2- في عهد عمر بن الخطاب
1-نصر بن حجاج الذي نفاه عمر ظلما وعدوانا
أسد الغابة - ابن الأثير - ج ١ - الصفحة ٣٨١
في ترجمة الحجاج والد نصر بن حجاج
أخبرنا أبو نعيم أخبرنا محمد بن أحمد بن الحسن أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة
أخبرنا عبيد بن يعيش أخبرنا يحيى بن يعلى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال أبو نعيم
وحدثنا محمد بن أحمد المقري أخبرنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال أيضا وحدثنا
أبو عمر بن حمدان أخبرنا الحسن بن سفيان قالا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أخبرنا
أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد أخبرنا مكحول أخبرنا الحجاج بن عبد الله النصري
قال النفل حق نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم قال
سئل عنه أبو زرعة هل له صحبة قال لا أعرفه أخرجه أبو نعيم وأبو موسى (ب د ع *
حجاج) بن علاط بن خالد بن نويرة بن حنثر بن هلال بن عبيد بن ظفر بن سعد بن
عمرو بن تيم بن بهز بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور السلمي ثم البهزي
يكنى أبا كلاب وقيل أبا محمد وقيل أبا عبد الله سكن المدينة وهو معدود من أهلها
وبنى بها مسجدا ودارا تعرف به وهو والد نصر بن حجاج الذي نفاه عمر بن الخطاب
رضي الله عنه حين سمع المرأة تنشد
هل من سبيل إلى خمر فأشربها * أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
وكان جميلا وأسلم الحجاج وحسن اسلامه وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وكان
محنة صبيغ التميمي2-
وثائق القضية
1 ـ روى الدارمي في سننه ج 1 ص 54 ( عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال : من أنت ؟ قال أنا عبدالله صبيغ ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه وقال : أنا عبدالله عمر ، فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه ، فقال يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي !
2 ـ ... عن نافع مولى عبد الله أن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر ، فبعث به عمرو بن العاص الى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال : أين الرجل ؟ فقال في الرحل ، قال عمر أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة ! فأتاه به فقال عمر تسأل محدثة !! فأرسل عمر الى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد له ! ثم تركه حتى برأ ، فدعا به ليعود له !! قال فقال صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت !! فأذن له الى أرضه وكتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين ! فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبوموسى الى عمر أن قد حسنت توبته ، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته !! ) .
3 ـ ورواه في كنز العمال ج 2 ص 331 وقال ( الدارمي ، وابن عبد الحكم ، كر) ورواه بروايات أخرى مختلفة ، منها ( عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقيل : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأويل مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فبينما عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاء وعليه ثياب وعمامة صفراء ، حتى إذا فرغ قال يا أميرالمؤمنين ( والذاريات ذرواً فالحاملات وقرا ) فقال عمر أنت هو ، فقام اليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ، ألبسوه ثياباً واحملوه على قتب ، وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، ثم ليقم خطيب ، ثم يقول : إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه ـ ابن الأنباري في المصاحف ، ونصر المقدسي في الحجة ، واللالكائي ، كر ) . ورواه عن سليمان بن يسار كرواية الدارمي الأولى ، وقال ( الدارمي ونصر والأصبهاني معاً في الحجة وابن الأنباري واللا لكائي كر ) .
4 ـ عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل ، فقال يا أمير المؤمنين ( ما الجوار الكنس ) فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل ، فألقاها عن رأسه ، فقال عمر : أحروري ؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقاً لأنحيت القمل عن رأسك ـ الحاكم في الكنى ) .
5 ـ عن أبي عثمان النهدي عن صبيغ أنه سأل عمر بن الخطاب عن المرسلات والذاريات والنازعات ، فقال له عمر: ألق ما على رأسك فإذا له ضفيرتان، فقال له : لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك ، ثم كتب الى أهل البصرة أن لا تجالسوا صبيغاً! قال أبو عثمان: فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا عنه ـ نصر المقدسي في الحجة كر ).
6 ـ عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا تجالسوا صبيغاً ، وأن يحرم عطاءه ورزقه . ابن الأنباري في المصاحف كر ) .
