"الهى... اطلبني برحمتك حتى أصِلَ إليك، واجْذبني بمنّك حتى اُقبِلَ عليك"
سيدالشهداء الامام الحسين بن علي عليه السلام
[1]
كان الناس في مكة ضَحوةَ الثامن من ذي الحجة عام (60 هـ) بين غادٍ و رائح، وصامت و صائح. وكانت نياق الناس تحمل الماء من مكة الى عرفة، استعداداً ليوم الموقف في عرفات. كان الناس - يا سيّدي - في شغل شاغل عند ما عزمتَ على أن تفارق مكة في يوم "التروية" المشهود.
[2]
إنّ يوم "ترويةٍ" آخرَ سيكون لك - يا سيّدي - هو من غير ما عَهِدَهُ الحجيج، عندما تروي تراب كربلاء بدم القلب و النَّحْر وجراحات الجسد الشريف.
وعزمتَ - يا سيدي - علي نحر أُضحيتك، ليس في "مِنى" في اليوم العاشر من ذي الحجة، بل ستقدِّم نفسك أُضيحةً، قُتِلتْ في العاشر من المحرّم عام (61 هـ) آلافاً من المرّات.
سيكون لك - يا سيدي - حَجٌّ آخر، ما استطاع أحد غيرك إليه سبيلا
[3]
لقد قُلتَ - يا سيدي - للناس الذاهبين الي الحج في مكة ما أردتَ أن تقول.
وقلتَ لهم: إنَّ على الأرض بقيَّة تافهة، من جاهليةٍ تافهة، تريد أن ترغم نور الله على الخضوع.
وقلتَ لهم: وهيهات لِمثلي أن يُبايع أو يساوم، فانّ النّور لايلتقي والظلام، والحقّ لايصافح الباطل.
وقلتَ يا سيّدي للنّاس: إني ذاهب لألقى الله، في فتحٍ هو الفتح الأكبر، فمن لَحِقَ بنا استشهد، ومن تَخلَّفَ لم يدرك الفتح.
«وإنّي لم أخرج أشِراً ولابَطِراً ولامفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الاصلاح في أمّة جدّي صلّى الله عليه و آله و سلمّ... فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقِّ، ومن ردَّه عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم، و هو أحكم الحاكمين» (1).
[4]
وكان الشوق الى الأسلاف الذين سَبقوا إلى لقاء الله، شوقاً طافحاً. وكان للعشق - يا سيّدي - سلطان لايُقاوَم.
وسمع الناس صوتك المحمّديّ، وهو يلهج بالأشواق الموّارة الفوّارة: ما أولَهني الى أسلافي، اشتياقَ يعقوبَ إلي يوسف!
[5]
ومن رحمتك الغامرة الوسيعة - يا سِبْطَ النبيّ - أنك كنتَ تريد أن تُشْرِك معك، في مسيرة الفتح الاستشهادي العظيم، أناساً آخَرين، فيكون لهم من العشق السّماويّ نصيب، و من التَوَلُّهِ بالمعبود الأزليّ ميراث.
و هكذا سمعتْ أجواءُ مكةَ والمدينة نَبْرَتَك الرحيمةَ الواثقة، وأنت تدعو الآخرين الى سلوك طريق العشق. وقلت لهم: مَنْ أراد الله معنا، فليحملْ جُمجُمَتَه على راحَتَيْه، ويمشي مُصْحراً.. في الطريق الى كربلاء.
و على طول الطريق الطويل، كنتَ - يا سيّدي - تلتقي بالناس أفراداً وجماعات، عشائر ومقطوعين. كنت تتمنى لهم - بعذوبة قلبك السّماوي - أن يَخْطُوا معك في طريق العاشقين.
فمنهم من أحسَّ في نَبَرات الصوت الحسينيّ نسيمَ الجنّة... فسارع الى قافلتك هذه العظيمة التي تُجِدّ المسير.
ومنهم من كانت تَشُدّه إليها أهواءُ الأرض، وأثقال التراب.
فـإن تـكن الدنـيـا تُعَدّ نـفيسةً فـدار ثـواب الله أعـلـى وأنـبلُ وإن تكـن الأبـدانُ للموت أُنشئت فقتلُ امرىٍُ بالسيف - والله - أفضل وإن تـكن الأرزاق قـسماً مُقَدَّراً فـقلّةُ حـرص المرء للرزق أجملُ وإن تـكن الأموال للتَّرْك جمعُها فما بال متروكٍ به الحرّ يَبْخَلُ؟! (2)
[6]
وقال لك - يا سيّدي - أحدُ العائدين من الكوفة: إنّه خَلَف الكوفة موّارةً موّاجة، تحمل السيوف، وتحمل القلوب!
