسبيه بل أحد اكثر المجتمع مسؤولية وواجبية لأنه مسؤول أمام الله وأمام المجتمع بأكمله وبذلك تلغى كل الحواجز والاعتبارات التي تحول دون الاتصال بالشعب وتفهم مشاكله ومسؤولياته ولم يكن منصبه في الدولة يمثل له شيئاً ما لم يحقق الهدف منه وهو العدالة بين المجتمع واقامة الحق بينهم وهو بذلك يمثل الطراز الأعلى والأمثل من الحكام الذي نادى الحكماء والفلاسفة به ويحدثنا ابن عباس عندما لقي الإمام علياً(ع) في الكوفة وهو يخصف نعله فقال له الإمام: يابن عباس ما قيمة هذا النعل فقال لا قيمة له فقال الإمام علي: إن هذا النعل أفضل من خلافتكم عندي إلا أن اقيم حقاً أو ادفع باطلاً(12) ورغم المصاعب التي لاقاها الإمام من شعبه وخذلانهم له إلا انه لم يكن سبباً في عدم الرأفة بهم والتودد إليهم، رغم دعائه بان يستبدله الله بغيرهم ويستبدلهم بغيره إلا انه كان مثالاً في كل الميادين سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل حتى مع المعارضة كما في معركة الجمل والخوارج أمثال الزبير وطلحة وعائشة زوج النبي(ص) حيث قادوا حملة عسكرية ضده متهمينه بقتل عثمان ورغم كل ذلك نجده يتعامل معهم بمنطق انساني بحت ولم يستخدم نفوذه السياسي عليهم فحاورهم والقى الحجج عليهم ولم يبدأ بقتالهم حتى بدأوا بقتاله وبعد انتصاره عليهم تجاوز عنهم وارجع عائشة مع اخيها في عدة من النساء(13). إن الإمام كان ينطلق من رؤية أن البشر متساوون في الخلقة فهو لا يفرق بينهم في المعاملة والحقوق على أساس اللون أو القومية أو الغنى والفقر وكلهم سواء أمام القانون ولم يستثنِ نفسه من الدستور حيث ما نراه اليوم في الحكومات من امتيازات وحصانات خاصة للرئيس أو الحاكم، فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام القانون في حالة تقصيره وعدم أدائه للحكم بصورة صحيحة بل يعتبر ذلك خيانة عظمى كما جاء في نهج البلاغة وعند اقتراح الناس عليه أن يميز في العطاء بين الكبير والصغير يقول (لو كان المال مالي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله)(14) ويعقب أحد الكتاب على هذا المقطع فيقول: ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر المساعدة، وكان موقفه عند ما أبلغ أهل الكوفة انه لن يأخذ حصته من العطاء حيث قال: (يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن)(15) إنها كلمة عظيمة تستحق الوقوف عندها والتأمل في هذا الرجل العادل الذي لم يخرج من الدنيا إلا بمدرعته التي طالما كان يستحي من ترقيعها ويؤكد على انه غير مستبدٍ وليس مرتشيا ولا يرضى بالفساد والخيانة مطلقاً. ونراه مع (عبد بن زمعة) عندما أتاه يطلب مالاً إذ قال له: إن هذا المال ليس لي ولا لك إنما هو فيء للمسلمين(16).
فهو يرى انه موظف مسؤول أمام أموال المسلمين وأنها مسؤولية مقدسة لا يمكن التفريط بها وأن التقصير خيانة وجريمة كبرى والحفاظ على أموال المسلمين واجب مقدس. والوثيقة التي بعثها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر تشعرنا بأنه كان ناذراً نفسه لخدمة الشعب فيقول فيها (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فانك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فانه لا يَدَيْ لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته) في هذا المقطع من عهد الإمام(ع) لمالك الاشتر نجد معاني سامية وعظيمة قلما توجد في حاكم من الحكام. إن هذه الوثيقة هي اعلان عن حقوق الإنسان والمواطنة تجاه السلطة أو الحكومة بشكل عام واعطاء الحقوق للفرد تجاه الحاكم والحاكم تجاه الفرد وتحديد مسؤوليتهما تجاه الآخر وبهذا تحكي الوثيقة مدى العلاقة الإيجابية التي تربط الرعية بالحاكم والعكس وهذا عين ما نراه من الممارسة العملية التي كان الإمام علي(ع) يمارسها تجاه أفراد شعبه من الرأفة والحنو والتودد حتى مع الد اعداءه بل مع قاتله عبد الله بن ملجم. وكان يشارك الناس في طعامهم وشرابهم وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمعوزين ليلاً حاملاً كيس الدقيق على ظهره وطائفاً بين الازقة ليتفقد من لا عهد له بالقرص ولا طمع له بالشبع كان يعطف عليهم كالأب على أولاده بل أكثر، وهم ربما لا يعرفون انه الخليفة ولكن كل ذلك من أجل أن يكون واقعياً في خطابه وكلماته وإيمانه بالله ورغم كل سلبيات الرعية وتقصيرها تجاهه إلا انه لم يكن سبباً ليحول دون الرأفة والرحمة بهم وإن رجلاً مثل الإمام علي ينزل من علياء سلطته إلى بيوتات الناس ليسأل عنهم وعن أحوالهم ويتفقد صغيرهم وكبيرهم حريٌ أن يكون قدوة ومثالاً لباقي الحكام ولكل الإنسانية إذ أن قائد دولة عظمى بل أعظم دول الأرض في عهده الذي يتحمل مئات المسؤوليات الثقيلة في إدارة بلاده يشعر بمسؤوليته إلى هذه الدرجة بحيث يخرج إلى شيخ مقعد اعمى ويدير شؤونه بنفسه الشريفة ويضع ذلك جزءاً من برنامجه اليومي وبعيداً عن كل أنواع التكبر والاستنكاف يطهر وينظف ذلك الشيخ ويستبدل اثوابه كل يوم بغيرها ويطعمه حتى يشبع. نعم لا وجود لهكذا معاملة وسلوك في تاريخ كل القيادات إلا القيادات الإلهية فقط.(17)
الرؤية السياسية في الحكم
إن الرؤية السياسية التي تبناها الإمام(ع) في دولته كانت ذات آليات متطورة تبعاً للمنهج الإسلامي وتصوراته ولما يمتلك من خبرة دينية وعسكرية واجتماعية جعلته مؤهلاً لأن يكون صاحب منهج متميز في إدارة شؤون الدولة عسكرياً واجتماعياً لذا (يرى أمير المؤمنين أن بقاء القيادة السياسية الأولى للدولة في العاصمة وعدم خروجها للحرب اصلح فبقاؤها لإدارة شؤون الجنود والعسكر في الولايات وإدارة بيت المال واقتصاديات الدولة وبسط العدل والقضاء والعمل لاستقرار الدولة والمجتمع وتقدمهما بينما تذهب القيادات العسكرية لمحاربة العدو وقتاله)(18) لذا ربما عورض على هذه السياسة من قبل مجتمعه الذي يرى انه لابد من الخروج معهم لتعزيز موقفهم الميداني في الحرب لكنه كان يردهم ويوبخهم عن رفضهم لسياسته التي يراها الاصلح في تطور مجتمعهم خصوصاً والدولة عموماً فيقول (ما بالكم لا سددتم لرشد ولا هديتم لقصد أفي مثل هذا ينبغي لي أن اخرج وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ارضاه من شجعانكم وذوي باسكم ولا ينبغي لي أن ادع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين ثم اخرج في كتيبة اتبع أخرى اتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ وانما أنا قطب الرحا تدور علي وأنا بمكاني. إلى أن يقول: هذا لعمر الله الرأي السوء)(19) إن رئيس الدولة لابد أن يقيم في العاصمة لأنه يمثل هرم النضوج السياسي الذي إذا ما تعرضت الدولة لحادث لابد أن يجد حلاً سياسياً سريعاً للخروج منه. وهذا ما هو عليه الآن الدول المتقدمة والحديثة في أن الرئيس يعتبر الموظف الأعلى وتناط به مسؤولية الإدارة العامة للدولة. ويلخص أحد الكتاب أهم الركائز الأساسية لسياسة الدولة الإسلامية عند الإمام علي(ع):
أولاً: إدارة كل شؤون الدولة.
ثانياً: منع الاضطراب السياسي للدولة في حالة الهزيمة وانتقال السلطة عند موت رئيس الدولة.
ثالثاً: منع التمرد والعصيان والانقضاض على الدولة وحفظها على ذلك.(20) هذا ونجد أن الإمام كان موضع استشارة الخلفاء في الدولة الإسلامية حيث استعان عمر بن الخطاب إبان خلافته على المسلمين برؤية الإمام السياسية حينما أراد قتال الفرس فقال الإمام له: (فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب واصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من اطرافها واقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك) وكذلك مشاورة عمر بن الخطاب له في الخروج إلى غزو الروم فيقول (إنك قد تسر إلى هذا العدو بنفسك فتقلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفه - عاصمة - دون اقصى بلادهم ليس بعدك رجع يرجعون إليه فابعث لهم رجلاً محرباً واخفر معه أهل البلاء والنصيحة فان اظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى كنت رداءً للناس ومثابة للمسلمين.(21) وهذا يدل على أن نظرة الإمام للدولة كانت تتحرك وفق معطيات سياسية دولية رشحته أن يكون قائداً للدولة رغم كثرة المعارضين على سياسته ومنهجه ورغم عدم وعي القاعدة الجماهيرية بالمشروع السياسي الذي رسمه الإمام للدولة الإسلامية الكبرى.
إن الإمام علي(ع) كان من الممكن أن يمارس الاوتوقراطية أو الحكم الواحد ضد الشعب كما مارسه بعده الحكام والملوك ضد شعوبهم حتى ينبسط له الحكم والإدارة بصورة اكثر لكنه كان يرى أن الحكم لابد أن ينطلق من رؤية انسانية بحتة اساسها العدل وأن لا يتجاوز الثوابت الإسلامية للحاكم مهما كانت العقبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فكان من اللازم أن تحصل اخفاقات سياسية أو عسكرية نتيجة عدم نضوج الوعي الجماهيري ولذلك نرى أن الإمام اعلن عن ذلك بصراحة بعد اتهامه بأنه عديم الخبرة بالحرب قائلاً: (وافسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش أن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب لله ابوهم وهل أحد منهم اشد لها مراساً واقدم فيها مقاماً مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع)(22). وهكذا نرى الإمام في اكثر من موقف أن رؤيته السياسية تنطلق من معرفة جيوسياسية تجعل رأيه لا يجانب الصواب، وأن أفقه المعرفي جعله قادراً على استيعاب مجمل القضايا التي كانت تمس الدولة على المستوى الخارجي والداخلي كما نرى ذلك في قضية غزواته وحروبه في صفين والبصرة والنهروان وكيف انه وصلت بشائر الانتصار عندما اقترب القتال إلى رواق معاوية ولكن الدهاء السياسي لمعاوية ورفع المصاحف جعل من المقاتلين ينقسمون فيما بينهم ويوقفون القتال ويؤثرون على قرار الإمام(ع) ومثل هذه الوقائع والهزائم كثير مما يؤكد قصور القاعدة الجماهيرية وعدم النضوج الفكري السياسي.
الحكومة ومشروع السلام
إن قضية السلام لم تكن غائبة عن حكومة الإمام علي(ع) بل كانت حاضرة في كلماته وخطبه وممارسته في الحكم نظراً لما يمثل السلام من أهمية عالمية في الإسلام السياسي وتأثيره على الشعوب وتقدمها فشغلت باله وهمه في تحقيق هذا المشروع ضمن متطلبات الدولة وأهدافها. فالامام لم يكن يرى من الحرب إلا وسيلة لتحقيق هذا المشروع لتسود قيم الإنسانية والعدل في المجتمع الإسلامي وليحقق اكبر قدر ممكن من عزة وكرامة الأمة الإسلامية واستخدم لغة الحوار السياسي الذي يخلق جواً من الود والرحمة مما يذيب حواجز الخلافات والتشنجات فعالج قضية التحكيم بين الدولة الإسلامية ومعاوية على أساس الرضا بميثاق السلام الذي عقده بالرغم من عدم قناعته الشخصية بالتحكيم بالرغم من قناعته كذلك من خديعة معاوية لهم فيجيب الإمام على الجبهة التي تعارض الموافقة على قبول التحكيم بأنه - التحكيم - وثيقة سياسية صدرت من القائد الأعلى للدولة مفادها الوفاء لهم بعدم قتالهم وتأجيل ذلك إلى اشعار آخر ومستدلاً بقوله تعالى (وافوا بالعقود) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم وكيلاً إن الله يعلم ما تفعلون). وأبى أن يرجع وخرجت عليه الخوارج بسبب خلافهم حول الصلح ورغبتهم في فسخ وثيقة التحكيم وعدم احترامها فلم يغير من مبدئيته ذرة(23) فلم يكن من الممكن أن يخالف القانون الذي يؤمن به وينطلق به في رؤيته السياسية ولأن تداعيات الأحداث السياسية والاجتماعية ومدى تأثيرهما على سيسيولوجيا المجتمع جعلت من الإمام يتعامل مع الأحداث بواقعية مع ما يمتلكه من صعوبات حقيقية تجاه مجتمعه الذي كان يراهن على فشله وعدم قدرته على استيعاب مشروعه الذي انفق عليه الغالي والنفيس ويلخص بعض الباحثين في هذا الصدد أهم الآراء التي تدور حول السلام عند الإمام(ع) استناداً إلى الوثيقة التي بعثها إلى مالك الاشتر:
اولاً: الموافقة على السلام والصلح وعدم رفضه بشرط أن يكون فيه رضا الله سبحانه وتعالى فهذا الشرط الرئيسي.
