دروس السيدمحمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 3)
بتاريخ : 09-08-2016 الساعة : 04:43 PM
دروس السيدمحمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 3)
توضیح الرؤیة الدینیة
1 وجود الخالق للكون وتوصیفه
. 2 تدبیره للكون وغایاته
إن للرؤیة الدینیة جوانب ثلاث: معرفیة وتكوینیة وتشریعیة..
وقد تقدم الكلام عن الجانب المعرفي..
الجانب التكویني للرؤیة الدینیة
وھو الجانب المتضمن لبیان الحقائق الكبرى في الكون،
ویدور حول موضوعین خطیرین: الخالق، والإنسان.
الموضوع الأول وھو الخالق :
إنّ الإنسان - وفق الرؤیة الدینیة - یجد في عالم المادة
وكائناتھا أثراً من كائن غیبي ویجد دلائل على صفات كمالیة لھ؛ من
قدرة وعلم وإبداع، وقد بین الدین في مقام تأكید ھذه الرؤیة وتفصیلھا
وإسعاف الإنسان في حدودھا أمور اً تتضمن إثبات صفات ثلاثة
لخالق الكون والحیاة:
الأولى: كونھ إلھاً صانعاً للكون والحیاة.
الثانیة: كونھ مدبر اً للكون والكائنات كلھا.
الثالثة: كونھ معنی اً بالإنسان عنایة خاصة. 1
الصفة الأولى: كون لله خالقاً للكون والحیاة، وتنطوي على
أمور عدّ ة وفق الرؤیة الدینیة:
الأول: وجود خالق للإنسان ولسائر الكائنات وواضع لسننھا
وقوانینھا یمكن اكتشافھ من خلالھا، ومن ظاھرة الحیاة فیھا، ومن
نظمھا وتخطیطھا. وتشیر إلى ذلك آیات كثیرة في القرآن الكریم منھا
قولھ تعالى: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَیْرِ شَيْءٍ أَمْ ھُمُ الْخَالِقُونَ ] 2، ومنھا: الآیات
التي یتصدرھا قولھ: [وَ مِنْ آَیَاتِھِ ] 3 أو قولھ: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَیَة ] 4 أو
. التي بلسان [للهَُّ الَّذِي] فعل كذا وكذا 5
الثاني: إنّ لله تعالى ی تّصف بالحیاة الدائمة والقدرة الشاملة
والعلم المحیط - كما ینبھ علیھ عظمة الكون والكائنات - بما یصحّ
معھ القول: أنّ عظمة لله تعالى وقدرتھ وعلمھ أكبر مما یقدره
الإنسان أو یمكن أن یجول في خیالھ كما ورد في الآیات القرآنیة .
1 وسیأتي الكلام عن الصفة الثالثة في الموضوع الثاني – وھو: الإنسان في الدین -.
. 2 الطور/ 35
3 الروم/ 21 25 ، فصلت/ 37 ، وغیرھا من الآیات.
4 النحل/ 11 ، الشعراء/ 8، العنكبوت/ 44 ، وغیرھا من الآیات.
5 الأعراف/ 54 ، الرعد/ 2، الغافر/ 64 ، وغیرھا من الآیات.
2
ولا یزال یتبین صدق ھذا المعنى وعمقھ یوماً بعد یوم بما
ینكشف شیئ اً فشیئ اً من أبعاد قدرة لله تعالى.. كالعمق الزمني السحیق
للعالم، وامتداد الكون في المجرات، والكواكب التي تحتویھا كلّ
مجرة، والقوانین المعقّدة الحاكمة في الحیاة والكامنة خلف ظواھرھا
وخصوصاً الفیزیائیة منھا ممّا تكشف عن تناسق مذھل للكون لم
یزل موضع إعجاب العلماء النابغین.. على أنّ الاكتشافات لم تنتھ
ولا تكاد تنتھي في ھذا السیاق.
