إذا سار الحوار جادَّاً وفق هذا المنهج من قبل جميع الأطراف ؛ فلا بد أن يصلوا جميعاً إلى ما التزموا به في بداية الحوار من الرجوع إلى الحق وتأييد الصواب ، فإذا رفض المحاور الحجج العقلية كأن لم يقتنع بها ؛ فإنه بذلك يمارس حقاً أصيلاً كَفِلَه له رب العزة ، وسيكون مسئولاً عن ذلك أمام الله تعالى .
وفي هذه الحالة ينتهي الحوار بهدوء كما بدأ دون حاجة إلى التوتر والانفعال :"أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ" [هود:35] ، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُواعَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] .
9- الإشهاد على المبدأ وعدم تتبع الأخطاء الناتجة عن الانفعال أثناء الحوار :
وفي آخر الحوار يتم إشهادهم على المبدأ والتمسك به : "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران:64] .
ولا حاجة في أن يُتَابَعَ الخصم على ما بدر منه من إساءات في الحوار ، وليكن العفو والصبر أساساً وخلقاً في التعامل مع الجاهلين :] خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ" [الأعراف:199] ، "اصبر على ما يقولون" [طه : 130 ، ص:17] ، "فاصبر على ما يقولون" [ق :39] ، "فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ "[السجدة:30] ، "فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" [النجم:29] ، "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً " [المزمل:10].
هكذا يرشد المنهج القرآني في الحوار إلى إنهائه بمهمة وأداء رسالة يبقى أثرها في الضمير إن لم يظهر أثرها في الفكر ، إنه أسلوب لا يسيء إلى الخصم بل يؤكد حريته واستقلاليته ، ويقوده إلى موقع المسئولية ليتحرك الجميع في إطارها وينطلقوا منها ومعها في أكثر من مجال .
كانت هذه بعض إحداثيات الحوار مع المشركين تجلّت فيها معالم الاستقلالية التامة والحرية المطلقة التي أعطيت للمشركين ؛ حيث قُوبل توترهم وردهم العنيف بالدعوة إلى إبداء الدليل العلمي ، وإذ عجزوا عنه أقيم عليهم الدليل العلمي والواقعي على بطلان دعواهم دون أن يتعدى ذلك إلى أي شائبة من شوائب الإكراه المادي أو النفسي .
لقد كشفت لنا معالم المنهج الحواري في القرآن أنه ينطلق من حقيقة الاختلاف بين البشر ، وما يستلزمها من حرية الإنسان لينتهي إلى تأكيدها ، وبالتالي فهو منهج لا يهدف أكثر من دعوة الناس إلى التعرف على الحق ، واكتشاف التي هي أقوم ، فالحوار وفق المنهج القرآني لا ينطلق من منطق الوصاية على الآخر ، أو مجرد التعريف بما عند المحاور ، إنما هي قضية بحث عن الحق أين كان ، وهذا لا يعني أن المسلم عندما يدخل في حوار مع الآخرين قد تخلّى عن تصوراته ، إنما الموضوعية تتجلّى في الاستعداد التام للتخلي عن جميع التصورات ، وتبني نقيضها إذا ما اتضح أنَّ الحق مع الرأي الآخر ، وهذا الاستعداد ليس مجاملة إنما هو تعهد يعبر عن مصداقية المسلم في اتباع الحق ، وهو تكليف إلهي صريح في محاورة الآخر ، "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" [الزخرف : 81].
وإذا عرفنا هذه الأسس القرآنية لنجاح الحوار أو على الأقل عدم تحوله إلى الضد من أهدافه السامية ، عرفنا أسباب التردي والفشل في مختلف الحوارات التي تجري في واقعنا بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين وغيرهم ، فهي حوارات يغلب عليها منطق الوصاية وإثبات الوجود ؛ لذا فهي أبعد ما تكون عن القصد إلى الحق ، وهذا طبيعي إذا فقد المحاور أهم أسس الحوار وهو الحرية الفكرية التي يستطيع الفرد من خلالها اتخاذ قراره الفكري .