7 ـ عن إسحاق بن بشر القريشي قال أخبرنا ابن إسحاق قال جاء رجل الى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين ما النازعات غرقاً ، فقال عمر من أنت ؟ قال امرؤ من أهل البصرة من بني تميم ثم أحد بني سعد ، قال من قوم جفاة ، أما إنك لتحملن الى عاملك ما يسوءك ، ولهزه حتى فرت قلنسوته ، فإذا هو وافر الشعر ، فقال أما إني لو وجدتك محلوقاً ما سألت عنك ، ثم كتب الى أبي موسى ، أما بعد فإن الأصبغ بن عليم التميمي تكلف ما كفي وضيع ما ولي ، فاذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه . ثم التفت الى القوم فقال : إن الله عزوجل خلقكم وهو أعلم بضعفكم فبعث إليكم رسولاً من أنفسكم وأنزل عليكم كتاباً ، وحد لكم فيه حدودا أمركم أن لا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض أمركم أن تتبعوها ، وحرم حرماً نهاكم أن تنتهكوها . وترك أشياء لم يدعها نسيانا ، فلا تكلفوها وإنما تركها رحمة لكم !
قال فكان الاصبغ بن عليم يقول قدمت البصرة فأقمت بها خمسة وعشرين يوماً ، وما من غائب أحب الي أن ألقاه من الموت ، ثم إن الله ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فأتيت أبا موسى وهو على المنبر ، فسلمت عليه فأعرض عني فقلت أيها المعرض إنه قد قبل التوبة من هو خير منك ومن عمر ، إني أتوب الى الله عزوجل مما أسخط أمير المؤمنين وعامة المسلمين ، فكتب بذلك الى عمر ، فقال صدق ، إقبلوا من أخيكم !!
8 ـ وروى في كنز العمال ج 2 ص 510 ( عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمربن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين : أخبرني عن الذاريات ذرواً ، فقال : هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الحاملات وقراً ، قال : هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الجاريات يسراً قال : هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال فأخبرني عن المقسمات أمراً ، قال : هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ، وحمله على قتب ، وكتب الى أبي موسى الأشعري : إمنع الناس من مجالسته ، فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً، فكتب في ذلك الى عمر ، فكتب عمر ما إخاله إلا قد صدق فخلَّ بينه وبين مجالسة الناس ـ البزار قط في الافراد وابن مردويه ـ كر ) .
9 ـ وفي كنز العمال ج 11 ص 296 ( مسند عمر ، عن صبيغ بن عسل قال : جئت عمر بن الخطاب زمان الهدنة وعليَّ غديرتان وقلنسوة فقال عمر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج من المشرق حلقوا الرؤوس يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، طوبى لمن قتلوه وطوبى لمن قتلهم ! ثم أمر عمر أن لا أدواى ولا أجالس ـ كر ) .
10 ـ وفي الدر المنثور ج 2 ص 7 ( وأخرج الدارمى في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وقد أعدَّ له عراجين النخل ... ـ وأخرج الدارمي عن نافع أن صبيغا العراقي ... الخ .
11 ـ وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أنس أن عمر بن الخطاب جلد صبيغاً الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اطردت الدماء في ظهره .
12 ـ وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ونصر المقدسي في الحجة وابن عساكر ، عن السائب بن يزدان أن رجلاً قال قال لعمر إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن ! فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فدخل الرجل يوماً على عمر فسأله ، فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ثم قال ألبسوه تباناً واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيب فليقل إن صبيغاً طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم .
13 ـ وأخرج نصر المقدسي في الحجة وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن عمر كتب الى أهل البصرة أن لا يجالسوا صبيغاً ، قال فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا .
14 ـ وأخرج ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالس صبيغاً ، وأن يحرمه عطاءه ورزقه .
15 ـ وأخرج نصر في الحجة وابن عساكر عن زرعة قال : رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجئ الى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه ، فتناديهم الحلقة الأخرى عزمة أميرالمؤمنين عمر ، فيقومون ويدعونه .
16 ـ وأخرج نصر في الحجة عن أبي إسحق أن عمر كتب الى أبي موسى الأشعري : أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما خفي وضيع ماولي ، فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه .
17 ـ وأخرج الهروي في ذم الكلام عن الأم للشافعي رضي الله عنه قال : حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على علم الكتَّاب !!