ثانياً: أهمية قبول السلام والصلح تزاد بالمنافع التي يوفرها هذا السلام من راحة للجيش والجنود والارتياح النفسي والاطمئنان للحاكم واستقرار الوضع الأمني للبلد.
ثالثاً: الحذر الشديد من العدو بعد الصلح.
رابعاً: الوفاء بالمعاهدات وبنود واتفاقيات السلام وعدم نكثها.
خامساً: عدم نكث ومكر وخداع وخيانة العدو وإنّ احترام المعاهدات والمواثيق والعمل بها مشترك بين كل الناس ولا يختص بها المسلمون.
سادساً: يجب أن تكون المعاهدات ومعاهدات السلام صريحة وواضحة ودقيقة وإحكام بنود الصلح حتى لا تؤوّل، والالفاظ يجب أن تكون معينة ومقطوع ما تعنيه.
سابعاً: عدم تأويل بنود والفاظ الصلح والمعاهدات بالتأويلات الخفية لصالحك من جانبك.
ثامناً: عدم فسخ العقد والمعاهدة بغير حق بسبب ازمات الدولة.(24)
وهذه المبادئ هي ما تضمنته الوثيقة المبعوثة إلى والي مصر مالك الاشتر مبتدئاً بقوله(ع) (لا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك لله فيه رضا فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك ولكن الحذر الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن إلى آخره...).(25)
فصل الجهاز القضائي عن الأجهزة الأخرى
إن من يقرأ حكومة علي(ع) قراءة موضوعية يرى فيها من التطور والتحديث ما هو موجود في الدول الحديثة التي جاءت عبر تراكم خبرات بشرية على مدى مئات أو آلاف السنين ويقول أحد الكتاب: (درج القدماء في الشرق والغرب على تولية القضاء رجالاً ذوي صفات تعنيها مصالح هؤلاء الحكام بأوسع معانيها ومصالح الطبقات التي تتبادل مع حكام هذه المصالح حتى إذا ساوى القانون بين طبقات الناس عطل القاضي هذه المساواة وحكم بهوى الحكام وأصحاب الامتيازات وتاريخ أوربا في القرون الوسطى يفيض بأخبار هذا النوع من القضاة وكذلك تاريخ الشرق العربي أيام الأمويين والعباسيين والمماليك والأتراك وغيرهم وأن الجرائم التي ارتكبها القضاة والمنحرفون هنا وهناك باسم العدالة لَمِمَّا يخزي جبين الإنسانية وليستوجب اللعنة على رؤوس أولئك القضاة(26) إن ما فعله الإمام(ع) هو فصل الجهاز القضائي عن السلطة وتأمين الحصانة الكاملة للقاضي بحيث لا يتأثر بحكمه القضائي أي جهة أخرى وهذا بالضرورة يعطي للقانون صفة النزاهة والموضوعية في الأحكام الصادرة من ذلك الجهاز ويؤمن للمجتمع الحقوق المدنية الكاملة وكانت السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية موحدة غير منفصلة في زمن علي فإذا به يخطو خطوة مبدئية إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية كي يكسب القضاة حصانة ويؤمنهم من عقاب السلطة(27) وهذا ما نراه في الوثيقة المبعوثة لمالك الاشتر بقوله(ع) (واعطه - القاضي - من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من حاجتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً)(28) وبهذا يكون الإمام أحد المؤسسين للدولة المدنية الحديثة التي تكون فيها الحريات مكفولة مع حماية القانون. وهذا ما نراه بالضبط في الدولة الحديثة عند (مونتسكيو) قبل الثورة الفرنسية التي دعا فيها إلى المناداة بمبدأ الفصل بين السلطات حتى لا تتأثر كل سلطة بالأخرى ولم يقصد (مونتسكيو) الفصل التام بين السلطات وانما الفصل المرن بمعنى أن يكون هناك توازن وتعاون بين السلطات الثلاث في تحقيق الصلاح العام(29) وبذلك دعا إلى أن القانون هو الوحيد القادر على حماية الأفراد من السلطة التي تمثل الجهاز التشريعي والتنفيذي وحماية من الأفراد أنفسهم وبذلك يكون المؤسس الأول لدولة القانون وهو ما نراه من سيادة المساواة والعدل في دولته التي لم يشهد التاريخ مثلها وهكذا يكون علي(ع) قد سبق إنسان العصور الحديثة.(30)
ولما كان الجهاز القضائي له من الأهمية بمكان كان علي(ع) يوليه عناية خاصة لأنه يعتقد أن العدل بين أفراد المجتمع هو المنطلق الأساسي في إيصال المجتمع إلى تحقيق الأمن والسعادة الحقيقيتين فترجم ذلك عبر وقوفه أمام المحكمة بوصفه متهماً من قبل بعض الرعية والذي زرع بذلك الثقة في نفوس الناس بالعدل وعدم المحسوبية في حكومته (سلام الله عليه) وعدم ممارسة سطوته ونفوذه بوصفه حاكماً ورئيساً ليدشن بذلك بعد الرسول(ص) سيادة القانون وفصله عن بقية الأجهزة في الدولة واعطاءه كياناً خاصاً مقدساً لا يجوز التعدي عليه، ولو كان الرئيس أو الخليفة وكذلك ممارسته العملية في المجتمع بوصفه قاضياً يساعد القوة القضائية على حل المشاكل القانونية والجنائية لأن عليا اشتهر على لسان الرسول(ص) والأصحاب في انه اقضاهم وبذلك كان القضاء قوة حقيقية لضبط المجتمع في عهده وفض النزاعات وحل المشكلات والتأزمات الاجتماعية ورغم ذلك كان متسامحاً هو بالذات عند التعرض لقضية الحكم القضاء فنراه لم يقض في أية حادثة مطلقاً دون تحقيق وحتى بعد التحقيق لم يظهر رأيه بصورة فورية بل كان يؤخر إظهار رأيه قدر المستطاع رأفةً ورحمةً بالمتهم(31).
المعارضة ونظام الحكم
كان الإمام علي يتعامل مع مفهوم المعارضة بوصفه حالةً طبيعية ضرورية في المجتمع الإسلامي من منطلق انساني بحت فحرص على محاورتهم وبحث أسباب معارضتهم له مع تأمين الحماية الكاملة لهم ولأسرهم فنحن نرى تعامله مع معارضيه في حرب الجمل وحرب الخوارج حيث كان يذهب مع وفد من الصحابة أمثال عبد الله بن عباس أو مع مالك الاشتر أو غيرهم لفض النزاع والوصول إلى حل يضمن لهم ممارسة حياتهم الطبيعية داخل مجتمعهم فنرى ذلك في حرب الجمل عندما أراد الإمام علي قتالهم قال لطلحة عندما كان يريد قتاله: أولم تبايعني يا أبا محمد طائعاً غير مكره قال طلحة بايعتك والسيف على عنقي قال ألم تعلم اني ما أكرهت أحداً على البيعة ولو كنت مكرهاً أحداً لأكرهت سعداً وابن عمر ومحمد بن مسلمة أبوا البيعة واعتزلوا فتركتهم(32). النص هنا يوضح لنا أن الإمام كان لا يسلب من أحد إرادته أو مواطنته أو عطاءه رغم معارضته له وعدم الرضا بحكومته وهذا يدل على أن حكومته كانت حكومة شعبية منطلقة من آراء الأغلبية بالحكومة وأنه يتعامل بما نسميه اليوم (بالديمقراطية) (democracy) وهي حكومة الشعب وليس حكومة (اوتوقراطية) كما كان يحكمها معاوية مثلاً فحكومة علي(ع) كانت على طرفي نقيض من الحكومات التي سبقته وكذا حكومة معاوية التي كانت تتعامل مع المعارضين بالقتل والسجن والتعذيب كما هو الحال مع حجر بن عدي وجماعة من شيعة علي(ع) عندما قتلهم معاوية. وهكذا نرى أن توفير الأمن والحماية والسلام لأفراد الدولة والمنتسبين إليها يعد ضرورة حتمية فمهما كان المواطن معارضاً أو كارهاً للحكم ليس للحكومة عليه من سبيل إلا اللهم بأن يقود حرباً مسلحة ضد الحكومة فحين ذلك يجب على الحكومة ردع المتمردين وحفظ كيان الدولة وسيادتها الذي هو حق طبيعي لكل حكومة وبذلك كان المعارضون يلجأون إلى معاوية أو يذهبون إلى أقطار أخرى كالمدينة واليمن إلا أن معاوية حاول اغراء الكثير منهم وضمهم إليه عن طريق المال مما سبب بعض الضعف في حكومة الإمام علي، وقد انضوى تحت لواء معاوية كل من كان حاقداً على الإمام(33) ومن الذين التجأوا إلى معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب عندما خاف من إجراء القصاص والعقوبة بحقه من قبل الإمام لقتله الهرمزان غلام أبي لؤلؤة قاتل عمر وكذلك مصقلة بن هبيرة الشيباني عامل علي في إحدى خطط فارس وسبب ذلك أن مصقلة كان قد اشترى اسرى الخوارج من جماعة بن راشد السامي ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم فلما طالبه بن عباس بأداء الدين قال لو طلبت اكثر من هذا المال إلى ابن عفان ما منعني إياه(34). وهكذا نرى صلافة المعارضين على الحكومة وتجرأها في القتل والسرقة والارتشاء وغير ذلك فحكومة الإمام كانت صريحة في رفض أمثال هؤلاء من الحقائب الوزارية وإقالتهم حتى وإن التجأوا إلى معاوية الخصم الأول. لأن المعارضة لم تنطلق من رؤية موضوعية في معارضتها بل كانت ميولاً واهواء ونزوات شخصية على حساب الشعب وهذا ما رفضه الإمام علي(ع) لأنه كان همه الأول والأخير هو سعادة الشعب وتوفير القسط الأكبر من العدل والحرية(35) بل اكثر من ذلك حيث نرى أمير المؤمنين(ع) يحترم حقوق الإنسان السياسية إلى درجة منقطعة النظير عن غيره من الحكام والرؤساء كعفوه عن الخونة أمثال (عبيد الله بن الحر الجعفي)(36) عندما التحق بجيش معاوية في جوف الليل ذلك حين كانت نيران حرب صفين مشتعلة. وفي قوانين الحروب يعاقب مثل هذا الخائن بالإعدام واستطاع أن يقدّم عبيد الله خدمات كبيرة لمعاوية أما زوجته فكانت في الكوفة وتناهى إلى أسماعها خبر هلاك عبيد الله في المعركة فاعتدت عدة الوفاة وبعد ذلك تزوجت برجل من أهل الكوفة في الوقت الذي كان عبيد الله حياً في الشام وحين اخبر بزواج زوجته خرج من الشام ليلاً ووصل إلى الكوفة ودخلها ليلاً وتوجه فوراً إلى بيت زوجته وبعد حوار قصير اخبرته بزواجها. والتقى عبيد الله بأمير المؤمنين منكسا رأسه وعبيد الله يعلم أن علياً رجل الحق والعدل فانتهز الفرصة وقال هل أن خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين فأجابه الإمام واحضر زوجته وحل له مشكلته الشخصية إن هذا الموقف من حاكم الدولة تجاه أحد أفراد شعبه يعكس مدى عمق الوعي الحقوقي والإنساني تجاه الشعب من قبل علي(ع) بل تجاه الأعداء والمجرمين والخونة كل ذلك في سبيل تحقيق العدل والحرية والسلام.
إن ضمان الحريات في حكومة الإمام علي(ع) تعتبر من أهم الركائز التي بنيت عليها الدولة إذ أن المواطن يعيش في دولة تضمن للفرد الحرية التعبيرية والنقدية للسلطة والحكومة وقد جاء أن أحد الخوارج سب أمير المؤمنين بقوله (قاتله الله ما أفقهه) وهمّ أصحابه بقتله فردع أصحابه عن ذلك وأكد لهم القاعدة الشرعية التي تأمر بعقوبة متناسبة مع الجريمة حتى ولو كانت واقعة على رئيس الدولة مع عدم نسيان الحث على العفو فقال: رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب(37) وفي كلام آخر له يقول (لا تتبع الذنب العقوبة واجعل بينهما وقتاً للاعتذار) إن الارتقاء بهذه الحريات وضمانها للشعب لهو جديرٌ بان يكوّن شعباً يحرص على قائده وحاكمه ولكن لم يكن هذا الشيء بل على العكس كانت نتيجته السب والشتم والقتل من قبلهم له. إن الإمام كان واثقاً من أن إعطاء الحريات وضمانها للآخرين سوف يعزز الثقة المتبادلة بينه وبين الشعب عموماً والمعارضين خصوصاً وهو بذلك يؤكد على أحقية الإنسان في حرية حركته السياسية وتعبيره الشخصي ولا يقف حائلاً دون ابداء ما يختلج في ضمائرهم وصدورهم ورغبة في تحقيق مجتمع مثالي تسوده الأخلاق والعدل والقانون.
