الحمد لله الذي زيّن الإنسان بالعلم ، وعلّمه جوامع الكَلِم ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله زين الكائنات وفخر الممكنات محمّد وآله الأطهار نور الأخيار وزينة الأبرار .
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْء خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ ) .
البيّنة في مصطلح الفقهاء بمعنى الشاهدين العدلين على واقعة في مقام الشهادة تحمّلها وأداءها ، وهذه تسمّى بيّنة شرعيّة وتشريعية ، وفي الكائنات بيّنات تكوينية ، ومن كلّ شيء خلق الله زوجين ليشهدا على وحدانية الله سبحانه وتعالى . ففي كلّ شيء له آية وبيّنة يدلّ على أنّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد .
وقصّة عاشوراء والطف الحزينة ، إنّما هي وليدة الزوجين الزكيّين الطاهرين العلويّين الفاطميّين مولانا الإمام الحسين بن عليّ سيّد الشهداء (عليهما السلام) ، وسيّدة بني هاشم ، عقيلة الطالبيين سيّدتنا زينب الكبرى (سلام الله عليها) .
فعاشوراء الإسلام محلّ ولادتها كربلاء الصامدة ، أبوها سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ومربّيتها المجاهدة الثائرة زينب الطاهرة (عليها السلام). لولاها لكانت عاشوراء اليتيمة تموت في صغرها . إلاّ أنّ السيّدة زينب بنضالها وندائها الثوري (عليها السلام) ربّت عاشوراء تلك الوليدة التي يجري في عروقها دم الله وثاره . فتربّت عاشوراء الحسين في أحضان زينب (عليها السلام) وترعرعت في جوارها وحجرها المبارك وجهادها الدؤوب ، لتكون عاشوراء اُمّ الثورات التحرّرية بين الأجيال في كلّ عصر ومصر ، إلى يوم القيامة ، فهي المنطلق الثوري للنهضات الإسلامية إلى اليوم الموعود .
ولا يمكن لأحد سوى الله سبحانه والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) أن يعرفوا مقام اُمّ عاشوراء ومنزلتها في الدارين ، فإنّ المعرفة والعلم بالشيء لازمه الإحاطة به ، ولا يمكن للناس أن يحيطوا بعاشوراء وجوهريّتها وفلسفتها ، ولا بأبيها واُمّها .
وزينب الكبرى في أدوار حياتها وسيرتها الذاتيّة تخبرك عن أصالة سماويّة وشجرة نبويّة ودوحة هاشميّة وترجمة قرآنيّة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، فهي زينة أبيها أمير المؤمنين أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وإنّه لم يفتخر بكتابه العظيم ( نهج البلاغة ) الذي هو كتاب الحياة وكتاب السعادة ولا يمكن للبشر أن يعرفوا ما فيه من العظمة والشموخ ، إلاّ أ نّه يفتخر ويتزيّن ببنته السيّدة زينب (عليها السلام) .
ولولا الخوف على عقول الناس ، لقيل في مدحها وثنائها ومعرفتها ما يبهر العقول ، ويحيّر ذوي الألباب ، وقليل من عبادي الشكور الفكور الصبور .
ولا زالت زينب النبوّة والإمامة ، زينب الولاية العظمى أسيرة الهوى ، بالأمس كانت أسيرة الظالمين من بني اُميّة الطغاة وأشياعهم ، واليوم أسيرة العقول الضعيفة ، حتّى قالوا عنها : إنّها امرأة عاديّة ؟ !
فما نطقت في معرفتها حرفاً ، إلاّ وتجد نفسك مقيّداً بسلاسل الافتراء والتهمة وأنّ القائل من الغلاة ، فزينب العظمة لا زالت أسيرة العقول والأفكار المتخلّفة .
ولا نقول في وصفها وثنائها أنّها الربّ ـ والعياذ بالله ـ ولكن نقول : هكذا خلقها الربّ جلّ جلاله .
