دخل المحافظ مبنى المحافظة في ساعةٍ مبكرة ولم يلحظ شيئاً جديداً طرأ على من بالمكان..استقبله الساعي بعد أن مدّ يده ليحمل حقيبتة ثم سبقه إلى المِصعد، دخل مكتبه وقد شَعُر بأن هناك تغيراً وارتباكاً يعم الإدارة بأكملها، كانت الأوضاع تُنذر برحيل المحافظ إثر بعض التقلبات السياسية التي تعم البلاد، وكعادة الموظفين الذين ينظرون للمدير في هذه الظروف وهم يرجون منه كلاماً أو قراراً ليطمئنهم ، حينها كتم مشاعره على أمل ظهور حقائق جديدة وألا يسال أحداً ماذا يحدث وإلا سيفقد هيبته..انتظر طويلاً حتى هدأت سريرته واطمأن قلبه ثم أشار إلى موظفي مكتبه بأن لا يدخل عليه أحد، وأن كافة مواعيد الساعة تؤجل إلى أجلٍ غير مسمى..
رفع سمّاعة الهاتف وأراد الاتصال بأحد المسئولين ليطمأن على حقائق الأوضاع، وهل هو في مأمنٍ مما يحدث أم لا ولكنه تردد فأغلق السماعة مرة أخرى..كان المحافظ شخصية نبيلة ولم يكن متوحشاً في إدارته على خلاف كثيراً من زُملائه، وكان شخصاً عطوفاً وحنوناً على الجميع، ولكنه مع ذلك كان يكره الأخطاء ككراهيته للكذب والنفاق، هو لم يتحدث في أمر السُلطة مع أحد، ففور تلقيه نبأ تعيينه –كمحافظ-هرع إلى الوظيفة كأنها وظيفة عادية لا تستدعي القلق..بمثل هذا التصور يُصبح موظفاً متفائلاً مهما حدث..ولكن ما أقلقه هذه المرة ليس الخوف على الوظيفة بل كان يخاف من أن يخرج من وظيفته سئ السُمعة.. رغم أنه كان إنساناً نظيفاً ولم يأكل حراماً قط..حينها تبدلت مشاعره إلى خوف ورهبة من المجهول، وماذا سيحدث لو حدث كذا أو كذا لا قدر الله.
السُلطة تزرع في الإنسان الرغبة وتجعله أكثر طموحاً وقلقاً من أن يكون شخصاً عادياً، فاندياح الأوضاع له والناس حينها يشعر بأنه ليس فقط شخصاً مسئولاً..بل هو نوعاً فريداً من الناس يحظى بالأهمية، وأن ما اعتاد عليه في السابق من عدم التقدير من البعض أصبح الآن لا يجوز، فالوظيفة تفرض على الناس هذا التقدير له بصفته ، وحين يشعر الإنسان بأهميته وتفرده تُصبح مسألة عودة كيانه السابق بين الناس هي في منتهى الصعوبة على نفسه..
بعد أن اطمأنت نفسه برقت في ذهنه فكرة الاطمئنان ولكن في غير مواعيد العمل الرسمية، وأنه عليه أن يُمارس شئون وظيفته بشكل طبيعي..وحين انتهى من عمله عاد إلى بيته واتصل بأحد المسئولين ودار هذا الحوار:
المحافظ في استعجال: سيادتك لم تقل لي شيئاً بخصوص ما يحدث، وهل هناك خطر على النظام السياسي أم أن الأوضاع لا تمس عمل المحافظين؟
المسئول بنبرة يعلوها الثقة:ينبغي عليك الاستعداد لكل الاحتمالات..وكذلك ينبغي عليك أن تنشط في مراقبة المعارضين حتى في خلواتهم، فما بلغنا عنك أنك ترفض المراقبة وهذا لا يجوز في عمل المحافظين، أنت لا تعرف عنهم أسراراً شخصية لتفضحهم بها ولكنك تراقبهم لصالح الدولة.
المحافظ مستفهماً:وهل المراقبة هي التي تحل المُشكلة؟
المسئول:نعم هي تحل بعضاً منها وبأن نتقي شر هؤلاء إذا لَزِم الأمر.
المحافظ وقد علا صوته قليلاً:ياسيدي المراقبة من المعائب وأنه لا يجوز لي التجسس على أحد ، ومع ذلك أنا أتفهم معنى مصلحة الدولة إذا مسها خطر ما.. وأنا أعمل لذلك وأمارس دوري في المراقبة، ولكننا الآن أمام وضع سياسي وشعبي فالدولة الآن عملياً غير موجودة كي أعمل لصالحها.
المسئول في دهشة:إذن ما الموجود إذاً؟
المحافظ في استنكار:نحن الآن الموجودين وينبغي علينا أن نخاطب الشعب ولا نعتبرهم معارضة شقية، يعني أن الوضع الآن هو سُلطة في خطر وليست دولة في خطر..فلو أردنا العمل لصالح الدولة فينبغي علينا التواصل مع المعارضة لا أن نظن بأننا الدولة وهكذا وقُضي الأمر..الأوضاع ستتعقد.
كانت ردود المحافظ تعبر عن صراعاً داخليا يدور بداخله بين التمسك بالأخلاق والقيم التي نشأ عليها وحافظ عليها في وظيفته..وبين خوفه على مكانته وهيبته وسط الناس، فهو يعمل لصالح الاثنين معاً وأن لا يضطر للتخلي عن مبادئه في لحظاتٍ من الرغبة والطمع...كان إيمانه بالله يعلو حين يمارس دوره في خدمة المحافظة، وكان ينخفص إيمانه حين يشعر بالخطر عليه في وظيفته..فمن الطبيعي على إي إنسان أن تعلو روحانياته في ظل خدمته للناس، وأنهم ينظرون إليه حينها بأنه الكريم النبيل، إضافة إلى أن وظيفة المحافظ تفرض على الناس بأن ينظرون إليه نظرة المتسامح، وأنه لو أراد بأن يسجن من يشاء سيفعل...
ومع ذلك فالمسئول ورغم خطاب المحافظ الذي اعتلته بعض الحِدّة لم يُبدي غضباً ، فالوقت -وفي ظل هذه الظروف- ليس وقت غضب على الإطلاق.. أو وقت تحكم وهيمنة فالجميع مُهددون..وحين يعم التهديد الجميع فلا فرق بين أمير وخفير أو بين نبيل وصعلوك، انتهت المُكالمة على وعدٍ من المسئول بمتابعة الموقف عن كثب، وأنه حين يجد جديد سيبُلغ المحافظ.