تعد حياة الإمام علي (ع) من أخصب موارد الفكر الإسلامي، وثروة عظيمة للعاملين الإسلاميين، وذلك لأهمية الفترة الاستراتيجية التي عاشها الإمام حيث عاصر عهد البعثة النبوية -مرحلة التأسيس- وبقي بعدها مدة ثلاثين سنة، وترك لنا تراثاً كبيراً من خطبه وكلماته ومواقفه الحكيمة وسيلاً من سلوكياته المناقبية. إلا أن الجانب السياسي في حياة الإمام علي بحاجة إلى المزيد من الدراسات الجادة والمتعمقة، واستخلاص القواعد الرئيسية التي ارتكز عليها الإمام في مواقفه وأطروحته السياسية.
إن نهج البلاغة يحتوي على مادة واسعة من خطب الإمام علي التي هي بحاجة إلى أن تسلط الأضواء عليها بنظرة بحثية ومن زاوية العلم السياسي.
كما أن المواقف الشهيرة التي وقفها الإمام علي في مجمل أدوار حياته تجاه الشخصيات المؤثرة في الساحة السياسية وكذا مواقفه تجاه الأحداث التي ألمت بالأمة، وبالأخص بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) بحاجة هي الأخرى إلى إعمال الفكر والبحث لاستخراج الاستراتيجية التي سار عليها الإمام.
إن الإمام علياً (ع) هو الرجل الثاني بعد الرسول الأعظم (ص) في تأسيس وبناء النهضة الإسلامية، ويختلف عن كل ما عداه من الصحابة بصوابية مواقفه وارتسامها على الجادة الشرعية(1) مما يجعل من حياته السياسية مخزوناً يمد الحركة الإسلامية والعاملين فيها بدروس لا غنى عنها، بل يجب أن تكون معالم تحدد لهم مناهج العمل الصحيح.
وحيث أن المدرسة الإمامية تتعامل مع أهل بيت العصمة من خلال كون كل تحركاتهم الحياتية حجة وميزاناً يوضح الصواب من الخطأ، ومرجعاً لا يمكن الحياد عنه؛ لذا تكون حياة الإمام علي السياسية مرجعية أساسية لاستخلاص الدروس والقواعد في العمل السياسي.
إننا نستطيع أن نقسم حياة الإمام علي السياسية إلى أربعة أدوار رئيسية في أربع مراحل وهي:
- الدور الأول.. كونه ثائراً ومؤسساً مع الرسول الأعظم (ص) للحركة الإسلامية المباركة في المرحلة المكية - أي المرحلة الثورية ضد النظام الجاهلي المسيطر بفكره واستبداده على الناس.
- الدور الثاني.. كونه وزيراً للقائد الأعلى - الرسول الأكرم (ص)- في السلم والحرب -مرحلة المشاركة في السلطة السياسية في المدينة المنورة -.
- الدور الثالث.. كونه معارضاً في زمن الخلفاء الثلاثة -مرحلة المعارضة-.
- الدور الرابع.. كونه حاكماً بعد الخليفة الثالث -مرحلة الحكم.
والملاحظ أن التركيز في حياة الإمام بحثاً، وكتابة، وتحليلاً، وخطابة؛ إنما هو في إطار المرحلة الثورية، ومرحلة المشاركة، ومرحلة الحكم، أما مرحلة المعارضة - التي استغرقت أكثر من ثلث حياته الشريفة - فقلما يتم التركيز والبحث عنها.
ولأهمية هذه المرحلة، دعونا نتعرف على سمات ومعالم معارضة الإمام علي (ع)، ففي هذه المعارضة النموذجية السلمية دروس قيمة مهمة لكل من أراد أن يتخذ دور المعارضة في ظل المجتمع الإسلامي.
أولاً: هدفية المعارضة
لقد كانت معارضة أمير المؤمنين (ع) إصلاحية في هدفها وليست انقلابية، فهي لأجل مصلحة الأمة، لا بحثاً عن ملك ودنيا، فالإمام كان يبحث عن إصلاح الأوضاع، ولم يسع إلى استلام الحكم كهدف لمعارضته.
يقول الإمام علي (ع): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك) (2).
لقد حدد الإمام (ع) من خلال هذا الدعاء هدفين رساليين لمعارضته وحركته السياسية:
- الهدف الأول (لنرد المعالم من دينك): وهو إرجاع معالم الدين بشكله العام لتكون هي الحاكمة والملحوظة في المجتمع الإسلامي، مع ملاحظة أن صلوات الجمعة والعبادات العامة كالحج والجهاد وغيرها كانت مقامة من قبل الذين كان يعارضهم الإمام، مما يدلنا على أن معالم الدين التي يقصدها الإمام هي الشاملة لكل مقتضيات الدين سياسياً وتربوياً واجتماعياً وسلوكياً واقتصادياً وما إلى ذلك.
- الهدف الثاني (نظهر الإصلاح في بلادك): وهو إظهار الإصلاح العام الذي يتعلق بمجمل وضع بلاد المسلمين سواء في الجانب التربوي الأخلاقي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو العمراني.
ومن ثم يعقب الإمام بأن تحقيق هذين الهدفين سيؤدي إلى نتيجتين طبيعيتين هما: أولاً- إنصاف المظلومين، وهي القضية الكبرى في الحياة، حيث أن المظلومين عنوان عام لكل من هضمت حقوقه المادية أو المعنوية. ثانياً: إقامة ما تعطل من الحدود والتي تمثل السياج الذي يحمي المجتمع الإسلامي من كل حالات التعدي والعدوان.
إن أية معارضة ينبغي أن ترتسم أهدافها بما طرحه الإمام من شعار وعنوان واسع لحركته السياسية. إن بعض الحركات الإسلامية نراها تستهدف إصلاح الوضع السياسي السييء الذي تعيشه بعض البلاد الإسلامية، من دون أن تهتم بإرجاع معالم الدين المضيعة، وقد تعتبرها هدفاً ثانوياً أو لاحقاً للهدف الأول، بينما نرى أن الإمام علياً اعتبر إرجاع معالم الدين هو المقدم في أهدافه، وكذا اعتبر إقامة الحدود الإسلامية على قائمة الأهداف التي ترجى بعد قيام الدولة الإسلامية.
إن العنونة بـ (الإسلامية) لأية حركة معارضة لا يعطيها الصفة الإسلامية حقاً إلا إذا استهدفت إقامة معالم الدين على أرض الواقع.
ثانياً: مبدئية المعارضة
إن أمير المؤمنين لم ينطلق في معارضته من خلال اجتهاداته الشخصية، بل من مرجعية مبدئية هي القرآن والسنة النبوية. فمتى ما وجدت فجوة بين النظرية الإسلامية من جهة والواقع الذي يديره الحاكم من جهة أخرى، كانت هنالك معارضة بمقدار تلك الفجوة، وكلما اتسع مقدار الفجوة ازدادت نسبة المعارضة.
وهذا ما نلاحظه في شدة معارضة الإمام علي للخليفة عثمان بعد اتساع الفجوة في عهده عمن سبقه، واتساعها بمقدار أعظم في عهد الطاغية يزيد مما استوجب من الإمام الحسين (ع) اتخاذ منهج المعارضة الثورية التي لا مجال للمساومة فيها.
لقد استندت معارضة الإمام علي لمن عاصرهم من الخلفاء على أساسين هما:
أولاً: إن موقع الخلافة وإمامة المسلمين قد أنيط به شخصياً بناء على النص النبوي الصريح في حادثة الغدير وغيرها، وقد أعلن الإمام علي ذلك بصراحة في العديد من أقواله وخطبه، منها ما أوضحه في بداية الخطبة الشقشقية(3).
وثانياً: عدم قدرة الآخرين علمياً وفقهياً وعملياً على القيام بمهمة قيادة الأمة بالنحو الذي يكون مكملاً لقيادة الرسول الأعظم (ص) وبما يحافظ على حيوية الأمة إيمانياً وحضارياً.
فقد بلغ الإمام علي (ع) من المستوى العلمي والقدرة الفكرية والمؤهلات التربوية العالية والتضحيات الجسيمة ما يؤهله لأن يكون هو القائد المكمّل لمسيرة التأسيس التي ابتدأها الرسول الأعظم (ص). إن عدم وجود الكفاءة العلمية لدى غيره، أدى إلى عدم سيرهم على أسس علمية صحيحة في مجال الحكم، كما أدى إلى وجود ممارسات حكمية غير صحيحة برزت في هضم حقوق بعض الناس.
ففي ما يتعلق بالأسس الصحيحة للحكم، نرى أن الإمام علياً في خطبته الشقشقية يعبر عن الجو العام لحكم غيره بـ (طخية (ظلمة) عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير) (4) وهي كناية واضحة عن حالة التخبط في السير بعيداً عن المنهج الرباني النير الذي ينبغي أن يثير أجواء الرقي والسلامة. ويسم فترة حكم أحدهم بأنها (حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض) (5). فقد اعتبر تلك الحكومة بمثابة الأرض الوعرة الخشنة الصعبة التضاريس، ولوعورتها يكثر السقوط والعثار فيها مما يتطلب كثرة الاعتذار.
ثم أوضح سلام الله عليه أثر ذلك على الناس، وهو ابتلاؤهم بأوضاع اتسمت (بخليط من الاضطراب، وعنه عبر الإمام بالخبط، وخليط من الصرامة، واليها أشار بالشماس، ومن التبدل من حال إلى حال وهو المراد من التلون، أما الاعتراض فالقصد منه عدم الاستقامة على حال) (6).
أما في ما يتعلق بهضم حقوق بعض الناس، فقد هب الإمام مدافعاً عن أي مظلوم ظلم بحكم قضائي أو أمر إداري خاطئ، فيروي لنا التاريخ كيف أن الإمام دافع عن العديد ممن حكموا بحكم قضائي خاطئ، حتى أن الخليفة عمر كثيراً ما يعقب على اكتشافه للخطأ بالقول (لولا علي لهلك عمر)، كما في دفاع الإمام عن أبي محجن حين أراد عمر جلده بأكثر من الحد الشرعي الخاص بشرب الخمر، بعد أن قال بيتاً من الشعر أوضح فيه رغبته الأكيدة بشرب الخمر(7)، فرفض الإمام استحقاق أبي محجن للزيادة في الجلد ويدافع الإمام عن حقوق المسلمين، ويطالب بوقف ما يتعرضون له من تعديات من قبل ولاة عثمان الأمويين، فيخاطب عثمان بعد أن يذكره بأحاديث رسول الله ويقول له: (ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم، والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك، فارجع إلى الله، فحتى متى والى متى) (8).
هكذا انطلق الإمام علي (ع) في اتخاذ معارضة تقوم على أسس مبدئية، من أبرزها شرعية الحكم، وأهلية الحاكم وممارساته، إن المعارضة السليمة هي تلك التي تتخذ من المبدأ منطلقاً لها، تسترشد به في معارضتها، فالأوضاع التي تخرج عن المبادئ الحقة هي الدائرة التي تعارضها، وتتحرك من أجل تغييرها، كيما يرجع الحق إلى نصابه، ولا تندفع في معارضة السلطة رغبة في المعارضة أو لإحراجها وتأليب الأوضاع عليها، كما نراه في بعض أجنحة المعارضة السياسية في الأنظمة الديمقراطية التي تنافس السلطة على كرسي الحكم ليس إلا.
ثالثاً: علنية المعارضة
كانت معارضة الإمام للخلفاء علنية واضحة، فهو يرى نفسه أحق بالخلافة وأجدر على القيام بمهماتها؛ فكان يجهر بمعارضته ويقول: (أنا خليفة رسول الله ووزيره ووارثه) (9) وحين احتجت قريش على الأنصار بأنها من شجرة رسول الله، قال كلمته الشهيرة: (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) (10). ويروى في ذلك أيضاً أنه سمع صارخاً ينادي (أنا مظلوم) فقال له (ع): (هلم فلنصرخ معاً، فإني ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (ص) ) (11)، وقول الإمام (ع): (فلنصرخ معاً) دلالة على صدعه وعلنيته بالمعارضة.
وكذا كان موقفه مع الخليفة عثمان عندما ازدادت النقمة الشعبية عليه، فأبدى موقفه المعارض لسيطرة رجال بني أمية على أركان الحكم وأموال المسلمين، كما أوضحناه في المعلم الثاني.
إن المعارضة الصادقة تصدع بكلمة الحق سواء أمام الحكام أو وراءهم، ولا تتحرك بنفاق مع الحكام، كما هو ديدن المتملقين الذين إذا كانوا مع الحكام أبدوا لهم التأييد، وقالوا: انا معكم، وإذا كانوا مع الناس أبدوا امتعاضهم من سياسات الحكام.
أما ما نراه من لجوء المعارضة الصالحة إلى حالة السرية في بعض الأزمنة، فإنما تفرضه ظروف القهر، فإذا زالت تلك الظروف، فالعلنية هي الطريق الأنفع والأصوب، وهذا ما نسترشده من المرحلة السرية عند بدء الدعوة النبوية حيث كانت الأجواء تتسم بالقهر في مواجهة المؤمنين، ولكن عندما صلب عود النهضة المحمدية جهر الرسول (ص) والمؤمنون من حوله بالرسالة معلنين معارضتهم للواقع الشركي والحياتي المعاش بصورة واضحة.