إلاّ أنّ الناس بين قال وغال ، بين إفراط وتفريط ، فكما غالوا في أبيها حتّى قالوا باُلوهيّته ـ والعياذ بالله ـ وقالوا في حقّه حتّى جعلوه كافراً أو كأحد المسلمين ، ولا زال عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سيّد المظلومين ، قد ظلمه التأريخ كولده الحسين ، بل وأولاده وذرّيته .
وما زال صوته الحزين يدوّي في ضمير الإنسانية : « فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع قدمي » .
« أنزلني الدهر حتّى قالوا عليّ ومعاوية » .
وهذه الصرخة الأليمة تسري في كلّ الأزمنة وعلى مدى العصور والأحقاب ، حتّى قال ابن أبي الحديد المعتزلي في بيان مقولة أمير المؤمنين (عليه السلام) أ نّه : ( أطلق القول إطلاقاً عاماً مستغرقاً لكلّ الناس أجمعين ) .
ولا يزال عليّ المرتضى مجهولا ، ولا يزال كلامه القيّم يهتف : « سلوني قبل أن تفقدوني » ، وإنّه لا يختصّ بالمسلمين بل هو للبشرية كافة كأخيه النبيّ الأعظم رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
( وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ ) .
وعليّ أمير المؤمنين نفس رسول الله بنصّ آية المباهلة ، فظلموه وهو يقول : « اللهمّ إنّي أستعيذك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم صغّروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي » .
وهكذا ظلموا علياً وظلموا أولاده ، وظلموا زينب بجهلهم بمقامهم الشامخ ومنزلتهم العظيمة .
ولا بدّ من حياة جديدة لضمير المجتمع الإسلامي ، حتّى يعرف عليّاً وأبناءه الكرام .
حتّى يعرف النبيّ محمّد وقرآنه ، وعليّاً ونهجه ، وفاطمة ومظلوميّتها ، والحسن وسياسته ، والحسين وثورته ، وزينب وعاشوراءها ، والسجّاد وصحيفته ، وهكذا حتّى يعرف المهدي الموعود وفلسفة الانتظار ودولته العالمية .
كلّ هذه المعرفة إنّما تتمّ بالإيمان بالله سبحانه والعشق بعظمته ، وجماله المتجلّي في الكائنات والتعبّد والتسليم لأمره .
وما نعرفه من زينب اليوم ليس إلاّ شبحاً من قدسيّتها وعظمتها ، ومن الواضح أنّ الشبح لا يعطي معرفة تمام الشيء وحقيقته .
ثمّ أعداء الإسلام عرفوا أنّ الهجوم العسكري على البلاد الإسلامية لتهديم عقائد المسلمين لا ينفع أو لا يكفي ، بل لا بدّ من الهجوم الثقافي من الغرب والشرق ، بل لا بدّ باسم الدين ضرب الدين ، وباسم المذهب هدم المذهب من أساسه ، حتّى تفقد الاُمّة أصالتها ومجدها العريق ومعتقداتها الصحيحة ، فتركن إلى الغرب أو الشرق ، مستجدية متسوّلة متسكّعة .
وهذا ما يريده الاستكبار العالمي ، فتسمع بين آونة واُخرى نغمات ضدّ المعتقدات الدينية والضرورات المذهبية ، والعجب أ نّه من لسان رجال الدين والمتلبّسين بزيّ أهل العلم !
وأمّا زينب الإسلام فقدرتها تعني حكومة الأخلاق والفداء والتضحية ، وتربيتها يعني الحبّ والعشق الإلهي والذوبان في الله جلّ جلاله ، وثقافتها تعني سلامة الفطرة وحكومتها في كلّ مجالات الحياة على الصعيدين الفردي والاجتماعي .
والعشق الإلهي المتجلّي في ثورة عاشوراء إنّما هي شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها ، ثمرتها العصمة ، وورقها الإخلاص ، وجذورها الطهارة ، ودوحتها الجمال ، وبهاؤها الجلال .
