عندما يكرر القرآن أقوال الأنبياء السابقين نرى أن كلا منهم قد أعلن: (وَمَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْر إنْ أجْرِيَ إلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ)(1). ولكنه يأمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: (قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)(2).
هنا يتبادر للذهن هذا السؤال: لماذا لم يطلب الأنبياء السابقون أي أجر، وطلب نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) أجراً من الناس هو حب أقربائه الأدنين؟
القرآن نفسه يجيب على هذا السؤال بقوله: (قُلْ مَا سَألْـتُكُمْ مِنْ أجْر فَهُوَ لَكُمْ إنْ أجْرِي إلا عَلَى اللّهِ)(3).
أي إنّ ما طلبته من أجر إنّما يعود نفعه عليكم، إذ أنّ هذه المودة ليست سوى ذريعة تتوصلون بها إلى اصلاح ذواتكم وإلى التكامل الإنساني. هذا هو الأجر، ولكنه في الحقيقة خير آخر أعرضه عليكم، وذلك لأنّ أهل البيت وذوي قربى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أُناس طاهرو الذيل غير ملوثين «حجور طابت وطهرت» فحبهم والتمسك بهم لا يعني سوى طاعة الله والتزام الفضائل. إنّ حبهم هو الإكسير الّذي يقلب الأحوال ويوصل إلى الكمال. ومهما يكن المراد من لفظة «قربى» فهي لا شك تشمل عليّاً.
يقول الفخر الرازي: «يروي الزمخشري في (كشافه: عندما نزلت هذه الآية، سئل النبيّ: يا رسول الله، من هم ذوو القربى الّذين يجب علينا حبهم؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): عليّ وفاطمة وابناهما. يتضح من هذه الرواية أنّ هؤلاء الأربعة هم أقرباء النبيّ الّذين على الناس أن يمحضوهم الحب والولاء. وهذا ما يمكن إثباته من عدة طرق:
1 ـ آية (إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى
2 ـ ما من شك في أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحب فاطمة حباً جماً، وكان يقول: فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها. وكذلك كان يحب عليّاً والحسنين، وقد وردت في هذا روايات كثيرة.
وعليه فإنّ حبهم فرض على الأُمة أجمعين(4)، لأنّ القرآن يقول: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(5). ويقول أيضاً: (ولَـقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(6). كلّ هذا يدل على أنّ حب آل محمد ـ وهم عليّ وفاطمة والحسنان ـ واجب على المسلمين كافة»(7.
وهناك أحاديث شريفة كثيرة بشأن حب عليّ(عليه السلام):
1 ـ يذكر ابن الأثير أنّ النبيّ خاطب عليّاً بقوله: «يا عليّ إنّ الله عزّ وجلّ قد زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها، الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً ولا تنال الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين ورضوا بك إماماً ورضيت بهم أتباعاً فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك، فأمّا الّذين أحبوك وصدقوا فيك فهم جيرانك في دارك ورفقاؤك في قصرك، وأمّا الّذين أبغضوك وكذبوا عليك فحق على الله أن يوقفهم مواقف الكذّابين يوم القيامة»(8).
2 ـ يروي السيوطي أن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «يا عليّ، لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(9).
3 ـ يروي أبو نعيم أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب الأنصار قائلا: «يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هذا عليّ فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي، فإنّ جبريل أمرني بالذي قلت لكم من الله عزّوجلّ»(10).
وثمة روايات أوردها أهل السنّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أ نّه قال: «إنّ النظر إلى وجه عليّ عبادة، والحديث عن فضائل عليّ عبادة».
1 ـ ينقل المحب الطبري عن عائشة أ نّها قالت: «رأيت أبي كثير النظر إلى وجه عليّ، فقلت له: أراك يا أبي كثير النظر إلى وجه عليّ. فقال: بنيتي، لقد سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: النظر إلى وجه عليّ عبادة»(11).