رابعاً: سلمية المعارضة
كانت معارضة الإمام (ع) سلمية بعيدة عن البطش والتخريب والعنف، بل كان يتحرك في معارضته بالمنطق والكلمة الحقة؛ ذلك لأن الكلمة الحقة أقوى من أي سلاح فهي تخاطب العقل والضمير، أما التخريب والعنف وخلق الأجواء الضاغطة فهو إرهاب من أية جهة قامت به؛ لذا نرى أن أمير المؤمنين لم يرفع سيفه على أحد رغم قدرته على التحرك المسلح، وحين لجأ المعارضون للخليفة عثمان إلى استخدام وسائل القوة، لم ينضم إليهم بل دافع عن حياة الخليفة، لأنه يؤمن بالمعارضة السلمية، على الرغم من اختلافه الشديد مع الخليفة وتحذيره له من مغبة سياساته.
إن أية معارضة تلجأ إلى استخدام العنف غير المبرر والتهديد باستخدام القوة مع المنافسين لها وخلق أجواء الإكراه المعنوي أو المادي على الناس فإن مآلها إلى الفشل، ولذا نجحت معارضة الإمام علي القائمة على السلم وتوجهت الجماهير المسلمة نحو مبايعته ورفضت مبايعة طلحة رغم التأييد القوي له من بعض القوى، لأن معارضة الأخير كانت قائمة على العنف.
خامساً: إيجابية المعارضة
المعارضة في مدرسة أهل البيت(ع) على نوعين: معارضة تتسم بالثورة على النظام الحاكم بالجور والمعلن للفسق والقامع للحريات والناهب لأموال الناس، كتلك التي اختطها سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) ضد يزيد؛ فالثورة -هنا- حالة استثنائية تأتي كردة فعل طبيعية في وقتها لمواجهة القهر والظلم الذي لا يطاق، وهناك معارضة إيجابية في تعاطيها وتعاملها مع الحاكم، كتلك التي اتخذها الإمام علي (ع) مع الخلفاء الثلاثة، الذين كان عهدهم يتسم بوجود مساحة لا بأس بها من الحرية والقدرة على إبداء الرأي، ففي عهودهم كان الإمام يختلط بهم وينصحهم، ولم يكن يتجنبهم ويتركهم، بل كان يتدخل لمصلحة الأمة، ولم يكن من أصحاب الرأي القائل: (دع الحاكم وشأنه لتزداد أخطاؤه فتكثر النقمة عليه)، فنراه (ع) يتدخل لنصح هذا الحاكم أو ذاك، ويشير عليه بالرأي الحسن كما أشار مراراً على الخليفة عمر في القضايا التي تتعلق بشؤون الأمة والناس، من ذلك ما أشار إليه الإمام (ع) في عهد عمر، حينما أراد عمر الخروج إلى قتال الروم وقيادة جيوش المسلمين، فنهاه الإمام عن ذلك وقال له: (إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب (تخسر المعركة) ولا تكن للمسلمين كانفة (كنف) دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مِحْرَباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة) (12)، فولى عمر أبا عبيدة على الجيش) (13).
كما يحدثنا التاريخ أن الإمام كان يتدخل لنصرة أي مظلوم أو أي شخص حكم عليه عن طريق الخطأ أو لعدم تشخيص الحاكم للحكم الصحيح، والحوادث التي يذكرها التاريخ كثيرة في هذا المجال. جاء في كتاب المناقب: جيء بامرأة قد ولدت لستة شهور إلى الخليفة عثمان فهمّ برجمها، فقال الإمام علي مخاطباً عثمان: (إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إن الله تعالى يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ثم قال سبحانه: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فحولان مدة الرضاعة، ستة أشهر مدة الحمل، فقال عثمان: ردوها) (14).
هكذا تعمل المعارضة الصالحة في إبداء المشورة والتصحيح إن هي وجدت أجواء الحرية مكفولة من الحاكم؛ فليست المعارضة مقصورة على مواجهة الحاكم ومقاطعته والنيل منه فقط، بل تتخير ما هو الأفضل والأصلح وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة.
إن مما ينبغي الانتباه له، هو أن المعارضة الصالحة في الوقت الذي تبدي الرأي وتصحح مسيرة النظام وتقدم الحلول العملية، ينبغي أن لا تتحول إلى آلة يسخرها النظام لتمرير خططه أو بعض مشاريعه غير السليمة أو بوق ينفخ في مدح السلطة، إن من المهم أن تبقى المعارضة في وضعية يشخصها الجميع باستقلاليتها وتجردها عن السلطة، وعدم إسباغها الشرعية على النظام الذي لا يتمتع بها.
سادساً: أخلاقية المعارضة
المعارضة الصادقة هي التي تتسم بالأخلاق في تصرف قيادتها وأفرادها، فإذا كان مبرر المعارضة هو وجود حالة الظلم، فلا يجوز أن تمارس هي الأخرى الظلم بأي شكل من الأشكال وبحق أي فرد أو أية جهة أخرى منافسة لها، (إن الأخلاقية، هي التي تعطي للمعارضة مشروعيتها الحقيقية، وهي التي تميزها عن الأوضاع القائمة، وأي تجاهل لها يسلب المعارضة مشروعيتها، ومن ثم يبتعد الناس عنها، إن عليها أن تلتزم بالأخلاق، مهما كانت الظروف والأسباب التي قد تدعوها إلى خلاف ذلك، لكي تكون البديل الحضاري حقاً، ولا تكون معارضتها ضمن إطار الصراع على السلطة) (15).
يحدثنا التاريخ أن الإمام علياً كان يستخدم أعلى درجات الخلق الحسن مع معارضيه، وليست تلك الأخلاقية مقصورة على مرحلة المعارضة، بل حتى وهو في زمن الحكم والقوة الظاهرية؛ فهذا خارجي يقول أمام جمع من الناس قاصداً أمير المؤمنين بأنه (قاتله الله كافراً ما أفقهه) حتى أراد أصحاب الإمام قتله فنهاهم، وقال كلمته الحكيمة المتسامحة (رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب) (16). وحتى معاوية وأهل الشام الذين خرجوا لقتاله لم يكن الإمام ليرضى بسبهم، وقال مخاطباً أصحابه (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين) (17). يروى في البحار أن علياً لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: (هم إخواننا بغوا علينا)، فعلى الرغم من كونه الخليفة الشرعي والإمام المعصوم إلا أن ذلك لا يبرر له أن يخرج عن التعامل الأخلاقي الرفيع مع أعدائه.
هذه أخلاقيات أمير المؤمنين (ع) في التعامل مع معارضيه؛ لذا فليس من الصحيح لأية معارضة مسلمة تقتدي وتتوجه بمنهج الإمام علي، أن تحارب غيرها بمجرد الاختلاف في المنهج والأسلوب والشعائر، فتكيل لها التهم وتحاربها وتخرجها من الدين، على قضايا جزئية وفي كثير من الأحيان صغيرة وهامشية. إن ذلك خلاف الدين والمبادئ الخلقية، (فمن الضوابط الشرعية عدم جواز استخدام الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور والبهتان ضد المخالف لك في المنهج أو الموقف السياسي، أو الرأي العلمي والفقهي) (18)، يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم). إن الخطاب موجه لعموم المؤمنين بأن لا يلجأوا لأسلوب السخرية من بعضهم البعض، فلعل الذين يسخرون منهم هم أفضل عند الله تعالى. وتتابع سورة الحجرات في إبراز الموقف الأخلاقي من بعضنا البعض، بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله، إن الله تواب رحيم) فالمؤمنون سواء كانوا في صف المعارضة أو الحكم، لا يسوغ لهم أن يظنوا ويفسروا مواقف إخوانهم المؤمنين بسوء، فلعل لهم عذراً مقبولاً عند الله، كما أن حالة التجسس والغيبة بين صفوف المؤمنين محرمة، ولا يجوز تبريرها بأي شكل من الأشكال. إن من يلجأ إلى تلك السبل الخاطئة بحاجة ماسة إلى توبة عما سبق وتقوى في تعامله، فختمت الآية بقوله تعالى: (واتقوا الله، إن الله تواب رحيم).
سابعاً: الإيمان بالتعددية
التعددية هي سنة الله في خلقه؛ فما من جنس واحد إلا وهو متعدد في أصنافه وأشكاله وصفاته، وكذلك البشر مختلفون في فكرهم وثقافاتهم ولغاتهم ونمط تفكيرهم، فليس من الصحيح أن يصطبغوا بصبغة واحدة باسم الوحدة، فهذا مفهوم خاطئ للوحدة. إنما الوحدة في الرجوع إلى القرآن وقيادة المعصومين، أما الأساليب والأشكال والتوجهات فمن المحال دمجها جميعاً في قالب واحد وتحت مظلة واحدة.
إن القبول بالرأي الآخر، والتنوع في الأساليب هو من سمات مدرسة أهل البيت(ع)، يحدثنا التاريخ أن أبا ذر، وهو من خواص مدرسة أمير المؤمنين، تتسم معارضته بالشدة في مواجهة الحكام، وبكشف التلاعب في أموال المسلمين، ومحاربة الترف المادي عند الولاة، وأن محمداً بن أبي بكر وجمعاً من الشباب المؤمن ممن يوالي أمير المؤمنين(ع)، تتسم معارضتهم بالتحرك الفعال والنشط في جمع الحشود وغير ذلك، وكانت هناك معارضة أخرى ضد عثمان تقودها عائشة وبعض الصحابة. وللإمام علي(ع) معارضته الخاصة ضد عثمان، تتسم بالحكمة والتعقل والإصلاح، إلا أنه لم يمنع غيره من صحابته ومريديه من اتخاذ أشكال أخرى في المعارضة، بل إن الإمام علياً (ع) في زمن حكمه آمن بوجود تعددية سياسية ولم يجبر أحداً على السير بطريقته أو على مبايعته؛ فكان هنالك فريق من الصحابة لم يبايع الإمام علياً(ع)، كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، فتركهم ولم يعترض لهم بسوء، وكان هنالك الخوارج الذين كانوا يوجهون أشد التهم والسباب لأمير المؤمنين(ع)، ويعملون ضده كحزب منظم، ويحرضون الناس عليه، إلا أنه لم يكن يواجههم ويصادر حريتهم في معارضته، وهو المعصوم، بل أعطاهم ثلاثة حقوق قبل أن يخرجوا لقتاله، فقال(ع):(19) (إن لكم علينا أن لا نبدأكم بقتال (أي لكم حق العمل المعارض ما دمتم لا تبدأون بالقتال) وأن لا نقطع عنكم الفيء (أي إن نصيبهم من المال العام كنصيب غيرهم) وأن لا نمنعكم مساجد الله (أي حق التجمع والاجتماع مع الناس) )، وإنما قاتل الإمام علي (ع) أولئك الذين خرجوا بالسيف وقتلوا العباد وأفسدوا في الأرض.
ثامناً: صبر المعارضة
مفهوم الصبر لدى أهل البيت(ع) هو عبر اتخاذ الموقف الرسالي السليم ومن ثم الصبر على تبعاته، فقد يكون الموقف هو التحرك والنهوض، ومن ثم تحمل تبعات ذلك النهوض، كما فعل سيد الشهداء (ع) حين ثار على الطاغية يزيد، وتجرع وأهله العظام رزايا الصبر والبلاء، وقد يكون الموقف هو التأني والحلم وعدم القيام بأي شيء، رغم أن الموقف النفسي قد يكون ضاغطاً باتجاه التحرك، إلا أن وجود مصلحة أهم يتطلب مراعاتها وتحققها بعدم وجود التحرك، وهذا ما كان من فعل الإمام علي (ع) حين سلب حقه في الخلافة، وتم إقصاؤه عن الموقع الشرعي المسنود له من لدن الله عز وجل ورسوله الكريم(ص).
يعبّر الإمام عن اتخاذه لهذا الموقف الصابر بالآتي (وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء (مقطوعة) أو أصبر على طخية عمياء.. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً) ثم يقول في ذات (الخطبة الشقشقية) (20): (فصبرت على طول المدة وشدة المحنة).
لقد وازن الإمام علي (ع) بين أمرين، هما التحرك دون وجود الناصر الكافي، والصبر رغم الأزمات التي ستلحق بالأمة، فرجح جانب الصبر؛ لأن مصلحة الدين كانت تقتضي ذلك، حيث الإسلام لا زال طرياً، وأي تحرك لا يثمر رجوع الحق إلى نصابه لن يؤدي إلا إلى مزيد من تفتت الأمة وضعفها، وقدرة أعداء الإسلام المتربصين على الانقضاض على الدولة الفتية.
إن هذه المواقف الرسالية توضح لنا ضرورة الموازنة بين الخيارات المطروحة وعدم الاستعجال بتبني أي خيار إلا بعد معرفة الحكمة والمصلحة فيه. إن ضغط القاعدة أو التأثر بالأجواء النفسية والمحيطة ينبغي أن لا يخرج أي قيادة مؤمنة عن سبيل التروي والتشاور للخروج بالموقف السليم تجاه أية أزمة تحدث، فلا يجوز الخروج عن الرؤية الاستراتيجية والخيار السليم لوجود حادثة أو أزمات عابرة. إن الوصول إلى الأهداف يتطلب صبراً على السبيل السليم، وهذا ما يرشدنا إليه الإمام علي (ع) بقوله: (لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان) (21).
الخلاصة:
لقد كانت معالم المعارضة عند الإمام علي (ع) تتسم: أولاً بالإصلاح كهدف، وثانياً بالمبدئية في المنهج، وثالثاً بالعلنية في التحرك، ورابعاً بالسلم كطريق، وخامساً بالإيجابية في التعاطي مع الحكام، وسادساً بالأخلاقية وحسن التعامل مع الأعداء والمنافسين، وسابعاً بالإيمان بالتعددية السياسية، وثامناً بالصبر الطويل لتحقيق الأهداف.
