الأب يقول لابنه: ((إنني أفعل ذلك حتى تكون الإنسان الكامل الناضج)).
والابن يقول لأبيه: ((إنني أطالبك بأن تحقق كل مطالبي حتى تكون الأب الكامل الذي يستجيب لكل مطالب أبنائه)).
والحقيقة الواضحة لنا جميعاً أن الكمال البشري مسألة لم تتحقق في أرض الواقع أبداً.
ـ بحسب رؤية الكاتب الذي لا يعرف اهل بيت العصمة عليهم السلام ومنهجهم في الحياة ـ
لم نجد أباً قد وصل إلى الكمال في سلوكه مع أبنائه.
وليس معنى تقرير هذه الحقائق الواضحة أمامنا جميعاً ـ في أنفسنا وفي سلوكنا الشخصي ـ أن هناك إنساناً يمكنه أن يتنازل عن الرغبة في الوصول إلى الكمال.
وحتى الإنسان الممتلئ باليأس قد يخدع كل مَن حوله بكلمات اليأس وهي تخفي في قلبها شعلة البحث عن أمل وشعلة من نفاد الصبر ورغبة في الوصول إلى الكمال.
وكما يقول العالم النفسي الكبير، إريك برن، الذي كشف عن أجزاء كبيرة من سيناريو الحياة البشرية: ((إن كل إنسان يولد وهو طيب ومحب للخير وصاحب قدرة على الارتفاع والسمو، ولكن أسلوب التربية بالقمع وصب الأبناء في قوالب هو الذي يحول الأبناء إلى ضفادع ترقص على أنغام الحضارة، وتصدر نقيق الإزعاج بالتمرد)).
ولكن الدكتور هاريسون، تلميذ إريك برن، يقول: ((إنني أرى الإنسان على العكس مما يراه إريك برن. إنني أراه يولد وهو يملك فكرة غريبة بعض الشيء عن نفسه. إن الطفل الصغير يرى نفسه ككائن دميم بين كبار يعنون بنظافتهم ويحاول أن يقلدهم ولكنه لا يستطيع، ويظل يحاول أن يكون نظيفاً كبيراً مثل الكبار إلى أن يكبر، وهنا يكتشف أن الكبار يخفون داخل أناقتهم الإحساس بالضآلة. وهذا ما يجعلهم يبحثون عن الكمال دائماً)).
وليس من المهم أن نحدد ما هي وجهة النظر الأكثر صدقاً لأن كلاً منهما صحيح إلى حد كبير.
فالطفل الصغير بريء تماماً، يصطاد الحب بعينيه الصافيتين وضحكته اللامعة وصوته الذي لا يحمل كلمات محددة ولكنه أكثر جمالاً من كل الأصوات.
والطفل الصغير شرس تماماً، يرفس كأنه حصان جامح، ويصرخ بلا مبرر، ويقف أمامه الكبار حيارى لا يحسنون التصرف تجاه هذه ((الكارثة)) الصغيرة التي لا تملك القدرة على أن تشرح نفسها. وبعد ذلك يكف الطفل عن الصراخ وينام، ويهدأ جو الأسرة ونجد الأم تغمر وجه الطفل النائم بالقبلات، ونجد الأب وهو يربت على وجنتي الطفل بحنان.
إذن ... هناك مساحة من الكراهية تتضح لنا فجأة، وهذه المساحة تفصل بين الآباء والأبناء في بعض اللحظات، وتتبعها مساحة من الحب الفياض.
ونلوم أنفسنا نحن الكبار لأننا كرهنا الزواج والإنجاب في بعض المواقف عندما يتصرف الابن تصرفاً غير لائق، كما نلوم أنفسنا عندما نشعر بالذنب لأننا قسونا على الأبناء في بعض المواقف.
