بقلم : خولة القزويني
قال الله عز وجل في كتابه العزيز:
( يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه) الانشقاق- آية: 6
إن وجودنا على الأرض يحتم علينا أن نتحرك وبشكل تصاعدي نحو الله عز وجل المثل الأعلى المطلق للبشرية وأن نكابد صراعنا الداخلي بين تكويننا الطيني الذي يشدنا إلى الأرض والنفحة الإلهية التي تجذبنا نحو الكمالات الروحية، وقد حمّل الله عز وجل الإنسان مسؤولية الإعمار والبناء الحضاري بمقتضى قانون الاستخلاف، ولهذا أرسل الأنبياء الرسل والأئمة لهداية وإرشاد الناس وبناء المجتمعات وفقاً لقيم العزة والحرية والكرامة والتي نادت بها جميع الأديان السماوية، فالدين الإلهي يوجه الإنسان دوماً كي ينتصر على حفنة التراب المادية وينتزع ذاته من وحل الأنانية وحب الدنيا ليرتقي نحو الكمال المطلق في حراك نوعي يصفه الله عز وجل بالمكابدة، وحينما يفقد المجتمع خواصه الحضارية الممثلة بهذه القيم وتموت حركته فإنه ينحدر نحو الرذيلة والفساد ويعيش أفراده همومهم الغريزية المعاشية يأكلون ويشربون كالبهائم كما يقول الله عز وجل (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام) محمد: آية 12، فينسون أهدافهم العليا، ويتخلون عن مسؤلياتهم الرسالية وتكاليفهم الشرعية ويعطلون أحكام الله ومنهاجه ويسترخصون قيم العزة والكرامة فيتذللون من أجل معائشهم وأرزاقهم ويتملقون الطواغيت والحكام فيتسربلون كأمة ومجتمع في حالة من الوثنية الباطنية حيث الانسلاخ اللاواعِ عن ربهم، عن ولائهم الحقيقي لله، وتنطلق من هذا الوثنية ممارسات مبتذلة، حيوانية ظالمة، تعيد الإنسان إلى عصر الغاب وجاهلية ما قبل الإسلام، وهذا يعني سقوطاً حضارياً وانحرافاً عقائدياً يدفع الدعاة، القادة، أهل الأيمان لتقويمه وإعادته إلى الجادة.
فنموذج هذا المجتمع عاصره الإمام (الحسين)، مجتمع حاد عن الحق وغرق في الفساد والانحطاط فانطلق سلام الله عليه بحركته النهضوية إلى كربلاء لإصلاح الأمة وإقامة حكم الله العادل، وبعد استشهاده عليه السلام في معركة الطف كان للسيدة (زينب) دوراً إعلامياً رائداً في المسيرة المباركة إذ قادت قافلة الإباء بقوة ورباطة جأش وباستعداد المتربص للمواجهة المصيرية التي ستضعها في قلب الأحداث والمخطط ضمن استراتيجية إلهية حكيمة تستهدف حفظ الشريعة الإسلامية من الانقراض بعد أن عاث يزيد يفسد فيها حتى الطغيان والجور.
كان المجتمع الكوفي آنذاك غارقاً في الضلال، ذليلاً خانعاً قد استسلم لإرادة الطاغوت رغبة في حياة الدعة والسكون ففرط بكرامته وعزته.. فسوطت ضميره المتراخي امرأة ثكلى لا ناصر لها ولا معين قد قُتل أخوتها، أولادها، عشريتها ووقفت أمام الطاغية يزيد تحاجج وتقارع حجة بحجة، دليل بدليل ثابتة، راسخة، فقد تمنطقت بمنطق القرآن وتسلحت بلغة النبوة والإيمان فاستطاعت أن تستفز المجتمع الميت وتصعقه صعقة جذرية وتؤلب الرأي العام على السلطة الظالمة، وقد قال فيها بشر بن خزيم الأسدي: (ونظرت إلى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ فلم أر خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس).
إنها صلابة نادرة لامرأة استثنائية قررت أن تسقط نظاماً سياسياً منحرفاً وتذيق السلطة مُرّ الهزيمة وعار الفضيحة، فقد دخلت على أكبر مستكبر وأشرس قاتل فما التفتت إليه ولا استأذنته في الجلوس بل أهملته واستنكرته واستحقرته وهي مرفوعة الهامة، ثابتة الجنان، وتقاد من بلد إلى بلد وهي مقيدة بالأصفاد ترعى قافلة السبايا وتمضي في طريق الحق شاكرة الله عز وجل نعيم بلائه وعظيم مصابه.