وبمثل هذه المعارضة الرسالية النقية الخالصة لوجه الله، والقائمة على العلم والمبادئ والتفكر والتضحية، والباحثة عن خلاص الناس، استطاع الإمام علي (ع) أن يستحوذ على قلوب الناس فنادوا به حاكماً وأميراً عليهم، فبرز سلام الله عليه كأعظم معارض وأعظم خليفة لرسول الله (ص). إن المعارضة الرسالية في أي زمن أو بلد ينبغي أن تستفيد من المعالم والدروس العالية التي اختطها الإمام علي (ع)، وتضعها نصب عينيها
إذا كان بعض الذين عاصروا الإمام واستشعروا عظمته قد أحبوه وناصروه وبذلوا مهجهم دونه لأنهم رأوا فيه المثل الخالد المجسد للإسلام وقيمه، وغالى آخرون في حبه وتقديسه حتى عبدوه، فلا عجب في ذلك، إنما العجب أنه يأتي قوم في عصور تفصلها عن عصر الإمام عشرات القرون، ومنهم من يولد ويشب في بيئات أخرى لا تؤمن بدينه ولا تسير على منهجه، ومع ذلك تبهرهم عظمة شخصيته ويشدهم سمو مواقفه وتسحر أفئدتهم حكمته وبلاغة كلماته، فيعشقونه ويشهرون حبهم له على رؤوس الأشهاد من خلال أقوال منصفة ستظل تردد أصداءها ذاكرة التاريخ، وتهتف بها جنبات الكون، وإليك عزيزي القارئ طائفة من أقوال بعض الذين عشوا إلى ضوئه ونهلوا من معين حكمته وبلاغته:
يقول الفيلسوف الإنكليزي (كارليل) في كتابه (محمد المثل الأعلى) (ص34) تعريب محمد السباعي: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة، ولطف، ورأفة، وحنان) اهـ.
هذه عقيدة الفيلسوف الإنكليزي المسيحي في الإمام علي...
إنه يؤكد أن حب علي أخذ من قلبه كل مأخذ...
ولكن، لماذا؟؟..
لقد أكبره وأحبه لأنه وجد فيه الصفات الرفيعة المتألقة بأقداس الإنسانية...
فعلي قد استوى على قمة العظمة البشرية علماً... ومكارم... وأخلاقاً.. وفضائل.. وعلي يحتل الدرجات العُلى حسباً.. ونسباً..وشرفاً.. فهو هاشمي أباً وأماً..
والهاشميون ذؤابة المحامد في قريش خاصة والعرب عامة..
وعلي ينطوي على روح الإباء التي ترفض الدنايا رفضاً مطلقاً..
وعلي قد نضجت في نفسه المقدسة، وفي قواها الباطنة سنابل الرحمة، وحب الخير للناس أجمعين، وهو فوق هذه الصفات الباسقة شجاع لم تعرف ميادين الحروب بطلاً أثبت منه قلباً.. ولا أكثر جرأة وإقداماً.. ولا أشد منه قوة، فهو ما نازل بطلاً إلا صرعه.. وهو مع هذه الشجاعة الخارقة يمتاز: بالتواضع.. والحياء.. والحنان الرحيم.. بينما يصف لنا التاريخ أبطال العالم بالقسوة.. والأنانية.. والاستعلاء..
وتتجلى لنا رأفته.. وشعلة من حنانه المقرونة بحب إسعاد الناس.. في عهده للأشتر النخعي الذي بعث به والياً على مصر - ذلك العهد الفذ الرائع.. الذي قال له فيه من جملة ما قال: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم.. ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق..
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمقها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية... )، ولكي تستقيم له أمور الرعية على الوجه الذي يأمن معه العثار، يقول له: (وأكثر مدارسة العلماء، والحكماء.. في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك).
ثم يفقهه المسلك الذي فيه سعادته، وصلاح الشعب وهناؤه.. فيقول له: (إن أفضل قُرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم)1هـ.
هذه الكلمات القليلة في عددها.. الواسعة أرحب ما تكون السعة في مضامينها، ومراميها، والكثير غيرها مما عرفه الفيلسوف(كارليل) عن الإمام أثارت إعجابه، وجعلته يقول: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه.. الخ..
ويتحدث الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي في كتابه (علي وبنوه) - وقد ذكر ما شمخ أمام علي من مصاعب - فيقول:
(وجد علي نفسه.. صدق إيمان بالله، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يُدهِن في أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه، لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى الله).
ويقول: (له فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين ويؤمن بها أهل السنة، كما يؤمن له بها شيعته)اهـ (1).
ويقول المؤرخ والمحقق الفرنسي (كاراديفو) في كتابه (مفكرو الإسلام) (ص10):
(وعلي هو ذلك البطل الموجَعُ، المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد، ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سرّ العذاب الإلهي)اهـ.
يرى البحاثة الفرنسي (كاراديفو) في علي فارساً غالباً، ولكنه فارس صوفي، أي إن فروسيته نهلت من معين المعارف الإلهية حتى الارتواء.. فهو لا يرفع سيفه النبيل، ويهوي به إلا ليقتل شيطاناً من طواغيت الاستكبار المشرك، والطبيعة الجاهلية، البطرة، ليعز كلمة الله، ويجعل الناس يعيشون تحت ظلالها جنات الإخاء.. والمحبة، وسلامة الصدور من: الأحقاد، والبغضاء، والمفاسد التي اتخذ منها إبليس جنوداً ليحجب الإنسان عن ربه وإنسانيته...
وعلي إمام رفعه إلى مقام الإمامة الأقدس كفاءاته العلمية.. والدينية.. والأخلاقية.. وسموه الروحاني..
ويرى (كاراديفو) أن علياً يحمل فكراً اجتماعياً ثورياً فاعلاً يرقى في تطوير المجتمع إلى تحقيق ما تحلم به الإنسانية من حياة فاضلة.. كريمة.. وأنه استشهد في سبيل ما كان يريد أن يجعله واقعاً حياً.. لذلك فهو إمام شهيد.. صاحب نفس وضيئة تختزن سراً إلهياً قدوسياً.. هو سر قبول تحمل العذاب حتى الموت لإنقاذ الإنسان من الظلمات إلى النور...
وعن تلك الفروسية التي تحدث عنها (كاراديفو) يقول المفكر الإسلامي الأستاذ عباس محمود العقاد تحت عنوان (مفتاح شخصية الإمام علي): (آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفض منها كل مغلق، ويفسر منها كل ما يحتاج إلى تفسير، وقد بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء...
ولقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضى الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها..
ثم يقول: (والإمام علي فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين، بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه..).
ويتابع قائلاً: (وما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، وكان أبداً عند قوله: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك)اهـ.
ويجعل العقاد الحديث عن علي (البطل، الموجَع، المتألم) فيقول: إن ثقافة الإمام هي: ثقافة العَلَم، المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام...
وإنها هي ثقافة الفارس، المجاهد في سبيل الله،يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه.. لأنه بالبأس زاهد في الدنيا، مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله، فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه..
وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه).
ويقول: (كان علي المسلم حق المسلم في عبادته، وفي علمه، وفي قلبه وعقله، حتى ليصح أن يقال، إنه طبع على الإسلام... وأن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاماً منه، ولا أعمق نفاذاً فيه) (2).
أما جبران خليل جبران أنبه عباقرة الفكر العربي في هذا العصر فإنه يرى العظمة متألقة في ثلاثة من البشر يمثلون الكمال الإنساني، هم عيسى، محمد، علي..
يقول في علي: (في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها، وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية..
ثم يقول: مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته...
مات والصلاة بين شفتيه...
مات وفي قلبه شوق إلى ربه...
ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجوهر والحصى..
مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافيه، غير أنني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض..
مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم، وفي زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأن في ذلك، وهو أعلم)اهـ (3).
لقد رأى جبران الكمال الإنساني بكل معانيه وأبعاده متجلياً في ثلاث من شخصيات العالم هم: عيسى، محمد، علي..
وجبران يعتقد أن علياً هو أول عربي - بعد رسول الله(ص)- عرف الذات الأحدية.. ولم يفارقها في حبه، وإخلاصه، وصدق سريرته، وفي خطبه النورُ الساطع الدليل على ذلك، وفي سلوكه الديني، والاجتماعي.. والإنساني أيضاً..
وجبران يعتقد أن الذين أحبوا علياً قد لبوا دعوة فطرتهم السليمة التي لم تفسدها السياسة، وشهوات الدنيا الآثمة..
ويرى جبران أن علياً مات شهيداً؛ شهيد عظمته الإنسانية.. ورقيه الروحاني.. وعقيدته الإسلامية الصافية..
وأنه أغمض عينيه الكريمتين عن هذا العالم، وأنوار الصلاة الرحمانية تسطع على شفتيه بهاء ملكوتياً وأنه ترك هذا العالم قبل أداء رسالته القرآنية بسبب وجوده بين قوم أعشت قلوبهم الأحقاد الجاهلية.. وشهوة حب التسلط، فلم يقدروه حق قدره.. فحاربوه.. وحرموا البشرية من تحقيق أمانيه في: الحرية.. والمحبة.. والإخاء، والمساواة، والعدل الاجتماعي.. والاقتصادي، تلك الأماني التي كان يريد أن يصبها على الناس أجمعين نعيماً فياضاً بالخير.. والمرحمة.. والبركات.. والعيش البهيج الرغيد...
وعلي في عقيدة جبران (جوهرة بين الحصى)، أي أنه تفرد بمعان جعلت منه الإنسان الكامل...
وحقاً قال نابغة الشرق جبران، فإن قريشاً أولت علياً حقداً أزرق لأنه قتل أعيان أبطالها في بدر، وأحد، والخندق..
وإنه ليعطينا عن ذلك صورة صافية الظلال، مشرقة الألوان الباحث الإسلامي المصري المعروف الاستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه النفيس (علي بن أبي طالب بقية النبوة).
يقول الخطيب في (ص87): (فقد كان علي بطل الإسلام دون منازع.. لا يعرف المسلمون سيفاً كسيف علي في إطاحته رؤوس أئمة الكفر، وطواغيت الضلال من سادة قريش وقادتها.. وكان علي فقيه الإسلام.. وعالم الإسلام.. وحكيم الإسلام.. غير مدفوع عن هذا أو منازع فيه... )اهـ.
ثم يزيدنا أيضاً في أسباب عداوة قريش لعلي، تلك العداوة الحمراء التي ورثها الأبناء عن الآباء فيقول: (ما أردنا تقريره، من أن علياً كان أكثر المسلمين شدة على مشركي قريش، وأكثرهم تنكيلاً بهم، وإفجاعاً لهم في الآباء والأبناء، والأعمام والأخوال، والذي نريده من هذا هو أن نذكر تلك التِّرات، وهذه الإحن التي وقعت في القلوب، وغمرت النفوس في المعارك التي وقعت بين المسلمين ومشركي قريش، وما وقع فيها من صرعى، وأن نذكر أن تلك الإحن وهذه التِّرات قد صادفت من قريش قلباً خالياً من الإيمان بالله، فتمكن الحزن منها، واستمرت الحسرة فيها، على حين أن ما أصاب المسلمين في أنفسهم وفي أهليهم لم يكن ليجد له مقاماً في نفوس آمنت بالله، وآثرت الموت على الحياة، وطلبت الشهادة وتعجيلها في سبيل الله، هذه الإحن، وتلك التِّرات، التي وقعت في نفوس قريش المشركة، قد ظلت حية فيها، بعد أن دخلت في الإسلام، هذا الدخول العام الذي كان عن قهر، أكثر منه عن نظر واقتناع، وسنرى آثار ذلك وشواهده، حين يُمتحن المسلمون بتلك الفتن التي أطلت برؤوسها بعد وفاة النبي(ص)، وحين تقف قريش في وجه بني هاشم، وحين تذودهم عن الخلافة، ثم تنالهم بسيوفها..الخ)
ويجيئنا الأستاذ العقاد ليبرز لنا لوحة أخرى ترينا موقف قريش من علي قد تكون أدق وضوحاً وأرسخ وثاقة فيقول: (إن قريشاً كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة).
ثم يكشف لنا عن سبب ذلك الحقد الدفين فيقول: (فقد بطش علي بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم: عتبة بن أبي ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله، وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه يوم بدر.. عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه التِّرات بعد دخولهم في الإسلام، وزادهم حقداً أنهم لا يملكون الثأر منه لقتلاهم من الكفار.. أما وهي تحاربه بعصبيتها، وتحاربه بذحولها، فتلك هي العقبة التي لا يذللها إلا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي(ص) ولم يكن حزب قط أقوى من قريش في أرجاء الدولة الإسلامية بأسرها)اهـ (4).
وعن بلاغة علي التي تكلم عنها جبران يحدثنا علم من أعلام الفكر الإسلامي هو الإمام الشيخ محمد عبده فقيه الديار المصرية سابقاً من خلال مطالعته نهج البلاغة الذي بهرته بلاغته، وحمله إعجابه به على شرحه، يحدثنا فيقول: (فتارة كنت أجدني في عالم يغمرني فيه من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها.
وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدياً، فصل عن المركب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى.. ) (5).