وبين ((لوم النفس للكراهية الطارئة)) ويبن ((لوم النفس للإحساس بالذنب)) تمضي في بعض الأحيان حياتنا مع الأبناء وكأنها قطار سريع جداً، لاهث جداً، لا يتوقف عند محطات التفاهم العميق، بل غالباً ما يتوقف عند لحظات الألم، وقليلاً ما يتوقف عند لحظات السعادة العميقة.
ولو أن الحضارة الغربية المعاصرة استطاعت أن تتفهم روح القرآن الكريم، كما تتمثل في قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) الآية 14 من سورة التغابن.
وليتنا فهمنا أن المال والأبناء هما ((اختبارات حياتية)) يجب أن نتعايش معها بأن نفعل الصالح بالمال ونفعل ما يصلح حياة الأبناء، وأن نسمع للأبناء جيداً وأن نتفهم ظروفهم على قدر المستطاع، وأن ننفق الخير لا من المال فقط ولكن من عطاء الأحاسيس، وبذلك يصبح المال والأبناء كالأرض التي نحسن فلاحتها فتعطينا الثمار المرجوة.
لكن الحضارة المعاصرة تتعلم من التجربة والخطأ. ولا بأس، فلتتعلم من أخطائها ما يدميها ويجعل حزنها ممتداً أمامها كالأنهار المليئة بدماء الألم، فلسوف تعود في نهاية كل تجربة إلى ما فيه شفاء ورحمة حتى ولو لم تتعلمه، فإن التجربة والخطأ يدفعان بنا إليه كنتيجة نشفي بها أوجاعنا ونرحم بها أنفسنا بإصلاح أخطائنا.
إذن فمن الرائع أن نقيم وقاية بيننا وبين ((شح النفس)) ... فالبخل كما نعلم ليس بخل المال فقط، ولكن البخل الأكبر هو البخل في التفاعل من الأبناء والاندماج معهم في مشاريع مشتركة صغيرة، والصبر عليهم أثناء أداء أي عمل، وتعليمهم الخطأ من الصواب بعاطفة منضبطة. ومع أن هذا هو أسلوب التعامل المثالي مع الأبناء، فإن هناك أيضاً لحظات ننفجر فيها غضباً ويكون سلوكنا مع أبنائنا خاطئاً. وما دام الإنسان يغضب ويعود إلى هدوئه، فإن الابن يقدر ذلك.
وإذا كانت تربية الأبناء ((اختباراً)) لنا فإن كل إنسان يرغب في النجاح في أي اختبار أو امتحان يقابله.
والاطمئنان إلى أن الانسان يؤدي كل ما عليه من مسؤوليات هو الذي يخلق الثقة في أن النتيجة ستكون طيبة وناجحة إلى حد كبير.
أما الشك الدائم في النفس فيعرقل أداء الانسان لمسؤولياته كأب، وقد يدفعه الشك إلى التأنيب النفسي، على كراهية وضع الإنسان المسؤول عن آخرين هم الأبناء.
إن على الإنسان ـ الأب أو الأم ـ أن يتجاوز الإحساس بالذنب الذي يتأرجح فيه بين الإحساس بالألم النفسي وبين عقاب الأبناء، وعليه أن يسير على أرض الواقع.
ولنا أن نلحظ أن الآباء والأمهات الذين يهربون من مواجهة مسؤولياتهم بتخصيص وقت للتفاعل واللعب والانسجام مع الأطفال ويستبدلون هذا الوقت بهدايا وألعاب وحلوى ونقود، هؤلاء الآباء والأمهات يعانون دائماً من أن الأبناء يتحولون إلى أناس شديدي الأنانية والوصولية. إنهم يتعلمون الانتهازية من هؤلاء الآباء الهاربين من ممارسة مسؤولياتهم
.
إنك، عزيزي الأب ـ وأنت أيضاً، عزيزتي الأم ـ لن تحقق الكمال في تربية ابنك لأنك، بدورك، إنسان لك ضعفك ولك قوتك. وابنك أيضاً لن يحقق الكمال الخلقي والنفسي والحياتي، إنما سيحقق بعضاً منه. هذا هو الواقع.