وبذلك فمن الطبیعيّ أنّ لا یستطیع الإنسان إدراك أبعاد ما
تعالى مما لم یشھده بعد؛ مما كان ینبغي علیھ التسلیم Ž ھو مقدور
بإخبار الغیب فیھ، ومن الخطأ - بحسب المنطق الفطري السلیم – في
ھذا السیاق ما تنحاه بعض الاتجاھات من اعتبار غرابة جملة من
المعارف والأحكام الدینیة وعدم مألوفیتھا مؤشراً مسبقاً على
بطلانھا؛ كاستبعاد إعادة لله الإنسان إلى الحیاة بعد مماتھ في نشأة
أخرى، فإن من یستبعد ذلك أشبھ بمن رأى شیئاً من المصنوعات
الرائعة مما وقع عنده موقع الإعجاب والإكبار.. فأنكر صنع شيء
بدیع آخر؛ لاعتقاده بأن ھذا آخر صنیع في مجالھ.
الثالث: إنّ لله تعالى حكیم في فعلھ. ومعنى حكمتھ:
(أولا ): أنّ أعمالھ متناسقة ومتناسبة، ولا یمكن لھ أن یفعل
أفعالا غیر متناسقة؛ بأن یغفر مثلاً - لبعض الناس خطایاھم دون
بعض آخر، أو یعطي بعضھم ولا یعطي بعضاً آخر مع استوائھم
وتماثلھم ومن دون مرجح.
وممّا یشھد على ھذا: ما نجده بأنفسنا وأكد علیھ علماء
الفیزیاء - من اتساق جمیع القونین الحاكمة في الكون المادي اتساقاً
مذھلاً.
(ثانی اً): أ نّھ تعالى لا یلھو ولا یعبث، بل لھ غایات حكیمة
ومتقنة لائقة بھ و منظورة لھ، قال سبحانھ: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ
. وَالْأَرْضَ وَمَا بَیْنَھُمَا لَاعِبِینَ ] 1
الرابع: إنّ من أغراض الخالق من صنع ھذا العالم المادي
وسنّ قوانینھ:
(أولاً): إظھار قدرتھ وبیان عظمتھ للذوات العاقلة من مخلوقاتھ التي
تدرك بعقولھا حیث تأملت أبعاد ھذا العالم وآفاقھ ذلك، وقد یمثّل ذلك
المثل الأعلى - برسم الفنان لوحة بدیعة أو نحتھ نحت اً رائع اً؛ Ž - و
بغرض إثبات قدرتھ الفنیة.
. 1 الدخان/ 38
3
(ثانیاً): نشأة أخرى ھي الغایة التي تسیر إلیھا مجموعة الكون المادي
وكائناتھ، تكاد تكون الحیاة عبث اً لولاھا.. 1
وھذه الغایة وصفت بالحیاة الآخرة؛ حیث یقلب لله تعالى الكون بما
فیھ من كواكب ومجرات إلى نظام آخر كما قال تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَیْنَھُمَا لَاعِبِینَ مَا خَلَقْنَاھُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَھُمْ لَا یَعْلَمُونَ ] 2، وقد ذكر لله سبحانھ أنّ المؤمنین یستشفون ھذه
الغایة بالتأمل في خلق السموات والأرض في قولھ: [َویَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ ھَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ ] 3. وقد جاء وصف ھذا التحول الكبیر في الكون في بعض
الآیات كقولھ تعالى: [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ] 4، وقولھ: [إِذَا السَّمَاءُ
. انْشَقَّتْ ] 5
وھذه الغایة النھائیة للكون تشیر إلى محوریة الإنسان في ھذه الحیاة؛
لأنھ المحور لما یتفق في الحیاة الآخرة.
الخامس: إنّ ھذا الخالق وجود غیر مادي؛ فإن بدیھة العقل
تدلّ على عدم ألوھیة شيء مما یشھده الإنسان بحواسھ من بشر
وحیوانات وأشجار وجمادات؛ لأ نّھا ولیدة قوانین الوجود والحیاة
على غرار أمثالھا الموجودة في الطبیعة، ولا تصلح لأن تكون
مھیمنة على الكون بقدمھ وسعتھ ودقتھ كما نُبھ على ذلك في الآیات
. الشریفة، كقولھ تعالى:[أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَللهَُّ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَ لُونَ ] 6
ویتفرع على ذلك: إن طبیعة وجود لله تعالى وسنخ وجوده
سنخ وجود راقٍ ، یُجلّ عن شؤون المادة ومحدودیتھا، فلا استكمال
لھ ولا نقصان فیھ ولا تجزّء في ذاتھ على نحو ما نشھده في عالم
المادة، كما تمّ التأكید على ذلك في النصوص الدینیة سواء في الآیات
القرآنیة أم في خطب نھج البلاغة.