وهذا باحث ومفكر إسلامي هو الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي يقدم إلينا كتابه (علي إمام المتقين)، ويطلب أن نصغي إليه وهو يتحدث إلينا عن الشهيد الإمام علي بن أبي طالب تحت عنوان (جسد علي النبيل) هوذا يقول: (جسد رجل لم تعرف الإنسانية حاكماً ابتلي بمثل ما ابتلى به من فتن، على الرغم من حرصه على إسعاد الآخرين، وحماية العدل، وإقامة الحق، ودفع الباطل).
ثم يقول: (قبض الشهيد، واستقر في وعي الزمن، أنه كلما قيلت كلمة (الإمام)، فهو الإمام علي، على كثرة الأئمة في الإسلام، وذلك، لأن ما أمتلكه من: علم وفقه في الدين، وما أوتي من الحكمة، لم يتوفر قط لفقيه أو عالم، قبض الشهيد الرائع البطولة، الأسطوري، المثالي، واستقر في ضمير الزمن.. ) أنه كلما نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب، فهو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، على الرغم من كثرة الخلفاء في كل عصور الإسلام، ذلك أن علياً اجتمع له من عناصر القدرة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات القيادة، ونبالتها، وشرفها، ما لم يجتمع قط لحاكم..
وهكذا كان، فريداً حقاً.. عالماً، وحاكماً.. فسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته: منارات إشعاع.. ومنابع حكمة.. ومثار عزائم.. وعدّة للمتقين والمساكين بعد كتاب الله، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيظل القلب ينبض بما قال.. وتشرق به النفس.. ويزهو به العقل.. وكم من الكلمات المشرقة.. والمواقف المضيئة.. خلّفها الإمام ميراثاً للإنسانية كلها.. ودليلاً، ونبراساً..).
ويستمر قائلاً:
(عاش يناضل دفاعاً عن: الشريعة.. والعدل.. والحق.. والمودة.. والإخاء.. والمساواة بين الناس، سلام عليه.. سلام عليه يوم قال فيه رسول الله عليه(وآله) الصلاة والسلام: (رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار)اهـ.
ودار الحق معه حيث دار، وما عاداه في حياته وبعد موته إلا البغاة، وفرسان الضلال، وعبيد الشهوات، وأهل البدع والأهواء)اهـ (6).
ويقول الشرقاوي في مقدمة الكتاب: (تجسدت في الإمام علي، أخلاق الإسلام، ومثله، فقد تعهده الرسول: طفلاً.. ورباه صبياً.. وثقفه فتى.. وقال عنه: (أنا مدينة العلم، وعلي بابها) )اهـ(7).
وهذا الأستاذ جورج جرداق الأديب اللبناني المعروف، الرحب الاطلاع على ثقافات العالم القديم والحديث، يدرس الإمام علياً من المهد إلى اللحد، فتنتشي نفسه إعجاباً بعلي، لقد رأى في تراثه: علماً شاملاً.. ساحراً، وبلاغة آسرة، وخلقاً نقياً تصغر عنده إشراقة الصباح، وإنسانية تتدفق بحراً من الجمال والجلال...
رآه وكأنما هو: قرآن بعد القرآن...
وإنه ليراه ( أقرب الخلق إلى المسيح بوداعته، وزهده، وتواضعه، واستقامته، وصلابته مع الحق، وعظمة أخلاقه، وقوة إيمانه، وعمق إنسانيته، وجلال مأساته)اهـ (8).
وفي جلساته المتأملة المتأنية يجري مقارنات بين علي وأنبه عباقرة العالم أمثال: سقراط، أفلاطون، وفولتير.. وغيرهم.. فيراه سباقاً شامخاً في الطليعة، وتلك المقارنة أنبتت في نفسه رغبة جامحة أن يكتب دراسة عن علي، وتحلو له هذه الرغبة.. ويعرض له خاطر سرعان ما لباه، فأمسك بقلمه السيال وشرع يكتب.. ولكن، إلى من؟؟
كتب إلى الأستاذ ميخائيل نعيمة الأديب.. والبحاثة.. والفيلسوف على المستوى العالمي يستطلع رأيه فيما عقد عليه عزيمته..
وجاء الجواب نفحة غبطة.. وبهجة رضى، وروعة تشجيع...
قال له: (نِعم ما أقدمت عليه في وضع كتاب عن الإمام علي، حالفك التوفيق).
ثم يقول له: (تسألني رأيي في الإمام كرم الله وجهه، ورأيي أنه - بعد النبي - سيد العرب على الإطلاق بلاغة، وحكمة، وتفهماً للدين، وتحمساً للحق، وتسامياً عن الدنايا.
فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلاً دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية، وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهية، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين إلى حين، مشحونة بالحكم الزمنية والروحية، متوهجة ببوارق الإيمان الحي، ومدركة من الجمال في البيان حد الإعجاز، فكأنها اللآلئ بلغت بها الطبيعة حد الكمال، وكأنه البحر يقذف بتلك اللآلئ دونما عنت أو عناء.
ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء الإمام علي، ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال..
حتى سجعه، وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وبموسيقاه ولا سطو القوافي التي تبدو كما لو أنها هبطت على الشاعر من السماء، فهي ما اتخذت مكانها في أواخر الأبيات إلا لتقوم بمهمة يستحيل على غيرها القيام بها، إنها هناك لتقول أشياء لا تستطيع كلمات غيرها أن تقولها، فهي كالغلق في القنطرة).
ثم يقول: (إن علياً لمن عمالقة الفكر، والروح، والبيان في كل زمان ومكان)اهـ(9).
ذلكم هو رأي ميخائيل نعيمه في الإمام علي بن أبي طالب...
لقد عرف الكثير من العرب بأنهم جهابذة البلاغة، وأفذاذ الحكمة...
وعرف كثير من المسلمين بفهم الإسلام دين الله، وبالتعصب المر للحق، والترفع عن كل خسيس، ولكن علياً هو الملك المتوج عليهم جميعاً في كل ذلك.. بل هو من السابقين حتى في الحلبة العالمية...
وهو في كل ما نطق به يتدفق سلساً عذباً فراتاً يلقيه بلا ومضة تكلف، ولا إيماءة جهد، وكأنما هو البحر يقذف ما يخبئه في جوفه من لؤلؤ ومرجان... أما ما يقذف به علي من بحر علومه وفصاحته فإنه أكثر نفاسة من اللآلئ والمرجان، ذلك لأنه كلمات محكمات تكسو الإنسان حلل الخير بمعناه الشامل روحياً...ومادياً...
أما اللغة فإنها تأتيه طيعة، تتبين ذلك بما يبدهك به من حذاقة عجيبة في تشقيق المعاني وإلباسها الصور النابضة بأنفاس الحياة، فإذا بك أمام عبقرية باهرة تجعلك تلمس القدرة الفائقة على التعبير الدقيق للمعنى الأبهج دقة..
وينتهي الأستاذ جرداق - الذي وصف قلمه بأنه ساحر دافئ - من كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) فيعصب جبينه الأستاذ نعيمة بمقدمة يتحدث فيها عن الكتاب ومؤلفه، فيقول عن الكتاب:
(إنه مكرس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به، وفجر ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام، وإلا فكيف لحياته الفذة أن تلهب روح كاتب مسيحي في لبنان.. فيتصدى لها بالدرس، والتحليل، والتمحيص... )
ثم يتحدث عن الإمام علي فيقول: (وبطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحروب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق، وهذه البطولات مهما تقادم بها العهد، لا تزال معلماً غنياً نعود إليه اليوم، وفي كل يوم، كلما أشتد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة).
ثم يتحدث عن الأستاذ جرداق فيقول: (إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، أن يأتيك، حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي، ولحقبة حافلة بالأحداث الجسام، كالحقبة التي عاشها.
فالذي فكَّره وتأمله، وقاله، وعمله، ذلك العملاق العربي، بينه وبين نفسه وربه، لمما لم تسمعه أذن، ولم تبصره عين، وهو أكثر بكثير مما عمله بيده، أو أذاعه بلسانه وقلمه، وإذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة، وقصارى ما نرجوه منها أن تنبض بالحياة).
ثم يقول: (ويقيني أن مؤلف هذا السّفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها إلا أن تشهد بأنها الصورة الحية لأعظم رجل عربي بعد النبي) (10).
وهذا شبلي الشميل المشهود له بعمق التفكير، وسعة الاطلاع أدباً.. وفلسفة.. يتصدى لنا ليقول: (الإمام علي بن أبي طالب، عظيم، نسخة مفردة، لم ير لها الشرق صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً)اهـ(11).
ويواكب الفيلسوف شبلي الكاتب الإسلامي المصري الأستاذ أحمد عباس صالح فيقول: (لو لم يسر علي سيرته المثالية، أكانت تبقى الجذوة - أي جذوة الحق - مشتعلة كامنة في النفوس، وكأن دور علي الوحيد أن يكون مثالاً في التاريخ، كأنه علامة فارقة من علامات الطريق) اهـ(12).
تلكم لمحات مضيئات مما قاله نفر من أنبه مفكري العالم في الغرب والشرق.
يبقى أن نلم بما قال فيه رسول الله(ص) الذي وصفه ربه جل وعلا بقوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(13).
لقد قال فيه أقوالاً كثيرة تزهو بها كتب الحديث كما تزهو الأرض برياحين الربيع وخضرته ونضارته..
نأخذ منها حديثاً واحداً متفقاً عليه، هو قوله (ص):
(يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)اهـ.
بهذا الحديث النبوي المتواتر المعجون بأنفاس الوحي أخذ أحمد بن حنبل بأعناق جلسائه بأن علياً قسيم الجنة والنار...
فهذا محمد بن يوسف الكنجي، الشافعي المذهب، يبسط لنا بأسانيده من ثقات المحدثين الحوار الهادئ الخاطف الذي جرى بينه وبينهم.
قال: (أخبرنا القاضي العلامة أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد الشيرازي بدمشق، أخبرنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الدمشقي، أخبرنا أبو القاسم الواسطي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا محمد بن أبي نصر النرسي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن معروف القاضي، حدثنا سهل بن يحيى، حدثنا حسين بن هرون الصايغ، حدثنا ابن فضيل عن الأعمش، عن موسى بن طريف عن عباية، عن علي بن أبي طالب، قال: (أنا قسيم النار يوم القيامة، أقول:خذي ذا، وذري ذا) (14).
يعلق الكنجي على الحديث فيقول: (هكذا رواه أبو القاسم الدمشقي (ابن عساكر الشافعي المذهب) في تاريخه، ورواه غيره مرفوعاً إلى النبي(ص) ) (15).
أقول: ويبدو أن معترضاً وقف من الحديث موقفاً سلبياً مع وثاقته، فرد عليه الكنجي رداً قاطعاً، قال: (فإن قيل: هذا سند ضعيف، قلت: قال محمد بن منصور الطوسي: كنا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما تقول في هذا الحديث الذي يروي أن علياً قال: (أنا قسيم النار).
فقال أحمد: وما تنكرون من هذا الحديث؟!.
أليس روينا أن النبي (ص)قال لعلي: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)؟.
قلنا: بلى.
قال: فأين المؤمن؟؟.
قلنا: في الجنة.
قال: فأين المنافق؟؟.
قلنا: في النار.
قال: فعلي قسيم النار)اهـ.
يوثق الكنجي الحديث فيقول: (هكذا ذكره في طبقات أصحاب أحمد رحمه الله)اهـ(16).
الإمام علي(ع) في مواكب الشعر والشعراء
أيها المتعب..
كل الدروب تقود خطاك إليه.. أو أن خطاك تقودك إلى دروبه.. لا فرق.. فالوصول حتى اعتابه ثمرة المسير والتطواف المتواصل..
أيها المتعب..
أينما تلفّت في كل عمرك.. في الماضي أو الحاضر.. أو المستقبل لا تطالع إلا وجهه، لفحته الشمس، وحفرت الأيام والأصحاب ندوبها فوقه..
وأينما تلفت تقرأ سيرته، وحياة لا تكتنفها السطور.. تمتد منذ أول حرف في ميثاق ربك، إذ أخذها من ظهورنا إلى آخر حرف من قيامته الموعودة..
أيها المتعب..
تتساءل، ومثلك الملايين عن روضات الفضائل والقيم، صبوت ونصبو إليها..
عن الشهامة، عزة النفس وسموها، حين كان يتعالى فوق الصغائر ويرفض المساومة في المبادئ الإنسانية التي التزم بها..
عن المروءة، كرم الأخلاق والتعالي فوق الانتقاص، والتعاطف مع الضعيف..
عن النزاهة، أمانة وصدقاً وعفة ضمير معاً..
عن الكرم، سخاءاً وجوداً في العطاء..
عن التهذيب، حرصاً على أدبيات الحياة الإسلامية في المجتمع أقوالاً وممارسات.
عن الشجاعة، بسالة وجرأة واقداماً وجسارة في مواجهة المخاطر..
عن الصدق، خلوص النية والتعبير عن حقيقة الذات بصراحة واستقامة..
عن الاستقلالية، اخذاً بمصيره بيده، وتحديد ما يرتبط به مع غيره وبمحيطه..
عن المسؤولية، تأكيداً على المشاركة في أخذ القرار في كل ما يعنيه بالنسبة لنفسه ولمحيطه، والالتزام بهذا القرارِ وتحمل اعباء هذا الالتزام..