18 ـ وفي الدر المنثور ج 3 ص 161 ( وأخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال الفرس من النفل والسلب من النفل ، فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك أيضاً ، قال الرجل الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر ، وفي لفظ فقال : ما أحوجك الى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي ، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه ! ) .
19 ـ وفي الدر المنثور ج 6 ص 111 ( وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أخبرني عن الذاريات ذرواً ... الخ .
20 ـ وأخرج الفريابي عن الحسن قال سأل صبيغ التميمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات ذرواً وعن المرسلات عرفاً وعن النازعات غرقاً ؟ فقال عمر رضي الله عنها : كشف رأسك فإذا له ضفيرتان ، فقال : والله لو وجدتك محلوقاً لضربت عنقك ! ثم كتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه مسلم ولا يكلمه ! ) .
21 ـ وفي إكمال الكمال ج 5 ص 221 ( وأما صبيغ بالصاد المهملة وغين معجمة فهو صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عمر عن غريب القرآن .
22 ـ وفي إكمال الكمال ج 6 ص 206 ( وعسل بن عبدالله بن عسل التميمي ، حدث عن عمه صبيغ بن عسال قال : جئت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ وهو الذي كان يتتبع مشكل القرآن فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يجالس ، وقال يحيى بن معين : هو صبيغ ابن شريك من بني عمرو بن يربوع ، روى خالد بن نزار عن عمر بن قيس عن عسل . وقال في هامشه : في الأصل ( كتب ، وفي الإصابة ) روى الخطيب من طريق عسل بن عبد الله بن عسيل ( كذا ) التميمي عن عطاء بن أبي رباح عن عمه صبيغ بن عسل قال جئت عمر فذكر قصة ثم قال : الضمير في قوله عن عمه يعود على عسل . وربيعة بن عسل أحد بني عمرو بن يربوع بن حنظلة ـ ذكره ابن الكلبي في جمهرة بنى تميم . وأما عسل بفتح العين والسين فهو عسل بن ذكوان ، أخباري ) انتهى . والأخباري في ذلك الوقت هو المؤرخ في عصرنا .
23 ـ وفي معجم البلدان ج 4 ص 124 ( عسل : بكسر أوله ، وسكون ثانيه ، وآخره لام ، يقال : رجل عسل مال كقولك ذو مال ، وهذا عسل هذا وعسنه أي مثله ، وقصر عسل : بالبصرة بقرب خطة بني ضبة ، وعسل : هو رجل من بني تميم من ولده صبيغ بن عسل الذي كان يتتبع مشكلات القرآن فضربه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وأمر أن لا يجالس ) .
الصيغة القضائية لقضية صبيغ
المتهم : صبيغ التميمي رئيس عشيرة صغيرة من مراد من تميم تسكن في البصرة ، وكان يقرأ ويكتب وعنده بعض الكتب ، أي كان متعلماً أو مثقفاً ، وكان جده أو أبوه مؤرخاً .
التهمة : ثبت عند الخليفة أن المتهم سأل عن أمور محدثة ، يعني أسئلة دينية جديدة لم يسأل أحد عنها سابقاً ، كما في الوثيقة رقم 2 ، أو عن متشابه القرآن أو مشكل القرآن أو غريب القرآن ، كما في الوثيقة رقم 1 و 3 و12 و22 و23 أو عن حرف من القرآن كما في الوثيقة رقم 11 أو عن معنى الذاريات كما في الوثيقة رقم 3 و5 و8 و 19 أو عن معنى النازعات كما في الوثيقة رقم 5 و7 و20 أو عن معنى الجواري الكنس كما في الوثيقة رقم 4 .. وقد ذكرت المصادر أنه طرح هذه الأسئلة على بعض الناس عندما كان مجنداً في مصر كما في الوثيقة رقم 2 وأنه جاء الى عاصمة الخلافة ليسأل الخليفة عن ذلك كما في الوثيقة رقم 1 و7 و8 و9 و19 و22 ، ولم تذكر أنه طرح أي أفكار مخالفة للعقيدة أو أنه أثر على أحد من الناس .
