أم الشهيد أم حسين
أم حسين امرأة بسيطة قروية ومن محافظتي ومن ريف الحلة الفيحاء المحافظة الحانية التي يغفو ريفها على بساتين النخيل ومزارع العنب التي منتشرة هناك وهي جارتي منذ طويلة في بغداد كبيرة في السن وقد تجاوزت السبعين عاماً امرأة وأم رحوم تذكرني بأمي التي توفت منذ مدة طويلة وهي شأنها شأن كل أمهاتنا التي أشبهها بالنخلة التي تكون جذورها ضاربة وممتدة في أعماق وقوية لا تهزها كل الرياح والعوامل الطبيعة وكذلك حنونة تفيء بظلالها وتنشر طيبتها على كل من حولها وهذا نخلتنا وكذلك كل أمهاتنا فالنخلة كما شبهها في حديثه الشريف نبينا الأكرم محمد(ص) عندما قال((أرحموا عماتكم النخلات)).
هاجرت الهجرة العكسية منذ مدة طويلة وسكنت بغداد هي وزوجها نتيجة لظروف الحياة في ذلك الوقت وتحملت معه كل الظروف وكما يقال عاشت معه على الحلوة والمرة وهذا شأن نساؤنا العراقيات والطيبات منهنَّ الذين يكونون نعمة يهبها الله رب العالمين للرجل ونساؤنا أغلبهنَّ هي من هذا النوع الفريد من نوعه في كل العالم ونفاخر بها في جميع أرجاء المعمورة ورزقت من زوجها بأولاد خمسة وبنت واحدة وقامت بتربية أولادها نعم التربية لأنها هي كانت تستحق وبجدارة لقب ربة البيت لأن الزوج كان مشغولاً في توفير القوت لعياله والتي تستلزم العمل لساعات طويلة وطبعاً كان يعاونها في التربية وكانت أم حسين مدرسة في تربية أولادها بالرغم من عدم معرفتها القراءة والكتابة ولا أقول أنها أمية بل أقول أنها مثقفة في تعاملها مع الناس والحياة فأنشئت أولادها على الفضيلة والقيم الصالحة وكل ما هو سامي في مفاهيم العلم الحديث وأنها قد تفوقت بذلك على المختصين والعلماء في بحوث التربية في الأسلوب التربوي في تربية أبناءها وهذا هو شأن أغلب أمهاتنا وكانت حانية على كل أولادها بدون أي تفرقة وشبوا أولادها وبدأت تتفتح أمامهم الحياة وهي ترنو وتحنو إليهم وتخاف عليهم حتى من الريح الهاب عليهم .
ودخل أحد أولادها العسكرية وهو عباس في زمن المقبور صدام ونتيجة للحرب المفروضة على الشعب بين العراق وإيران تم تسويقه إلى الجبهة في حرب ليس أي جندي أو أحد من الجيش لا ناقة فيها ولا جمل وإنما كانت لتحقيق نزوات طائشة لرجل جلس على كرسي الحكم بالدم والقتل والطغيان وطبعاً كان أغلب الذين في الصفوف الأمامية هم من الناس البسطاء وهم من الشيعة لكي يتم حرقهم في هذه الحرب والذين ليس لديهم واسطات أو معارف أما الذين في الخلف فكانوا هو من عشيرة الصنم أو من أقرباء أزلامه وحاشيته وتجد الذي في الجبهة أسماؤهم كلها من عبد الحسين وعبد الأمير وقس على ذلك أي كلهم كانوا من أبناء الجنوب والفرات الأوسط وباقي الشيعة في باقي المحافظات وكذلك الذين لا حول لهم ولا قوة لكي يتم حرقهم في محرقة الحرب التي أشعلها المجنون بداء العظمة فأر العوجة وطبعاً سيق عباس إلى الجبهة وعانى الأمرين من أهوال الحرب والقتال الشرس بين الطرفين وبعد فترة نتيجة لعدم اقتناعه بهذه الحرب شأنه شأن الكثيرين من الذين سيقوا إلى الحرب رغماً عن أنوفهم لأنها كانت بين مسلمين قرر الهرب وعدم الالتحاق بوحدته والمعروف في ذلك الوقت ونتيجة لأوامر الصنم فأن الذي يهرب يكون ملاحق من قبل كل الأجهزة القمعية التي وضعت لخدمة المقبور صدام وعائلته ويكون ملاحق من قبل الانضباط العسكري والاستخبارات والبعثيين وكل ما تتخيلونه من أجهزة ويصل عقوبة الذي يهرب إلى الإعدام وهنا بدأ انفطار قلب والدته الخالة أم حسين على فلذة كبدها وتأخذها الهواجس بعيداً والخوف عليه من الجلاوزة الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت والذين كانوا لا يتورعون عن مداهمة البيوت في أي وقت والكشف عن المحارم بحجة التفتيش على الهارب وعانت العائلة الأمرين من هذا الأمر وهم صابرين ومحتسبين إلى الله وكانت الوجلة الأولى في العائلة أمه وكان من الأمور البديهية في ذلك الوقت للهارب أن لا يبقى في مكان واحد وهذا مما دعى أن يكون متنقلً بين بيته وأعمامه في الحلة وأقربائه لعدم الإمساك به وكان عباس كثيراً ما يذهب إلى أعمامه في الريف لحنينه إلى أصله وهناك يجد الراحة والدفء في ذلك المكان مع العلم كان إخوته ينصحونه بعدم الذهاب خوفاً من مسكه في السيطرات المنتشرة آنذاك على الطريق.