عن الصبر، طول بال وهوادة وقدرة على التحمل والسيطرة على الذات..
عن التضحية، فداءاً وجوداً بالنفس..
عن الايثار، انفتاحاً انسانياً على الآخر المغاير من منطلق المساواة بالذات والنضال من اجل هذه المساواة كحق انساني مطلق..
عن الود، لطفاً ومودة في العلاقة مع الأخير من منطلق الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..
عن الاعتدال، رفقاً وانصافاً..
عن الشفقة: تحنناً وتعاطفاً مع المعذبين والمتألمين.. عن الرحمة، رأفة وقدرة على العفو..
أيها المتعب..
وكان أن سكن وجهه وصوته في نبضك ونبضنا.. وامتدت يداك وأيدينا نحوه.. متلفعاً ببرديه الباليين، نلمح فيهما ثقوب الحاجة والعوز لأنه آثر غيره من اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين على نفسه وأهل بيته.. واكتفى من هذه الدنيا، طلقها ثلاثاً وغرت غيره، بهذين الطمرين، وبرغيف خبزه المتكسر على ركبته وهو يجلس جلسة العبد تواضعاً وتذللاً للسيد الماجد القاهر الأوحد...
في هذه السطور، سنحاول أن نواكب الشعراء في مسيرتهم إلى الاعتاب العلوية، في ابتهالاتهم وصلواتهم وفي ما جاشت به صدورهم حباً وشغفاً لصاحب تلك الاعتاب..
وستكون هذه السطور مقتصرة على الشعراء المعاصرين أو الذين عاشوا قبلهم بفترة قصيرة.. ولن نعود إلى شعراء القرون السابقة، لأن الكثير من المقالات والبحوث والدراسات قد أحاطت بهم وبابتهالاتهم..
وأبدأ بأحدث نص بين يدي، وهو للشاعر اللبناني جودت فخر الدين يحمل عنوان (ثلاثة وجوه لعلي)
نقرأ الوجه الأول..
خانته الأرض،
فلم تجلس هانئة بين يديه،
ولم تسبح في سرّ خطاه،
خانته الأرض،
وكان يعاتبها كأب،
يبدد فيها أشجار يديه،
فتذهب عنه،
خانته الأرض،
فسار وحيداً في الأرض،
وكان الناس يرون إلى وحدته،
فيثوبون إلى شُحّ بصائرهم،
كان عليٌ يجترح الخطو على ارض الناس،
ليرفع أيام الناس،
فيجحده الناس،
وكان يضيء، فيطفئه الناسُ،
سار عليٌّ في ارض جاحدة،
هل كان له أن ييأس أو يترددْ؟
ما كان ليطفئه الناس، توهج فيهم، ومضى برقاً
يتوقدْ
ينأى محتجباً، لكن لا يلبث أن يتجددْ
خانته الأرض،
فسار وحيداً في الأرض،
يقود سماء خرجت من ثوب محمدْ..(1)
اختار الشاعر وجه الحاكم الإسلامي المثالي، فيما سبق، وكيف أن الجميع، ممن توحدت مصالحهم، قد اتحدوا ضده، وخانوا تعاليم ابن عمه(ص)..
وجه الحاكم المثالي، حين يعطي ويمنح لرعاياه وفقاً لمرضاة الرب ويقابله الآخرون بالخيانة والجحود والنكران..
ولكنه لا ييأس ولا يتردد.. لأنه لا يعرف غير عدالة الحكم، مطلق العدالة التي تعلمها من الرسول الأكرم(ص)..
في الوجه الثاني، نطالع بصيرته النافذة للغيب، مستشرفاً أفاق المستقبل، يحدث المحيطين بما تنفذ إليه بصيرته، هذا الوجه هو وجه الرائي والباصر، كاشفاً مدلهمات الفتن التي يحذّر منها، ولكن لا حياة لمن تنادي..
يسكن في كلمات تسكنه
يحيا في لغة بكر
تحتضن الأشياء كأم،
تسمو بالاشياء، فترفعها نحو سماء دانيةٍ..
كان عليٌّ يحيا في أسرار اللغة البكر
انفاسُ عليٍّ كلماتٌ،
كان عليٌّ يحيا متقداً بالكلمات،
يجتذبُ الموت بها، ويلاطفه
يجعل للقول مضاء السيف
ويجعله ينضح بالاسرار،
ويخفق بالحسرات..
كان علي يحيا متقداً بالكلماتْ
يجتذب الموت، يلاطفه بالكلماتْ
وبما يرسم للناس دروباً
يطلق فيهم آياتٍ وعلامات
وجه الأيام متاهاتْ
وكلام عليٍّ أبوابٌ وحقولٌ، وجهاتْ(2)..
الوجه الثالث، وجه الشهيد في محراب عبادته، يبث مرارات الأيام والأحزان لربه المعبود..
هو يستشعر دنو خطوات الموت منه في آخر فجر كوفي تبصره عيناه، لكنه لا يبالي، فالرحيل عن هذه الدنيا، سجن المؤمن، هو ما يبحث عنه ويسرع بالوصول إليه.. ليلقي برأسه المتعب فوق صدر ابن عمه كي يستريح..
يبكي قتلاه،
ويمشي في ليل الكوفة،
جفناه نخيل محترقٌ،
ويداه نهران حبيسان،
وحيداً يمشي في ليل الكوفة،
والأرض خوارج أو أمويون،
علي في ليل الكوفة وهج مراراتٍ
علي يبكي قتلاه
ويمشي غابة آمال مكسورة
غابة آمال مهجورة
كان عليٌّ يبكي قتلاه،
وحين هوى في المحراب،
تعالت أشجار يديه،
وغابت في أفق لا يظهر للناس،
ولكن ظلالاً منها سارت في الأرض،
لتخرج آفاقاً تسنح للملأ المفتونْ
يتلقفها الملهوفون، التوابون، المنتظرونْ(3)..
في قصيدة (سيد الكلمات والملاحم) للشاعر محمد شمس الدين، نرى الشاعر قد وظف سيرة الإمام علي(ع) في سبعة مقاطع وكان المقطع الثامن صوت الشاعر المعبر عن لسان حال الجميع لظهور المنتظر(ع) من أبناء علي(ع)...
لتكون مملكة الوجود،
ليكون صوتٌ ما،
يسبّح باسمه
وإلى الأبدْ..
ليكون من اخشاب هذا الفُلكِ
والطوفان
نوحُ
ليكون دون محمدٍ باب
وشرفته حجاب
ليكون آدمُ أول الاسماء
مبتدأً
وجملته الكتاب
خلق الالهْ
سراً
واغلقه طويلاً(4)..
في هذا المقطع استفاد الشاعر من المأثور الإسلامي حول بداية الخلق، وكيف أن الله اودع نور محمد وعلي سراً رافق آدم في أول خلقه، ونوحاً في فلكه في قصة الطوفان الشهيرة،. وكان السر مغلقاً حتى شاء الله وأظهره..
قالوا بأن سحابةً
هطلت على أرض الجزيرة
في ليلةٍ ذُعِرتْ ملائكها قليلاً
قالوا بأن دماً ثقيلاً
من جرح مكة ايقظ الأوثان فارتجفتْ
وارّقها المُقام..
ولد الإمامُ(5)..
وذكر الملائكة اشارة لانشقاق جدار الكعبة حين دخلت فاطمة بنت اسد لتلد الإمام علياً(ع) داخلها..
قالوا إن (احمد) هجّرتْهُ يدُ الفتنْ
من (عبد شمسٍ)
فاستبدّ به المقامْ
وطوى صحيفته ونامْ
ولكن من نام العشية في فراش محمدٍ
لبس الكفنْ
لينام اجمل ما ينام فتى
على جفن الردى
لبس الكفنْ..(6)
أشار الشاعر إلى هجرة الرسول الكريم(ص) في ليلة اتفق المشركون على قتله وأخبره ربه، رب العزة بذلك، فنام الفتى علي(ع) على فراشه مفتدياً رسول المحبة والسلام بروحه، مستعداً لطقوس الموت، تهجم عليه في ساعة ما من تلك الليلة.. ولكن الله نصر رسوله وفتاه..
في المقطع الرابع نطالع لوحة الوصول إلى يثرب، المدينة التي تنورت بوجه محمد(ص)، وبعدها بأيام يتبعه الإمام علياً(ع) مع قافلة الفاطميات، نساء البيت الهاشمي
قمرين في فلك الجزيرة
يطلعان من الوداعْ
وسجدتُ ما سجد الرعاة الخاشعون
وما دعا لله داعْ(7)
المقطع الخامس يشير إلى حروب الإمام علي(ع) في صفين والنهروان، دفاعاً عن راية الإسلام التي ما انفك حاملاً إياها، ودفاعاً عن الإنسان الذي أراد دعاة القتل والتدمير أن يكون وقوداً لحروبهم التي توقد نيرانها مصالحهم الدنيوية البائسة..
ليكون سيفك داخل الصلوات،
خلّ السيف يلمع في ظلام نحورهم ويسيل منه دم الطغاة
وسيفك يقطع الامواج:
هذا حدّ من خرجوا
وماتوا دون وجه الماء/ منْ خرجوا
فكن لتكون ثأر الله
منشوراً على ميراثهم
وكن ليكون سيفك
طائراً كالسهم
من (كوفان)
حتى اخر الازمانْ
وكُن
لتكون آخر قلعة الانسانْ(8)..
في المقطع السابع، نرى الإمام عليا(ع) هو الملاذ الآمن، وهو الطمأنينة التي ينشدها الجميع، جميع المتعبين والمنهكين والمنكوبين، وهو من يتمتع الجميع بعدله، ومن تكون كلماته بلسماً لآلامهم وعذاباتهم وجراحات ارواحهم..
وجمال وجهك آيةٌ
في الصمت واقفةٌ
وفي الكلمات
وجهك آية الكلماتْ
يا كلمات كوني جنة الفقراء
في بيداء من رحلوا
ومن نزلوا على الرمضاء
يا كلماتُ
يا كلماتُ
يا كلماتْ(9)
في المقطع السابع يوظف الشاعر حدث الشهادة في محراب مسجد الكوفة، ويتتبع خطى الإمام(ع) وهو يسير إلى ساعة حتفه الموعودة..
ورايت خطوتك الأخيرة
وهي تدنو في الطريقِ
وصوت نعلك
وهو يفترع المدينة
مسجدٌ في الصمت يطفو
أو يغيبُ
كأنه القمر الغريبُ
كأنه قمر السفينة في الظلامِ
وفي الظلامْ
يا سيدي..
خُتِمَ الكلامْ
فعليك من دمِكَ السلامْ
وعليك من دمك السلامْ(10)..
في المقطع الثامن والذي حمل عنواناً جانبياً هو (صوت2) نرى الشاعر يتكئ على الموروث الإسلامي الذي بشر بظهور المهدي المنتظر(عج)، وكيف سيدخل محراب الكوفة الذي استشهد فيه علي(ع)، وكيف سيعيد فجرهم الذي اغتالوه في حالكات الخيانة والغدر..
لعليٍّ جنةٌ أخرى
ومحراب المدينةْ
لم يزل ينتظر الآتي
من الأرض إليها
وعليٌُّ أجمل الموتى
إذا ما ذكروا في غدٍ اسماءه
واستذكروا سيد الناس
وربان السفينةْ
وعليٌّ مات مطعوناً على محرابه
ومضى
لكنهم لم يعلموا
أنه يعبر في هذا السحابْ
وجهه:
يصعد من هذي القبابْ
صوتُه...
حتى إذا ما نظروا في مراياهم غداً
وانتظروا
ارجع الفجر مع الفجر
عيونه(11)...
وللشاعر خليل فرحات، وهو شاعر لبناني مسيحي ينتمي إلى الطائفة المارونية، قصيدة حملت عنوان (في محراب علي) وقد نظم الشاعر هذه القصيدة بعد أن أصيب في رجله بداء استعصي شفاؤه فتوسل بالامام علي(ع) حتى شافاه الله تعالى ببركته..
يقول خليل فرحات..
دريت، وكلُّ الناس قبلك لـــم تدر فقد صُبّتْ الأعصارُ عندك في عصر
وكنت أمير الحدس تدرك غورها وتسبُر اخفاهـا العصـيّ على السبـر
وتنشرُ مطواها وتفجر خيــرهـــا كما يفجر الحفار نجنــاجـــة البئـــر
وحاشاه أن يعيا حصائك طـــافراً على قمم المجهول أو مــارج الغمـر
ويقول في موضع آخر..