ولأن هذه هي صورة الواقع، فإن على الإنسان منا أن يأخذ نفَساً عميقاً ويقبل على التعامل مع أبنائه على أساس أنهم بشر وليسوا مجرد آلات عليها أن تستجيب للأوامر. وعلى الإنسان أن يقبل على أبنائه من دون خوف من وجود بعض المشاكل في حياتهم، لأن الحياة من دون مشاكل هي الموت بعينه.
إن أغنى أغنياء هذا الزمان له مشاكل مع أبنائه، وأفقر الفقراء له كذلك مشاكل مع أبنائه.
ولنتذكر أن أوناسيس، ذاك المليونير اليوناني الذي ملأ الدنيا لسنوات بمغامراته وعلى رأسها الزواج بجاكلين كينيدي، لم يكن عنده الوقت للتفاعل مع ابنته كريستينا، رغم أنه أغرقها بالثراء الرهيب ولذلك صارت كريستنا، كما يقول عنها أطباء النفس: ((لا تعرف صورة واضحة لدور الرجل في الحياة))، ولذلك فهي تركب قطار الزواج ليتوقف بها كل عامين على الأكثر في محطة الطلاق.
وأفقر فقراء هذا العالم يعاني من مشاكل مع أبنائه. فعجوز قريتنا، فيما أذكر، كان فقيراً معدماً وكان يتسول، وقد خرج ابنه الشاب يوماً بعد خطبة الجمعة وهو يحمل كيساً كبيراً من النايلون فيه عشرات القطع الفضية من النقود ونادى في الناس قائلاً: ((لا تعطوا النقود لأبي لأنه يتسول وهو قادر على شراء عشرة أفدنة)). وأخذ عجوز قريتنا يصرخ قائلاً لابنه: ((لم أعرف كيف أربيك)). فقال له الابن: ((لم يكن عند وقت إلا للتسول)). وانزوى المتسول العجوز في طرف القرية لأيام ثم هاجر إلى قرية أخرى ليتسول فيها، هاجر ابنه إلى قرية أخرى ليعمل فيها.
وبين مشاكل أكثر الناس ثراءً قد نرى الفقر في الإحساس أثناء التعامل مع الأبناء.
وبين مشاكل أكثر الناس فقراً قد نرى أيضاً الفقر في الإحساس أثناء التعامل مع الأبناء.
وفي المسافة الواقعة بين الأثرياء جداً والفقراء جداً قد نرى ثراءً في الإحساس وقد لا نجد هذا الثراء.
إذن، فالمسألة أيضاً مسألة تربية لا علاقة لها بالثراء المالي، ولكنها في الأساس فن التعامل مع الأبناء بروح من التفاعل ومنحهم الإحساس بأننا نحن الكبار بجانبهم، ويمكننا أن نتفق معهم ويمكنهم أن يختلفوا معنا، ولكن ضمن حدود معينة.
إن إحساس الابن بأن والده حازم وحنون وأن أمه حازمة وحنونة يؤكد إحساس الابن بثقته بنفسه وبالعالم المحيط به.
وقد لا يملك الأب المال الكافي لأن يشتري لابنه اللعب التي يلعب بها أقرانه، ولكن هذا الابن إن وجد الأب والأم بجانبه يحذرانه ويقيمان له أعماله، ويدلانه على الصواب والخطأ، فإن هذا الابن ينمو في هذا العالم وهو محب للحياة، وهو يعرف أيضاً كيف يعامل أبناءه عندما ينجب أطفالاً.
من المهم إذن أن تكون بجانب ابنك ولا تضعه في قالب من القهر وأن توجهه بحزم، وبذلك لا يخرج إلى العالم وهو ضفدعة بل يخرج إلى العالم أميراً سعيداً.
ومن المهم أن تكون بجانب ابنك حتى لا يعاني من الإحساس بأنه ضئيل، بل تساعده على النضج حتى يتعلم كيف يدير أمور حياته على نحو سوي.