والعشق إنّما ينبع من سويداء القلب ، والقلب حرم الله وعرش الرحمن ، والفطرة إنّما تدعو القلب إلى أن يعرف صاحبه ومالكه وهو الله سبحانه ، إلاّ أنّ هذا الشيطان الرجيم يسرق بيت الله ، وهو قلب المؤمن فإنّه حرم الله وعرشه ، فيسرقه ويعشعش فيه ، فيكون عشّ الشيطان وأبنائه وأعوانه وحزبه ، فيتنزّل القلب ويعصي الربّ ، حتّى ينتكس ، فلا يكون وعاء للرحمة الإلهية وعلم الله سبحانه ، ثمّ يموت القلب ، فيفقد الإنسان إنسانيّته ، فيكون كالحجارة أو أشدّ قسوة ، وكالأنعام بل أضلّ سبيلا .
وكربلاء الحسين وزينب (عليهما السلام) إنّما هي مصارع العشّاق ، كما قالها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حينما جاوز كربلاء : « هاهنا مصارع العشّاق » .
وعاشرواء الحسين وزينب (عليهما السلام) إنّما هو كتاب العاشقين الوالهين في حبّ الله وجماله .
وزينب بطلة كربلاء ، معلّمة العشق الإلهي جيلا بعد جيل ، ترفع إلى السماء جسد أخيها المضرّج بالدماء ، محزوز الرأس ، مهشّم الأضلاع ، وتقول بكلّ سكينة ووقار : « اللهمّ تقبّل هذا القربان من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) » .
ومن يعيش في رحاب زينب العشق يمتلئ قلبه شوقاً للقاء معبوده جلّ جلاله ، فيكون لسانه ميزان الحكمة ، ويده مائدة الكرم ، ويحيى بعشق الله ، ويرجع القلب إلى مالكه الأصلي التكويني والتشريعي ، كلّ هذا ببركة رسالة زينب الرسالية ، رسالة الدم والدموع ، رسالة المقاومة والفداء .
زينب الكبرى عقيلة بني هاشم اُمّ المصائب وقرينة النوائب ، العصمة الصغرى والناموس الأكبر ، محبوبة المصطفى وزينة المرتضى وشقيقة المجتبى وشريكة الحسين سيّد الشهداء .
زينب الإنسية الحوراء بنت سيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، نتيجة النبوّة المحمّدية وحصيلة الولاية العلوية ، وآية العصمة الفاطمية ، ومرآة المحاسن الحسنيّة ، وانعكاس المصائب الحسينيّة ، لقد بلغت في المجد غاية حدّها .
والعصفور بقدر همّته يصفق جناحيه ليحلّق في السماء ، فما نقول في زينب الحرّة إلاّ ما نفهمه بعقولنا القاصرة .
فزينب الدين رضيعة ثدي الرسالة ، ربيبة العلم والبسالة ، من أنوار المحشر بنت ساقي الكوثر ، سيّدة البطحاء خلاصة الخمسة النجباء ، ملكية العرب . فلو كان النساء بمثل هذي *** لفضّلت النساء على الرجالِ فما التأنيث عيب للشموس *** ولا التذكير فخر للهلالِ
ومن ألقابها العلياء وخصائصها السمحاء :
الصدّيقة ، العصمة الصغرى ، وليّة الله العظمى ، ناموس الكبرى ، الراضية بالقدر والقضاء ، أمينة الله ، عالمة غير معلّمة ، فهيمة غير مفهّمة ، محبوبة المصطفى(صلى الله عليه وآله) ، قرّة عين المرتضى (عليه السلام) ، نائبة الزهراء (عليها السلام) ، شقيقة الحسن المجتبى (عليه السلام) ، شريكة الحسين سيّد الشهداء (عليه السلام) ، الزاهدة ، الفاضلة ، العاقلة ، الكاملة ، العاملة ، العابدة ،
المحدّثة ، المخبرة ، الموثّقة ، كعبة الرزايا ، المظلومة ، الوحيدة ، عقيلة قريش ، الباكية ، الفصيحة ، البليغة ، الشجاعة ، عقيلة خدر الرسالة ، رضيعة ثدي الولاية ، روحي وأرواح العالمين لها الفداء .