الحكم : حيث أن المتهم سأل عن أمور محدثة سكت عنها القرآن ، كما في الوثيقة رقم 2 ، وقد ثبت ذلك عليه جهاراً نهاراً في محضر الخليفة وتحت سمعه وبصره ! وحيث أنه بذلك اعتدى على الخليفة وعلى حدود الله تعالى ، وتكلف البحث فيما تركه الله وماخفي من أمور الدين !
وحيث أنه بذلك ضيع ماولي وما وجب عليه من أداء واجباته الدينية كما في الوثيقة رقم 3 و7 و12 و16 !
لذلك حكم عليه الخليفة بما هو آت :
أولاً : القبض على المتهم صبيغ التميمي بكل وسيلة وإحضاره الى العاصمة ، وإن هرب من يد الرسول الذي أحضره فعليه العقوبة لتقصيره في تسليمه، كما في الوثيقة رقم 2.
ثانياً : تعد له حزمة من عراجين النخل الرطبة قبل حضوره كما في الوثيقة رقم 1 و2 و10 و12 ، فيضرب بها على رأسه المكشوف وبدنه حتى يسيل الدم على رأسه كما في الوثيقة رقم 1 وحتى يجري دمه على ظهره كما في الوثيقة رقم 2 و11 ويسيل على عقبيه كما في الوثيقة رقم 18 وحتى يصير ظهره مثخناً بجراح العراجين كما في الوثيقة رقم 2 ، ثم يرسل الى السجن حتى تبرأ جراحه ، ثم يعاد ضربه بنفس الطريقة مرة ثانية ، كما في الوثيقة رقم 2 و 8 ..
ثالثاً : وحيث أن المتهم قد يسبب بعمله أن يفتح في الإسلام باب الأسئلة المحرمة ، ولكي تكون العقوبة رادعة لأمثاله من المجرمين .. فقد أصدر الخليفة عليه حكمه بأن يلبس تباناً ( لباس مثل الكيس ) ويحمل على جمل الى عشيرته ويطاف به فيها وفي القبائل الأخرى ويشهر به وينادى عليه كما في الوثيقة رقم 3 و12 ثم يقوم خطيب ويقول إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأه كما في الوثيقة رقم 3 و12 وتكلف ما كفي وما خفي رقم 7 و16 وأن يحرم رزقه وعطاءه من بيت المال كما في الوثيقة رقم 6 و14 وأن لا يجالسه أحد ، كما في أكثر الوثائق ، وأن لا يبايعه ، أحد وإن مرض فلا يعوده أحد وإن مات فلا يشهد أحد جنازته ، كما في الوثيقة رقم 16 وغيرها .
رابعاً : أما إذا تاب صبيغ وأناب ، فينتظر به سنة كما ذكر الفقهاء المدافعون عن الخليفة، حتى يطمأن بأن توبته صادقة وأنه ترك الأسئلة المحرمة ، فإن ثبت للخليفة حسن توبته ، يطلب من المسلمين الذين أساء اليهم المجرم صبيغ بأسئلته ، أن يعفوا عنه ويقبلوا من أخيهم توبته كما في الوثيقة رقم 7 !!
تحليل قضية صبيغ
إن قصة صبيغ التميمي تثير التعجب والتساؤل عن ذنب الرجل ؟ وهل السؤال عن معنى آيات القرآن حرام ؟ وإذا كان حراماً ، فهل جزاؤه الشرعي هذا الجزاء القاسي ؟! أم أن في الأمر شيئاً آخر ؟
حاولت أن أجد في حيثيات الحكم الذي أصدره الخليفة ما يبرره .. فلم أجد ! وبحثت عن وجود تهمة غير السؤال على صبيغ ، فقد يكون زنديقاً ، أو جاسوساً ، أو مبتدعاً في الدين له شخص واحد يتبعه .. فما وجدت إلا أنه كان يتساءل عن مشكلات القرآن ، حتى أتى الى الخليفة يسأله !!
ظاهر المسألة أنها دينية صرفة وأن صبيغاً من أهل البحث والجدل ، فأراد الخليفة أن يسد باب البحث والجدل ويحذر المسلمين من ذلك ، فقد كان يتبنى خط تحريم البحث في معاني القرآن وموضوعاته ، وحتى في تفسير ألفاظه ومفرداته ، كما نرى في روايات أخرى !