2 ـ أخرج الديلمي عن عائشة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «خير اخوتي عليّ، وخير أعمامي حمزة. وذكر عليّ عبادة»(12
لقد كان عليّ أحب الخلق عند الله ورسوله، ولا شك في هذا.
يقول أنس بن مالك: في كلّ يوم كان أحد أبناء الأنصار يقوم على خدمة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). وفي يوم نوبتي جاءت أُم أيمن بطعام من دحاج محمر وقالت: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لقد ابتعت هذه الدجاجة وطبختها بنفسي. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): اللّهمّ ابعث إليَّ بأحب عبيدك ليشاركني في تناول هذا الطعام.
وفي تلك اللحظة طرق الباب. فقال رسول الله: يا أنس افتح الباب. فقلت في نفسي: أدعو الله أن يكون من الأنصار. ولكني رأيت عليّاً عند الباب. فقلت: رسول الله مشغول. وعدت إلى حيث كنت.
فطرق الباب ثانية. فقال رسول الله: افتح الباب. فعدت أدعو الله أن يكون الطارق من الأنصار. وفتحت الباب وإذا بعليّ. فقلت: إنّ النبيّ مشغول. وعدت إلى مكاني.
فطرق الباب مرة أُخرى. فقال رسول الله: يا أنس، افتح الباب وأت به، فلست أنت أول من أحب قومه، ولكنه ليس من الأنصار. ففتحت الباب وأدخلت عليّاً، فجلس يأكل مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(13 سر حب عليّ
ما سبب وقوع حب عليّ في القلوب؟
سر الحب لم يكتشف لحد الآن، أي لا يمكن حصره ضمن قانون معين، بحيث يمكن القول انه إذا حصل كذا يحصل كذا، إلاّ أنّ في الحب ـ ولا شك ـ سراً. فقد يكون في المحبوب شيء يغشي بصر المحب فيجذبه إليه. وإذا ما اشتد هذا الجذب وارتفع الحب إلى أعلى الدرجات، قيل: إنّه العشق. ولقد كان عليّ محبوب القلوب ومعشوق الناس، فلماذا؟ وكيف؟
فيم امتياز عليّ بحيث أثار العشق فولهت به القلوب، فاصطبغ بصبغة الحياة الخالدة؟
لماذا ترى القلوب أ نّها شديدة القرب منه، ولا تحسبه قد مات، بل تراه حياً يرزق؟
لاشك أن مبعث الحب فيه ليس جسمه، لأنّ جسمه لم يعد الآن بيننا، وما كنا أحسسنا به. إنّ حبه ليس من قب يل حب الأبطال الشائع في الأُمم.. كما نكون قد جانبنا الصواب إن قلنا: إنّ حبنا عليّاً تابع لحبنا الفضائل الأخلاقية والإنسانية، وإنّ حب عليّ هو حب الإنسانية.. صحيح أنّ عليّاً كان تجسيداً للإنسان الكامل، وصحيح أنّ الإنسان يحب مثل الإنسانية السامية.
ولكن لو أنّ جميع الفضائل الّتي امتاز بها عليّ من الحكمة، والعلم، والتضحية، ونكران الذات، والتواضع، والأدب، والمحبة، والعطف، والأخذ بيد الضعيف، والعدالة، والحرية، وحب الحرية، واحترام الإنسان، والإيثار، والشجاعة، والمروءة، والفتوة نحو العدو، والسخاء والجود والكرم.
أقول: لو أنّ كلّ ما تحلى به عليّ من الفضائل لم يكن مصطبغاً بالصبغة الإلهية، لما كان على هذا القدر الّذي نراه عليه اليوم من استثارة للانفعال واجتذاب للحب. فعليّ محبوب لكونه مرتبطاً بالله. إنّ قلوبنا ترتبط في أعماقها، وبغير وعي منا، بالله.
ولما كان عليّ آية الله العظمى ومظهر صفات الله في أعيننا، فقد عشقناه.. في الحقيقة إنّ سند حب عليّ هو ما يربط النفوس بالله، ذلك الرابط الّذي كان في الفطرة دائماً. ولما كانت الفطرة خالدة، فحب عليّ خالد أيضاً.