السادس: إنّ الخالق للحیاة واحد، إذ لا أثر من تعدد خالق
الكون والكائنات، فالكل جارٍ على نظام واحد متسق بقوانین متحدة،
ولو كان ھناك آلھة متعددة لكان ذلك مظ نّة التصادم بین تقنینھا للكون
كما قال تعالى: [لَوْ كَانَ فِیھِمَا آَلِھَةٌ إِلَّا للهَُّ لَفَسَدَتَا] 7 ، ولبلّغ الباقون
عن وجودھم كما بلّغ لله سبحانھ كما نبھ على ذلك أمیر المؤمنین
1 ویمكن تنظیر ھذا السیر بما ثبت في العلوم الحدیثة من أنّ لكلّ خصوصیة من خصوصیات الكون
والكائنات غایة تسیر نحوھا وتنتھي إلیھا حسب سنن الحیاة وھي منظورة بخلقھا، ومن ثَمَّ یُذكر في
علم الأحیاء كیف جُھّز كل حیوان بجملة من الأدوات والأسالیب والغرائز التي تحفظ ھذا الحیوان،
فعندما یحلل علماء الأحیاء صفات الكائن كمنقاره وجناحھ أو سائر صفاتھ یبینون كیف تتلاءم ھذه
الخصائص مع صلاح ھذا الكائن في حفظھ وتكاثره ووقایتھ عن الأخطار، وربما أشیر إلى مثل ذلك
. بالآیة الشریفة: [ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَھُ ثُمَّ ھَدَى] 1
. 2 الدخان/ 38 39
3 آل عمران/ 191
. 4 التكویر/ 1
. 5 الانشقاق/ 1
.96- 6 الصافات/ 95
. 7 الأنبیاء/ 22
4
(ع) في وصیتھ لابنھ الحسن (ع): (لو كان لربك شریك لأتتك
رسلھ) 1 .
السابع: إنّ لله تعالى أجلّ من أن تُدرك تفاصیل ذاتھ ومن أن
یوصف كما توصف الكائنات وخصوصیاتھا، وھذا أمر واضح بعد
أن لم یكن وجوداً مادیاً. وعلیھ: فإن الإنسان لا یستطیع إدراك كیفیة
ذاتھ سبحانھ وخصائصھا؛ لعدم امتلاكھ أدوات ذلك، ومن ثَمَّ یكون
. التفكیر والتنظیر في ذلك لغو اً 2
وعلیھ: فإنّ من الخطأ الكبیر الاستدلال على كیفیة صفاتھ
الكمالیة مثل علمھ بصفات خلقھ، فھو كما ورد في الآیة الكریمة
لیس كمثلھ شيء 3، ولیس لذاتھ شبھ بالموجودات في كیفیة صفاتھا. 4
2. الصفة الثانیة: كونھ مدبراً للكون والكائنات، وھي
تنطوي على أمور، من جملتھا:
الأول: إنّ لله تعالى مفیض لوجود الكون والكائنات وسائق
لھا إلى غایاتھا، فلیست الكائنات وخصائصھا بالتي تبقى لذاتھا، بل
وجودھا وبقاؤھا رھن بمدد منھ، قال تعالى: [ إِنَّ للهََّ یُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَھُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ] 5، كما
أنّ بیده سبحانھ إزالتھا وإفنائھا متى شاء وأ نّى أراد، فمثلھا بالنسبة
إلیھ سبحانھ كمثل الطاقة المحتاجة إلى المدد الدائم من المصدر المولّد
لھا.
وھذا ممّ ا لا ینفیھ العقل؛ لأ نّنا لا نعلم حقیقة جمیع الأشیاء
التي ندركھا؛ فنحن قد نعلم مثلاً أنّ ما یوجب السقوط قوة الجاذبیة،
ولك نّنا نجھل تكوین تلك القوة وكنھھا، وھكذا الحال في سائر العناصر
والقوى المكتشفة، ولقد اُشیر لذلك في كلمات مشاھیر علماء الطبیعة.
وھذا الأمر في مقابل قول من یعتقد أنّ لله تعالى خلق
الكائنات على سنن وأحال أمرھا إلیھا فلا دخالة لھ في دوامھا وبقائھا.