وحسب الأصول القضائية والشرعية لابد أن نبقى متمسكين بدلالة ظاهر النص حتى نجد قرائن توجب الاطمئنان بخلافه . وقد فهم الإمام الشافعي قضية صبيغ على ظاهرها هذا كما رأيت في الوثيقة رقم 17 ، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 10 ص 29:
( الزعفراني وغيره : سمعنا الشافعي يقول : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الابل ، ويطاف بهم في العشائر ، ينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام .
وقال أبو عبدالرحمن الأشعري صاحب الشافعي : قال الشافعي : مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط ، وتشريدهم في البلاد . قلت : لعل هذا متواتر عن الإمام ) انتهى .
ولكن كيف يحكم الشافعي على صبيغ بأنه ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام؟! فأسئلته لاتدل على ذلك ؟ وحيثيات حكم الخليفة لا تتضمن شيئاً من ذلك ؟! على أن الشافعي دافع عن ضرب الخليفة لصبيغ فقط ، لكن تبقى فتوى الخليفة بقتله لو كان حلق رأسه ، وفتواه بعدم قبول توبته إلا بعد سنة.. وستعرف أن الشافعي خالف فيهما الخليفة ، فلا يجوز قتال الخوارج عنده مالم يشهروا السلاح ضد الدولة ، كما أن التوبة تقبل عنده رأساً !
محاولة جعل صبيغ من الخوارج
حاول محبوا الخليفة في بعض مصادر الفقه والتراجم أن يتهموا صبيغاً بأنه كان خارجياً ، ولكن الخوارج بدأ وجودهم في زمن الإمام علي(ع) بعد زمان الخليفة عمر وعثمان ، فكيف يكون صبيغ خارجياً قبل الخوارج ؟! وحتى لو كان للخوارج وجود فكري في ذلك الوقت فهو بدايات أفكار ومفاهيم تكونت لديهم بحكم أنهم قراء للقرآن لم تزد عن كونها أسئلة ، ولنفرض أن أسئلة صبيغ منها ، وأن أسئلة الوفد المصري منها .. فهل يستحقون هذه العقوبة .. وهل معالجة ظاهرتهم تكون بما فعله الخليفة ؟!
قال ابن حجر في لسان الميزان ج 3 ص 439 ( قال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر : عبدالرحمن بن ملجم المرادي أحد بني مدرك ، أي حي من مراد ، شهد فتح مصر واختط بها ـ بني بها داراً ـ يقال إن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه لأنه كان من قراء القرآن وكان فارس قومه المعدود فيهم بمصر ، وكان قرأ على معاذ بن جبل وكان من العبَّاد . ويقال إنه كان أرسل صبيغ بن عسل الى عمر يسأل عن مشكل القرآن . وقيل إن عمر كتب الى عمرو أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه ، فوسع له فكان داره الى جنب دار ابن عديس . وهو الذي قتل علي بن ابي طالب رضي الله عنه ) .
وقال السمعاني في الأنساب ج 1 ص 451 ( التدؤلي : بفتح التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وسكون الدال المهملة وهمزة الواو المضمومة في آخرها اللام ، هذه النسبة الى تدؤل وهو بطن من مراد من جملتهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي التدؤلي أحد بني تدؤل شهد فتح مصر واختط بها وخطته بالراية مع الأشراف ، وله خطة أيضاً مع قومه بمراد ، وله مسجد هنالك معروف ، يقال إن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه لأنه كان من قراء القرآن وأهل الفقه ، وكان فارس تدؤل المعدود فيهم بمصر وكان قرأ القرآن على معاذ بن جبل ، وكان من العباد ، ويقال هو الذي كان أرسل صبيغ بن عسل التميمي الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عما سأله من معجم القرآن ، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمرو بن العاص أن قرب دار عبدالرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه فوسع له مكان داره التي في الراية في الزيارتين الى جانب دار ابن عديس البلوي قاتل عثمان رضي الله عنه ، وعبدالرحمن بن ملجم هو الذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقُتل ابن ملجم لعنه الله بالكوفة سنة أربعين وكان من شيعة علي رضي الله عنه ، وخرج إليه الى الكوفة ليبايعه ويكون معه وشهد صفين معه ، وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دعا الناس الى البيعة فجاء ابن ملجم فرده ، ثم جاء فرده ، ثم جاء فبايعه ، ثم قال علي رضي الله عنه : ما يحبس أشقاها ؟ ما يحبس أشقاها ؟ أما والذي نفسي بيده لتخضبن هذه وأخذ بلحيته من هذا وأخذ برأسه ثم تمثل :
أشددحيازيمك للموت فإن الموت آتيك
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا ) انتهى .