يكفيها شرفاً وفخراً شهادة إمام زمانها سيّد الساجدين وزين العابدين الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) ، حيث قال : « بحمد الله إنّكِ عالمةٌ غير معلّمة ، وفهِمة غير مفهّمة » . وهذا ممّـا يدلّ على عصمتها ، فإنّ العصمة عن الذنوب والمعاصي وكلّ ما يشين ويزري بالإنسان إنّما يكون بالعلم ، بأن يعلم منشأ الذنوب ، وأ نّها تصدر من الجهل والظلمة ، كما يعلم نتائجها وآثارها ، من الآثار الوضعيّة في الدنيا والعقاب الاُخروي ، وهذا العلم يكون بلطف خاصّ من الله سبحانه في الأنبياء والأوصياء وفاطمة الزهراء (عليهم السلام) ، فهم معصومون بعصمة ذاتيّة كلّية ، تمنعهم عن المحارم اختياراً لا على نحو القهر والجبر ، وفي غيرهم ممّن يحذو حذوهم وينهج منهجهم ويرثهم في علومهم ومعارفهم وأخلاقهم ، يعصمون أنفسهم بعصمة أفعاليّة كسبية جزئيّة . فمثل الشهيد عليّ الأكبر (عليه السلام) والسيّدة زينب الكبرى وفاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر بقم المقدّسة يحملون هذه العصمة .
فسيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي العصمة الكبرى ، والسيّدة زينب (عليها السلام) هي العصمة الصغرى ، لأنّها عالمة غير معلّمة ، فعلمها من الله سبحانه ، يعصمها من الآثام والقبائح ، فهي تنوب اُمّها الزهراء (عليها السلام) في فضائلها وفواضلها وخصالها وخصائصها وعصمتها وعفّتها ونورها وشرفها وبهائها ، فكانت تنطق بالحكمة والعلم والأدب والمعرفة والعصمة من محاسن خلالها ، فلم يُرَ أكرم منها أخلاقاً ولا أنبل فطرةً ولا أطيب عنصراً ولا أخلص جوهراً في النساء بعد اُمّها سيّدة نساء العالمين .
فهي مجمع الفضائل ومنبع المكارم ، حازت من الصفات الكريمة والسجايا
الحميدة ما لم يحزها بعد اُمّها أحد حتّى حقّ أن يقال : هي الصدّيقة الصغرى ، فهي من الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى يضرب بها المثل الأعلى . وخير شاهد حياتها الطيّبة وسيرتها الذاتيّة المباركة ورباطة جأشها في قصّة كربلاء ويوم عاشوراء .
إنّ المقامات العرفانيّة الخاصّة بزينب (عليها السلام) تقرب من مقامات الإمامة ، فإنّها لمّـا رأت حالة زين العابدين (عليه السلام) حين رأى أجساد أبيه وإخوته وعشيرته وأهل بيته على الثرى صرعى مجزّرين كالأضاحي وقد اضطرب قلبه واصفرّ وجهه ، أخذت (عليها السلام) في تسليته تصبّره قائلةً : « ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي ، فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة ، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يدرس أثره ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام ، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأتباع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً » .
وقد ائتمنها الإمام على أسرار الإمامة ، وهذا يدلّ على عصمتها ، كما لم يذكر التأريخ رغم كثرة أعداء أهل البيت (عليهم السلام) ما يشين بها وينقص من شأنها ويبطل عصمتها ، فهي بنت الوحي وربيبة الرسالة ، تربّت في مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين وسيّدة نساء العالمين وسيّدي شباب أهل الجنّة (عليهم السلام) ، ومن تعلّمت في مثل هذه المدرسة الإلهيّة كيف لا تكون معصومة في أفعالها وحياتها ؟ فسلام الله عليها أبد الآبدين ، من بدو الخلق إلى يوم الدين .