وفي أحدى المرات قرر الذهاب إلى أعمامه وودع أهله وأمه التي كانت ترمقه بنظرات كلها أسى ولوعة خوفاً من فراقه إلى الأبد والذي كان يحس به قلب الأم وذهب عباس وأم حسين كانت غير مرتاحة ومخاوفها تأخذها إلى أبعد الحدود لأنه كان يقرر الخروج من البلد وعدم البقاء به ووصل إلى أعمامه وقضى أحلى الأيام وسط البساتين والمروج الخضراء حوله وبعد فترة قرر كما هو اعتيادي مغادرة ريفه العزيز عليه ونصحوه أعمامه وأولاد عمه بالحذر وأخذ الحيطة ونتيجة لعمره الصغير وعدم خبرته وقع ما كان المحذور منه فتم اختفاء عباس وطال غياب عباس عن أمه وعن العائلة وتمت الأتصالات والسؤال عنه ولكن لم يتم العثور على أثر له وفي كل الاتجاهات عندئذ ذلك بدأت اللوعة والحسرة لأم حسين التي لا تعرف مصير أبنها وحتى أن قتل فأين جثته وكان كبيراً عليها أن يضيع فلذة كبدها وفي لمح البصر وخيم الحزن عليها وعلى العائلة وهم لا يعرفون مصير أبنهم وأين يسألون وهم في ظل نظام قمعي لا يعرف الرحمة فقط العمل بالظلم والطغيان.فأي حيرة وذهول أعانك الله أم حسين في معرفة مصير أبنك الذي وصلوا إلى نتيجة أنه تم إعدامه واستشهد مع قافلة الكواكب المضيئة التي سارت في هذا الدرب وتلاقي ربها الكريم ويقبلها البارئ بقبول حسن.
ولكن هذه الأم الرؤوم هل تخلت عن واجبها في تربية أبنائها وإدارة شؤون بيتها واستسلمت لأحزانها؟ فبالتأكيد كلا فقد مضت في هذا المضمار وأنشئت أولادها أحسن تنشئة في حب الخير والتمسك بالدين والفضيلة وأعانت زوجها في كل مسيرة حياتهم في الصغيرة والكبيرة وكانت بحق مدرسة تربوية عظيمة المفروض ينهل منها كل المختصين في التربية والسلوك التربوي وظلت محافظة على أخلاقها العظيمة تجاه كل الناس بدءاً من الأقارب إلى الجيران إلى أصغر فرد وكانت تلك المرأة العجوز تعلم الناس كل الأخلاق الحسنة وتسأل عن الصغير والكبير ومحبوبة من قبل الجميع وكنت عند جلوسي قربها أتمنى أن أنام على حجرها الدافئ كما كنت أفعل مع أمي وأن تداعب يداها التي كلها دفء وحنان رأسي وأرمي كل همومي في حجرها ولكن كان الحياء يمنعني من ذلك والتي عندما أتحدث معها أجد كل الراحة والقيم العظيمة التي تحملها هذه الإنسانة والتي في كل جزء من كلامها حب وحنان للجميع والتي تدلل على الخبرة العظيمة التي تملكها هذه المرأة الفاضلة وفي كلامها الذي يشوبه مسحة من الحزن والأسى على فراق أبنها الشهيد عباس.
وكبروا أولادها وتزوجوا وأصبحت جدة ولكن هل تخلت عن دورها التربوي بعد إن أدت دورها الكامل؟قطعاً لا وظلت تربي أحفادها ولا تكل من ممارسة هذا الدور العظيم بالرغم من صعوبة الحياة وقسوة الظروف وحزنها على فلذة كبدها وظلت تلك المرأة القوية كالنخلة التي شبهتها تفيء بظلالها على كل عائلتها وتنشر حنانها وحبها على الجميع ،ولكن أظن وفي خلواتها في مرات عديدة تخنقها العبرة والبكاء على أبنها عباس الشهيد الذي ينفطر قلبها عليه كل يوم وتؤمل نفسها في يوم من الأيام إن يدخل من باب بيتها وتهرع لكي تضمه وتشمم رائحته التي لا تنساها مهما بلغ البعد الزمني بينهما.