وهذان الخبران لايفيدان تهمة لصبيغ ولا يثبتان غرضاً سياسياً لأسئلته حتى لو كان قاصداً من مصر لطرحها على الخليفة . بل لو كان أرسله عبد الرحمن بن ملجم لكان احترمه الخليفة وما هجم عليه هذه الهجمة المنكرة ، لأن ابن ملجم يومذاك كان مقرباً عند الخليفة وقد أمر عمراً بن العاص أن يجعله معلماً ومفقهاً للمسلمين في مصر ..
ولعل هذا السبب في أن السمعاني روى دعوى إرسال ابن ملجم لصبيغ بلفظ ( قيل ) وكذلك ابن حجر .
ثم لو كان صبيغ خارجياً لانضم إليهم عندما ظهروا ، ولما روى عن الخليفة ذم الخوارج ووجوب قتلهم كما في الوثيقة رقم 9 .
ومع ذلك فهناك مؤشرات تفتح باب الإحتمال لأن تكون قضية صبيغ شخصية أو سياسية . فبعض روايات الحادثة تذكر أن الخليفة عرف صبيغاً من سؤاله عن الذاريات كما في الوثيقة رقم 3 ( حتى إذا فرغ قال يا أميرالمؤمنين والذاريات ذرواً فالحاملات وقراً فقال عمر أنت هو ، فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ، ألبسوه ثياباً ( تباناً ) واحملوه على قتب...) وأنه كان أعد له العراجين أي عروق سعف النخل مسبقاً كما في الوثيقة 1 و11 ، فقد يكون صبيغ جاء الى المدينة سابقاً وسأل الخليفة عن الذاريات فلم يعرف الخليفة جوابها ، فذهب الى مصر يشهر بالخليفة بأنه لا يفهم القرآن ، فكتب له ابن العاص بالخبر وأن جماعة من قراء القرآن في مصر يغتابون الخليفة ويتهمونه بأنه لا يعرف تفسير القرآن ، ولا يطبق كثيراً من آياته ! فأمر ابن العاص أن يحضره وعرفه من سؤاله ..
ويؤيد هذا الإحتمال ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 145 والهندي في كنز العمال ج 2 ص 330 ( عن الحسن أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصر، فقالوا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه فلقي عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين أن ناساً لقوني بمصر ، فقالوا إنا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك ، فقال أجمعهم لي فجمعهم له ، فأخذ أدناهم رجلاً فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله ؟ فقال : نعم : قال فهل أحصيته في نفسك ؟ قال لا، قال فهل أحصيته في بصرك ؟ قال لا، قال فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، قال : ثكلت عمر أمه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات وتلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما ) هل علم أهل المدينة فيم قدمتم ؟ قالوا لا. قال لو علموا لوعظت بكم !! ـ ابن جرير ) .
وقال في هامشه : لوعظت بكم أي خفقهم بالدرة أو غيرها حيث أن سؤالهم يترتب عليه بعض الشبهات في العقيدة الايمانية ) انتهى .
فهذه القصة تشبه قصة صبيغ في أن هؤلاء المصريين جاؤوا من مصر ليسألوا الخليفة عن آيات من القرآن فيها أوامر إلهية لا يرون تطبيقها في دولة الخليفة .. فكانت أسئلتهم إدارية سياسية ، وقد أجابهم الخليفة بأن القرآن بحر لا يمكن إحصاؤه كله في الحفظ أو الفهم أو النظر الى صفحات كتابه في آن واحد ! فكيف يمكن لخليفة مثلي تطبيقه كله ! فارضوا بما ترون من تطبيقي وتطبيق عمالي منه ولا تثيروا علينا المشاكل ، ولا تذكروا إشكالاتكم هذه أمام أحد ، وإلا فالدرة وعراجين النخل حاضرة !
فقد أمر الخليفة بإغلاق باب البحث والسؤال عن تطبيق الدولة للقرآن تحت تهديد العقوبة .. وقول المعلق على كتاب كنز العمال إن أسئلة المصريين تستحق الضرب لأنها يترتب عليها بعض الشبهات في العقيدة الايمانية، قول لادليل عليه إلا التبرع بالدفاع عن عمر !