وقال لك العائد من الكوفة: إنّ قلوب الكوفة مَعك، وسيوف الكوفة عليك!
ولم يفاجِتكَ - يا سيّدي - ما سَمِعْت، فأنتَ - يا ريحانَةَ الرسول - أعرف الناس بضمائر الناس على الأرض. وأعرف بالانسان حين تمزّقه ازدواجية الولاء القلبي والعداء العملي، فيذهب طعمة ذليلة للشيطان.
[7]
هي ذي صورة أبيك الراحل العظيم أميرالمؤمنين عليه السلام. وها هي ذي صورة أخيك الحَسَن السِّبْط عليه السلام... ها هما الصورتان الكريمتان تملآن أمامَك الآفاق.
لقد عَرَفا أهلَ الكوفة هكذا من قبل: فكان من أهل الكوفة الغَدْر والمكر والانهزام. وكان منهما عليهما السّلام الصبر والمُضيّ في طريق العشق، حتى أُريقت منهما الدماء.
[8]
إن ما قيل لك - يا سيّدي - عن سيوف الكوفة التي تقطر غدراً، وعن قلوبها الضعيفة الخَوّارة... لن يجعلك تلتفت الى الوراء- وحاشاك.
لقد كنت - يا سيّدي - تَحُثُ الخُطى، وتندفع الى الأمام. وكل يوم كان يمرَ كانت المسافة الزمنية تقصر بينك وبين مذبح العشق العظيم:
[9]
وأنتَ يا سيّدي الخبيرُ بالطريق.
لقد مشى قلبك الطريقَ قبل أن تلامسَ رمالَه قدماك. وسبقَك إليه نورُك، قبل أن تَمَسّ حبَاتِ رموله منك رؤيةُ البصر.
لَطالَما مشيتَ - يا سيّدي - في طريق العشق.
ولطالما عَبَرْتَ الأنوار العليا، حيث لايخطر على بالِ بشر.
ولكنّ رحلتك العجائبيّة هذه المرّة ذات نكهة خاصّة، وذاتُ نَمطٍ في العشق فريد.
«إلهي ... تردّدي في الآثار، يوجبُ بُعدَ المزار.
فاجمَعْني عليك، بخدمةٍ توصلني إليك.
متى غِبْتَ حتى تحتاج الى دليل يدلّ عليك؟!
ومتي بَعُدْتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!
عَمِيَتْ عينٌ لاتراك عليها رقيبا،
وخسِرتْ صفقة عبدٍ لم تجعلْ له من حبّك نصيباً» (4).
[10]
وأنتَ يا طريقاً واصلاً بين مكةَ وكربلاء..!
يا طريقاً يَصِلُ بين بيت الربّ والمذبَح..!
ماذا رأيتَ - يا طريق كربلاء - من أشواق العاشق الوَلْهان؟!
ماذا شَمَمْتَ من عِطْرٍ يَنضحُ من قلب زهرة الخلود؟!
ماذا أحسستَ من هِمّةِ عاشقٍ، لا تألَفُ أبعادَ الزمان، ولاتُطيفُها حدودُ المكان؟!
بماذا انغمسْتَ - يا طريقَ مكةَ كربلاء - من نورٍ عُلْويّ لاتَعْرِفه الأرض، ولا عَهْدَ به لأبناء الأرض؟!
إن خُطواتِ العاشق المُتَوَلِّه لَمحفورةٌ حتى اليوم، في رُمولكَ أيّها الطريق، فإذا هي مَناقِعُ عِطْرٍ لقوافل العاشقين العابرة على امتداد التاريخ.
[11]
ما أسعدكِ من جادّةٍ انطبَعتْ عليها خُطواتٌ شفيفة رقيقة رشيقة، دونها مَطامِحُ القِدّيسين!
وما أوفَرَ نصيبَكَ من النّور يا طريقَ كربلاء! فإنّ دمَ القلب كان يمتزج بالحبّ السّماوي، ويمتزج بالألم المقدَّس، ويقطر.. يقطر.. يقطر، على طول الطريق الطويل، فإذا كلّ قطرةٍ نزفَتْ في طريق عشقك العظيم: محرابُ عبادة، واذا كلُّ قطرةٍ عطَّرتْ الرمل هي بابٌ للأبديّة والخلود.
[12]
إيِهِ.. يا رمالَ الطريق، و يا حجارةَ الطريق!
إيهِ.. يا أعشاباً بَرِّيّةً نابتةً في عمق الصحراء، بين مكة وكربلاء!
كم هي المنازل التي توقفتْ فيها القافلة الوالهة - أيّها الطريق؟!