الثاني: إنّ لله تعالى یملك دفة أمور الكائنات؛ فیتأتى لھ
التصرف فیھا على خلاف المعتاد منھا:
إما على سبیل الخرق الواضح لسننھا، وھو ما یسمى
بالمعجزة أو الكرامة، كولادة عیسى بن مریم (ع) من غیر أب،
. 1 نھج البلاغة/الوصیة 31
2 وقد قامت بعض اتجاھات التصوّف وبعض اتجاھات العرفان النظري وبعض الاتجاھات الفلسفیة
بمحاولات تنظیریة في ذلك، وھي أشبھ بالأوھام.
. 3 الشورى/ 11
4 وقد فصّل الإمام أمیر المؤمنین في نھج البلاغة في عدد من خطبھ قضیة مباینة شؤون لله مع شؤون
خلقھ، كما وردت أحادیث مستفیضة في كتب الحدیث عن الأئمة من أھل البیت (ع) في النھي عن
التفكیر في كیفیة لله تعالى.
. 5 فاطر/ 41
5
وانفلاق البحر لموسى(ع)، وكون النار برداً وسلاماً على
إبراھیم(ع).
وإما على أساس توجیھ العوامل الطبیعیة الخارجیة أو النفسیة
إلى منحى محدد لم تكن لتتوجھ إلیھ لولا التدخّل الخاص، مثل: توجیھ
السحاب إلى الأرض الیابسة في إثر توسل الخلق بصلاة الاستسقاء،
وتوجیھ أم موسى(ع) إلى ما یُحفظ بھ ولدھا(ع).
ولم یزل الخلق في أغلب الملل والنحل یتوجھون إلى الخالق
في مواضع الشدة والاضطرار عسى أن یفرج عنھم الشدائد من خلال
. الأسباب التي یملكھا 1
الثالث: إنّ لله سبحانھ لم یخلق الكون والكائنات دفعة واحدة،
بل كان نظام خلقھ لھا على أساس خلق الشيء على سُنن ثم تطویره
وفق تلك السُنن حتى یبلغ الغایة المنظورة..
كما في خلق الإنسان من نطفة ملق حة لیكون جنین اً ثم ینمو
حتى یكمل ویولد مكتملاً مجھّزا بالأدوات التي یحتاجھا.
وكذا في خلق السموات والأرض، حیث ورد في القرآن
الكریم أ نّھ سبحانھ خلقھا في ستة أیام 2، والمراد بالیوم التعبیر عن
المرحلة الزمنیة كما ورد في استعمالات العرب 3 ، وقد تكون
طویلة جداً، كما في قولھ تعالى: [وَإِنَّ یَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ ]( 4)؛ فیكون عدد الأیام إشارة إلى عدد المراحل التي ترسمھا
الحوادث الكونیة العظیمة.
وقد یكون ھذا النحو من الخلق وھو خلق شيء یبدو غیر
ذي شأن وتنمیتھ وفق سنن ع بّئت فیھ حتى یكون مثالاً رائع اً أدلّ
على القدرة على الإبداع، فقد یمارس المرء مباشرة عملاً وقد یصنع
آلةً على نظام ینتج ذلك العمل وھذا أبلغ دلالةً على القدرة، ومن ثَمَّ
نبّھ في الآیات الشریفة على قدرة الخالق على إخراج شيء بدیع
. ومتقن من شيء یسیر كما قال تعالى:[ یُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَیِّتِ ] 5
1 وھذا البعد قد یرجع إلى البعد الأول بملاحظة أن الأشیاء من خلال بواطنھا مربوطة بالذات الإلھیة
والإرادة الإلھیة.
2 الأعراف/ 54 ، یونس/ 3، ھود/ 7، وغیرھا من الآیات.
3 وھو استعمال شائع؛ حیث یطلق الیوم على كامل الزمن الذي وقعت فیھ حادثة ما، فیقال: یوم بدر،
ویوم أحد، ویوم صفین، ویوم الجمل، وقال تعالى: [وَیَوْمَ حُنَیْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَیْئًا
وَضَاقَتْ عَلَیْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُدْبِرِینَ ] 3، ومنھ التعبیر بالیوم الآخر ویوم القیامة، وفي
المثل: ( ما یوم حلیمة بسرّ).
. 4 الحج/ 47
. 5 الأنعام/ 95