على أي حال ، من المحتمل أن يكون صبيغاً التميمي من نوع هؤلاء المصريين ، ولكن لو صح هذا الاحتمال فهل يستحق تلك العقوبة ؟ ألم يكن تهديد الخليفة كافياً له كزملائه ؟! أم أن ذنب صبيغ أنه ليس مصرياً ، ولو كان مصرياً لنجا بجلده ؟!
ومن المحتمل أيضاً أن السؤال عن الذاريات كانت له قصة في ذلك الوقت وكان مرتبطاً بأسئلة أخرى ، قال الصديق المغربي في كتابه فتح الملك العلي ص 75 ( قال الحاكم في المستدرك ... ثنا أبوالطفيل قال : رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قام على المنبر فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ولن تسألوا بعدي مثلي ، قال فقام ابن الكوا فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذرواً ؟ قال : الرياح ، قال : فما الحاملات ؟ وقراً ، قال : السحاب ، قال : فما الجاريات يسراً ؟ قال : السفن ، قال : فما المقسمات أمراً ؟ قال : الملائكة ، قال : فمن الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم ؟ قال : منافقوا قريش ، صححه الحاكم ) انتهى .
ولكن لو صح هذا الإحتمال أيضاً وكان مع أسئلتهم عن الذاريات أسئلة أخرى محرجة عن انحراف الأمة .. فهي لا تستحق العقوبة التي نزلت بصبيغ !!
تحير الفقهاء في عقوبة صبيغ
وقد تحير الفقهاء في توجيه حكم الخليفة على صبيغ ، فحاولوا أن يثبتوا لسؤاله بعداً عقائدياً سياسياً ، قال ابن قدامة في المغني ج 1 ص 73 :
( فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في حلق الرأس فعنه أنه مكروه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج ( سيماهم التحليق ) فجعله علامة لهم وقال عمر لصبيغ : لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ) انتهى .
وقال في ج 10 ص 58 ( فصل ، وإذا أظهر قوم رأي الخوارج مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام ، فحكي القاضي عن أبي بكر أنه لايحل بذلك قتلهم ولاقتالهم ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه... وأما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله أنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد ، وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( فأينما لقيتموهم فاقتلوهم) ... وقول عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ، يعني لقتلتك ، وإنما يقتله لكونه من الخوارج ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيماهم التسبيد يعني حلق رؤوسهم ) انتهى .
يقصد ابن قدامة أن الخليفة كان يفتي بقتل من حلق رأسه لأن ذلك شعار الخوارج، وأن المسلمين كانوا يعرفون هذه العلامة لهم من حديث النبي(ص) ، ولكن أحاديث النبي عن الخوارج لا يعلم أنها كانت تشتمل على علامة حلق الرأس ، فقد تكون العلامة أضيفت فيما بعد .
وينبغي الإلتفات هنا الى أن من عادة العرب عند العزم على شئ والاستماتة في سبيله أن يحلقوا رؤوسهم علامة على ذلك .. وقد ورد أن جماعة من الأنصار والمهاجرين جاؤوا الى علي(ع) بعد فراغه من مراسم جنازة النبي(ص) واعترضوا بشدة على عدم دعوته الى السقيفة وبيعة أبي بكر ، وقالوا للإمام نحن معك وفي عنقنا لك بيعة أخذها النبي من الجميع يوم غدير خم ، فقال لهم الإمام : إن كنتم صادقين فاغدوا إلي محلقين .. فجاءه منهم في الغد سبعة فقط أو ثلاثة ، فأخبرهم أن النبي(ص) أوصاه أن لا يتحرك إلا إذا اجتمع له أربعون رجلاً !
فالخوارج لم ينشؤوا عادة حلق الرؤوس من عندهم ، بل استفادوا من عرف عربي موجود استفاد منه قبلهم علي(ع) ، فقد يكون الخليفة مثلاً أراد أن يعرف هل أن صبيغاً عضو في حركة حلقوا رؤوسهم وتعاهدوا على معارضة الخليفة ، فيكون ذلك مؤشراً احتمالياً آخر على أن قضية صبيغ سياسية .