وكم هي المحطّات التي كان حظُّها أسعد، لأنّها تشرّفَتْ بمكثِ الركب الحسينيّ، ليلةً أو بعض ليلة!
أين هي مواضع مَواقدهم، يا محطّات الطريق؟!
أين هو رماد نارهم، يا مَضاربَ الخيام؟!
أين كانوا يَنْصِبون خيامهم التي كانت تتطاول، وتتطاول حتى لايُرى لِذراها من نهايةٍ في العلاء؟!
يا خياماً موصولةً بأعنانِ السماء!
يا درباً مفتوحاً بين الأرض وآفاق الأبديّة!
يا بُيوتاً من الشََعْر - ما كان أروع ما تصاعَدَ منها من تراتيلِ السَّحَر!
وما أجلَّ ما ارتفعَ منها من مناجاةِ آخِر اللّيل!
أين هي مضاربُ الخيام؟!
أين هي مضارب خيامهم - يا ليل؟!
أين هي مضارب خيامهم - يا ليل؟!
«إلهي .. حقِّقْني بحقائق أهل القرب.
واسْلُك بي مَسلك أهل الجذب.
أنتَ الذي أشرقتَ الأنوارَ في قلوب أوليائك، حتى عرفوك ووحّدوك.
وأنت الذي أزلتَ الأغيار عن قلوب أحبّائك، حتّى لم يحبّوا سواك، ولم يلجؤوا الى غيرك.
أنتَ المؤنسُ لهم، حيث أوحشتهم العوالم.
وأنتَ الذي هديتهم، حيث استبانت لهم غم المعالم.
.. ماذا وجَدَ مَنَ فَقَدك؟!
و ما الذي فَقدَ مَن وجَدَك؟!» (5)
[13]
ما أعجبَ ما كان يجري وما أعذبه!
إنُها ساعات الليلة الأخير على أرض كربلاء.
ثمّة "أشياء" كانت تَحْدُث.
والذي جرّب معك - يا سيّدي - هو الذي ذاق وعَرَف.
وهو القادر على البَوْح والتعريف إنْ كان ثمّة مُتّسع للبوح والتعريف.
كانت ليلةً مزدهرة متألّقة، فهي الليلة الأخيرة قبل اللقاء الأعجب المترقب، وراء حدود الملكوت.
خيام الرجال العاشقين الذائبين عِشْقاً، تكاد تَشِفّ.
وظلالُ الرجال العابرين تحت قمر تلك الليلة، كأنها - لِقَداسَتِها - تكادُ لاتلامس الأرض.
كلّ شيء - يا سيّدي - كان يُوشِكُ أن يدخل الأبديّة، حتى خيامُكم وأوتاد الخيام.
وهؤلاءِ الرجالُ الأوفياء الذين عَزموا على لقاء الله معك.. ما أشجى أصواتهم، وهي تُرتّل آياتِ القرآن ترتيلاً حزيناً، كأنّه آتٍ من عالَمٍ خفيّ عميق!
وما أرَقَّ نبراتهم، وهي تتهجّد بصوتٍ خفيض، أو تعلو بالنشيجّ!
[14]
وأنتَ - يا سيّدي - العاشق الأكبر، المتفرّد بالعشق.
أنت الذي اختزل الأزمنةَ كلَّها في ليلة، واختصر الأمكنة كلّها في بُقعَة، لتعرِجَ من العوالم كلِّها، نحو الله.
وكنتَ - يا سيّدي - تَختبرُ هؤلاء الرجالَ الذين اختاروا أن يرافقوك.
قلتَ لهم في أكثر من موقف: إنّي ذاهبٌ الى القتل!
وقلت لهم: لن تعودوا إلاّ جُثَثاً مقطوعةَ الرؤوس!
وقلت لهم - يا سيّدي - : مَن أراد الانصرافَ الى هذه الدنيا العريضة، فليذهبْ غير آثِم، فإنّي عازمٌ على ملاقاة المصير.
«خُطّ الموت على وُلْد آدمَ مَخَطَّ القلادة على جِيدِ الفتاة!
وما أولهني الى أسلافي! اشتياقَ يعقوب الى يوسف.
وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه» (6).
بَيدَ أنّ هؤلاء الرجال كانوا ذوي بصائر أوفياء.. حتّى قلت - يا سيّدي - عنهم: إنّي قد بَلَوتُهم، فوجدتهُم يستأنسون بالمنيّة دوني استئناسَ الرضيع بثدي أُمّه.
كان الرجال - يا سيّدي - قد امتلأوا عِشْقاً، وقُتِلوا عِشْقاً. وما كان الحبيب ليختار أحباباً إلاّ من الذين يعشقون، و يصدقون.
العشق - يا سيّدي - علامةٌ لنقاء التوحيد.
«إلهي.. أنتَ الذي أشرقتَ الأنوارَ في قلوب أوليائك، حتى عرفوك ووحّدوك.
أنتَ المؤنس لهم، حيث أوحشتهم العوالم.
وأنت الذي هديتَهم، حيث استبانت لهم المعالم.
يا مَنْ أذاقَ أحبّاءه حلاوةَ المؤانَسة..
فقاموا بين يديه متملّقين!
ويا من ألبسَ أولياءه ملابسَ هيبته..
فقاموا بين يديه مستغفرين!
ألهي.. اطلبْني، حتى أصلَ إليك.
واجذبني بمَنّك، حتى أقبِلَ عليك» (7).
[15]
وأَنتِ يا صبيحة العاشر من المحرّم..
يا موعداً كان في ضمير الغيوب..
يا أعجبَ لقاءٍ لأصدقِ عاشق، بأعزّ معشوق..
يا دماً أُريقَ من القلب - عَلاَمة الصدق
يا فؤاداً تمزّق قِطَعاً - علامة الولاء
يا جسداً تقطّع إرباً - علامة الإخلاص
يا رأساً مفصولاً عن الجسد - علامة اليقين
يا صدراً هشّمَتْه حوافر الخيول - علامة العشق الكبير.
[16]
ما ذا رأيتِ - يا ضَحوَة عاشوراء؟!
وما ذا شهدتِ - يا ظهيرة عاشوراء؟!
أولاءِ هم الرجال العاشقون الوالهون، صَرْعى العشق السّماوي..
قد صَبغتْ الأرضَ منهم الدماء،
وعطّرتْ من حولهم الأجواء.
لقد خَفّوا لِلّقاءِ الأعظم، على مذبح العشق، بعد أن تقطّعت منهم الأوصال، وارتفعت على أسنّة الرماح منهم الجماجم.
[17]
و هو ذا رضيعُك الصغير - يا سيّدي .
كان حديثَ عَهْدٍ بالغيب عند ما حَلّ ضيفاً على هذه الأرض، وكأنّه آثرَ أن يرحل عن هذه الدنيا الى غيب الغيوب، ذبيحاً بسَهْمٍ غادر، قطّع من رقبتِه الشرايين.
تركتُ الخَلْقَ طُرّاً في هواكا وأيتمـتُ العيالَ لكي أراكا فلو قطّعتَـني بالحـبَ إرْباً لَما مالَ الفؤادُ الـى سواكا
[18]
هي ذي بَعدكم - يا سيّدي - ساحة كربلاء.
ساحة حرب فاجعة بعد انتهاء الحرب:
غبار، و سيوف مكسّرة، و بقايا أجساد منوَّرة، وصبغة على كلّ الأرض حمراء، ورائحة دمٍ تغمر أعماق الملكوت.
إنّ ناراً - يا سيّدي - ما تزال تتلذذ بالتهام الخيام!
وإنّ أصواتاً مفزوعةً مفجوعة ما يزال شررها يتطاير من حناجر أراملكم والأيتام.. وهُنّ يَنُحْنَ مناحات مفردةً أو جماعيةً رهيبة، حول أجساد الشهداء الرجال.
ومن بينها يُشرق، في ظلمة الأرض، جسدُ السيّد الكبير، والعاشق العظيم، لاجَسَداً قتيلاَ، بل قلباً كبيراً تَنزِفُ كلُّ خَليّة فيه، ويَشخَبُ كلُّ عِرْقٍ من عروقه بدماء العشق الذي ليس كمثله في الوجود من عشق.
[19]
لقد تَمّ - يا سيّدي - كلُّ شيء.
واكتملتْ ملحمةُ العاشق والمعشوق.
بَيْدَ أنّ قطراتِ الدمِ المسفوح ما تزال - الى اليوم - تقطر، وتقطر في صحراء الوجود.
فإذا هي شهادة للعشق الأبَديّ الذي لايَفْنى ولايزول.
وإذا هي قناديلُ عُلْويّة حمراء، تَتَنَزّل أبداً، على ظلام الانسان في هذه الأرض الخراب.
السلام على الشيب الخضيب ، السلام على الخد التريب
السلام على البدن السليب ، السلام على الثغر المقروع بالقضيب
السلام على الرأس المرفوع ، السلام على الاجسام العارية في الفلوات
السلام على المرمل بالدماء ، السلام على المهتوك الخباء
السلام على خامس اصحاب الكساء ، السلام على غريب الغربلاء
السلام على شهيد الشهداء ، السلام على قتيل الادعياء
السلام على ساكن كربلاء ، السلام على من بكته ملائكة السماء
السلام عليك يا ابا عبدالله