هذه المشاهد الناطقة بالعزة والكرامة ماذا نستلهم منها نحن النساء لنحذو حذوها ونقتديها كنموذج يوقد فينا تحدياً جديداً أمام أنفسنا.. ما هي العبر والدروس التي نحتاجها كنساء في هذا الزمن بعد أن تناهبتنا ملذات الدنيا، هموم المعاش، حياة الهدأة والاسترخاء، فانسلبت إرادتنا وعجزنا عن اتخاذ قرار شجاع، قرار تغيير الذات وتغيير مجتمعنا، مازالت أصنامنا الداخلية تهيمن على مشاعرنا، تستحوذ نوازعنا الدفينة، فغبنا وغاب وعينا، وانغمرنا في وحل الدنيا نتلوث بالأنانيات والأهواء دون مجاهدة للذات ومواجهة للواقع الراكد.
فالقرار الزينبي لم يأتِ وليد لحظة انفعال إنما هو خطة مدروسة ذات منهج رسالي قائم على مقومات هامة يمكن قراءتها بشيء من الوعي والتدبر، وهي:
1- حينما خرجت السيدة زينب مع إمامها وأخيها الحسين كانت قد استأذنت زوجها عبدالله ومهدت الطريق لرحلتها الجهادية، وهذا موقف شرعي ينبغي أن تنتبه إليه المكلفة في مسيرتها الرسالية.
2- الجانب العبادي كان يشكل محطة هامة في شخصية السيدة زينب، فهي تقيم صلاة الليل وتتهجد باعتبار هذه النافلة وقوداً لروحها العظيمة، وطاقة كونية تهبها الشجاعة والصبر، فقد حرصت على صلاة الليل وهي في ذروة الفاجعة فقد صلتها في ليلة الحادي عشر من محرم وهي جالسة، وقد خاطبها الإمام الحسين (ع) في ليلة العاشر من محرم قائلاً (لا تنسيني من نافلة الليل) هذا يعني أن للقرب الإلهي دفق معنوي وجذبه قدسية تسمو بالإنسان كي يتجرد عن حب الذات والأهل والولد ويذوب في حب الله حتى الفناء.
3- اللغة والمنطق، فالمرأة الداعية عليها أن تتحصن بثقافة إسلامية ومنطق وفكر يؤهلها لمحاججة الضالين والمترددين والمتشككين لإقناعهم أن سعادة البشرية لا تأتي إلا بإقامة حكم الله العادل.
4- معرفة إمام الزمان، انطلاق السيدة زينب لم يأتِ من واقع صلة الرحم ورابطة الدم إنما هو تكليفها الشرعي ومسؤوليتها الرسالية اتجاه إمامها في إضرام شعلة النهضة في مجتمع انسلخ عن دينه.
5- الحراك الواعِ، ينبغي على المرأة أن تستوعب المفاهيم الإسلامية من منظور إلهي حتى تتحرك عن قناعة ويقين فتعرف معنى الهزيمة والنصر ضمن المقاييس والمعايير الربانية التي تختلف عن منطق الماديين.
6- العزة والكرامة، ترويج ثقافة العزة والكرامة بين نساء الإسلام، فالمرأة العزيزة، الكريمة، تأبى الذل والخنوع، ترفض أنصاف الحلول، لا تتنازل، لا تميع أهدافها، إنها تجنح باستمرار نحو الكمال، هذه المرأة تشخص بنوازعها نحو الله عز وجل، فالنفحة الإلهية تجذبها في حراك صاعد نحو الله، نحو المثل الأعلى المطلق.
7- الإيمان بالنصر، عندما نؤمن أن من ينصر دين الله فإن الله عز وجل حتماً سينصره، فالغزو الفكري الذي نهش مجتمعاتنا الإسلامية ينبغي أن لا يشعرنا بالإحباط والهزيمة، بل يجب أن نتيقن أن المستقبل لدين الله وأن انتصار الحق والعدل هو مصير المستضعفين الذين جاهدوا المستكبرين والطواغيت طوال المسيرة، وهو الوعد الذي يتحقق لكل الثوار والمصلحين على مرّ التاريخ، فعليكِ أن تكوني واثقة من تحقيق أهدافك الكبرى كما وثقت زينب من انتصار الدم على السيف.
هذه المفاهيم زرعتها السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام في الأمة فأججت في الأقطار نيران الثورات وحركات التحرير فاستيقظت من سباتها ونفضت عن عينيها غبار الغفلة والجمود.
فالسلام عليكِ يا بنت محمد المصطفى.
السلام عليكِ يا بنت علي المرتضى.
السلام عليكِ يا بنت فاطمة الزهراء.
السلام عليكِ يا بنت خديجة الكبرى.
السلام عليكِ وعلى جدكِ المختار.
السلام عليكِ وعلى أبيكِ حيدر الكرار.
السلام عليكِ وعلى السادات الأطهار الأخيار.
السلام عليكِ يا أم المصائب زينب.
ورحمة الله وبركاته.