وسقط الصنم وأصبحت صوره وتماثيله تحت الأقدام وتنفس الناس الصعداء بنهاية هذا النظام المجرم وبدأ البحث عنه وعن جثته وفي كل مرة يكتشف قبر جماعي تذهب هي مع أولادها وتشاهد مدى الفظاعة والأجرام الذي قام به هذا المقبور وفي كل جمجمة تكتشف تسمع صياح وبكاء وعويل لأم وجدت جثة ابنها فتسقط مغشية عليها لهول الصدمة ولم تفلح كل المحاولات في إيجاده وخافوا أولادها عليها من في أحدى المرات أن تموت من هول الصدمة وقرروا أن لا يأخذوها معهم بعد محاولات عديدة لإقناعها وخوفاً على صحتها ومضت الأيام ولم تفلح كل المحاولات في العثور عليه ولحد الآن وهي ماضية في عملها في أدارة شؤون بيتها الكبير من الزوج إلى الأولاد إلى الأحفاد بدون تعب أو كلل.وتلقت صدمة أخرى بوفاة زوجها شريك ورفيق دربها الطويل واعتدت العدة التي تعتدها النساء وخرجت بعد العدة وشاهدتها وهي لابسة عباءتها التي لا تفارقها وودت لو استطيع أن أحضنها وارمي في حضنها الدافئ كل همومي وتعبي وأعبر عن حزني ومواساتي لها ولكن الحياء منعني من ذلك ووجدتها قد كسرت لأنها زوجها قد توفي (رحمه الله)وهكذا أمهاتنا فأنهنّ يعتبرن أنفسهنّ لاشيء بفقدان زوجها وأنها أصبحت بلا معيل وهذا هو المعدن الأصيل لأمهاتنا العراقيات التي تمثل كل الأصالة والوفاء بكل معانيه العظيمة.
واستمرت بعطائها المتجدد في كل مناحي الحياة ولم تركن بل بقت على عملها الدؤوب في تنشئة الجيل الثالث من أحفادها وتعلم فهذه الأم العظيمة هي عطاء متجدد ولا ينضب كعطاء دجلة والفرات وهذا حال أمهاتنا في وطننا وهي تمثل سفر خالد يجب أن يدون في سجل الملاحم الخالدة لشعبنا الصابر الجريح وبقت الخالة أم حسين تراقب باب بيتها وتمني نفسها بحلم جميل عسى أن يأتيها أبنها الشهيد عباس وتكحل عينها به وتضمه إلى صدرها وترمي كل أحزانها وهمومها في حضنه وكما يقول الشاعر :
أعلل النفس بالآمال أرقبها..........ما أضيق العيشُ لولا فسحة الأمل
وأقول لك ياخالة أم حسين نحن أولادك ولنا كل الشرف في أن نقبل أياديك الكريمة بل ونجثو على أقدامك وأقدام كل أمهاتنا في عراقنا لأنها تمثل الوطن والشرف وكل القيم السامية في قيم المفاهيم الخالدة في سفر البطولة والتضحية والإيثار والكرامة والعطاء والتي لا تستطيع كل المعاني العظيمة التي تحملها أن توصف هذه النساء والأمهات الخالدات والتي متأكد أن سوف تكون الجنة تحت أقدامهنّ.
وحريٌ بكل المنظمات المجتمع المدني والمرأة والشهداء باختلاف مسمياتها أن تكرم مثل هذه نماذج عظيمة نذرت أنفسهنً لخدمة بيوتهنً وأولادهنً واستطعنَّ أن يخرجن أجيال كانت أغلبهم من التي يشار لتلك الأجيال بالبنان والفخر وإلا يقول شاعرنا الكبير الرصافي :
الأم مدرسةُ إذا أعددتها.......أعددت شعباً طيب الأعراق
فلتكرم هذه المدارس ولتسجل في كل تاريخنا ما قامت به هذه الأمهات الخالدات بأحرفٍ من نور وليأتي كل مسئول من أكبرهم إلى أصغرهم وليقبل هذه الأيادي الكريمة ولنكن بجانبها كلنا من اصغر أولادها ونسمع كلام أمهاتنا بكل تواضع وضعف ونكون صغيرين أمامهن كل الصغر لأن هذه النماذج الخالدة لو كانت في العالم الغربي متأكد كانوا يكرمون هذه الأمهات أيما تكريم وأن تبنى لها النصب تكريماً لهذه النساء الخالدات وتسمى حتى الشوارع والميادين بأسمائهنَّ لعدم وجود مثل هذا النوع الفريد في مجتمعاتهم الغربية.
فتنبهوا أيها المسئولين في كل المرافق وكرموا شعبكم الذي ضحى بالنفيس والغالي للوصول إلى ما نحن عليه ولا تلهكم الكراسي ومتاع الحياة عن هذه الملاحم والسفر الخالد من شعبنا العراقي الصابر الجريح التي يجب إن تكون ماثلة أمام أعينكم طوال حياتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.