يزجي إليك الناس أغلى نذورهم وما همّك المنذور بل صاحب النذر
ترفع من تابوا فتبـــت عــــليهـم وتهلـــك إذ تشجـــي عمالقة الفُجـر
ويقول عن شجاعته:
وقالوك في الهيجاء اوزن فارس تُداري الألى فرواً وتألف من فرِ
وعندك كان القتل خلوا من الأنـا فسيفــك قوّامٌ على الخير والشر
ويقول واصفاً الإمام(ع) ونهجه:
سواك، سوى رب الدروب جميعها عسيرٌ عليه السيرُ في الأدرب العُسر
ويشير الشاعر إلى عودة الشمس للإمام(ع) ليؤدي صلاة العصر:
خذ الشمس إذ كفاك قالا بعــــودة: فشمس غروب تلك عادت إلى العصر
وعن كون الإمام علي(ع) هو عدل القرآن، وهو باب مدينة العلم، وهو الإمام المبين الذي ذكره القرآن، يقول الشاعر:
ولمـــا كتــــاب الله اعجــز قومه واغلق لم يفتـــح علـــى الجلة الكبر
فتحت عليه الباب فالضوء مبهر ولكن فتى الأضواء ما ضـــجّ للبهــر
كأنكما من قبل قــد كنتـمـا معـــاً ومـــــر زمـــان بعـــــد آذن بالهجـــر
وعاد لقـــاء النيريـــن بــأحمــــد وعزّ بك الإسلام كالشمس في الظهر
فمصحف رب الناس قوله وفعله إمــأم ومـــــن لم يـــدر ذلك فليـــــدر
وعن علمه الذي أودعه الله في قلبه، وعن كونه يحاسب الخلق بعد النشر يوم القيامة، وأنه قسيم الجنة والنار، يقول الشاعر:
عيال على سلسال نبعك علمهــم وليس يخف النبع من نقرة القمري
وإن قامت الاموات للبعث مثلما يقال فقد جاءت مقامــــك تستقـــري
وتستغفر الاعمار عندك جهلهــا وتبقى كمــا يا أنت في الحلم والغفر
وأخيراً يختتم الشاعر قصيدته محاولاً تفسير هذا الحب لعلي(ع):
حببت علياً، بل عبــدتُ صفاتــــه بلى، تعبُد العطار قارورة العطر(12)..
وشاعر نصراني آخر هو بولس سلامة في رائعته الملحمة (عيد الغدير)...
تبرز هذه الملحمة، اعجاب الشاعر وافتتنانه بشخصية الإمام علي(ع) وانحيازه إلى جانب الخط العلوي وما يمثله، فاستحق لذلك أن يكون من شعراء الغدير..
والشاعر واحد من أبناء الرسالة العيسوية التي بشرت بالخير والمحبة والسلام.. فلا عجب أن نجده اميناً مندفعاً وراء الاشعاعات المتجسدة في كل رجل عظيم تعبق في روحه روحانية العقيدة السماوية وتتملكه عقلاً وروحاً وممارسة..
التزم الشاعر جانب المظلومية في ملحمته دفاعاً عن المظلوم ضد الظالم، وبهذا الالتزام لا تعد المظلومية نقيصة، فمثل هؤلاء الرجال يظلمون في كل زمان ومكان.. ولكن تبقى سير جهادهم منارات شامخة وشاهدة على المبادئ العظيمة التي ظلموا من اجلها، فيهواهم كل من نبذ العصبية وطيّب شعاع المحبة قلبه وعرف الألم..
وحب الشاعر لهذا التيار حر جريء، يقع في زمن تنهض فيه الجاهلية من جديد، وتجتاح العصبية النفوس، وتنهار القيم وتتراجع التعاليم السماوية، فكأنما وجد الشاعر في أهل البيت رموزاً مسيحية فضلاً على كونها رموزاً اسلامية..
لا يخفي الشاعر اعجابه بالامام علي(ع)، ويعلن ذلك في المقدمة (أما إذا كان التشيع حباً لعلي واهل البيت الطيبين الأكرمين، وثورة على الظلم وتوجعاً لما حل بالحسين وما نزل بأولاده من النكبات في مطاوي التاريخ فإنني شيعي)(13) وهو يحب علياً(ع) لأنه الرجل الرسالي الذي تعالى عن موبقات الدنيا والتزم هدفاً ساميا وأخلاقاً عليا:
هو فخر التاريخ لا فخر شعب يدّعيـــه ويصــطفـــيـــه وليّــــا
لا تقـــل شيعــــة هـــواة علـي إن في كل منصف شيعيا(14)
ولا شك في أن المرض الذي ألم بالشاعر واقعده طريح الفراش والألم الممض الذي عاناه، زاد دفعه الى التأسي بكل العظماء المعذبين:
كدت أقضي لو لا النُهى والتأسي ونعيـــــم أصـــوغـــه وهمــيــــا
أتأسى بــــالأكـــرميـــن خصـــالاً لم يسيغوا في العمر شُرباً مريـاً
جلجل الحــق في المسيحي حتى عـــدّ مــــن فـــرط حبــــه علـويّا
أنا من يعشــق البطولـة والإلهام والعدل والخلاق الرضيّـــا(15)
تقع ملحمة الغدير في سبعة واربعين نشيداً استأثر الإمام علي(ع) منها بأربعة وعشرين نشيداً وهي:
1) موقع علي(ع) في البعثة ومآثره البطولية الأناشيد من 9 إلى 21.
2) عيد الغدير، النشيدان 22و23.
3) علي والخلافة، الأناشيد من 24 إلى 32.
وتشتمل الملحة إضافة إلى تلك الاناشيد على قصيدتين وجدانيتين تشكلان المطلع والخاتمة..
الأولى بعنوان (صلاة) يدعو فيها الشاعر، الله مده بالقوة والعزيمة والإلهام الشعري من أجل علي(ع) (زين العصور ـ رب الكلام ـ ليث الحجاز)..
والثانية هي الخاتمة، يكمل فيها الشكوى من الداء المرير فيتأسى بما حاق بعلي(ع) (فخر التاريخ) وبآل بيته من الظلم... ويتابع مدح علي وبنيه وهجاء بني أمية ويفتخر بحبه لعلي وبشاعريته ومزاياه وينسب هذه الشاعرية إلى عبير الامام..
يصف الشاعر بيعة الغدير التي اكمل الله فيها الدين:
كان وهج الشروق يوم حراء وجلال المغيب يوم الغدير(16)
وقبلها يسجل الشاعر حادثة الهجرة الشريفة، ومبيت علي(ع) في فراش النبي(ص) قائلاً:
رقد الليـــــل ناعمـــاً بـفـــراش حشــوه الموت فالوساد مخاطر
بات فوق الخناجـر الزرق ليث دون اظفــــاره رهيــف الخناجر
يستطيب الردى فداء ابــن عـم فهو يسعى إلى المنيــــة حاسر
إن ينم في مضاجع الموت حباً بالنبي العظيم فالله ساهر(17)
ويختتم الشاعر ملحمته قائلاً:
يا سماء اشهدي ويا ارض قري واخشعــي، إنني ذكرت عليّا(18)
ولا يضيرنا أن نعود إلى العام 1772، وإلى ألمانيا تحديداً، حيث نظم شاعرها الشهير (يوهان جوته) قصيدة المديح الشهيرة باسم (نشيد محمد)..
تقوم هذه القصيدة على فكرة مفادها أن العبقري الرباني يرى الآخرين اخوة له يأخذ بأيديهم ويشدهم معه، منطلقاً بهم كالسيل العارم الذي يجرف كل ما يصادفه في طريقه من جداول وانهار إلى البحر المحيط.. والقصيدة تفصح عن الولاء الذي كان الشاعر يكنه لشخصية النبي محمد(ص) حيث تصوره القصيدة بصفته هادياً للبشر، في صورة نهر يبدأ بالتدفق رفيقاً هادئاً، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد ويتحول في عنفوانه إلى سيل عارم.. وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصب أخيراً في البحر المحيط، رمز الالوهية..
وسوف نستشهد هنا بالصيغة الأولى من قصيدة المديح هذه، اعني صيغتها التي جاءت على شكل حوار يدور بين فاطمة(ع) ابنة النبي الحبيبة وزوجها علي(ع) (19)..
علي: انظروا إلى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلي، ابلج متألقاً كأنه الكوكب الدري..
فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب ملائكة الخير في مهده بين الصخور والادغال.
علي: وانه لينهمر من السحاب، مندفعاً في عنفوان الشباب، ولا يزال في انحداره على جلاميد الصخر، يتنزى فائراً، متوثباً نحو السماء، مهللاً تهليل الفرح..
فاطمة: جارفاً في طريقه الحصى المجزع، والغثاء الأحوى..
فاطمة: ويبلغ الوادي فتتفتح الأزهار تحت اقدامه، وتحيا المروج من انفاسه.
علي: لا شيء يستوقفه، لا الوادي الوارف الضليل، ولا الازهار تلتف حول قدميه وتطوق رجليه، وترمقه بلحاظها الوامقة.. بل هو مندفع عجلان صاعد إلى الوهاد..
فاطمة: وهذه انهار الوهاد تسعى إليه في سماح ومحبة، ومستسلمة له مندمجة فيه. وهذا هو يجري في الوهاد، فخوراً بعبابه السلسال الفضي..
علي: الوهاد والنجاد كلها فخورة به.
فاطمة: وانهار الوهاد، وجداول النجاد تهلل جميعاً من الفرح متصايحة:
علي: وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك..
فاطمة: خذنا معك إلى البحر المحيط الأزلي، الذي ينتظرنا باسطاً ذراعيه.. لقد طالما بسطهما ليضم ابناءه المشتاقين إليه.
علي: وما كان هذا الفيض كله ليبقى مقصوراً على الصحراء الجرداء.. ما كان هذا الفيض ليفيض في رمال الرمضاء، وتمتصه الشمس العالية في كبد السماء، ويصده الكثيب من الكثبان، فيلبث عنده غديراً راكداً من الغدران.. ايها السيل، خذ معك انهار الوهاد..
فاطمة: وجداول النجاد.
علي وفاطمة: (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك.
علي: هلمَّ جميعاً، هوذا العباب يطمّ ويزخر، ويزداد عظمة على عظمة. هو ذا شعب بأسره، وعلى راسه زعيمه الاكبر، مرتفعاً إلى اوج العلا، وهو في زحفه الظافر، يجوب الآفاق ويخلع أسماء على الاقطار، وتنشأ عند قدميه المدائن والأمصار..
فاطمة: ولكنه ماض قدماً لا يلوي على شيء، لا على المدائن الزاهرة، ولا على الابراج المشيدة، أو القباب المتوهجة الذرى، ولا على صروح المرمر، وكلها من آثار فضله.
علي: وعلى متن عبابه الجبار تجري منشآت السفن كالأعلام، شارعة اشرعتها الخافقة إلى السماء، شاهدة على قوته وعظمته.. وهكذا يمضي السيل العظيم إلى الأمام بأبنائه.
فاطمة: ويمضي إلى الأمام ببناته.
علي وفاطمة (في صوت واحد): إلى أبيهم، ذلك البحر العظيم، الذي ينتظرهم ليضمهم إلى صدره، وهو يهلل ويكبر زاخراً بالفرح العميم.(20)
ونبقى في أوربا، وتحديداً في ألبانيا حيث عاش الشاعر الألباني الشيخ سليمان تيماني، وكان شيخ الطريقة الخلوتية في مدينة بيرات، من قصيدة له يمدح فيها الإمام علي(ع) ويشيد بشجاعته في القتال يقول:
حين يمتطي علي الدُلدل
تهلع قلوب الكفار من الرعب
أنت صاحب (ذو الفقار)
الذي يحتقر كل منكر
ويقطع رأس كل كافر(21)..
وإذا يمننا وجهنا إلى باكستان وجدنا الشاعر محمد اقبال لا ينفك يذكر علياً(ع) في الكثير من اشعاره، لأن علياً عند اقبال صورة الإنسان القرآني الكامل الذي يرنو إليه محاولاً اقتداءه والتأسي به.. والشاعر يغترف الكثير من المأثورات الصوفية في اشعاره..
يقول اقبال:
اجعل القلوب مركز الحب والاخلاص
لتعرف الحرم الإلهي
هذا الذي اعطيته رغيف الشعير
اعطه أيضا قوة حيدر(22)..
وحيدر من أسماء الإمام(ع)..
وله أيضا..
عليٌّ قلب يقظان
القلب اليقظان مثل حجر الفلاسفة يحول هذا النحاس إلى إنسان
ابدع لك قلباً يقظان،
فما دام القلب غافيا
فستبقى ضربة عصاك دون جدوى
وستبقى ضربة عصاي دون جدوى(23)..
وله أيضا..
هذا النزاع بين الدين والدولة أشد قسوة من نزاع خيبر
هل فينا الآن مثل علي ذي الكرّات التي تتجدد كل حين؟(24)
وله من قصيدة في بيان أن سيدة النساء فاطمة الزهراء(ع) اسوة كاملة للنساء المسلمات يذكر فيها علياً(ع)
وهي زوج المرتضى ذا البطل أســـد الله الحكيـــم الفيــصــل
ملكٌ في الكوفة زهداً قد أقــامْ كلّ ما يملك درعٌ وحسام(25)
ونعود إلى الشعراء الناطقين بالضاد، ونقرأ للشاعرة العراقية آمال الزهاوي من قصيدة لها حملت عنوان (جدران الزنبق) في ديوانها الطارقون بحار الموت.. تقول الشاعرة..
لكن الأرض برائحة الاثم تفوح
تهتز على ظلامتها، فتنوح
حيدر.. حيدر.. حيدر
نحن الماشين على الاحزان صباحاً
نجتر نيوب الدنيا
تتوهج مثل كرات الدمع
تبحث عن ألم الوقع
عن رؤيا تهتز جراحاً
كي نبكي موت الصدفة
ونهيل الليل بأرض الشهداء
حيدر.. حيدر.. حيدر
في القصيدة اسقاط للرمز العلوي، وما يعنيه من دلالات حول الشهادة،
وعلاقته بالإنسان المعاصر والواقع المعاش..
وللشاعر محمد علي حسن من قصيدة حملت عنوان (الدم الفرقان) واصفاً فيه واقعة الطف، يذكر علياً(ع) بقوله: