وقريب منها في سورة الشورى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾(2).
وجه الشبهة ان هدف الوحي الى الرسول كان إنذار أهل مكة ومن حولها ممّن هو قريب منها.
والجواب عنها من وجوه..
أ - ان هذا يبتني على تفسير الحول بالقرب، مع ان القرآن استخدمه بغير ذلك ففي سورة الأحقاف: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى﴾(3).
قال الطبرسي: "معناه: ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم، وهم قوم هود وكانوا باليمن وقوم صالح بالحجر وقوم لوط على طريقهم الى الشام"(4). وكذا في سورة العنكبوت: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾(5).
ب - الملحوظ في الآية أنّها لم تعبر (مكة وما حولها) وهذا يكشف عن ان المنظار ليس هو البقعة وما يحيط بها جغرافياً، بل في كلتا الآيتين جاء التعبير ب- (أم القرى) وكأنّه لتأكيد مركزية مكة بالنسبة للبقاع الاخرى بسبب وجود الكعبة والبيت الحرام فيها، والعرب تسمي كل أمر جامع يُجتَمع عليه (أماً). ولذا ورد عن ابن عباس أن سبب تسمية مكة بذلك أنّ الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها، وقال أبو بكر الأصم: (سمّيت بذلك لأنّها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد و القرى تابعة لها)(6).
فاختصاص هذا الاسم بمكة خير شاهد على عدم النظر إليها بما انّها بقعة معيّنة.
ج - إنّ هذا التفسير يجعل الرسالة محدودة بحدود جغرافية ضيّقة، وهذا خلاف الضروري من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم). والشواهد الأخرى التي سوف نذكرها.
د - لو فرضنا ظهور الآيتين في البقعة الجغرافية فقد يكون من باب التأكيد نظير ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(7) و﴿اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(8)، أو التدرج في الدعوة للاسلام باعتبار أنّهم كانوا المباشَرين آنذاك، ومن المعلوم ان القرآن ابتنى على ملاحظة المناسبات والتأكيد على ذكر الخصوصيات، نظير قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾(9) على التفسير القائل انّهم أهل مكة - مع أنّ سورة الجمعة مدنية - فلم يستنكر ذلك أحد من المسلمين ولم يراوده تساؤل عن اختصاص الرسالة بأهل مكة.
ومما يشهد بعدم ورود الآية الكريمة في مقام الحصر الحقيقي، قوله: ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾(10) حيث لا إشكال في ان الهدف من إنزال القرآن ليس مجرد الإنذار ليوم الجمع..
هـ - إنّ قوله تعالى: ﴿...وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ...﴾ يشمل كل المنتسبين للأديان السماوية وهو لا يلتئم مع اختصاص الرسالة بأهل مكة ومن حولها، خصوصاً مع ندرة وجودهم في هذه المنطقة.
الأمر الثاني: الأدلة والشواهد - القرآنية وغيرها - الدالة على أممية الإسلام. وهي كثيرة جداً، منها:
2- ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾(12). ونظيرها كثير من الآيات التي تخاطب أهل الكتاب.
3- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾(13)﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(14) ونحوهما كثير من الآيات التي تؤكد شمولية الرسالة الاسلامية.
4- ﴿بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾(15) ونحوها مما دل على تبشير غير العرب برسالته (صلى الله عليه وآله وسلّم).
5- ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾(16). حيث دلّت على شمول رسالته لغير العرب، وان اليهود كانوا يترقّبون بعثته.