ومن خصائصها : حملتها اُمّها كرهاً ووضعتها كرهاً ، كإخوتها (عليهم السلام) ، فالزهراء من حين حملها إلى يوم ولادتها كانت مهمومة ، وقد اُخبرت من قبل بمصائبها ، وما يجري عليها من الآلام والمحن .
روي أنّ زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لمّـا ولدت اُخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاء إلى منزل فاطمة (عليها السلام) وقال : يا بنتاه ، ايتيني ببنتك المولودة ، فلمّـا أحضرتها أخذها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضمّها إلى صدره الشريف ، ووضع خدّه المنيف على خدّها ، فبكى بكاءً عالياً ، وسال الدمع على محاسنه الشريفة جارياً ، فقالت فاطمة : لماذا بكاؤك ، لا أبكى الله عينيك يا أبتاه ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) : يا بنيّة فاطمة ، اعلمي أنّ هذه البنت بعدك وبعدي تبتلي بالبلايا ، وترد عليها المصائب شتّى ورزايا ، فبكت فاطمة (عليها السلام) عند ذلك ، ثمّ قالت : يا أبَ ، فما ثواب من يبكي عليها وعلى مصائبها ؟ فقال : يا بضعتي وقرّة عيني ، إنّ من بكى عليها وعلى مصائبها كان ثواب بكائه كثواب من بكى على أخويها ، ثمّ سمّـاها زينب .
وزينب اشتقّ من زَنِبَ ـ كفَرِح ـ بمعنى السمن ، وسمن كلّ شيء بنسبته ، فسمن الحيوان بمعنى كثرة لحمه ، وسمن النبات بمعنى نظارتها وكثرة ثمراتها ، وسمن الإنسان بمعنى حمله صفات الكمال والجمال .
أو زينب بمعنى الشجرة الطيّبة الحسنة الصورة ، أو بمعنى زين أب ، ولكثرة الاستعمال اُسقط الألف ، وعند بعض أهل المعرفة إنّما اُسقط الألف لعدم الفصل بينها وبين أبيها . فزينب زينة أبيها أمير المؤمنين بكمالاتها وخصائصها وخصائلها .
وأبوها أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إنّما هو زينة الكون ، وزينة الوجود وما خلقه المعبود ، فزينب زينة الزينة لهذا العالم الرحب ، وكانت كاُمّها الزهراء ( اُمّ أبيها ) فصارت ( زينة أبيها ) ورثت اُمّها في عصمتها وعلومها ومصائبها .
والأسماء تنزل من السماء ، إلاّ أنّ الله قد شرّف بعض أوليائه وأنبيائه أن سمّـاهم بنفسه ، كآدم ويحيى ( يا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيَّاً ) ، وعيسى المسيح ( إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ المَسيحُ عيسى ) ، والنبيّ الأكرم ( وَمُبَشِّراً بِرَسول يَأتي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أحْمَد ) وعليّ اشتقّ من العليّ والحسن والحسين وزينب الكبرى .
كما ورد في الخبر الشريف عندما قدّمت فاطمة بنتها إلى زوجها أمير المؤمنين ليسمّيها فقال : لا أسبق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولمّـا كانت بين يدي الرسول لم يسمّها لكي لا يسبق الله سبحانه ، فنزل جبرئيل الأمين وقال : إنّ الله يقرئك السلام ويقول : سمّها زينب ، كما سمّيت في اللوح المحفوظ .
فزينب زينة اللوح المحفوظ ، كما أنّ أباها أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) زينة عرش الله .
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي : أنت ممّن يعبد الوثنا
رضينا بقسمة الجبّار فينا *** لنا علمٌ وللأعداء مال