وهناك مؤشر ثالث وهو أن الشاكي صاحب التقرير على صبيغ هو عمرو بن العاص الذي كان فكره وعمله الأمور السياسية والتخطيط ضد هذا وذاك ، ولم يعهد عنه اهتمام بالأمور الفكرية والعقائدية كالسؤال عن القرآن ! بل قد يكون هو الذي أرسل المصريين المعترضين الى الخليفة مع ولده عبد الله ليلاقوا جزاءهم !
هذا ، ولكنها تبقى احتمالات ، ويبقى الحكم على قضية صبيغ حسب ظاهرها كما فهمها الفقهاء وأنها قضية بحث وجدل في القرآن ، أو قضية شخصية ، أقوى من الحكم عليها بأنها سياسية ، خاصة عندما نرى حياة صبيغ العادية غير السياسية .. فقد عاش بعد الخليفة ولم يظهر منه شئ مخالف لخط الخليفة !
وتحير الفقهاء في توبة صبيغ
عن أي شئ كانت توبة صبيغ التميمي ؟ الظاهر أنها توبة عن السؤال فقط وفقط !! وقد تاب وهو تحت عراجين النخل وقال للخليفة : اعفني ، سامحني ، فقد كان في رأسي أسئلة أو تساؤلات ، وذهب الذي كان في رأسي ، وإني تائب الى الله واليك.. ولكن الخليفة لم يعفه ولم يقبل توبته إلا بعد أن دمر شخصيته وجعله ميتاً في الأحياء ! فلماذا اشترط الخليفة مضي سنة من إعلان توبة صبيغ حتى يثبت صدقها ، مع أن التوبة إما أن لا تقبل ، وإما تقبل رأساً ؟! هذا ما حير فقهاء المذاهب الأربعة !
قال ابن قدامة في المغني ج 12 ص 80 :
( فصل : ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لايعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة ولايته في النكاح إصلاح العمل ، وهو أحد القولين للشافعي ، وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل ... ولأن عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغاً أمر بهجرانه حتى بلغته توبته ، فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة . ولنا : قوله(ع) : التوبة تجب ما قبلها ، وقوله : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ، ولأن التوبة من الشرك بالاسلام لا تحتاج الى اعتبار ما بعده وهو أعظم الذنوب كلها ، فما دونه أولى ! فأما الآية فيحتمل أن يكون الإصلاح هو التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ، ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ، ولم يعتبر أمراً آخر ، ولأن من كان غاصباً فرد ما في يديه أو مانعاً الزكاة فأداها وتاب الى الله تعالى قد حصل منه الإصلاح ، وعُلِمَ نزوعه من معصيته بأداء ما عليه ، ولو لم يُرِدِ التوبة ما أدى ما في يديه . ولأن تقييده بالسنة تحكُّمٌ لم يرد الشرع به، والتقدير إنما يثبت بالتوقيف ) انتهى .
الى هنا تلاحظ أن كلام ابن قدامة كلام فقهي قوي .. ثم أخذ ينقض مبانيه التي أثبتها لتوه فقال :
( وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تستراً بخلاف مسألتنا . وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ، ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة . والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة تظهر أن توبته عن إخلاص لا عن إكراه. وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية تب أقبل شهادتك قال مالك لا أعرف هذا ، قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة ، وقاله عمر لأبي بكرة !! ) انتهى .
وهكذا طبق الفقهاء على صبيغ أنه لابد أن تمضي عليه سنة ليعرف أنه ( اجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة ) ولكن صبيغاً لم يكن له فئة غير أهل السنة ، وإن كان له فئة فكيف يعرف أنه اجتنبهم وهو ممنوع المجالسة والمكالمة الخ ..
النتيجة
والنتيجة أن صبيغاً دفع في حياته ثمن أسئلته غالياً ، ثم دفعها على يد الفقهاء من سمعته لأجل تبرير عمل الخليفة ، فصار صاحب بدعة ، وصار خارجياً مستحقاً للعقوبة قبل ظهور الخوارج وتسميتهم خوارج بربع قرن أو أكثر .. كل ذلك بدون دليل عند أحد من هؤلاء الفقهاء إلا عمل الخليفة.. ويمكن أن يصير صبيغ بعد مدة رافضياً خبيثاً ، مع أني لم أجد له إشارة مدح واحدة في مصادر الشيعة !