سودة الهمدانية المحبة لعليّ وقفت أمام معاوية تصف عليّاً فقالت:
صلى الإله على روح تضمنها *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا *** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا
صعصعة بن صوحان العبدي واحد آخر من المولعين بعليّ حباً. كان من القلة الّذين حضروا دفن عليّ في ذلك الليل البهيم. وبعد أن تم الدفن وقف صعصعة على القبر واضعاً احدى يديه على فؤاده والأُخرى قد أخذ بها التراب ويضرب به رأسه، ثمّ قال: «بأبي أنت وأُمي ـ يا أميرالمؤمنين ـ هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك، وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك، فتلقاك الله ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى، فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى، وشربت بكأسه الأوفى، فاسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أُولئك.
فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده، وقمت بدين الله حقّ القيام، حتّى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام، وانتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام.
بك اشتد ظهر المؤمنين، واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك. سبقت إلى إجابة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك، ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كلّ جبار عنيد، وذل بك كلّ ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى.
فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين. كنت أقرب الناس من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قرباً وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً، فهنيئاً لك يا أبا الحسن. لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نسباً، وأولهم إسلاماً، وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً. فلا حرمنا الله أجرك، ولا أذلنا بعدك، فو الله لقد كانت حياتك مفاتح للخير ومغالق للشر، وإنّ يومك هذا مفتاح كلّ شر ومغلاق كلّ خير. ولو أنّ الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة»(14).
نعم، لقد اختاروا الدنيا لأنّهم لم يستطيعوا الوقوف مع عدل عليّ واستقامته حتّى ظهرت أيدي الجمود الفكري وقتلت عليّاً.
ليس لعليّ(عليه السلام) نظير من حيث كونه موضع حب عارم من لدن أُناس ضحوا برؤوسهم في سبيل حبه، وارتقوا المشانق في سبيل الولاء له. إنّ الصفحات العجيبة الّتي كتبها هؤلاء في التاريخ لتثير الحيرة والدهشة، وهي مفخرة من مفاخر تاريخنا. إنّ دماء هذه النخبة تلطخ أيدي مجرمين أرجاس مثل زياد بن أبيه وابنه عبيدالله والحجّاج بن يوسف والمتوكل، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.
1_ الشعراء: 109.
(2) الشورى: الآية 23.
(3) سبأ: 47.
(4) حب النبيّ لهم لم يكن حباً شخصياً فحسب، ولمجرد كونهم أبناءه وأ نّه لو كان آخرون غيرهم بمكانهم لأحبهم النبيّ أيضاً. بل كان النبيّ يحبهم لكونهم كانوا نماذج متميزين بحبهم الله، فقد كان للنبيّ أبناء آخرون، ولكنه لم يكن يحبهم إلى هذا الحد، ولا كان حبهم فرضاً على الناس.
(5) الأعراف: 158.
(6) الأحزاب: 21.
(7) التفسير الكبير للرازي: 27/166 ط مصر.
(8) أُسد الغابة: 4/23.
(9) كنز العمّال وجمع الجوامع للسيوطي: 6/156.
(10) حلية الأولياء: 1/63، ومثل هذا روايات كثيرة وقد صادفنا في كتب أهل السنّة المعتبرة أكثر من تسعين رواية بهذا المعنى، أضف إلى ذلك ما ورد في كتب الشيعة.
(11) الرياض النظرة: 2/219 وغيرها كثير صادفنا منها أكثر من 20 رواية.
(12) الصواعق المحرقة: 74 وهناك خمس روايات أُخرى بهذا المعنى في كتب أهل السنّة الموثقة.
(13) مستدرك الصحيحين: 3/131. هذه الرواية نقلت بصورة مختلفة في أكثر من 18 رواية في كتب أهل السنّة.
(14) بحار الأنوار: 42/295 و296 ط جديدة.
المصدر : علي في قوتيه الجاذبة والدافعة للشهيد مطهري (ره)